خطاب” الأصولية الحداثية”
(وتاريخ النساء)
الأصولية:
رغم أن الأصل التاريخي للمصطلح والمفهوم (Fundmentalism) يرجع إلى العقد الثاني من القرن العشرين بالولايات المتحدة الأمريكية (عندما أصدر مجموعة من رجال الكنيسة عددًا من الكراسات من عام 1910 -1915 بعنوان“الأصول: شهادة على الحق“، کرد فعل للتيارات الليبرالية في الدراسات المسيحية في ألمانيا خاصة وكذلك للنظريات الداروينية) (1)، ورغم استخدامها الرائج بعد ذلك من قبل الغرب نفسه في آخر القرن للإشارة إلى الحركات الإسلامية،“فالأصولية” الآن تستخدم بصفة عامة كأسلوب في التفكير أو وصف لنمط محدد في مقاربة موضع ما، وأصبح“التفكير الأصولي” يشير إلى سلبيات عديدة في طريقة النظر إلى الأمور وتحليلها: مثلاً هو تفكير إقصائي بطبيعته ولا يعترف بالآخر أو بالاختلاف، وهو كذلك تفكير يحسم كل شيء بقطعية وجمود دون دلیل کافٍ في معظم الأحيان – أي دوجماتي” وغير مرن.
ويميل هذا المنهج في التفكير إلى المبالغة والتطرف وعدم الموضوعية، مثل الولع بتقسيم الأشياء والظواهر إلى أقطاب وثنائيات حادة وإقامة الحدود بين الأفكار، وفي بعض الأحيان يتسم أصحاب هذا المنظور بالتعصب والعنف في ردود أفعالهم. وهنا من الممكن أن تتوافر هذه السمات في أصولية دينية أو سياسية أو أيديولوجية. وهذا ما عناه الباحث والكاتب الأمريكي چون اسبوزيتو بجامعة جورجتاون، عندما استخدم عبارة“الأصولية العلمانية العنيفة” لوصف دول مثل تركيا وفرنسا والجزائر أو حتى تونس:
في دول إسلامية كثيرة – كما في الغرب – لا تُقدم العلمانية على اعتبار أنها اختيار بل كمذهب سیاسی“دوجماتی ؛ ليس كبديل مطروح، ولكن كمنهج مفروض على الجميع. وهكذا فإن العلمانية تعتبر هنا هي المعيار الرئيسي، وأى خروج عن هذا النهج المحدد هو انحراف غیر طبیعی وغير سوى. أما الذين يأملون أن يؤسسوا دولة حديثة مسترشدين بقيم الدين، فيعتبروا متطرفين ومتعصبين” (2).
هي القناعة المغلوطة والزعم أن منظومة الحداثة برمتها التي تشكلت في معظم المجتمعات العربية الإسلامية في القرنين الـ 19 والـ 20، وجاءت مصاحبة للاستعمار وهيمنة مؤسسات الدولة القومية الحديثة – إنما هي المنقذ بلا منازع أو تحفظات للمرأة العربية والمسلمة من تخلف وظلامية العصور ما قبل الحديثة. هذه القناعة إذًا مبنية على فرضيتين: الأولى هي فرضية التناقض والتنافر والانقسام الحاد بين ما هو“تاریخی / تراثي / ماضوى” وما هو“معاصر / حديث / حاضر” ؛ والفرضية الثانية: بما أن التاريخ الماضي والعصر الحاضر يقفان على طرفي نقيض، على خط مستقيم رأسي فالأول، يمثل تراجعًا إلى“الوراء” (الدلالة سلبية)، والثاني يمثل تقدمًا إلى“الأمام” (الدلالة إيجابية). وهذه النظرة السطحية إلى تفسير مسيرة التطور التاريخي قد دحضتها الكثير من الدراسات – العربية منها والأجنبية – التي أثبتت عدم دقة هذه الافتراضات بعد إجراء المراجعات والدراسات التمحيصية، سواء لوضع النساء الفعلي وأحوالهن في مجتمعات“ما قبل الحديثة“، أو بعد تحليل الخطابات الثقافية حول المرأة التي نشأت في العصر الحديث بعد عصر النهضة (الأوروبية) والثورة الصناعية، وقيام الدول القومية بمؤسساتها وأطرها وفلسفتها(3).
