لماذا سيرة الحياة؟:
مداخلة في مائدة مستديرة نظمتها المجلة التاريخية الأمريكية (*)
بقلم: أليس كيسلر – هاريس(**)
ترجمة: شهرت العالم
قاومت لسنوات فكرة أن حياة الفرد يمكن أن تتحدث عن العمليات التاريخية الأكبر التي كنت مهتمة باستكشافها. وقلت لنفسي إن سيرة الحياة أقرب إلى الأدب القصصي منها إلى التاريخ. فكتب سيرة الحياة تقع، كما تشير الناقدة الأدبية كاثرين بارك (Katherine Parke)، بعد كتب الأدب القصصي مباشرة على أرفف المكتبات وفي خيال الجمهور العام.(1) كنت أعتقد أن حياة الفرد يجب أن تقود إلى التثقيف والإمتاع، لكنها حتى في أفضل حالاتها لا تقدر على قول الكثير الذي يمكن أن تعرفه بالبحث في القضايا التي كان ذلك الفرد منخرطًا فيها. حتى سير الحياة النسوية، والتي تهتم بتناول“الحقائق المرتبطة بالحياة الفردية للمرأة وكذا ظروف المرأة في التاريخ“، كانت تميل إلى توظيف التاريخ بوصفه خلفية تسهم في إلقاء الضوء(2). لكنني أعتقد الآن أنني كنت مُخطئة – ربما ليس فيما يتعلق بطريقة كتابة كثير من سير الحياة، وإنما حول ما يمكن أن يدرجه المؤرخ في سيرة الحياة عند كتابتها.
لقد بدأت الشكوك تتسلل إلى رأسي لأول مرة عندما قرأت مقالاً لفيرجينيا وولف (Virginia Woolf) بعنوان «فن السيرة» (The Art of Biography). إن السيرة كفن، کما تقول“وولف“، تنبني حول خيال المؤلف. وعلى خلاف فن الرواية، كما تضيف“وولف“,”تسكن السيرة في الحقائق، وتلتزم بها“، وبالتالي تُعتبر“أكثر الفنون تقييدًا على الإطلاق” (3)
لقد وجدت وولف أن هذا التمايز بين عمل الروائي وعمل كاتب السيرة هو تحديها الرئيسي.”كيف يمكن للمرء أن يفصل نفسه عن الحقائق“، كما كتبت تقول في مذكراتها: بينما كانت تعكف على كتابة سيرة روجر فراي (Roger Fry)، حيث تتناقض الحقائق هنا مع نظرياتي“.(4) فالرواية، كما تؤكد“وولف“،“يجري إبداعها دون أي قيود، باستثناء تلك القيود التي يختار الفنان.. ..أن يمتثل إليها“. لكن أصالة السيرة“تكمن في صدق رؤية المؤلف“. وتذهب وولف إلى أن هذا“المتايز الصارم” يمنح كاتب السيرة دور الحرفي وليس الفنان. (5)
إن التوتر القائم بين لعبة الحقائق والبحث عن الصدق يُعد أمرًا مألوفًا لدى المؤرخ: فمهمتنا الأساسية تكمن في السعي وراء“حقائق” جديدة وتنويرية. وبقدر ما يتعلق الأمر بتصورنا أن التاريخ علم اجتماعي، تصبح الحقائق هي بياناتنا. لكن فننا يقوم على مهاراتنا في التفسير، وعلى الكياسة التي نتحلى بها ونحن نغزل الحقائق القديمة والجديدة لنصوغ حججًا تبعث على الاقتناع. وإذا ساعدتنا تلك الحُجج على تغيير مفاهيم قرائنا حول العالم الذي نعيش فيه، فإن هذا أفضل كثيرًا. وعلى خلاف كاتب السيرة الذي يتحول إلى روائي، فإن المؤرخ نادرًا ما يرى الحقائق باعتبارها تحديات يجب التغلب عليها. بل إننا نميل بالأحرى إلى اعتبار الحقائق بمثابة المادة التي نصنع منها قصصنا؛ أي حجر الأساس للتفسير أو الحنطة اللازمة لطواحيننا. إننا نجادل حول ما يشكل حقائق مناسبة أو قابلة للاستخدام، لكننا لا نجادل حول مدى حاجتنا إليها.
