المرأة المعولمة.. تقارير حول مستقبل من عدم المساواة
The Globalized Woman: Reports From a Future of Inequality
صدر هذا الكتاب لأول مرة عام 2000 لكاتبته كريستا ويشتريش؛ وهي إعلامية حرة، تعمل للصحافة المكتوبة وللإذاعة؛ كما أنها مستشارة للمشروعات المتعلقة بالنساء والسياسات الخاصة بالنوع. يتكون الكتاب من 180 صفحة من القطع الصغير، تضم مقدمة وستة فصول، بالإضافة إلى ببليوجرافيا مختارة وملحق. ويقوم الكتاب بالتدليل على كيفية تحول النساء على مستوى العالم من ينتمون إلى فئة “تحت الطلب” في سوق العمل؛ وهو يقدم لنا خليطًا من دراسات الحالة، والأمثلة، والاقتباسات التي تصور بعض أشكال الواقع القاسي. تنظر المؤلفة إلى النساء في أرجاء العالم لتبرز لنا كيف انقلبت حياتهن رأسًا على عقب كنتيجة للتصنيع في الجنوب، والعودة إلى العمل المنزلي في الشمال. كما نرى من خلال الصفحات الآثار المدمرة على امتداد البلدان لسلطة الشركات عابرة الجنسيات على حياة النساء.
تشير لنا مقدمة الكتاب أنه على الرغم من احتمال التداعيات السلبية للعولمة على حياة النساء، فإن أوضاعهن لا تحظى باهتمام كبير فيما يتعلق بآثار التطورات العالمية على حياتهن وظروف عملهن. ومن الملاحظ أن هناك اتجاهات متوازية عبر البلدان والحضارات تجعل حياة النساء وظروف عملهن متشابهة بطريقة متنامية، فمع انتشار معدلات أكبر من العمل في صفوفهن، تحصل النساء على وظائف غير آمنة، بأجور منخفضة، كما يواجهن مشاكل اجتماعية أكبر، ومجالات منافسة أوسع، ومظاهر من العنف المبنى على التمييز بين الجنسين… إلخ. وفي حين يتم تضمين النساء في الاقتصاد والسوق العالمي، فإنه يتم تهميشهن في الوقت نفسه. وهو ما يضع النساء في إطار العولمة ما بين الانجذاب للأسواق الاستهلاكية المتخمة، وتدهور الأمان الاجتماعي؛ كما يضعن بين التطلع لفرص عمل جديدة، والوقوع فريسة للاستغلال باعتبارهن مصدراً متاحًا للأعمال الشاقة؛ وأخيرًا، يجدن أنفسهن بين البحث عن هويات ثقافية جديدة وشبكات اجتماعية من جهة، والنزعات الفردية والتنافسية من جهة أخرى.
