صورة المرأة في بعض وثائق الطلاق
” لا يسوغ لأحد من قضاة هذا الزمان التطليق على الغائب بعدم الإنفاق أو بوجه من الوجوه“.
فتوى شرعية أصدرها محمد المهدى مفتي الديار المصرية ( المتحدث باسم الشرع الشريف ) في 13 ذي القعدة 1265ه صارت بموجبه النساء – بداية من هذا الزمان – قيد رحمة الرجال والقاضي، مهما غاب عنهن أزواجهن، ومهما احتاجت للنفقة أو اشتاقت إلى النكاح.
السؤال هو: هل هذا حكم الشرع الشريف؟ لماذا قضاة هذا الزمان؟ هل هذه الفتوى مردود لرؤية عامة قائمة فعلاً تجاه النساء؟ أم أنها شكلت تلك الرؤية في المجتمع ؟ وكيف شكلتها؟.
ما أود عمله للإجابة عن هذه التساؤلات، ليس الرجوع إلى كتب الفقه والغوص في بطون المصادر العديدة لكل مذهب من المذاهب السنية ( السائدة في الولايات العربية ) فحسب فهذه الطريقة يمكن أن تدلنا على رأى الفقهاء، وتغير ذلك الموقف داخل كل مذهب من فترة إلى أخرى، ولكن يمكن أن يكون ذلك على المستوى النظرى فقط، أو ربما انعكاس لإرادة سياسية، ولكننا لن نتمكن من تعرف مدى توازى الواقع السياسي مع الواقع المجتمعي؛ الأمر الذي يشكل خللاً في فهم أيهما كان الحدث وأيهما رد الفعل ، أيها شكل الآخر: هل أنتج الواقع الاجتماعي الإرادة السياسية، أو أن الأخيرة كانت لها السطوة في تحديد ما هو شرعي، وبالتالي عملت على خلق واقع اجتماعی ؟
لذا ستكون رؤيتي لتلك المصادر الفقهية من خلال محاولة تعرف الواقع الاجتماعي (من خلال وثائق المحكمة الشرعية)، فهي وإن كانت تعكس الممارسة القضائية في المجتمع في المقام الأول، فإنها تعبر أيضًا إلى حد ما عن الواقع الاجتماعي، وكيف استطاعت تلك الممارسة أن تخلق – في ضوء المرجعية الشرعية – حلولاً لبعض المشكلات المجتمعية، وستكون محاولة رصد الحالة المجتمعية من فترة تسبق صدور هذه الفتوى؛ لتعرف الواقع السابق على هذا الزمن.
قبل هذا الزمن، نلمح فتاة واقفة أمام مولانا القاضي، وعن يمينه كاتب المحكمة، وحولها حشد من الناس سواء من أتوا معها في قضيتها نفسها، أو من أتوا ليعرضوا قضاياهم وهي تقول مرددة وراء مولانا القاضي:” فسخت نكاحي من عصمة زوجي المذكور، وحللت عقدة النكاح بيني وبينه وصيرت نفسى حلالاً للأزواج” ( محكمة إسكندرية الشرعية، سجل 51، صفحة 146 -147، وثيقة 352 ) هذا الحكم كثيرًا ما وجدناه ضمن نصوص المحكمة الشرعية حتى منتصف القرن التاسع عشر، ثم لم نعد نجده بعد ذلك، لكن دعونا نرجع إلى أصل الحكاية.
حليمة بنت الحاج محمد زوجة في منتصف الأربعينيات من عمرها، عاشت مع زوجها أبو القاسم المغربي التونسي عشر سنوات قبل أن يتركها ويسافر، وفي شهر رجب سنة 1074ه / أكتوبر 1664م بعد أن تضررت من غيبة زوجها لانعدام النفقة، ذهبت إلى مولانا القاضي المالكي، واشتكت إليه غيبة زوجها، وعدم النفقة، فطلب منها إثبات ما تدعيه، فأحضرت من شهد لها بأنها زوجة لحجازي، وأنه دخل بها، وغاب عنها من فترة وهو فقير، ولم يترك لها نفقة، ولم تجد من تقترض منه على ذمته، فحلفها القاضي بصدق ما ادعته، فحلفت، فقال لها قولي فسخت… وكان الحكم السابق.