ولنفترض إذن أننا نتخيل حياة فرد، ليس كموضوع للدراسة في حد ذاته، وإنما كدليل يمكن أن يطرح مسارًا مختلفًا داخل الماضي. ولنفترض، كما طرح المؤرخ البريطاني العظيم طومسون (E. P. Thompson) في مقدمته لسيرة حياة وليام بليك (William Blake)، أننا نعتبر مهمتنا هي“تحديد موقع” الفرد الذي نرغب في دراسة حياته. ستقودنا جهودنا عندئذ إلى البحث عما أسماه طومسون“نقاط الصراع النبيلة“: أي التوترات القائمة بين موضوعنا والعالم الاجتماعي السياسي، عالم الأفكار التي واجهها/ واجهتها. يكمن هدفنا، كما وضع طومسون الأمر ببراعة، في استكشاف“طريقة التقاء عقله / ها مع العالم“(6). يتحول الفرد عندئذ إلى“حقيقة” – حقيقة أكثر تعقيدًا من أغلب الحقائق، لكنها قادرة على إلقاء الضوء على الماضي بطرق جديدة ومثيرة.
إن انجذابي للتفكير بهذه الطريقة يرجع جزئيًا إلى أشكال التحليل التاريخي الحديثة التي تفوقت على وجهات النظر الذاتية، وجعلت من الخبرة هدفًا للاستكشاف، كما حولت ذاكرة الأفراد الجمعية إلى مصادر تاريخية. ومثل كثير من الآخرين في جيلي، عندما توصلت إلى حدود ما اعتدنا أن نطلق عليها وجهات النظر“الموضوعية” وبدأنا في مساءلة المنظور الذي تنطلق منه ذواتنا في الحديث والكتابة، أوليت اهتمامًا متزايدًا بأهمية الفاعل الفردي – ليس لما قامت به، وإنما لما تكشف عنه،أفكاره/ ها، ولغته/ ها وصراعه/ ها مع العالم. ومثل كثير من المؤرخين، فإنني أتشكك في ما إذا كانت هناك“حقيقة” يمكن إيجادها في الماضي، لكنني قاومت فكرة أننا ننخرط – لهذا السبب – في شكلنا الخاص من الكتابة الروائية. وقد وضعت“فيرجينيا وولف” الأمر على النحو التالي: إن حقائق كاتب السيرة، كما كتبت تقول،“ليست مثل حقائق العلم – ما أن تُكتشف، تظل دائمًا كما هي. إنها عُرضة للتغير في الرأي، والآراء تتغير مع تغير الأزمنة وبالتالي، يجب أن يتخذ كاتب السيرة موقعًا أماميًا – مثل الطيور التي يستخدمها عال المناجم لاختبار نقاء الهواء – فكاتب السيرة يختبر المناخ، ويتحرى عن كل ما هو مزيف وغير واقعي، وعن مدى وجود تقاليد بالية. إن إحساسه بالحقيقة يجب أن يكون حيًا وملموسًا“. (7)
وبهذه الروح، فإنني أود تغيير الأسئلة التي يوجهها كتاب السيرة نمطيًا. إنني أتخيل نفسي أكتب شيئًا ربما من الأفضل تسميته“سيرة مضادة“، أو باللغة العامية الدارجة“سيرة لا“. إن هدفي من اختبار التوترات والتناقضات الداخلية (وهي“الحقائق” التي أتناولها) التي أنتجت خبرات شخصية عامة نسبيًّا يقل عن كونه هدفًا لاستكشاف ما يمكن أن تخبرنا به هذه الخبرات حول الماضي الأمريكي. وبدلاً من اعتبار التاريخ خلفية، أو تقديمه لتحديد موضع فرد معين في لحظة زمنية بعينها، فإنني أود التساؤل حول تلك الحياة الفردية وكيف تساعدنا على فهم جزء من العملية التاريخية. إنني أود الرؤية من خلال الحياة. إن ما أزعمه يتسم بالضخامة: أعتقد أن حياة الفرد يمكن أن تساعدنا على الرؤية، ليس فقط داخل أحداث زمنية معينة. وإنما أيضًا داخل العمليات الثقافية والاجتماعية، وحتى السياسية الأكبر، في لحظة معينة.