بعنوان “حزام النقل العالمي“، يشير الفصل الأول إلى أن المزايا المقارنة للاقتصاد التصديرى الجديد تتسم بانخفاض الرواتب، وغياب المزايا الثانوية، وضعف النقابات العمالية، وتوافر سلسلة قوية من الحوافز الضريبية والاستثمارية. وقد تم اعتبار النساء أهم مورد طبيعي يغذى هذا التوجه؛ فقد بلغت النساء ما بين 70 % إلى 90 % من إجمالي قوة العمل المرتبطة بمصانع التصدير في البلدان النامية. ويصح ذلك منذ بداية مرحلة الرأسمالية في إنجلترا وألمانيا وحتى يومنا هذا؛ حيث ارتبطت العمالة النسائية في كل مكان بالإنتاج المكثف. وبناء على ذلك، تم تقديم صورة النساء على أنهن الفائزات بفرص العمل في السوق العالمي المندمج، مع قيام الأمم المتحدة بالحديث عن “تأنيث التوظيف“. هذا، في حين دفعت النساء ثمنًا باهظًا ، تجلى في ظروف قاسية للعمل، والاستمتاع بحقوق محدودة، ورواتب منخفضة، وغياب التأمين الاجتماعي، أو سبل كسب العيش المستدامة. وكلما تعمقت تلك الضغوط عليهن، أصبحت النساء أكثر استعدادًا للقبول بظروف العمل الجائرة. لماذا يعد العمل منخفض الأجر للنساء في كل مكان هو السبيل للانطلاق في السوق العالمية؟ لقد تم تبرير الرواتب الضئيلة، وسهولة التخلص من العمالة النسائية، بالأسطورة الأبدية بأن الرجال هم الذين يكسبون العيش لأسرهم، وأن النساء ليسوا سوى كاسبات إضافيات للعيش. يقدم لنا هذا الفصل أمثلة من آسيا، مع التركيز على بلدان مثل بنجلاديش، والصين، وتايلاند؛ كما يشير إلى بلدان من مناطق أخرى من العالم النامي، مثل المغرب أو المكسيك. وهو يبرز الاستغلال الذي يتعرض له العمال المهاجرون – بصفة عامة – في العالم المتقدم، والنساء المهاجرات بصفة خاصة. مع انتشار ظاهرة العمل من المنزل في صفوفهن. تتساءل المؤلفة: هل هذا العمل يساهم في تحرير النساء أم أنه عبارة عن عمل بالإكراه؟ وهي تذهب إلى أن هذا العمل لا يؤدى إلى تمكين النساء؛ فكثيرًا ما تخفق النساء في التحكم في الدخل الذي يحصلن عليه؛ كما يحجم الرجال عن المشاركة في الأعباء المنزلية ؛ وكثيرًا ما يتوقف الرجال عن العمل حينما يكون هناك مصدر للدخل متوافر من خلال عمل المرأة. وتتسبب الأعمال القاسية التي يقمن بها في إضعاف صحتهن، وإرهاقهن جسديًا ونفسيًا. وبالإضافة، ليس هناك ما يشير في أي مكان، إلى أن عمل النساء قد ساهم في تغيير الاستراتيجيات والسياسات الأسرية. تصل المؤلفة إلى الاستنتاج بأن الصناعة الموجهة للتصدير والنمو الاقتصادي لا تمنح النساء مستقبلاً آمنًا، أو القدرة على التغلب على الفقر بطريقة مستدامة. كما تنهي هذا الفصل بأهمية بروز أشكال وآليات جديدة لقضية التضامن الدولي للنساء في إطار السوق العالمي.
في الفصل الثاني بعنوان “عالم الخدمات” تعتبر المؤلفة أن مجتمع ما بعد الصناعة هو مجتمع الخدمات الذي يعد على امتداد العالم مجالاً للنساء. هل يعني ذلك أن مجتمع الخدمات يمكن أن يمثل الأمل الكبير كي تحصل النساء على المساواة؟ تلاحظ المؤلفة أن المهن ما زالت مقسمة على أساس الجنس؛ وتقدم لنا روسيا مثالاً على ذلك حيث كانت تحتل النساء حتى الثمانينيات نسبة كبيرة من المهن التي تتطلب مهارات عالية في مجالات العلوم الطبيعية والهندسة؛ ولكنهن دفعن – بعد انهيار الاتحاد السوفيتي – إلى إعادة التأهيل للعمل كمصففات للشعر، و أخصائيات تجميل، وسكرتيرات. كما يؤكد هذا الفصل أن مستقبل العمل المأجور في مجال الخدمات – كما هو في القطاعات الإنتاجية – يتمثل في إضفاء الطابع غير الرسمي والمرونة. وتعد النساء رائدات في أشكال العمل الجديد المرن؛ إلا أن مصير الرجال سيكون مماثلاً في عصر العولمة. وتقص لنا المؤلفة النكتة التالية: حينما أعلن الرئيس الأمريكي السابق كلينتون في إحدى حملاته الانتخابية أنه خلق 8 ملايين فرصة عمل جديدة، علقت إحدى النساء قائلة: “نعم، وقد حصلت على ثلاث فرص منها“. فالواقع أن هناك 3.6 مليون امرأة في الولايات المتحدة الأمريكية مضطرة إلى العمل في أكثر من وظيفة لأن وظيفة واحدة غير كافية للعيش. وتمثل النساء في قطاع الخدمات نموذج “المساعدة المؤقتة“، التي يتم استدعاؤها في أوقات ازدحام السوبر ماركت. تشير لنا المؤلفة إلى ملايين النساء اللاتي يعملن لحسابهن، وهو الأمر الذي يقلل من فرص تعميق التضامن فيما بينهن. هذا العمل الحر يتضمن أشكالاً من العمل المرتبطة بتكنولوجيا المعلومات، والأنماط الحديثة في سوق العمل العالمي، مثل أعمال الحاسب الآلي. إلا أن أغلبية المبرمجين، ومحللي الأنظمة والمديرين من الذكور.
