المرأة والثروة والعائلة
تاريخ النشر:
2010
اعداد بواسطة:
المرأة والثروة والعائلة
في مصر في العصر العثماني
يعتبر موضوع المرأة في المجتمعـات الإسلامية مـن أكثـر النقاط المثيرة للجدل والحساسية الآن، ويرجع ذلك إلى التهميش الكبير لدور المرأة في الأدبيات التاريخية العربية بحكم اهتمام هـذه الكتابات بالتاريخ السياسي،هـذا التـاريـخ الـذي لم يكـن فـيـه للمرأة شـأنٌ كبيرٌ مقارنة بالتاريخ الاقتصادي والاجتماعـي. أضف إلى ذلـك الـدور الكبير الذي لعبتـه كـتـابـات المستشرقين حـول المـرأة، لاسيما في العـصـر الـعـثمـاني، إذ تأثرت هـذه الكتابـات بـشـدة بعـالم“ألـف ليلة وليلـة“. كمــا قـدمـت هـذه الكتابـات للمجتمعات الأوربيـة صـورة للمرأة الشرقية كمــا يتوقعهـا القـارئ الـغـربي، وبشكل يؤكد المفاهيم الغربية المُسبقة حول أوضاع المرأة في الشرق.
وتقدم“اليزابيث وارنـوك فيرينـا” شـهادة غاية في الأهمية في هـذا الشأن، إذ تذكر كيف كانت المعلومـات عـن حـيـاة المرأة في المجتمعات العربيـة تـكـاد تـكـون معدومة لدى القارئ في الغرب:
“كانـت فـكـرتي معتمـدة عـلى مـا قرأتـه في كتابات الرحالة والمبشرين أن النساء في تلك المنطقـة مقموعـات مستعبدات محجبات جاهلات سلبيات، لكـن في الوقـت نفسه مثيرات شهوانيات، وقد حثتني أمي على تنوير هؤلاء التعيسات“(1).
وتـرى فيرينـا أن الأمـر كـان انتقائيًـا مـن جـانـب المستشرقين، وأيضًـا مـن جـانـب القارئ الغربي نفسه، إذ تـم اغـفـال العديد من الكتابـات التـي أنصفت المـرأة آنذاك، ومنهـا عـلى سبيل المثال“الليـدي مـيـري وزنـلي مونتـاج” (1688 – 1762)، وهـي زوجـة الـسفير البريطاني في اسطنبول، والتي اعترفـت بـأن المـرأة بـالـرغـم مـن الحـجـاب واليشمك، ربمــا كـانـت الفـئـة الوحيدة الحرة في الدولة العثمانية، لماذا؟ لأنـه كـان لهـا الحق في تملك وإدارة ووراثة الممتلكات، وهـو حـق لم تحصل عليـه المـرأة الإنجليزية إلا في القرن العشرين(2).
و تقـدم لـنـا وثـائق المحاكم الشرعية والأوقاف معلومات مهمة ومثيرة حـول أوضــاع المـرأة في العـصـر الـعــثـاني، لاسـيمـــــا فـيما يتعلـق بالتــاريخ الاقتـصادي والاجتماعـي (*) حيـث تـدلنا حجج الأوقـاف عـلى مـدى أهميـة الـدور الـذي لعبتـه النساء، لاسيما نساء الطبقتين الوسطى والعليا، في تـاريـخ هـذه المؤسسة، التي يصفها البعض بأنها كانت بمثابة المجتمع المدني آنذاك. فعلى سبيل المثال أوقفت السيدة حفصة، حفيدة الخليفـة الـعبـاسي، الـذي انتقل إلى القاهرة منـذ عـصـر المـاليـك، مساحات كبيرة مـن الأراضي الزراعيـة في أنحاء مصر. ففـي عـام 1538 أوقفـت حوالي 776 فدانًا قطعـة واحـدة في البهنساوية بالصعيد، فضلاً عـن حـصـص زراعيـة غير محددة المساحة في المنوفيـة والغربية، وبعـض ضواحي مدينـة القاهرة (3). كـما أوقفت السيدة فاطمة بنت عبد الله في عام 1530 جزيرة في وسط النيل في الصعيد، ولم تُحدِّد الوثيقة مساحة الأراضي الزراعية في هذه الجزيرة(4).