ولكل هذه الأسباب، وجدت سيرة ليليان هيلمان (Lillian Hellman ) موضوعًا مذهلاً. وعادة ما يوجه لي سؤال حول عدم اختياري الكتابة حول فرانسیس بیركينز (Frances Perkins) أو أي شخصية عامة ذات حضور وحققت نجاحًا فارقًا في ميادين الطبقة العاملة التي أنفقت أغلب حياتي في دراستها، على أنني لو فعلت ذلك، ربما كنت أبحث الآن في جزء آخر من الماضي. لكنني أعتقد أن اختياري لـ“هيلمان” يرجع إلى أنها استمرت في حوار دائم وحيوي مع عديد من معاصريها الاجتماعيين والسياسيين الأساسين ولذا تثير حياتها الفضول. فهي تتيح النفاذ إلى أربعة مجالات تحتل موقعًا مركزيًا لفهم توجه المجتمع الأمريكي في القرن العشرين: التحول الثوري في فهم الحياة الجنسية وأدوار النوع الاجتماعي؛ والتيارات السياسية الدوامية الناتجة الاشتراكية والشيوعية، فضلاً توترات الحرب الباردة؛ والطبيعة المتأرجحة والمتصارعة للهوية واستخداماتها السياسية؛ وتأثير“ثقافة الشهرة” الحديثة النابضة بالحياة.
عندما كنت أبحث وأكتب، عند استعادتي لماضي“هيلمان“، وجدت نفسي مأخوذة إلى الصراعات والأصداء التي نسجت حياتها حولها. صدمني التنافر داخل حياتها اليومية (ارتفاع الصوت، تعزيز الذات) وتناقضه مع رؤيتها عن نفسها (جنوبية، ترتكز على الأسرة، وفية). كما تعجبت من تلك الصراعات التي تولدت بين رؤية للعالم، كثيرًا ما تتأكد مجددًا، تطالب بالعدالة الاجتماعية كهدف أساسي، وبين التصورات العامة التي تعتبر تلك المطالب مغرضة ولا تخدم سوى نفسها. وفي السعي من أجل تحديد التقاليد التي كانت“هيلمان” تعمل في إطارها – أي النظر مرة أخرى في بعض جوانب تلك التقاليد الواضحة بالفعل – وجدت نفسي أبحث في حجم ما ظل خفيًّا من هذه التقاليد، ليس بالنسبة إلى أصدقاء هيلمان وأعدائها، وإنما بالنسبة إلى هيلمان نفسها. إننى منساقة إلى معرفة الدور المعقد الذي تلعبه الأحاسيس والعواطف والمشاعر في حياتها، وإن لم يكن للتدليل على كونها إنسانة باطنية فيما يتعلق ببناء السلوك الاجتماعي وفي تعزيز الالتزامات السياسية.أعتقد أنني توصلت من خلال“هيلمان” إلى فهم أكثر من مكتمل لسياسات خمسينيات القرن العشرين وما بعدها، وربما أدركت شيئًا ما عن دور تلك السياسات الكبير في تشكيل الرؤى العالمية للمواطن العادي والمثقف على السواء. لا تدور أسئلتي كثيرًا حول ما إذا كانت تغضب وكيف، أو حول مدى شجاعتها أو خشيتها بشأن تفسير الآخرين لغضبها، وتسميته، واستخدامه لأغراض سياسية. أعتقد أن بإمكاني، بالنظر من خلال هيلمان، أن أرى شيئًا من القوى الإيديولوجية التي شكلت موقف أمريكا تجاه الحرب الباردة، ومن التوترات التي أحاطت بأجندتنا المحلية والخارجية أثناء حياتها وبعدها. على أنني لا أرغب في تجنب الأسئلة الصعبة التي تطرحها بنية شخصية“ليليان هيلمان” وطابعها المثير للخلاف، لكنني أحاول التركيز على قدرتها على إخبارنا بشيء حول كيفية تشكلها من خلال الحوار مع وسط اجتماعي وثقافي وسياسي كانت جزءًا نشطًا فيه.