تحت عنوان فرعي “في اتجاه مجتمع الذاتية“، تحدثنا المؤلفة عن الاتجاه العالمي المتصاعد للخدمة الذاتية؛ وهي تتوقع أن يتمكن العملاء في المستقبل القريب القيام بأنفسهم باحتساب ما اشتروه من المحلات، والدفع مباشرة في صندوق أو ما شابه ذلك؛ وإما ابتياع احتياجاتهم عن طريق الإنترنت. وبالتالي سيتحول السوق إلى سوق إسمى؛ كما سيؤدي ذلك إلى التقليل من فرص العمل. في الفصل نفسه، تحدثنا المؤلفة عن عاملات النظافة ؛ تلك المهنة التي أصبحت أكثر فأكثر مؤنثة، وتخص المهاجرات في المقام الأول في البلدان الصناعية. وهي ترى أنه طالما ظلت هؤلاء النساء يكسبن أكثر من العمل كخادمات منازل في الخارج، أو كعاملات نظافة، مقارنة بالأجور التي يحصلن عليها من العمل كمعلمات في بلدانهن، سيستمر الميل في صفوفهن إلى ترك الوطن والهجرة للعمل في هذه المهن المتدنية. ثم تنتقل إلى ما يسمى بتجارة الرقيق الأبيض؛ أي استغلال أجساد النساء؛ وتقدم لنا أمثلة متعددة من جميع مناطق العالم النامي، ومن بعض بلدان أوروبا الشرقية. وتلاحظ أن أكثر من 75% من العاهرات في ألمانيا أجنبيات. كما تشير إلى أن تكنولوجيا الاتصال الحديثة قد ساهمت في توسيع هذه الأسواق التي تباع فيها الأجساد النسائية.
في الفصل الثالث “وسائل العيش“، وتحت عنوان فرعى “الأرض للرجل والعمل للنساء“، تحدثنا المؤلفة عن محدودية ملكية النساء للأرض على الرغم من أنه في حالة أفريقيا – على سبيل المثال – تقوم النساء بنسبة 75% من الأعمال الزراعية؛ هذا بالإضافة إلى الأعباء المنزلية الأخرى. ثم تقول لنا المؤلفة تحت عنوان فرعى آخر “الجوع والتجارة” فكرة بديهية، وهي أن وجود غذاء كاف في بلد ما ليس معناه بالضرورة أن الجميع يأكل هناك طعامًا صحيًا؛ ذلك أن توزيع التموين يتم من خلال عمليات التصفية والغربلة الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية؛ أي القدرة الشرائية، والطبقة الاجتماعية، ووضع النساء داخل الأسرة. وفقًا لمنظمة الغذاء العالمية، ينتمى أغلبية الـ 790 مليون شخص حول العالم الذين لا يحصلون على الطعام الكافي إلى إحدى الفئات الثلاث التالية: الأطفال تحت سن خمس سنوات، وخاصة الإناث؛ والنساء في سن الإنجاب، وخاصة الحوامل والحاضنات؛ والأسر ذات الدخل المنخفض، خاصة تلك التي تعولها نساء.