وفي حالة أخرى في نهاية القرن الثامن عشر جماد ثاني 1208ه / يناير 1794م، نجد رقية المرأة بنت المرحوم الشيخ عبد الفتاح تذهب إلى الحاكم الشرعي المالكي أيضاً، وتنهى إليه أن زوجها على العباسي بن السيد حسن الزيات تركها بلا نفقة ولا منفق شرعيين، وأنها متضررة من ذلك الضرر الكلى لاسيما خلو فراشها، وتأتى بمن يشهد لها بمعرفتها ومعرفة زوجها، وأنهما زوجان متناكحان، وأنه سافر عنها بلا نفقة ولا منفق شرعی، فلما ثبت لديه ذلك حلفها بصدق ما تدعيه ( الغيبة وعدم النفقة وتضررها لخلو فراشها ) وعندما مكنها من نفسها تمكيناً شرعيًا، وأمرها أن تقول“طلقت نفسی من عصمة زوجى الحاج على الغايب بطلقة واحدة يملك بها مراجعتي إن عاد (وأنا في عدتى) وصيرت نفسي حلاً للأزواج” وأمرها أن تعتد من يوم تاريخه كعدة طلاق ( محكمة رشيد الشرعية، سجل رقم 198 الفترة من 24 محرم 1208 – 9 ربیع أول 1213، ص72 رقم 193 ) على أية حال فحليمة يمكن أن تكون فاطمة أو أم العز أر…، وأبو القاسم يمكن أن يكون حجازي أو… والحكم دائمًا واحد ودائمًا لدى مولانا المالكي، أو الحنبلي.
وقبل أن ننقاد للتساؤل عن السبب في الرجوع دائماً إلى قاضي المذهب المالكي (النائب عن قاضي القضاة الحنفى)، دون سواه من القضاة في حالات الطلاق على الزوج الغائب، وما موقف قاضي القضاة؟ علينا أولاً أن نلاحظ أن” الحالات التي يطلق فيها القاضي سواء لغياب الزوج أو لعدم النفقة أو غيرها من الأسباب، مستمدة من اجتهاد الفقهاء، حيث لم يرد بها نص صحيح صريح” ( السيد سابق: فقه السنة، ج 8 ، ص116 ).
وبالرجوع إلى كتب الفقه، نجد أن المذهب الحنفى لا يرى من حق الزوجة التطليق لغياب الزوج، سواء لعدم النفقة أو احتياج الزوجة إلى النكاح، بينما يرى ذلك المالكي والحنبلي، ويتفق المذهب الشافعي مع الأخيرين في حالة عدم النفقة، ومع الحنفي في حالة تضررها من عدم النكاح، وحيث كانت الحكومة المركزية في إستانبول -“الدولة العثمانية” الحنفية المذهب لا تفرض مذهبها على الولايات التابعة لها – على الأقل حتى بداية القرن التاسع عشر –، فقد كانت تجعل قاضي القضاة ( القاضي الرئيسي ) هو الحنفى، وتعين نواباً له على المذاهب السنية الأخرى، وللحنفى فقط سلطة الإشراف على – نوابه.