أما بالنسبة لمجتمعاتنا العربية والإسلامية، فقد أسهمت دراسات د. أميرة سنبل، د. عفاف لطفى السيد و د. نيلي حنا، وكذلك نيكي كدى وجوديث تاكر وبيتر جران في إجلاء الصورة المجهولة عن أحوال النساء العاديات في مجتمعات العصور المملوكية والعثمانية، من خلال دراسة وثائق وسجلات المحاكم الشرعية، التي وثقت لحركة التقاضي والمطالبة بالحقوق والتعاقد والتجارة والبيع والشراء وإدارة الوقفيات والخروج إلى الحياة العامة بكل متطلباتها، وتم اكتشاف تواجد النساء بشكل بارز في وسط كل هذه التعاملات التجارية والقانونية، بل وثبت – على عكس ما نتصور أو لدهشتنا – عدم وجود هذه التعاملات الاجتماعية في جو من عدم التحفظ أو الخجل من إعلان المطالبة بالحقوق، فاتسم العصر في العلاقات بين الرجال والنساء في المجتمع العام في أحيان كثيرة بالعملية والجرأة والطبيعية.
وفى واحد من كتبها الأخيرة المماليك الجدد (2000) تصحح لنا د. أميرة سنبل الصورة التي رسمتها لنا الاستشراقية التقليدية عن عزل النساء وتخلفهن في العصور العثمانية، حيث أثبتت الأبحاث عن أرشيفات ووثائق المحاكم والأوقاف أن المجتمع المصرى مثلاً كان مجتمعًا حيويًا نشطًا ومدنيًا بمعنى ظهور تحالفات معينة بين فصائل المجتمع المختلفة، وكذلك عمليات تطور وتفاعل سیاسی واقتصادي واجتماعي بناء على عوامل الاستمرارية و“الديالكتيكية” التاريخية، التي تجرى في كل المجتمعات البشرية على السواء، ولم يكن كما تعودنا قراءته بالمنظار الاستشراقي العنصرى مجتمعًا تقليديًا، إذًا بالضرورة مجتمعًا متأخرًا ومتحجرًا بلا تطور (Static)(4).
وفيما يخص حياة النساء بالذات في هذه المجتمعات قبل الحديثة، فعلى الرغم من أنه من الطبيعي (مثلها مثل غيرها في هذه الفترة الزمنية) أن تكون مجتمعات أبوية في الأساس، نرى أن بعض المطلقات والأرامل كان بوسعهن العيش وإدارة منازلهن بمفردهن (ص 11)، وترصد هذه الدراسات تواجد وظهور النساء بالمحاكم يوميًا وبصفة روتينية، يطلبن تعويضات أو يسجلن عقودًا أو يفسخنها أو يرفعن قضايا طلاق أو نفقة أو خلع أو حضانة أو وصاية….إلخ، وكذلك انتشارهن بأسواق التجارة والشوارع والأوقاف، ونقرأ عن حالات كثيرة من الدعاوى التي رفعتها بعض النساء، تشير إلى تفضيلهن الطلاق على أن تتحملن تعنت الزوج وتشدده في منعهن من الخروج إلى هذه المجالات.