وحتى بالنسبة لتـولي الوظائف في الأوقاف، نجـد حـفـيـدة شيخ الطريقـة الـصـوفية الكلشنية يؤول إليهـا حـق نـظـارة 11 وقفًـا (5). کمـا تـولـت حـفـيـدة السلطان المملوكي الأسبق“إينال” وظيفة النظارة على وقـف جـدها في العصر العثماني(6). كمــا نـجـد“سـعد الملوك” بنـت الأمير“جـانـم بـن أرغـون تـتولى” منصب النظـارة عـلى وقـف كـزل الناصري(7).
ولم يختلف الوضع كثيرًا بالنسبة لنساء الطبقة الوسطى، إذ تولت السيدة“قمر” زوجة“محمـد أبي السرور البكـري“، وهـي عائلـة شهيرة مـن عـائلات العلـماء في مصر، وظيفة ناظرة على وقـف والـدها(8) ؛ وهـو الـوضـع نفسه الذي وجدناه مع حالة الحاجة“صفا بنت عبد الدايم” التي تولت نظارة وقف والدها (9).
وحتى في الأقـالـيـم نـجـد في المنـصورة“ثريا بنـت الحـاج عـلي الـطـناحي” تتـولى بنفسها وظيفـة النـاظرة عـلى وقفها، وتقوم بعمليـة تـأجير بيتـيـن مـن عـقـارات وقفهـا لأحد الأمراء(10).
كمــا قـامـت المـرأة باستثمار أموالهـا في إجـراء معاملات اقتصادية مع الأوقاف، وتقدم لنا الوثائق العديد من الأمثلـة حـول ذلك النشاط ؛ فالسيدة“زيـن بنـت أحمـد بـن عبـد الله» المعروف بالصاوي تستأجر مـن أحـد الأوقاف حـصـة النـصـف مـن بـستان فواكه، وتعقـد أيـضًـا مـع نـاظـر الـوقـف عـقـد مساقاة على أراضي حصة البستان، بأنهـا ستسعين بمـن يـقـوم بزراعتـه لحسابها الخاص،دون أن تُكلـف الـوقـف شـيئًا(11). وتقوم“فاطمة بنت صـلاح الـديـن بـن عـليّ الشهير بالحنبلي” باستئجار وكالة وقيسارية“سوق” مـن وقـف إسكندر باشـا لمـدة سـنة وتبلُغ قيمة الإيجار السنوي حوالي 230 دينارًا (12).
وفي العصر العثمانـي أصـبـح هنـاك نوع من التنازل الذي هو في الحقيقـة بمثابة تجـارة في وظائف الأوقاف. ومـن هنـا دخـلـت المـرأة ميـدان وظائف الأوقاف؛ إذ اشترت“زمزم بنت أحمـد بـن بـيرم” الحق في ثلث وظيفة النظارة على أحـد الأوقاف، ولما كان لهـا مـن قبـل ثلثـا الوظيفـة، فبالتالي يـؤول لهـا كـامـل وظيفـة النـظـارة عـلى الوقف(13). وترتب عـلى دخـول المـرأة ميدان التعاملات مع مؤسسة الوقف، تغييرات مهمة في أوضاعها الاجتماعيـة؛ إذ نجـد بـعـض الـواقفين يحرمون بنـاتهـم مـن الـدخول في الاستحقاق في ريع الوقف. فالأمير أحمـد بـك أمـير الـلـواء السلطاني يوقف على أولاده الذكور دون الإناث (14)، وذلـك خـشية انتقـال الثروة مـن عائلتـه واسـمه إلى عائلـة أخـرى، حتـى لـو كـانـت عائلة زوج ابنته. كمــا اسـتغـل البعض الوقف للتهـرب مـن شرط الشريعة بوراثة البنت لأبيهـا، حتـى لـو كـان هـذا الـشرط يعطي الأفضلية للذكر“للذكر مثل حظ الأنثيين“. وعلى النحـو نـفـسـه حـرم الـقـاضي“شهاب الـديـن بـن الخطيب” بنـاتـه مـن الـدخول في الاستحقاق في ريع وقفه، وإن كـان قـد شرط للإناث من ذريتـه الـسـكـن بعـقـارات وقفـه وهـن عـزبـات أو أرامـل، مـع خـروجـهـن مـن السكن إذا“أتين فاحشة أو تزوجوا” (15).