ومن خلال مراجعتي لمئات السجلات للمحاكم الشرعية في كل من مصر بمحاكمها المختلفة، ومتصرفية القدس الشريف، وسجلات محكمة نابلس الشرعية، وجدت أن السلطة المركزية في إستانبول حتى نهاية القرن الثامن عشر لم تعمد إلى فرض نظام
مذهبي أحادي“الحنفى مذهب السلطة“، بحيث يكون أحد المدعين مجبراً على أن يقيم دعوته أمام قاضي مذهب معين إلا في أضيق الحدود. وعليه.. كان المجتمع في هذه الولايات قادراً على التعامل مع قاضي المذهب الذي يحقق مصلحته، فإذا تضررت المرأة من غياب زوجها، كانت قادرة على اختيار المذهب الذي يحقق لها مصلحتها، حيث إن مولانا الحاكم المالكي، وفقاً لمذهبه يرى أن الضرر الواقع على الزوجة من غيبة الزوج، وعدم النفقة كافيًا ليطلقها القاضي فيذكر مولانا الشيخ عبد الدايم الصافي – المفتى المالكي بالثغر ( رشيد ) والذي رفعت إليه هذه القضية – أن” عدم النفقة كاف في جواز الطلاق، وإن لم تخف على نفسها الزنا” ( محكمة رشيد: 193، 72، 198 )، كما أضاف مولانا الشيخ موسى حجاج المفتي المالكي بالثغر، ونقلاً عما صرح به العلامة خليل بن إسحاق في مختصره” الحاصل أن للمرأة أن تطلق على زوجها بأحد الأمرين عدم النفقة وخلو الفراش، فكيف بهما مجتمعين“، وعليه.. فقد كانت النساء دائمًا ما تلجأن إلى مولانا المالكي.
أما عن المدة التي يجب أن يغيبها الزوج، قبل أن يكون من حق الزوجة التضرر وطلب التطليق ؛ خاصة في حالة الاحتياج للزوج والخوف على نفسها من الزنا.. الحنابلة اعتمدوا على حكاية سيدنا عمر بن الخطاب (1)، وعليه فقد رأوا أن أقل مدة يمكن للزوجة التضرر بعدها من غيبة الزوج هي ستة أشهر. على كل حال، فالرواية التي وردت إنما تثبت أموراً منها أن سيدنا عمر بن الخطاب لم يجد في النصوص الشرعية شيئاً للجواب، لذا فإنه ذهب إلى أن الرأى تراه المرأة ؛ ومن ثم فقد عاد إلى ابنته وهو اعتراف واضح بمنهج عمل، وهو أن الرأى رأى الزوجة، وهذا ما أخذ به المتأخرون من مفتى المذهب المالكي، فيجيب مولانا الشيخ موسى حجاج المفتى المالكي بالثغر على“رقية” السابق ذكر قضيتها بقوله” قد صرح البرهان الشبراخيتي في شرحه على المختصر بأنه لا يشترط طول في مدة ترك الوطئ، بل خوف الزنا كاف، وإن لم يكون طول (حفظها) من فعل الفاحشة“.. كما يكمل مولانا الشيخ عبد الدايم الصافي المفتي المالكي بالثغر بقوله“فإن تزوجت بعد التطليق والعدة وقدم من غيبته من كان متزوجاً بها فلا سبيل له عليها ولا كلام له معها، ولا مع من تزوج بها لأنه بعد أن طلقها الحاكم الشرعي صار أجنبياً منها، صرح بذلك شراح المختصر والرسالة مما وقفت عليه والحالة هذه والله أعلم” (محكمة رشيد: 193، 72، 198).
أما موقف صاحب المذهب الحنفي، مولانا قاضي القضاة والذي له حق الإشراف على نوابه، فهو لم يعترض على حكم أحد منهم وفقاً لمذهبه؛ حيث نجده في حالة رقية راجع حكمه وأقره“ونفذ ذلك تنفيذاً مرعيًا” ( محكمة رشيد.. )، وحتى في الحالات التي ذهبت فيها المرأة إلى القاضي الحنفي – لعدم درايتها، أو لأي سبب آخر – لتطلب منه التطليق لغياب الزوج، وجدناه يحيل القضية إلى أحد نوابه الذي يجيز مذهبهم ذلك” بعد الإذن من حضرة سيدنا ومولانا قاضي القضاة شيخ مشايخ الإسلام الحاكم الحنبلي على طره القصة المرفوعة إليه في شأن ما سيذكر فيه وقابله بمزيد الامتثال” (سلوى على ميلاد: الوثائق العثمانية، دراسة أرشيفية وثائقية لسجلات محكمة الباب العالي، دار الثقافة العلمية، ط1، ج2، سجل رقم 90، وثيقة رقم 1517).