إذن فقد اخترت“هيلمان” تحديدًا لأنها بدت لي موضوعًا دسمًا. فبعد مرور ما يقرب من ربع قرن على رحيلها، لا تزال سيطرتها قوية: قليلون هم الذين يتذكرونها بشكل محايد؛ فهي لا تزال هدفًا لغضب كبير يصل في بعض الأحيان إلى حد الكراهية الحاقدة. كيف كان أن ترتسم هذه المرأة الصغيرة بهذا القدر الكبير في المخيلة الأمريكية؟ لماذا جاء رد فعل الأجيال المتعاقبة من الأمريكيين تجاهها بهذا الانفعال؛ لماذا اعتبروها قبيحة بهذه الدرجة والعمق؟ إنها كاتبة مسرح، وكاتبة مذكرات، وناشطة سياسية، وصديقة، ومحبة – وقد أثارت خلافات في كل تلك التجسيدات. كما كانت موضوعًا لعديد من السير الخلافية وكثير من التحليلات الأدبية، كشفت أخطاء في شخصيتها وجوانب جاذبيتها المتعددة. (8) أنني أرحب بهذه الكتابات التي حررتني من الالتزام بإعادة بناء ما نعرفه بالفعل حول ميلادها، وأسرتها، والخطوط العريضة لحياتها. ذلك أنني عندما بدأت في تفحص حياتها بدقة اكتشفت، مع إثارة متصاعدة، أن هيلمان التي مست أهم عناصر الفكر والسلوك الأمريكي في القرن العشرين لا تزال لغزًا. مهمتي إذن كمؤرخة تكمن في دراسة التناقضات والتوترات الصريحة والكامنة التي تخللت حياتها، وتأكيد بعض التصدعات الأكثر انتشارًا في الثقافة الأمريكية في القرن العشرين. لقد جعلت منها هذه التناقضات موضوعًا للفحص الدقيق العام، أو بديلاً عن ذلك، ذاتًا تحوطها الكراهية أو الإعجاب العام. لا يوجد كثيرون أثاروا مثل تلك العواصف النارية المتصارعة من العواطف: الحب والنفور، الإعجاب والازدراء، الغضب، وحتى الخوف. إذا أمكننا أن نفهم شيئًا من تيارات المشاعر التي كانت تنتجها بانتظام، أعتقد يمكننا عندئذ أن نفهم شيئًا عن القرن العشرين الأمريكي.
لازمتني هذه القضايا خلال بحثي وبداية كتابتي لهذا التعليق. وربما يوضح مثال تفصيلي مقصدي، وأعني موقفها كامرأة وكنسوية.
ومن المثير للجدال، أنه لا يوجد في التاريخ الاجتماعي لأمريكا القرن العشرين شيء أهم من التحول الذي حدث فيما اعتدنا أن نسميه الحياة الأسرية. ولما كان التغيير مدعومًا جزئيًا بتغير أنماط الاستهلاك والإنتاج، فقد كان يضم نضال المرأة المستمر للعيش حياة مستقلة اقتصاديًّا، علاوة على حدوث تغير عميق في علاقات النوع الاجتماعي والسلوك الجنسي، والتي كانت سببًا وأيضًا نتاجًا له.
وبشكل ما، كانت حياة هيلمان مثالاً على هذا التحول. ولدت“هيلمان” في نيو أورلينز عام 1905، وشبت في أغلب الوقت بمدينة نيويورك، على الرغم من أنها كانت تمضي عدة شهور كل عام في الجنوب، وحافظت على علاقاتها القوية مع أقاربها. التحقت بالكلية لفترة محدودة، وذهبت في عام 1924 لعمل بدار نشر طليعية استمر لعامين، حيث استمتعت بالحياة كامرأة شابة متطورة. تزوجت في سن العشرين، وتركت زوجها وهي في سن الخامسة والعشرين، ثم بدأت علاقتها مع كاتب الروايات البوليسية دانييل هاميت (Dashiell Hammett)، والتي أصبحت علاقة معقدة وطويلة. عاشا حياة ساحلية في هوليوود ونيويورك، وكان كل منهما يتخذ شريكًا آخر أحيانًا (كانت ليليان أكثر جدية من داش)، لكنهما حافظا دائمًا على التزمها بعلاقتهما. ازدهرت أعمال ليليان في الكتابة المسرحية، وتمكنت من تحقيق ثروة، كما نجحت في الدخول إلى عالم الشهرة لكتاباتها السينمائية وأعمالها في المسرح التي كانت مشحونة سياسيًا وعاطفيًا. وبعد أن دمرتها غضبة الخمسينيات المكارثية، سرعان ما أعادت بناء سمعتها، وعاودت الظهور في السبعينيات بسلسلة من ثلاث مذكرات جعلت الجيل الأصغر من الموجة الثانية من النسوية يضفي عليها طابعًا إيديولوجيَّا، وأن تكرهها حركة محافظة أخذت تنمو مجددًا. ماتت هيلمان عام 1984، وهي عمياء، وتقريبًا طريحة الفراش، وتدافع عن نفسها ضد الاتهامات بالكذب الموجهة إليها.