وعلى العكـس مـن ذلـك كـلـه وجـدنـا بعـض الآباء يستخدم الوقف لصالح بناتـه، وللهروب مـن نـظـام الميراث المعـروف؛ إذ نـص بعـض الـواقفين في حجـج أوقافهم على أن“الذكر والأنثـي سـواء في ريـع الـوقـف، وفي درجـة الاستحقاق في النظارة عـلى الـوقـف” (16). وهنـاك حـالات أخـرى استثنائية مثـل حـالـة محــي الـدين أحمد الحريري الذي نصَّ على تفضيل تولية نظارة وقفه لابنته الكبرى. (17)
واستغلت بعـض النساء مؤسسة الوقـف لخدمـة استقرار حياتهن العائلية؛ فالسيدة جـل الله ابنـة الشمـسـي محمـد بـن إبراهيم أوقفـت وقـفًـا عـلى زوجهـا، لكنهـا اشترطت أن يتمتع هـذا الـزوج بريــع الـوقـف طالما كـان زوجًا لها، ويُحـرم مـن ذلـك إذا تزوج عليهـا أو طلقها، أو مـات. وإذا حدث ذلـك، أي طلقهـا أو تزوج أو مـات، يؤول ربع الوقف إلى أولادهما (18).
وفي بعـض حـالات عـدم الاستقرار العائلي تحرم الزوجة زوجهـا مـن الـوقـف، فعلى سبيل المثال أخرجـت“حـور سـور” ابنة“عبد الله البيضا” زوجها“الزيني خسرو ابن عبد الله” من وظيفة النظارة على وقفهـا، ليحـل محـلـه رجـل آخـر، وتُعلِّل الزوجة ذلك“لما علمت لنفسها في ذلك الحظ والمصلحة” (19).
وأيضا في حالات الاستقرار العائلي وحـب الـزوج للزوجة، نجـد أحـد الأزواج يُخرِج اثنين من المستحقين لريع وقفه، ليدخل مكانها زوجته، وابنة زوجتـه مـن رجـل آخر (20).
وفي حالات أخـرى يتعـالى صـوت الخطـاب الـذكوري على حساب المرأة، فالشيخ أبي العباس أحمـد الاستانبولي يشترط أنـه بعـد وفـاتـه تـستحق أرملتـه نـصيبها في ريع وقفه، فإذا تزوجت بعده ينقطع عنها هذا النصيب(21). وهكذا يريد لهـا عـدم الـزواج بعد وفاته, لتبقى على اسمه حياً وميتًا!
وعلى نطاق أوسع وفي بعض البلاد العربيـة استغلت نساء الطبقـة العليـا الـوقـف لتخليد أسمائهن في التاريخ؛ إذ تُقـدم“دينـا خـوري” في دراسـتهـا عـن مجتمع الموصـل في العصر العثماني بعـض الأمثلـة حـول ذلك. إذ عُرفت صفوة نساء القرن الثامن عـشـر بالموصل من بيت الجليليين كامتداد للبيـوت السياسية بما أنفقـن مـن أمـوال في الأبنية العامـة، وقد ارتبطن في ذلك بعشيرتهن، فسرن على درب رجـال العشيرة في محاولة إنشاء مواقـع جـديـدة في المدينـة. حيـث شيَّــدت اثنتـان مـنـهـن مـدارس ومساجد في مناطق خـارج منـاطق التمركـز الـسكاني والسياسي في المدينـة؛ فأقامـت رابعـة أخـت حاكم الموصـل مدرسـة وجامعًا متاخمًا لمقـر عائلتهـا في طـرف حـي بـاب الـعـراق الـذي كان حتى القرن الثامن عشر مركز النشاط الاقتصادي والسياسي في المدينة، وأصبح الحي يُسمى حي رابعة (22) کما شيَّدت عائشة أم أحـد الحـكـام مدرسة ومسجدًا على ضريح شعبي مهجـور كـانـت العامـة تؤمـه، شيعة كانت أم سُـنة، وقد شيَّدته في منطقـة قليلة السكان من المدينة (23).