لكن ومنذ منتصف القرن التاسع عشر تقريباً، نلاحظ أن سجلات المحكمة الشرعية لا تمدنا بقضايا من هذه النوعية التي تذهب فيها السيدة إلى مولانا المالكي، بل دائماً ما نجدها تذهب إلى مولانا قاضي القضاة الحنفى، وهو دائمًا يرفض الفسخ أو التطليق لأن مذهبه لا يقر ذلك، وفي الحالة موضوع الدراسة وجدنا أن السيدة قد ذهبت إلى القاضي المالكي فطلقها وتزوجت من غيره ( لم نجد أصل القضية، ولم يكن من المتاح أن نعرف عنها شيئًا لولا مجيء الزوج واعتراضه على تصرف الزوجة وذهابه إلى القاضي الحنفى ) وبعد أن عاد الزوج الغائب، ذهب ليرفع قضيته لدى القاضي الحنفي وقدم سؤالاً إلى المفتى – محمد المهدى العباسي مفتي الدولة الحنفي – فأفتى ببطلان الفسخ الذي أحدثه القاضي المالكي وعليه بطلان الزواج الثاني، وأن عليها أن تعود إلى زوجها الأول، وليس هذا لخطأ وقع فيه القاضي المالكي، ولكن لأن ولي الأمر أمر بعدم العمل إلا بالمذهب الحنفي.
وهذا الرأي الذي ذهب إليه الفقيه الحنفي في هذه الفتوى تنفيذاً لعديد من الفرمانات والأوامر ؛ ومنها لائحة القضاء الصادرة من الدولة العثمانية في 28 ربيع آخر 1273ه / 26 ديسمبر 1856م، والذي تذكر المادة الثامنة منه:” يلزم أن يصير إجراء القضايا على وجه الحق والعدل حسبما يقتضيه الشرع الشريف في أمور الدعاوى وحقوق العباد ويصير إجراء الدقة.. والحكم بالأقوال الصحيحة من مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة (2)..”( فيليب جلاد: قاموس الإدارة والقضاء، المجلد الرابع، حقوق إسكندرية، 1892م، ص 1649).
هنا يرى الباحث أنه من الضروري العمل على مناقشة تعريف الفتوى بشكل عام وعن ماذا تعبر؟ ثم مناقشة دور هذه الفتوى وموقعها أو تأثيرها في الواقع الاجتماعي؟ فمن الجدير بالذكر أن الفتوى بشكل عام هي“اجتهاد فقهى” يمكن أن تكون إلى حد ما انعكاساً لواقع مجتمعي ؛ إذ إنها تعبر عن مواءمة بين النص الشرعي وذلك الواقع، أو بتعبير آخر محاولة لوضع حلول لواقع اجتماعي في ضوء ضوابط الشريعة الغراء، وبالتالي فإن الفاعل الاجتماعي في الفتوى هي: أولاً، الفقيه المجتهد، وثانيًا، مدى رؤيته وتقييمه للواقع، وبالتالي فإن الفتاوى الخاصة بالنساء مثلاً يمكن أن تعكس واقع اجتماعي، كما أنها من ناحية أخرى يمكن أن تعكس رؤية الفقيه لوضعية المرأة في ذلك، إلا أنه في مثل حالتنا تلك ربما تكون مضطرين إلى إضافة فاعل آخر هو السلطة السياسية؛ حيث إن الفتوى ببطلان تصرف القاضي السابق وعدم جواز تطليقه لم تصدر لسبب فقهی، بل لسبب سياسي هو أمر ولي الأمر في ذلك، أو بالأحرى ترجيح ولی الأمر – الحاكم السياسي – لرؤية فقيه لوضعية المرأة على رؤى بقية الفقهاء لها.