وعملت النساء في عهد الدولة العثمانية في صناعات الغزل والنسيج والصناعات اليدوية وصناعة السجاد والملابس – خاصة في ورش المنازل الصغيرة – وارتدن الأسواق لبيع البضائع. بل كان بعضهن يملكن دكاكين وأملاك وعقارات وأراضٍ يتصرفن فيها وكن ناظرات للأوقاف. وكانت المرأة تذهب إلى المحاكم بنفسها لمباشرة إجراءات التقاضي والشهادة والتسجيل، فقد كان استخدام المحاكم متاحًا وميسرًا للنساء والبت في القضايا الخاصة بهن سريعًا وغير معقد، وتظهر أنواع القضايا عدم تردد النساء في المطالبة العلنية بحقوقهن، سواء في المهور المتأخرة أو النفقة أو المؤخر أو طلب الخلع أو الطلاق أو الحضانة أو إملاء شروط في عقود الزواج وتسجيلها لضمان الحقوق…. وهكذا، (ولمزيد من الأمثلة والأدلة التفصيلية يتم الرجوع إلى المماليك الجدد). كما توضح أميرة سنبل في كتاب النساء والأسرة وقوانين الطلاق في التاريخ الإسلامي (1996) السبب في مثل هذه الافتراضات والتعميمات:
“لقد تسبب تصور الحقبة الحديثة على إنها طرف النقيض للحقبة“التقليدية” في حدوث سوء فهم لعديد من موضوعات تاريخ المرأة المسلمة، وقد تميزت الأبحاث التي تتناول تاريخ المرأة في الشرق الأوسط في عصوره الأقدم بندرتها، نظرًا لتركيز اهتمام تلك الدراسات على العصر الحديث، فالمؤرخون النسويون يفضلون التركيز على دراسة دخول التحديث إلى المجتمعات الشرق أوسطية” (ص 14). وتثبت في مجال قوانين الأسرة والطلاقة خاصة أنه على الرغم من التغيرات الظاهرية لوضع المرأة المسلمة التي جلبها التحديث، إلا أن“المرأة في المجتمع الإسلامي التقليدي كانت نشطة إلى حد بعيد، واشتركت في إتخاذ القرارات المتعلقة بالأحوال الشخصية والقانونية… والعلاقات الاجتماعية والعلاقات بين الجنسين“، وأن التحولات التاريخية الحداثية في القرنين الأخيرين“قد تسببت في تدهور القدرة على النشاط الاجتماعي خاصة بالنسبة للمرأة…. ففي خلال عملية بناء الدولة القومية، امتدت يد الدولة إلى الأسرة وقوانين الأحوال الشخصية، فوضعت لها معايير وأصلحتها وحدثتها مما كان له أثره العميق على أحوال النساء” (ص 19).
إن الدعوة إلى دراسة تاريخنا ما قبل الحداثي بموضوعية، وعلى أساس من الدقة وتمحيص الأحداث والأوضاع، ثم تحليل الصورة الكلية يكون من هدفه إثبات ثراء وتنوع هذا الماضي الذي لم يكن مجرد حقبة غامضة ومصمتة، وأن نبين أن مجتمعاتنا خضعت ولا تزال تخضع لتطورات تاريخية طبيعية (دياليكتيكية)؛ لأنها ليست مجتمعات“استثنائية” في جمودها وسكونها، وبذلك تخرج من النموذج الاستشراقي التقليدي في التحليل: أنها مجتمعات عانت ولا تزال تعاني من“رد فعل لصدمة الحداثة“. هذا كله من ناحية، ومن ناحية أخرى: فإن هذه المجتمعات كانت تملك مقومات التطور والاستمرارية الطبيعية، ولا يجدى أبدًا نظرة القطيعة المعرفية أو التاريخية مع الماضي، تحت دعوى التحرر من فكر الجمود والتحجر والرجعية والمحافظة (5).
وهذا ينقلنا إلى التحليل التفصيلي لسمات المنظور الحداثي الذي سنرى أنه يحمل السمات الفكرية نفسها للحركات التي تم نعتها بالأصولية الدينية. وسأتخذ من مقالة للأستاذ الكاتب والشاعر أحمد عبد المعطى حجازي (الأهرام، عدد 3 يوليو 2002 بعنوان“فضيلة المفتى والحجاب“) نموذجًا لهذا المنظور. وهذا لا يشكل هجومًا شخصيًا على الأستاذ أحمد عبد المعطى حجازي، ولكن نقدًا لخطابه الخاص بالمرأة، فرغم أنه يضع نفسه نقيضًا للفكر الأصولي المتعصب إلا أنه يقع في المحاذير نفسها. فكانت هذه المقالة ردًا على تصريحات لفضيلة الدكتور أحمد الطيب مفتي الديار المصرية حول وجوب الحجاب، أي غطاء الرأس.