تتبع هذه القصة، بطرق عديدة، خروج نساء من المجال الشخصي الخاص إلى مجال العمل العام على أن الدراسة عن كثب تكشف عن بعض الطرق التي استخدمتها ثقافة الحداثة الحديدة حينذاك لبعث رسائل مختلطة لمؤيديها من النساء. ومثل أخريات من جيل النساء اللاتي انضممن في فترة متأخرة من العمر بالموجة الأولى من النسويات، انتهزت“هيلمان” الفرص المطروحة خلال سنوات الحرب العالمية الأولى وما بعدها. ففي هذا العالم الجديد، كان بمقدور النساء الراغبات في ذلك التسليم جدلاً بالحرية الجنسية والاستقلال. وكان بمقدور“هيلمان“، وقامت بذلك بالفعل، المطالبة بالحقوق الجنسية التي كانت تقترن دومًا بالرجال: إقامة وإنهاء العلاقات الجنسية على أساس المتعة؛ والإبقاء على علاقتها مع“هامیت” كعلاقة أساسية لكنها غير حصرية. كانت هيلمان تدخن أيضًا، وتسب وتلعن عند الهجر، وتتحدث بصوت مرتفع وبعدوانية، وتطالب بالولاء قبل أي شيء. لم تكن ليليان هيلمان غير عادية في أي من هذه الأساليب، لكن رفضها العنيد للتغيير مع تغير الزمن جعلها مرفوضة.
إن الحرية الجنسية التي نالت إعجاب الكثيرين في العشرينيات، لم تعد مريحة في سنوات الكساد في الثلاثينيات، ثم أصبحت غير وطنية بكل معنى الكلمة في الأربعينيات. وإذا كانت بعض نساء جيلها المتمرد، ممن لحقن بركب التغير عبر الزمن أو كبرن في السن قليلاً، قررن الاستقرار في الزواج – حتى في زيجات متعاقبة – فإن هيلمان رفضت أن تتغير. لقد تحدت هيلمان الأعراف الثقافية ببقائها صادقة مع نفسها. ومع كبر سنها ومحافظتها على شخصيتها الجنسية، سيطرت على اهتمام شباب الرجال. ولأنها كانت تسبح عارية أحيانًا في شاطئ مارثا فينيارد بالقرب من منزلها، تحول هذا الإعجاب إلى سخرية بل حتى نفور. وشهد العصر تغيرات أخرى في الستينيات: سعى جيل أصغر من النساء إلى ما كان يسمى حينذاك الليبرالية الجنسية، وهو ما أثار لديها ذكريات البحث عن مثال لحياة تعاش وفقًا لرغبتها، إن إصرار“هيلمان” على البقاء صادقة مع قانونها الخاص للأخلاق أثار مرة أخرى الإعجاب والاحترام. ومع ذلك لم تتغير هيلمان، لكن الزمن تغير.
قامت هيلمان، خلال فترة حياتها، بعمل كل شيء يمكن أن يطلب من رجل بل وأكثر. لقد حققت النجاح من زاوية معنى النجاح الذي يحققه الرجل، وفي ميدان الرجل، وذلك بقوة العمل الشاق والموهبة. كتبت سيناريوهات قادت إلى أفلام كلاسيكية، ومسرحيات أصبحت من أشهر مسرحيات برودواي. وتناولت أعمالها بعض أكثر الموضوعات الضاغطة في الثلاثينيات والأربعينيات، بما في ذلك الطبقة والمال، ووحدة الأسرة، والالتزام السياسي. ولا تزال أصداء بعض تلك الأعمال مستمرة، كما لا تزال تُعرض بانتظام. لقد تمكنت“هیلمان” من تحويل هذه الإنجازات، وإنجازات“هاميت” بعد وفاته، إلى حياة آمنة ومستقرة ماليًا. ونتيجة اهتمامها بالجوانب التجارية لإنجازاتها، نجحت في تحقيق نمط الحياة مريحة لفترة طويلة من حياتها وهي ناضجة. لقد اشترت الأملاك وباعتها، وأدارت استثماراتها، ودعمت هاميت ماليًّا عندما أصبح غير قادر على دعم نفسه.