فهل خلق ذلك القرار السياسي، والذي طرح من خلال مرجعية دينية مفاهيم جديدة ضد النساء؟ كيف خلقت تلك المفاهيم؟ ما المعايير التي يمكن من خلالها تعرف أثرها؟ وهل هذه المفاهيم كانت في صالح أو ضد النساء؟
ليس من اليسير الوقوف على مدى التغير في مفاهيم المجتمع تجاه مثل تلك القضايا، ولا الأثر الذي تركته مثل هذه القرارات، التي خرجت في إطار شرعي على وضعية المرأة في المجتمع بشكل مباشر، حيث من الصعب في مثل هذه الفترة أن نجد مصادر تحدثنا عن رفض أو احتجاج بشكل صريح إن كن قد تضررن منها، ولكن يمكن تلمس ذلك من خلال منطق النساء والرجال في التعامل مع هذه القرارات واستثمارهم لها، وأيضًا عدد الأسئلة والاستفسارات المقدمة من النساء المتضررات وأسرهن إلى المفتين ورجال الحقانية، وأخيراً الحلول التي وضعتها السلطة أخيراً لهذه القضية، وطبيعة هذه الحلول.
من منطق السؤال والجواب الذي وجهه الزوج الأول ( الذي كان متغيباً ) إلى مفتى الديار المصرية السيد محمد المهدى العباسي، يمكن أن نستنتج أن النساء قد حاولن الهروب من منطق الدولة بفرض المذهب الحنفي كمذهب أحادي، وهو المذهب الذي لا يحقق مصالحهن، باللجوء إلى بعض قضاة الأقاليم بعيداً عن تشدد السلطة المركزية في العاصمة، ولكننا أيضًا يمكن أن نفهم أنه أصبح من حق الزوج في هذه الحالة أن يلجأ إلى قاضي حنفى فيبطل تصرف القاضى الآخر بسبب أمر ولى الأمر. هذه المحاولة للتهرب من النساء، والاستغلال من قبل الرجال تجعلنا ندرك أنه أصبح هناك سلوك ما لا يحقق مصالح النساء.
سيل الشكاوي الذي قدم إلى الفقهاء في ذلك الزمان كما تفيد أوراق نظارة الحقانية، وكما يذكر الإمام محمد عبده، ويكفي أن نستعرض منها إفادة قدمتها نظارة الحقانية مؤرخة في 14 ربيع الأول 1318هـ تستفتى فيها مفتي الديار المصرية – في ذلك الحين – الإمام محمد عبده عن حال عديد من النساء، اللاتي يتضررن من غيبة الأزواج، سواء المحكوم عليهم بالسجن أو لأسباب أخرى.
ويرد المفتى أن“هذه الأمور من الأمور التي كثرت فيها الشكوى وعمت بها البلوى، ونظارة الحقانية لا يمر عليها زمن طويل حتي يصلها من جميع أطراف القطر المصرى ما يستحثها للنظر في مخلص مما يلحق النساء المعوزات من الضرر في دينهن ومعيشتهن، والفساد الذي يعرض لأولادهن وما ينشأ عليه من رديء الأخلاق وسيء الأعمال. وللنظارة علم بكثير من ذلك شوهد بالعيان ولم تبق فيه ريبة لمرتاب. إن النساء في مثل هذه الحالة يلجأن بحكم الضرورة إلى الفحش وارتكاب ما يخالف أحكام كل دين وأدب أو يهلكن، ولا سبيل لإنقاذهن من المهلكتين إلا التطليق على أزواجهن” ( الفتاوى، محمد عبده، ج1، ص 273 -281 ).
