صورة النساء في بعض وثائق الوقف
شُرع الوقف في الإسلام على أنه قربة من القُرب، يتقرب بها العبد إلى ربه عملاً بقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم” إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له“. ويبدو أن الصدقة الجارية المذكورة في الحديث الشريف تتحقق في الوقف على أصل معناه المقرر من الفقهاء، وهو كونه من الصدقات (محمد محمد أمين 1980: 19).
وعلى الرغم من المردود الديني لهذا النظام، وما يفترض من تحقيق النفع والعدل من تطبيقه إلا أن ما تطالعنا به بعض الوثائق، وما تشير إليه بعض النصوص التاريخية (1) عبر عصور مختلفة – يخبرنا بعكس ذلك، وخاصة فيما يتعلق بنصيب الإناث في استحقاقهم من ربع الأوقاف.
مثال: جزء من وثيقة وقف محفوظة تحت رقم (763) بالأرشيف التاريخي لوزارة الأوقاف مؤرخة بتاريخ 19 ذي القعدة سنة 1130هـ“وهي نموذج لحرمان ذرية البنات من استحقاقهم في الوقف“.
-
شرعاً أنشأ الواقف المذكور، ضاعف الله له الأجور، وقفه هذا على أولاده لصلبه، وهم الشيخ الصالح التالى لكتاب الله. العزيز الشيخ عبد الوهاب والشاب الرشيد التالي لكتاب الله العزيز الشيخ أحمد والمصونة آمنة المرأة وستيتة البكر ومريم البكر ومن سيحدثه الله تعالى من الأولاد ثم على أولاده، وأولاد أولاد أولاده وذريتهم ونسلهم وعقبتهم من أولاد الظهور دون أولاد البطون للذكر مثل الأنثى، فإذا مات أحداً من الموقف عليهم من الذكور وله ذرية، انتقل نصيبه إلى ذريته من أولاد الظهور دون أولاد البطون فإن لم يكن له ذرية انتقل نصيبه إلى من هو في درجته، ومن مات من بنات الواقف المذكور انتقل نصيبها إلى إخواتها أو ذرية أخواتها، ولم يكن لذرية البنات المذكورين نصيب في الوقف ذكوراً كانوا أو إناثاً، ويكون الوقف على ذرية الواقف أولاد الظهور دون أولاد البطون وذريتهم وذرية ذريتهم ونسلهم وعقبتهم أبد الآبدين ودهر الداهرين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، فإذا انقرضوا جميعاً وأبادهم الموت عن آخرهم ولم يبق أحد منهم، انتقل الوقف المذكور إلى الأقرب فالأقرب من عصبات الواقف المذكور من أولاد الظهور، دون أولاد البطون ولذريتهم وذرية ذريتهم ونسلهم. وعقبهم أبد الآبدين ودهر الداهرين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين فإذا انقرضوا جميعاً وأبادهم الموت عن آخرهم وخلت بقاع الأرض منهم كان وقفاً على مصالح مقام القطب الرباني والعارف الصمداني الشريف العلوى سيدي أحمد البدوى عمت برك بركاته وشرط…
مثال: جزء من نص حجة وقف تحت رقم ح 3895 ق 461، محفوظة بدار الوثائق القومية من مجموعة وثائق محكمة نور الظلام – سابقاً ( محكمة الأحوال الشخصية للولاية على النفس )”نموذج لحصر الاستحقاق في ذرية الواقف الذكور دون الإناث؛ لحين انقراض الذكور ونسلهم وعقبهم، فإذا انقرضوا جميعاً دخلت بنات الواقف في الاستحقاق وذريتها من بعدها الذكور دون الإناث” (2).