لكن الإنجازات التي تعتبر جديرة بالثناء عندما يحققها الذكور، كانت مشحونة بالآراء السلبية عندما تحققها النساء. وعلى الرغم من سجل سخاء“هیلمان” الخاص والعام لخدمة الأهداف الجيدة والأصدقاء الذي يعانون من سوء الحظ، فإن صورتها بالكاد ما تبدو صورة للدفء والكرم. بل كانت بالأحرى تشيع اعتبارها مفرطة الاهتمام بتفاصيل الأعمال التجارية، وتحافظ على نقودها، وتدافع عن الفقر. كما تعرضت للنقد أيضًا، وربما على نحو ساخر، لأنها تعيش حياة مترفة، وترتدي ملابس مصنوعة لدى أحدث المصممين، وتقتني أحدث القبعات، وتستعرض في ملبسها المعاطف المصنوعة من فراء المينك. ومع حلول السبعينيات، في فترة متأخرة من حياتها، كانت أكثر الأوصاف استخدامًا لوصفها (وكثير منها لا يزال صداه موجودًا) تضم مجموعة من الكلمات ذات معان سلبية عندما تشير إلى النساء أكثر منها على الرجال. أما في المخيلة الشعبية، فقد كانت تتسم بالطمع، والأنانية، ونفاد الصبر، والعزيمة، والنزعة الآمرة، وارتفاع الصوت، والوقاحة. ودون شك تتصف“هیلمان” بكل تلك الأوصاف، لكنني بوصفي كاتبة سيرة يمكنني أن اختار الدفاع عنها من خلال الاستشهاد بالصفات الإيجابية التي تحدد أيضًا شخصيتها. يقول أصدقاؤها إنها كانت، قبل أي شيء، فاتنة، وحميمة، وحنون، ووفية، وكريمة، وفوق كل شيء مرحة. لماذا إذن فاقت السلبيات بإصرار الإيجابيات؟ ما الوتر الذي مسته“هیلمان” وجعل كثيرين (حتى من بين أصدقائها) ينعتونها بالأوصاف التي تنتقص منها؟ ما الذي جعل البعض يبتعد عن مقبرتها، معتقدين أنهم بموتها يستطيعون، بل يجب عليهم، إبعاد أنفسهم عنها؟
إننا نعرف كمؤرخين أن الصدق العاطفي في أي تاريخ (وأقل كثيرًا في السيرة) يُشتق من الحاضر، ولذا فإننا منقادون إلى التشكك في أن سجل الحكم ضد هيلمان (صحيحًا كان أو غير صحيح) يطرح شيئًا عن المعنى الاجتماعي لقصة نجاح امرأة، حتى في القرن العشرين التنويري. متى ظهرت هذه الصفات؟ وعن أي اتجاهات خفية تشير؟ وإلى أي مدى تستخدمها النساء، علاوة على استخدامها أيضًا ضد نساء أخريات؟ هل نشهد هنا ذلك الحقد الخاص الموجه ضد النساء الناجحات، أم هناك شيء آخر ؟ بالتأكيد يكمن تفسير بعض تأثيرات“هيلمان” المستمرة على المخيلة الأمريكية في تفاصيل حياتها. لماذا لم تنحن للضغوط الاجتماعية، وتكبر في السن متحلية باللباقة، وتغير سلوكها ليتسق مع الأخلاقيات العامة المقبولة؟
هل كان حكمها على الآخرين قاسيًا إلى هذه الدرجة، وكانت شخصيتها شديدة العناد، بما يُفسر هذا التيار الثابت والمستمر من الهجوم؟ أم أننا كمؤرخين مدعوون إلى مراقبة كيف تخضع أي حياة تنكشف للعيان إلى طرق مختلفة من التقييم تتغير مع تغير المناخ الاجتماعي وتحول المد السياسي؟ إنني أعتقد أننا سوف نتعلم شيئًا إذا شاهدنا المناخ يتغير، ومنظومات القيم تتحول، والعاصفة تتقدم وتتراجع: أي ونحن نرقب الحياة المتشابكة في نضالها من أجل الحفاظ على توازنها.