ولم يقتصر أمر تضرر النساء من هذا الأمر السلطاني في مصر وحدها، بل في سائر الولايات العربية التي كانت خاضعة لهذا الفرمان العثماني أو القرار السياسي، فنجد جمال الدين القاسمي يقول واصفاً حال النساء في دمشق” أحضروا لي مرة امرأة بهذه الحالة معلقة وذكروا أنه صار لزوجها بضع سنين في أمريكا ولا كتاب منه ولا خبر، ولا حوالة بمال، ولا صلة بحال ولا أهل له ولا وكيل، وأخذوا يبكون على نضوب ماء حسنها وقرب الزهادة فيها ووكس مهرها ووجودها بين أترابها كالمعلقة لا مزوجة ولا مطلقة، وتجرع مرارة الفراق، وهموم تسيل الدم من المآقي” ( فتاوى مهمة في الشريعة الإسلامية في المحاكمة العثمانية والمصرية ومباحث في الإصلاح الإسلامي، مجموعة من فتاوى مشايخ الإسلام الرسميين في الأستانة بالحكم المذاهب الأربعة عند الحاجة، وصدور إرادة السلطان بذلك، ومباحث العلامة الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقى، والمرحوم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وصاحب المنار، نشرت في مجلة المنار لصاحبها السيد محمد رشيد رضا، طبع المنار بمصر سنة 1331 هجرية قمرية – 1291 هجرية شمسية ص9 – 10 ) وكذلك نجد الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ومفتي السادة المالكية يقول“إنه يرى أن الحالة الحاضرة من الخطب الجسيم، الذي يجب النظر فيه للخروج منه” ( الفتاوى، محمد عبده، ج 1، ص273 -281).
وقد كانت آراء الفقهاء في طرح حلول تطالب بتوسيع الإذن للنائب الحنفي، بأن يولى القضاء لمن يقضى بتلك الفتوى على مذهبه ممن يراه أهلاً للقضاء والحكم، فنجد جمال الدين القاسمي يقول:” كثيرًا ما فاتحت بها مبعوثي سورية وغيرها.. بل کلمت مرة في ذلك شقيق أحد الصدور العظام لما قدم دمشق“، في الوقت الذي يطرح فيه الإمام محمد عبده حلاً آخر؛ إذ قدم مشروع قانون رأى فيه أن يعطى الخديوى هذا الحق لبعض قضاة الأقاليم بعيداً عن قاضي القاهرة الذي يعينه السلطان العثماني” ( فتاوى مهمة: سبق ذكره، ص9 -10 ).
أخيراً فإن الدولة – وأيضًا لظرف سياسي، وهو انتهاء السيادة العثمانية على مصر في سنة 1914م بإعلان الحماية البريطانية على مصر، ونظراً لأنه كان لابد من محاولة تعديل قانون بما يتناسب مع حالة مصر الجديدة – عملت على تعديل النص القانوني تيسيراً على النساء ودفعاً للظلم عنهن. جاء في قانون الأحوال الشخصية رقم 25 لسنة 1929 مادة 12″ إذا غاب الزوج سنة فأكثر بلا عذر مقبول، جاز لزوجته أن تطلب إلى القاضي تطليقها بائناً، إذا تضررت من بعده عنها، ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه“، وجاء في المادة 14″ لزوجة المحبوس المحكوم عليه نهائياً بعقوبة مقيدة للحرية مدة ثلاثة سنين فأكثر، أن تطلب للقاضي بعد مضى سنة من حبسه التطليق عليه بائناً للضرر، ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه” (السيد سابق: فقه السنة، ج8 ، ص 128-129).