ثم تنتقل بنا إلى المأكولات الجاهزة والوجبات السريعة التي أصبحت أكثر فأكثر ذات طلب دولي، كجزء من الصناعة العالمية؛ لقد أصبحت هذه النوعية من الأغذية تنافس النساء في السعي للحصول على الدخل، والذي كان يتكون شق كبير منه من إنتاج الوجبات الخفيفة؛ وهو ما يترتب عليه نتيجتان خطيرتان بالنسبة للنساء: (1) عملية من التركز الاقتصادي التي كثيرًا ما تقذف النساء خارج مجال إنتاج وبيع الطعام؛ (2) نوع من التصنيع بالإكراه الذي يحول مكونات الغذاء إلى سر صناعي، ويؤدي إلى تنميط العادات الغذائية. وهي تشير إلى أن 70% من الغذاء الذي تستهلكه أوروبا أصبح بين أيدى ثمان شركات تقع على رأسها “نستله“، و “كادبوری“، و “شويبس“؛ وهذه الشركات توفر كل ما يدخل الجهاز الهمضى للبشر والحيوانات، بدءًا من وجبات الرضع وصولاً إلى أكل الكلاب. وتحدثنا المؤلفة تحت أحد عناوينها الفرعية “لمن تنتمى هذه البذور؟” عن أن الفلاحات كن تاريخيًا مسئولات عن البذور باعتبارها مفتاح الأمن الغذائي؛ فهن اللاتي كن يضعن جانبًا أفضل البذور بعد الحصاد لاستعمالها للزراعة في الموسم التالي. إلا أن ما يسمى بالثورة الخضراء التي بدأت منذ 30 سنة قد انطلقت عملية البحث عن أفضل البذور، واقتناصها، مع الاستمرار في تحويل الجنيات من الجنوب إلى الشمال؛ وهي العملية التي بدأها الحكام الاستعماريون، والتي حدثت بدون مقابل، أي أنها عبارة عن عملية استيلاء على الملكية الفكرية والمادية لأهل الجنوب. وبالتالي، فإن التكنولوجيا الجينية أصبحت عاملاً يحط من قدر معلومات ومعرفة فلاحات الجنوب، ويسلب أدوارهن كحارسات لتلك الثروة. وكخطوة لاحقة للتكنولوجيا الحيوية، تفيدنا المؤلفة بأننا متوجهون نحو عصر اقتصاد الخلية البشرية؛ وهو ما يتعلق بالاتجاهات المتنامية لتسليع الجسد البشري، مثل استعمال خلايا البويضات، والحامض المنوي؛ كما أصبح التخصيب من المجالات الآخذة في النمو. وبالقدر نفسه الذي تكتسب فيه الهندسة الوراثية المشروعية مجال الزراعة كذريعة لمكافحة الجوع، يتم التغني بالتكنولوجيا الإنجابية تحت شعار معالجة العقم. وهو ما يجعل النساء مجرد حقل لنمو المواد الخام. تشير هنا المؤلفة إلى أنه منذ انعقاد مؤتمر السكان والتنمية بالقاهرة (1994)، تصاعدت المطالب المتعلقة بحماية الحقوق الإنجابية للنساء، وحرية اختياراتهن، واستقلاليتهن. غير أن الدراسات الخاصة بكيفية تحقيق ذلك تركز على تعظيم فعالية التكنولوجيا بدلاً من التركيز على احتياجات النساء.