وأحب أن أؤكد أن تفنيدي لخطاب الكاتب والناقد الكبير في المقالة لا علاقة له بالدفاع عن أو معارضة هذا الحجاب إطلاقًا، ولن أدخل في التفاسير الخاصة بوجوبه أو عدم وجوبه لأنه ليس هو المهم الآن أو الهدف، ورأيي أنه موضوع فرعي في منظومة الدين الإسلامي ككل ويتم ارتداؤه بناء على قناعة شخصية، فيجب أن يترك النقاش فيه لموضوعات أهم وأخطر، كما علينا أن ندرك أن الحجاب العصري“كخطاب” (أى استخدامه كموضوع مثار للاختلاف أو الاتفاق حوله) برز على ساحة الجدل في بداية القرن العشرين، ثم الآن مرة أخرى، وأنه من قدره دائمًا أن يتم“تسييسه” من قبل الأصوليين المتشددين على الجانبين لكسب الجولات، ومحاولة إثبات أنه“الرمز” الأوحد للدين ضد العلمانية أو رمز الحداثة ضد المتخلفين الرجعيين. وهذا ما وقع فيه كاتب المقال فتعامل معه كساحة تشابك مع“الآخر“، ولذلك اعتمد على هذه الخطوات أو النقاط الجدلية التي من الممكن أن يستخدمها أيضًا الجانب الديني المتشدد الذي تصور الأستاذ أحمد عبد المعطى حجازي أنه يناقضه:
الاستقطاب هو سمة من سمات النظرة الصحية إلى الأمور التي تبسط أي ظاهرة تبسيطًا مخلاً، وتؤدى إلى تجاهل عناصر كثيرة متشابكة ومترابطة من الصعب فصلها، كما تركز على تقسيم الظواهر إلى قطبين متناحرين، ومنها مثلاً تقسيم شعوبنا العربية – أو هنا في مصر خاصةً – وفيما يتعلق بالخطاب حول المرأة إلى“أنصار الدولة الدينية وأنصار الدولة المدنية” – على حد قول الأستاذ أحمد حجازي، أي تقسيم فاصل وجامد إلى معسكرين لا ثالث ولا رابع لهما. فتصبح كل من تختار أن تغطي رأسها بأي شكل سواء كان خماراً أو إيشاربًا أو طرحة أو بونيه وتجاهد في الانتظام في الصلاة والفروض والعبادات، هي مرشحة لأن تكون من أنصار دعوة بن لادن أو الخميني في تشكيل حكومة، يرأسها ويديرها علماء الدين والفقهاء!! ومثل هذه المرأة ستكون بالطبع ضد الحريات المدنية والقانونية والديمقراطية والتقدم الحضاري. أما من تختار ألا تغطى رأسها فسوف تناصر قيام الدولة الحديثة، وسوف تشترط ألا يكون للإيمان الديني مكان أو دور على الإطلاق في نظام الدولة والمجتمع!! وواقع الأمر الذي لا يريد أن يقر به الأصوليون من كل نوع أن نساء بلدنا – أو حتى رجالها – لا ينقسمن إلى متدينات متطرفات، في مقابل عصريات غير مؤمنات، وأن ممارسة الدين لا تجب التمدن وأن المدنية لا ترفض الدين بالضرورة، الاستقطاب الذي يظهر هنا هو قبول التناقض الحتمي بين الدين والمدنية، بين الالتزام الديني والالتزام الحضاري، بين“نحن” العصريين التنويريين، و“هم” المتخلفين أصحاب المرجعية الماضوية. وأحب أن أستشهد هنا بنتيجة بسيطة للغاية، توصلت إليها الباحثة نادية العلى في كتابها العلمانية والجندر في الشرق الأوسط: الحركة النسائية المصرية (2000) عندما قررت – بعد إجراء مقابلات عديدة لفصائل متنوعة من النساء الناشطات في مصر المحجبات منهن أو غير المحجبات – أنه لا يمكن النظر إلى الموضوع في إطار المعسكرين المحددين، بل من خلال امتداد متصل ومتدرج يحوى تنويعات وفروقات وتداخلات عديدة، ونحن نعرف جميعًا أن الاختلاف رحمة والتنوع حضارة، وفوق كل ذلك فهو واقع، ولا يصح أن نرسخ لحرب أهلية بين أنصار المعسكر الديني والمعسكر المدني؛ لأن الغالبية العظمى من شعبنا المسلم والمسيحي كان دائمًا ولا يزال متدينًا وملتزمًا (رضينا أم لم نرضى)، ولأن الكل يريد دولة يُحترم فيها القانون والدستور والحقوق المدنية والديمقراطية، وكذلك الدين وظواهره وفروضه.