وترصد عفاف لـطـفـي الـسـيـد ظـاهرة مهمة في هـذا الشأن؛ إذ ترى أن التحـديث في مطلـع القـرن العشرين ربمـا وفـر للمـرأة عنايـة صـحية أفضل، وأيضًا فرصًـا أفـضـل للتعليم، لكن كانت له آثاره السلبية على المرأة في الحياة الاقتصادية، فضلاً عـن فـقـدان المرأة السيطرة على الأراضي الزراعيـة التي كانت بحوزتها (24)، وذلك لأن مشاركة المرأة في الاقتصاد المصري في القرن العشيرن كانت أضـعـف مـن مشاركتها البارزة في قرون ما قبل التحديث.
(1) راجـع مقدمـة اليزابيث وارنوك فيرينـا لـكتـاب“النساء والأسرة وقوانين الطلاق في التاريخ الإسلامي“، تحرير: أميرة الأزهـري سـنبل، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1999، ص 6.
(2) نفسه.
(*) لمزيد من المعلومات حـول الـوقـف ومفهومـه ودور المرأة فيه، راجع، محمد عفيفي: الأوقاف والحياة الاقتصادية في مصر في العصر العثماني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1991.
(3) دار الوثائق: دفتر ولاية البهنساوية جيشي4632، ورقة 205.
(4) أرشيف وزارة الأوقاف: حجة وقف فاطمة الجركسية، رقم 2 8 أوقاف.
(5) مجموعة الفرمانات الشاهانية، الفرمان الأول، تركي.
(6) أرشيف الشهر العقاري: محكمة الباب العالي، سجل 85،ص 80، وثيقة 440.
(7) أرشيف الشهر العقاري: محكمة الصالح، سجل 315،ص 122، وثيقة 363.
(8) أرشيف الشهر العقاري: محكمة الباب العالي، سجل 106، ص 458، وثيقة 1700.
(9) المحكمة نفسها والسجل، ص 462، وثيقة 1574.
(10) دار الوثائق: محكمة المنصورة، سجل 1، ص 40، وثيقة 83.
(11) أرشيف الشهر العقـاري: محكمـة الـصالحية النجميـة، سجل 474، ص 393، وثيقـة 15933.
(12) أرشيف الشهر العقاري: محكمة الصالح، سجل 315، ص 14، وثيقة 44.
(13) أرشيف الشهر العقاري: محكمة الباب العالي، سجل 43، ص 156، وثيقة 813.
(14) دار الوثائق: ملحق بحجة وقف داود أغا، رقم 61 3 أمراء وسلاطين،ص24.
(15) دار الوثائق: حجة وقف القاضي شهاب الدين الخطيب، 4894 أفراد.
(16) أرشيف الشهر العقاري: محكمة القسمة العسكرية، سجل 5، ص 327، وثيقة 1104. (17) دار الوثائق: حجة وقف محيي الدين أحمد الحريري، رقم 319 أمراء وسلاطين.
(18) أرشيف الشهر العقاري: محكمة الباب العالي، سجل 14، ص 130، وثيقة 360. (19) أرشيف الشهر العقاري: محكمة القسمة العسكرية، سجل 18، ص 47، وثيقة 99. (20) أرشيف الشهر العقاري: محكمة القسمة العسكرية، سجل 9، ص 14، وثيقة 274.
(21) دار الوثائق: حجة وقف الشيخ أبي العباس أحمد الاستانبولي رقم 296 أمراء وسلاطين.
(22) دينـا خـوري: ترسيم الحـدود وتحديـد الأمـاكن: النساء والمكـان في العراق العثمانية، ترجمة عثمان مـصطفى، ضـمـن كـتـاب“النساء والأسرة وقوانين الطـلاق في التـاريخ الإسلامي“، مرجع سابق، ص ص 189 – 190.
(23) المرجع نفسه، ص 190.
(24) حول هذا الموضوع راجـع دراسـة عـفـاف لـطـفـي الـسـيد: المرأة والتحـديث، إعـادة تقـويـم، ترجمة: أمنيـة عـامر، ضـمـن كـتـاب“النساء والأسرة وقوانين الطـلاق في التـاريخ الإسلامي“، مرجع سابق، ص ص 49 – 61.