إنني لست بلهاء كي أعتقد أن جميع التناقضات في حياة“هيلمان” يمكن أن تُعزى إلى كونها أنثى وما سلكته من طرق جعلت حياتها تنتهك الحدود المقبولة للنوع الاجتماعي إن حالتها، وسياستها، ووظيفتها، وجذورها الجنوبية – كل تلك الأشياء وأكثر – تتطلب البحث والتقصي. كما أن الحياة، في حالة“هيلمان” أيضًا، تعزز الانخراط في سلسلة من الاهتمامات تتضمن استخدامات الذاكرة، ومعنى الأكاذيب، ووظيفة الهوية، وتناقضات سياسة الجناح اليساري، وأبعاد حرية المرأة، وثقافة النوع الاجتماعي، إنني أشعر بالزهو لاعتقادي أن“هيليمان“، على الرغم من مقاومتها فكرة السيرة، لم تكن لتكره ما أكتبه. لقد رفضت“هیلمان” ذات يوم التعاون مع ناشر مشهور كان يرغب في كتابة سيرة صديقتها دوروثي باركر (Dorothy Parker).”لست متأكدة“، كما كتبت تقول،“إن حياة أي فرد توضح لنا أي شيء عن أعماله. ما الفارق الذي تحدثه في النهاية؟ إن أغلبنا يعيش حياة المصادفات على أي حال. إنها شكل من أشكال عمود النميمة. نوع من الضجيج الحديث“.(9)
ولكن، ماذا إن كان موضوع السيرة يضئ ما هو أكثر من مجرد الجانب الشخصي؟ ماذا إن أمكن للسيرة التي يكتبها المؤرخ أن تنجح في الرؤية من خلال الحياة – بمعنى أن تكشف عن كيفية ظهور التوترات في الحياة من داخل الظروف التاريخية وتتناول العملية التاريخية؟ إن سيرة من هذا النوع قد لا ترضي رغبة“فيرجينيا وولف” في الكتابة دون قيود الحقائق، لكنها بالتأكيد يمكن أن تعلمنا شيئًا حول الصراعات السياسية والاجتماعية التي شكلت الماضي الأمريكي
هذا المقال مهدى، مع اعتذار متواضع، إلى جوديث بابيتس (Judith Babbitts)، التي لم أشجعها ذات يوم على كتابة ما كان يمكن أن يكون سيرة عظيمة. وأتوجه بالشكر والامتنان إلى كل من:
Susan Ware, Nancy Chodorow, Nancy Cott, the Schlesinger Library, the Radcliffe Institute for Advanced Study
للأدوار المهمة التي قاموا بها في بلورة تفكيري حول موضوع المقال.
Alice Kessler – Harris. “AHR Roundtable: Why Biography?” in American Historical Review. June 2009
(*) مائدة مستديرة بعنوان MWhy Biography‘‘ نظمتها «المجلة التاريخية الأمريكية» (American History Review Journal) التي تصدرها“رابطة التاريخ الأمريكية” (American History Association).
(**) أليس كسلر هاريس Alice Kessler-Harris)) تتولى تدريس موضوعات“النساء والنوع الاجتماعي” في قسم التاريخ ومعهد البحوث بجامعة كولومبيا. ومن أحدث مؤلفاتها: In Pursuit of Equity: Women. Men, and the Quest for Economic Citizenship in Twentieth Century America (Oxford University Press, 2001) and Gendering Labor History (university of Illinois Press, 2007).
ويتمثل مشروعها الحالي في إعداد دراسة بيوجرافية حول ليليان هيلمان (Lillian Hellman).
(1) انظر: Catherine Parke, Biography: Writing Lives (New York), xv
(2) المرجع السابق، صـ 90.
(3) انظر: Virginia Woolf, Collected Essays (1925; repr., New York,1976),221
(4)انظر:
Leonard Woolf, ed., A Writer’s Diary: Being Extracts from the Diary of Virginia Woolf (New York, 1973), 281.
(5)انظر: Woolf, Collected Essays,221,225,221
(6) انظر:
E. P. Thompson, Witness against the Beast: William Blake and the Moral Law (New York, 1993), xii, xix.
(7 ) انظر:Woolf, Collected Essays,226
(8 ) من أفضل ما كتب عنها:
Carl Rollyson, Lillian Hellman: Her Legend and Her Legacy (New York, 1988), and Deborah Martinson, Lillian Hellman: A Life with Foxes and Scoundrels (New York, 2006)
(9) انظر:
Lillian Hellman to William Maxwell, 1971, Folder 5, Box 45, Lillian Hellman Collection, Harry Ransom Center, University of Texas at Austin.