إذا كانت“الجماعات الدينية” متهمة بأنها تمارس تسييس الدين، وأن“ظاهرة الحجاب ارتبطت بالمشروع السياسي الذي تتبناه هذه الجماعات الدينية” – على حد قول كاتب المقال، فإن المبالغة في التقليل من قيمته بل تحقيره الدائم وإظهار الحساسية المفرطة تجاهه، ثم محاولة إثبات أنه ردة أو انتكاسة حضارية وتجاهل تجربة النساء أنفسهن اللاتي اخترنه… إنما هو تسييس أيضًا للموضوع واستغلال سلسلة من المقالات (انظر كذلك مقال“عن الإزار والرداء” الأهرام 10 يوليو 2002) التي تناقش بالتفصيل عدم وجوبه، ونوعية وشكل الملابس المستخدمة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم مقارنة بنوعية الملابس التي نلبسها اليوم هو أيضًا محكوم بموقف سیاسی شخصى يروج الكاتب له – بصرف النظر عن اختيارات النساء وقناعتهن. فالكاتب يرفض وصف” الصحوة الإسلامية” ويعلق:”كما يحلو لأصحاب هذا المشروع أن يسموه“، وفي ذلك تعميم وخلط بين فصائل عديدة، داخل التيار الإسلامي العريض بظواهره الاجتماعية والثقافية المتشعبة، قطاع محدد ومحدود من الجماعات المنظمة. فقد قدم كثير من الدارسين المتخصصين في الموضوع تفسيرات أخرى لظاهرة التدين الإسلامي في العشرين سنة الأخيرة، تفسيرات أكثر وعياً بطبيعة المجتمع المصرى، وأكثر موضوعية وإنصافاً لحركة“الإحياء الثقافي” التي تعم معظم المجتمعات الإسلامية حاليًا (6).
عادة ما يتهم“أنصار الدولة الدينية” بأنهم يتجاهلون التاريخ ويعاب عليهم إهدار السياق التاريخي للأديان وأوامره ونواهيه، فيركزون على التفسير الحرفي للنصوص الإلهية الذي يتجاهل ظروف الزمان والمكان، وأنهم أسرى مرجعية الزمن الجميل الذي مضى، إلا أن الرؤية الحداثية البحتة تتسم بالأسلوب والتفكير نفسيهما؛ لأنها تتجاهل“التاريخ ما قبل الحديث” برمته، ويطلق عليه الكاتب في تعميم شديد يتألم له المؤرخون في كل مكان أنه عبارة عن عصور“طغيان موروث“، وأن قاسم أمين وحده هو الذي” أطلق سراح ( المرأة ) في أول القرن العشرين ضمن سلسلة من حركات التحرير والتحديث…”.