-
…………………… وقفاً صحيحاً شرعياً وحبساً صريحاً مرعياً وصدقة جارية على الدوام صرمداً، أنشأ الوكيل المذكور بما له من التوكيل الثابت المعين أعلاه، وقف موكله شمس الدين محمد الطناحي المذكور.. على ولدى موكله المذكور لصلبه فخر أقرانه سيدى حسين وأخيه سيدى إبراهيم سوية بينهما، لا مزيد لأحدهما على الآخر، ينتفعان بذلك وبما شا منه سكناً وإسكاناً وغلة، واستغلال بساير وجوه الانتفاعات الشرعية……. أبدًا ما عاشا ودائماً ما بقى من غير مشارك لهما في ذلك، ولا منازع ولا دافعاً ليدهما عن ذلك، ولا مانع مدة حياتهما ثم من بعد كل منهما على أولاده الذكور ثم على أولاد أولاده ثم على ذريته ونسله وعقبه الذكور دون الإناث طبقة بعد طبقة، ونسلاً بعد نسل، وجيلاً بعد جيل الطبقة العليا منهم، تحجب الطبقة السفلى من نفسها دون غيرها بحيث يحجب كل أصل فرعه دون فرع غيره الذكور دون الإناث، وعلى أن من مات منهم وترك ولدًا أو ولد ولد أو أسفل من ذلك، انتقل نصيبه من ذلك لمن هو في درجته الذكور دون الإناث، ومن مات منهم قبل دخوله في هذا الوقف واستحقاقه لشيء منه، وترك ولداً أو ولد، ولد قام ولده أو ولد ولده مقامه في الدرجة والاستحقاق واستحق ما كان يستحقه أصله إذ لو كان باقياً يداولون ذلك بينهم لذلك على حين انقراضهم أجمعين الذكور دون الإناث فإذا انقرضوا الذكور جميعاً بأسرهم ولم يبق ولا فرداً واحداً يكون ذلك وقفاً على من يوجد من أولاد سيدي حسن وأولاد سيدى إبراهيم المذكورين الإناث وعلى بنتى الشيخ محمد الطناحي الموكل الواقف المذكورتين، الحرمة آمنة والحرمة صالحة بالسوية بينهن، ثم من بعد كل منهم على أولادها ثم على أولاد أولادها، ثم على ذريتها ونسلها وعقبها سوية الذكور دون الإناث، فإذا انقرضوا الذكور جميعاً من أولاد الإناث المذكورات أعلاه، فعلى من يوجد من أولادهن الإناث سوية ثم من بعد كل منهن على أولادها وذريتها ونسلها وعقبها من أولاد الظهور ومن أولاد البطون…
ولعله من المناسب الآن أن نعرض لهذه القاعدة، التي سار وراءها الواقفون مستغلين ما أباحه لهم الشرع الشريف، فاستخدموا شريعة الوقف ليحرموا مَنْ يشاءون من الورقة، ففرقوا بين المتساويين منهم وجابوا وظلموا وبذروا بذور النزاع والشقاق بين أفراد أسرهم.
فقد عُرف الوقف لدى الصاحبين من الأحناف والشافعية والحنابلة في الراجح من مذهبهم بأنه: حبس العين عن ملك الناس، وخروجها من ملك صاحبها إلى ملك الله تعالى، والتصدق بريعها في جهة من جهات البر.
ومن بين ما يفيده هذا التعريف لزوم الوقف وتأييده، فلا يجوز بيعه ولا هبته ولا يورث ولا يجوز الرجوع عنه، ويتأبد إنفاق ريعه في وجوه الخير التي عينها الواقف (سید سابق 1985: 522: محمد أحمد سراج 1998 – 122)، كما أجاز الفقهاء للواقف أن يقف بعض أمواله على أولاده وأقاربه أو بعض منهم دون بعض، ولا يشترط في الوقف على الأقارب والأولاد أن يكون الاستحقاق بينهم حسب قواعد الميراث والوصية.
والأمر في تحديد الموقف عليهم من الأقارب والأولاد في مقدار الاستحقاق مفوض إلى الواقف ولا يتعلق بالموقوف حق الورثة بأي نوع من أنواع التعلق حتى لو كان فيه بالفعل حرمان الورثة أو بعضهم، أو تفضيل بعض منهم على البعض الآخر، وأُعتُبر ذلك من الشروط الصحيحة في الوقف.
والحقيقة أنه إذا تمعنا قليلاً في هذه الإجازة التي منحها الفقهاء للواقفين لاستوقفتنا جملة غاية في الأهمية ألا وهي” للواقف أن يقف بعض أمواله… إلخ” هذا“البعض” الذي أقره المشرع بمقدار الثلث من أملاك الواقف، ومن يكون له الحق في تمييز البعض على البعض الآخر بهذه القيمة، كما يعني أيضًا أن البقية من أملاكه توزع على حسب الفريضة الشرعية للميراث بعد وفاته، ولكن……. ماذا لو كان كل ما يقفه الواقف هو كل ما يملكه…… !؟ في هذه الحالة يكون الوقف باطلاً من أصله، لقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم” لا ضرر ولا ضرار في الإسلام” وقوله صلى الله عليه وسلم” لا حبس عن فرائض الله” فالأوقاف التي يراد بها قطع ما أمر الله به أن يوصل ومخالفة فرائض الله عز وجل باطلة من أصلها لا تنعقد بحال، كمن يقف على ذكور أولاده دون إناثهم وما أشبه بذلك ( سيد سابق: 533 )
والحقيقة أن وثائقنا لا تخبرنا بحقيقة أملاك الواقف، وهل ما يتصرف فيه لا يجاوز المقدار المقرر به – خاصة في الوقف الأهلى – أم لا، وإنما كانت تهتم في أغلب الأحيان بإبراز سند الملكية، الذي يثبت أحقية الواقف وامتلاكه لما يتصرف فيه، ومن أهم الصور التي تطل علينا من بعض الوثائق المنتمية إلى عصور وأزمان مختلفة، مظاهر متعددة للتمييز ضد الإناث في نصيبهم أو استحقاقهم للوقف، والتي فسرها المؤرخون بأنها كانت قائمة أساساً على فكرة حصر الاستحقاق في أولاد الأصلاب أو عمود النسب وحرمان أولاد البنات أو أولاد البطون، وكذلك حرمان البنات المتزوجات مادامت الزوجية قائمة؛ فالاستحقاق يقتصر على من ينتمى إلى الواقف وينتهى إليه نسبه ويحمل اسمه (3). ومن هذه الصور:
1 – حرمان الإناث من الدخول في استحقاق الوقف، إلا بعد انقراض ذرية الذكور تمامًا من أولاد الواقف وأولاد أولادهم الذكور دون الإناث أيضًا، فمن بعد انقراضهم جميعاً وإذا تبقى من بنات الواقف أحد دخلن في الاستحقاق، هن ومن معهن من بنات أولاد الواقف.