السؤال الذي سيظل مطروحًا إن كانت الحالة التي ذكرناها عن سيدنا عمر ابن الخطاب، والتي أخذ بها الحنابلة ترى أن أكثر مدة لتضرر المرأة من غيبة زوجها ستة أشهر، فمن أين جاءت مدة السنة التي ليس للمرأة أن تتظلم قبلها، وأين هذا التيسير إلا إذا اعتبر أنه تيسير بالنسبة للحالة أو الوضعية، التي خلقت في القرن التاسع عشر، بمقتضى القرار السياسي العثماني بعدم الأخذ إلا بالمذهب الحنفي، والذي يتشدد كثيرًا في مثل هذه الحالة مع النساء.
النص:
13 ذي القعدة 1265هـ سئل في رجل سافر لجهة وترك زوجته في بلده، وغاب في تلك الجهة مدة نحو أربع سنين فطلق عليه قاضي ناحيتهم، وبعد انقضاء عدتها تزوجت غيره في غيبة زوجها.. فهل لا يصح طلاق القاضي عليه ولا تزوجها بغير زوجها الغائب وإذا رجع الزوج من غيبته وأثبت أنها زوجته، وأن نكاحها سابق يفرق القاضي بينها وبين الثاني ويلزمها بطاعة الأول خصوصاً، وأن الثاني معترف بأنها زوجة للأول، وإذا تعلل بالطلاق عليه حال غيبة الزوج لا يعتبر تعلله ولا يقع طلاق القاضي ولا طلاقها على نفسها (أجاب)؛ حيث كان نكاح الأول معروفاً سابقاً على نكاح الثاني يحكم بنكاحها له ولا يقع تطليق القاضي عليه ولا يسوغ لأحد من قضاة هذا الزمان التطليق على الغائب بعدم الإنفاق ولا بوجه من الوجوه، ولو كان القاضي يرى ذلك مذهباً له لنهى ولى الأمر عن ذلك والله تعالى أعلم (الفتاوى المهدية: ج 1، ص 162).
رمضان الخولي: باحث تاريخي له دراسات وأبحاث في دور الوثائق في الكشف عن أوضاع النساء في حقب تاريخية مختلفة.
(1) روى أبو حفص بإسناده عن زيد بن أسلم: قال بينما كان عمر بن الخطاب يحرس المدينة؛ فمر بامرأة في بيتها وهي تقول:
تطاول هذا الليل وأسود جانبه ……وطال على أن لا خليل ألاعبه
والله لولا خشية الله وحده……لحُرّك من هذا السرير جوانبه
ولكن ربي والحياء يكفنى……وأكرم بعلى أن توطأ مراكبه
فسأل عنها عمر، فقيل له هذه فلانة، زوجها غائب في سبيل الله، فأرسل إليها تكون معه، وبعث إلى زوجها فأقفله ( أرجعه ) ثم دخل على حفصة، فقال يا بنية.. كم تصبر المرأة عن زوجها؟… فقالت سبحان الله مثلك يسأل مثلي عن هذا؟.. فقال: لولا أني أريد النظر للمسلمين ما سألتك. قالت خمسة أشهر.. ستة أشهر، فوقت للناس في مغازيهم ستة أشهر.
وهذه الرواية هي ما استند إليه الإمام أحمد بن حنبل رضوان الله عليه في الأمد الذي يحق للقاضي أن يفرق بين الرجل وزوجته إن اشتكت من غيبته حيث يكتب إليه القاضي، فإن لم يعد فرق بينهما ( راجع السيد سابق: فقه السنة، المجلد الثاني، طبعة جديدة ومنقحة، نظام الأسرة والحدود والجنايات، مكتبة المسلم للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الرابعة، 1403هـ / 1983م، ص 162 ).
(2) ولكن مع بداية القرن التاسع عشر، ومع زيادة تفسخ العلاقة بين الحكومة المركزية وولاياتها، بدأت الحكومة المركزية في المطالبة بأن يكون المذهب الوحيد المعمول به في تلك الولايات – ومنها مصر – هو المذهب الحنفى كنوع من الدلالة الرمزية للتبعية للسلطة العثمانية.