هذه الآراء القاطعة إنما هي الوجه الآخر من الخطاب المتهم” بالماضوية“؛ فالكاتب يستخدم أيضًا مرجعية الزمن الجميل الذي مضى، ولكنه زمن قاسم أمين وطه حسين وأحمد لطفى السيد وغيرهم من أعلام هذه الفترة، وهو زمن مثالي تمامًا من وجهة النظر هذه، في حين أن هذا الرأى ينضح بالمغالطات التاريخية: (أ) ندعو أصحاب هذا الرأى عن عصور ما قبل قاسم أمين و“حركات التحرير والتحديث” إلى تعرف الدراسات الأخيرة حول العصور المملوكية والعثمانية (للباحثين والباحثات الذين أشرنا إليهم سابقًا)، وكذلك تعرف أبحاث وأنشطة الجمعية التاريخية المصرية من خلال“السمنار العثماني” الذي يعقد سنوياً لإعادة قراءة وتقييم هذه الفترات الزمنية واستكشاف صورتها الحقيقية.
إن الأصولية الحداثية إذًا تنفى كل ما قبل نقطة معينة من تاريخنا، التي اعتبرها المستشرقون العنصريون والاستعماريون البداية المهمة لتاريخ مصر ومجتمعات الشرق العربي الإسلامي؛ لأنها تتزامن مع مجيئهم واتصالهم بنا، باستثناء الحقبة الفرعونية كرمز لتاريخ“متحفى“، ميت ومنقطع الفاعلية. نقطة أخرى: إن التركيز على التاريخ السياسي الرسمي للأمة بمحطاته المعروفة من ثورة عرابي وثورة 1919 وإعلان الدستور…. إلخ، لا يجب أن يتجاهل التاريخ الاجتماعي على مستوى معيشة الرجال والنساء اليومية التي تُظهر صورة مختلفة – كما قلنا – لحياة النساء خاصةً في مجتمعات ما قبل القرنين الأخيرين، التي أثبتت الدراسات الجديدة أنها كانت مجتمعات“مدنية” فعلاً، وغير معقول أبداً أن يصدر من الكاتب في مقالة أخرى له مثل هذه العبارة:”… لم يكن في مصر في أول القرن التاسع عشر حجر قائم على حجر” (الأهرام 19 أغسطس 2000).
إن تمجيد زمن قاسم أمين إذًا هو يشبه تكفيره؛ لأن الرأيين يدلان على عدم علم بتاريخ النساء قبله، فالمرأة كانت دائماً متواجدة في المجال العام بأشكال مختلفة وكانت دائمًا تعمل وتباشر الأنشطة الاقتصادية والتجارية والاجتماعية.
(ب) لم يدع قاسم أمين إلى نزع غطاء الرأس أو تقصير الملابس – فقد دعا إلى سفور الوجه ونادى بالملابس الشرعية، ولا يجب علينا الآن أن ننظر إلى تغطية الرأس أو عدمه كعلامة على” إطلاق سراح المرأة“؛ لأنها تتوحد مع رؤية أمثال اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني في مصر، الذي أقنعنا أن هذا الغطاء هو الواضحة والدليل على تخلف شعوبنا ومن ثم تبرير المهمة التحديثية والتحضيرية“للرجل الأبيض” (انظر كتاب النساء والجنوسة في الإسلام، ليلى أحمد، 1993). الحساسية الشديدة تجاه الحجاب إذًا نوع من أنواع رد الفعل، الذي يحاول أن يثبت أن نزع غطاء الرأس هو أوراق اعتمادنا” للتحديث والتحرير” على حد قول الكاتب. وهو الوجه الآخر لرد الفعل الدفاعي، الذي يترك الدين كله ومنظوره الحضاري الشامل ليركز على هذا الغطاء فقط على أنه الحصن الأخير أو الملاذ من هجمة الغزو الأجنبي.