2 – أو تطبق الفريضة الشريعة بأن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين بين أولاده وبناته فقط، بينما يحرم ذرية البنات ذكوراً وإناثاً من أي استحقاق في الوقف. هذا مع العلم بقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم” ابن أخت القوم منهم” ( سيد سابق: 524) أي أنه من وقف على أولاده دخل في ذلك أولاد الأولاد ما تناسلوا، وكذلك أولاد البنات.
3 – وضع بعض شروط تقيد الأنثى في أن تنال استحقاقها في الوقف، أو على الأقل في التمتع ببعض ما لها من استحقاق، كأن تكون عزباء حتى تتمكن من الإقامة في أحد أعيان الوقف، فإذا تزوجت أخلته وخرجت منه.
ويبدو أن هذا الإجحاف الذي تعمده كثير من الواقفين ضد بعض أفراد أسرهم، توارثته الأجيال جيلاً بعد جيل حتى كان مثاراً لمشاكل ومنازعات ضج الناس بالشكوى منها، فاضطر واضع القانون إلى معالجتها بما يلائمها، فجاء قانون الوقف ( رقم 48 لسنة 1946 ) فعالج أهم العيوب التي كانت مثار شكوى الناس من شروط الواقفين بالتعديلات ومنها:
1 – أنه منع الواقف من أن يشرط من الشروط ما يقيد حرية الموقف عليه في السكن أو الزواج، فإذا اشترط شيئًا من ذلك كان شرطه باطلاً.
2 – أنه أوجب على الواقف – إذا كان له من يرثه من ذرية أو زوج أو والدين مباشرين – أن يجعل للوارث منهم في وقفه ما يعادل استحقاق الإرث في ثلثي ما يتركه عند وفاته. ويدخل في تقدير تركته كل الأوقاف، التي صدرت منه إذا كان له حق الرجوع فيها، فيكون الواقف حراً في وقف ثلث تركته على من يشاء، أما الثلثان فإنه مقيد بهذا الشرط منعاً لظلم أقرب الناس إليه وقطع أرحامهم.
وقد قصد المشرع من كل ذلك أن يحد من حرية الواقف الجامحة ويحمله على مسايرة روح الشريعة العادلة، ويجنبه الظلم والانحراف عن الجادة (على حسب الله: 1956: 24، 25).
غادة سيد طوسون: معيدة بقسم المكتبات والوثائق والمعلومات / جامعة القاهرة.
(1) يخبرنا أحد المؤرخين أنه شاع في أواخر عهد الصحابة اتخاذ الوقف ذريعة لحرمان بعض البنات من نصيبهن، وأنه كان من أثر اتخاذ الأوقاف ذريعة أن عمرًا ابن عبد العزيز رضى الله عنه (ت 101 هـ) هم أن يبطل الصدقات التي كان يحرم فيها النساء، أي الأوقاف التي كانت تتخذ ذريعة لحرمان النساء من فريضتهن الشرعية، ولكن المنية عاجلته، كما يشير إلى أنه في كتاب الأم للشافعي صورة حجة وقف صدرت في حيازته يتضح فيها حصر الاستحقاق في أولاد الأصلاب فقط. (محمد محمد أمين: الأوقاف والحياة الاجتماعية في مصر 648 هـ – 923 هـ / 1250 – 1517م دراسة تاريخية وثائقية، دار النهضة العربية، القاهرة 1980).
(2) لم يتيسر تقديم صورة لهذه الوثيقة نظراً لقدمها والحاجة لترميمها، ومن ثم اكتفت الباحثة بنسخها. ويمكن الرجوع إلى الأصل في دار الوثائق القومية.
(3) محمد أمين: المرجع السابق، ص35.
-
السيد سابق: فقه السنة، ط7، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1985.
-
على حسب الله: خلاصة أحكام الوقف في الفقه الإسلامي، ط1، مطبعة لجنة البيان العربي، 1956.
-
محمد أحمد سراج: أحكام الوصايا والأوقاف في الفقه الإسلامي، دراسة فقهية مقارنة، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية، 1998.
-
محمد محمد أمين: الأوقاف والحياة الاجتماعية في مصر 648 -923هـ / 1250- 1517م، دراسة تاريخية وثائقية، ط1، دار النهضة العربية، القاهرة، 1980.