(ج) لم يكن قاسم أمين وحده أول من دعا إلى مراعاة حقوق المرأة، أو كان المنقذ الوحيد لها – خاصة إذا عرفنا أنه دعا بأن تكتفى المرأة بالتعليم الابتدائي فقط حتى لا تتعالى على مهامها المنزلية، ولا يجب أن تنخرط كثيرًا في عالم القراءة والإبداع والخيال – فمن قبله كانت دعوات الإصلاح والأعمال الفكرية لعائشة تيمور وزينب فواز وملك حفني ناصف، أو حتى قدرية حسين ونظيرة زين الدين في العشرينيات، اللاتي دعون بنضوج أكثر ومعرفة واعية بواقع مجتمعاتهن وتاريخها إلى صياغة نهضة نسائية، لا تقاطع التاريخ والبنية الثقافية، ولكن تتضافر معهما فتكون لها تأصيل حضاري وفاعلية واحترام للذات. كما نادين بحقوق محددة من واقع قراءاتهن لهذا التاريخ الحضاري والثقافي والواقع الاجتماعي، الذي عشنه وخبرنه بأنفسهن، ليس بدافع رد الفعل الدفاعي ولكن بدافع تقديم حلول خلاقه. إن مقولة أن قاسم أمين هو” أول” من حرر المرأة غير صحيحة تاريخياً، مثل مقولة أنه أول من أفسد المجتمع، ودعا إلى خروج المرأة وبروزها للحياة العامة.
الخطوة الأخيرة التي يلجأ إليها الأستاذ أحمد عبد المعطى حجازى لتقديم رأيه عن عدم ضرورة الحجاب هي استخدامه للقصة الإطار في ألف ليلة وليلة عن الملكين الشقيقين، شهریار وشاه زمان، ومقابلتهما للصبية الجميلة التي يمنعها أن يخصص الجني لها صندوق عليه سبعة أقفال أن تخدعه وتخونه مع العشرات. والكاتب يستخدم هذه الحكاية كأمثولة أو عبرة عن أن سجن المرأة وقهرها – جسديًا أو معنويًا – لا يحقق لها العفة، أو ليس ضمانًا للأخلاق والتحشم إذا هي أرادت الانحراف.
وأنا أفهم منطق الكاتب في استخدام هذا المثل للوصول إلى أهمية التربية السليمة للفتاة وليس القهر والحبس، ولا اختلاف طبعًا على هذا الرأي، إلا أن هناك مشكلتين: الأولى، أن نوعية هذه القصص والأمثولات بالذات مثل سيف ذي حدين، أي إنها تحتمل التفسير أو التدليل المتناقض الذي يدعم الرأي القائل بأن“طبيعة” المرأة تميل إلى الفساد والانحلال، وأنها مثل الشيطان لا يعوزها الحيل والألاعيب والخداع والمكر والدهاء لفعل أي شيء، ويجب إذًا الاحتياط منها وعدم الثقة بها. لا أقول أن هذا رأى سائد في كل قطاعات المجتمع ولكنها الصورة النمطية التي تظهر في كم كبير من الأدب الشعبي.
المشكلة الثانية، يلجأ البعض إلى استخدام أنماط من هذا التراث الشعبي والأدبي والثقافي كأمثلة للتدليل على سيكولوجية اجتماعية لكل من الرجل والمرأة، رغم أنه في حد ذاته تراث غير موضوعي في بعض الأحيان ومتحامل على المرأة – كأنثى ذات طبيعة وفطرة واحدة لا تتغير – فيجب إذًا أن نعى أن هذا التراث الثقافي يدور في دائرة مستمرة من تشكيل وإعادة إنتاج وترسيخ النظرة السلبية التي لا تحترم النساء ولا تثق فيهن. وهذا يمشي في تيار معاكس للأديان والشرائع الإلهية، التي احترمت إنسانية المرأة وقامت على العدل والرحمة.
ومن هو هذا المنطلق يجب أن نتوخى الحرص في ضرب الأمثال من الأنماط التي تقدمها ألف ليلة وليلة، فالعمل كله مبنى على فرضية“المرأة الخائنة التي ليس لها أمان“. وهي ليست بمنظومة قيم احتكم إليها، تمامًا مثل الذي يستخدم الآية القرآنية الشريفة“إن كيدهن عظيم” التي تنقل لنا قولة فرعون مصر وحكمه على سلوك زليخة وصاحباتها على أنها حكم إلهى على الطبيعة الفطرية والسيكولوجية للمرأة، وحاشا لله أن يكون هذا الحكم الأبدى الشامل لله عز وجل على كل النساء في كل زمان ومكان، والقرآن ينبهنا إلى خلق الله سبحانه وتعالى النفس واحدة” (عدد 5 آيات) وإلى الولاية المشتركة والمسئولية الاجتماعية الواحدة للمؤمنين والمؤمنات (71: سورة التوبة) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي إن وصف زليخة بذلك هو حكم خاص بهذه الشخصية التاريخية فقط، وطبعًا أنا لا أوازي آيات الذكر الحكيم – وهو وحى إلهي – بألف ليلة وليلة كتراث أدبي وشعبي، ولكن فكرة“استخدام الخطاب” واحدة: الاحتكام إلى معايير وأنماط مغلوطة للحكم على المرأة وتكوين رأى ثابت“أصولى” بشأنها.
في النهاية نأمل التخلص من الفكر الأصولي كما قد قدمناه، ومن التعصب للحداثة دون تشريح لماهيتها الحقيقية، كما نأمل – وهو الأهم – في إجماع وطنى وسطى بين أنواع التطرف والغلو المختلفة، وأن نكف عن استخدام المرأة وقضاياها وزيّها للاستفزاز، وأن نعرف أن نساء بلدنا المسلمات والمسيحيات يشعرن براحة أكثر في قربهن الطبيعي من الدين؛ لأن المرجعية الدينية في مجتمعاتنا أساسية، وأن نعى“الأجندات” الخارجية التي من مصلحتها تمامًا أن تتسع الهوة بين المعسكرين، وكأننا من بلدين مختلفين، والحقيقة أننا كلنا مصريون، جزء من هذا الوطن (مسلمون وأقباط)، وكلنا أبناء وبنات هذه الحضارة العربية الإسلامية، وامتداد طبيعي لكل مراحل تاريخنا.
أميمة أبو بكر: أستاذة بقسم اللغة الإنجليزية، جامعة القاهرة وعضوة مؤسسة بمؤسسة المرأة والذاكرة، ومهتمة بأدوار النساء في التاريخ الإسلامي.
(1) كان للصحفي الأمريكي كرتيس لي لوز Curtis Lee Laws السبق في صياغة النعت Fundamentalist عام 1920 بالتحديد لوصف الجماعة، الذين على استعداد أن يخوضوا حربًا شعواء في سبيل هذه“الأصول“.
(2) جون اسبوزيتو: الإسلام والعلمانية في الشرق الأوسط (لندن، 2000)، ص. 9 (3) انظر:،Renate Bridenthal, Becoming Visible: Women in European History (Boston 1997)
– Susan Stuard, Women in Medieval History and Histriography, (Philadelphia, 1987).
(4) أميرة سنبل: المماليك الجدد: المجتمع المصرى والإقطاع الحديث (نيويورك، 2000)، ص 5.
(5) انظر مقدمة د. رؤوف عباس في كتاب نيلى حنا تجار القاهرة في العصر العثماني (1997)، حيث يفسر لنا معضلة إهمال التاريخ العثماني واتهامه بالاضمحلال والتقليدية الانعزالية على يد المدرسة الاستشراقية:”إن المجتمعات يمكن أن تتطور وفق سياق تاریخی مختلف عن النهج الغربي، كاشفة عن فساد الاستنتاجات التي توصل إليها المستشرقون في دراساتهم حول العصور العثماني عامة، وتطور مصر في ذلك العصر خاصة… فالثقافة الوطنية العربية الإسلامية، توفرت لديها في هذا العصر مقومات التطور، وأن قدوم الغرب لم يكن بعثًا للحياة إنما كان من معوقات تطورها” (ص 15).
*لمزيد من المعلومات حول هذه النقطة، انظر كتاب (ثقافة الطبقة الوسطى في القاهرة العثمانية (ق 16 م – ق 18 م)، الدار المصرية اللبنانية، ۲۰۰۳.
(6) هكذا تمت قراءة الظاهرة بعد تحليلات متعمقة في التاريخ والمجتمع من قبل باحثين متخصصين، مثل جون اسبوزيتو في صانعو الإسلام المعاصر (2001) وأميرة سنبل في المماليك الجدد (2000)