يبدأ الفصل الرابع بعنوان “كنّاسة التكييف الهيكلي أو تأنيث الأمن الاجتماعي” بالإشارة إلى أن النساء يحصلن على ما يوازى ثلث أجر الأعمال التي ينجزونها، بينما يظل الثلثان الباقيان مهملان وخارج نطاق الإحصائيات الرسمية. أما فيما يتعلق بالرجال ، فالنسبة المقابلة شبه معكوسة. فلو تم ترجمة جميع الأعباء الأسرية، ورعاية الأطفال، إلى وظائف مدفوعة الأجر لأصبح حجم تلك الوظائف يفوق إجمالي الوظائف التي تشغلها النساء في سوق العمل الرسمي. ويخصص الجزء الأهم من العمل غير مدفوع الأجر للنساء، وكأن هناك قانون طبيعي يقول إن هكذا ينبغي أن تكون الأمور. تسمى عالمة الاقتصاد إنجريد بالمر هذه الظاهرة بالضريبة الإنجابية التي تفرضها المجتمعات على النساء. وهكذا تقوم النساء – من خلال هذا العمل المجاني الذي لا يحصل بصفة عامة على إجازات – بتغذية اقتصاد السوق الذي يعمل هو نفسه وفقًا لمبادئ مختلفة؛ حيث إن هذا الاقتصاد الرعائي لا يتجه إلى تحقيق المكاسب، والأرباح، بل إلى الرفاهية، والأمان الاجتماعي، والبقاء على قيد الحياة. وعلى الرغم من وجود اتجاهات على مدى عقود تميل إلى التقليل من حجم عمل النساء غير مدفوع الأجر الذي أصبح هينًا بسبب دخول التكنولوجيا في الأعمال المنزلية، خاصة في البلدان الصناعية، والفرضية العامة المتعلقة بدور الدولة الراعية في الغرب، والأنظمة المخططة في الدول الاشتراكية، في تقديم المهام الاجتماعية إلا أن هذه الاتجاهات أخذت اليوم اتجاهًا عكسيًا؛ فأصبح المرادف للترشيد هو تحويل العمل المأجور إلى عمل غير مأجور (مثل إدخال آلات الصرف الآلى لعملاء البنوك ، إلخ… )، كما تبرز المؤلفة كيف ازدادت الأعباء الأسرية على النساء مع تراجع الدول عن تقديم الخدمات الخاصة برعاية الأطفال في سن ما قبل المدرسة؛ إذ تشير إلى أن عدد الأوروبيات المندرجات في وظائف مدفوعة الأجر أعلى في البلدان التي تقدم أفضل رعاية للأطفال. وبذلك، تضطر كثير من النساء إلى الخروج من سوق العمل، ولو وقتيًا. ومع تضييق أسواق العمل، تزداد صعوبة عودة النساء إليها، وهكذا يمثل كل طفل جديد خطرًا على إمكانات الانتماء لسوق العمل؛ وهو الخطر الذي لا يتساوى فيه الرجال والنساء؛ ويعد من الأسباب المهمة التي تساهم في استمرار تقسيم العمل على أساس النوع. كما تشير إلى تداعيات انسحاب الدولة الراعية على حياة النساء؛ وهو ما بدا في بلدان مثل الولايات المتحدة وإنجلترا على أيدى ريجان وتاتشر. تعاني النساء بطريقة مضاعفة بسبب أزمة الأنفاق العام: فهن يشكلن من ناحية أغلبية من الحاصلين على إعانات البطالة التي أصبحت تنقطع بعد فترة معينة؛ كما أن أمامهن فرص عمل أقل نتيجة لاستقطاع الخدمات العامة نظرًا لأن الدولة تمثل أكبر رب عمل، وأن الأنشطة الاجتماعية والتعليمية هي أهم المجالات لعملهن. انتقالاً إلى أوضاع مصر، حيث كانت الدولة منذ الخمسينيات أهم جهة لتوظيف النساء، أصبحت الحكومة تتجه إلى بيع مؤسساتها في البورصة. وتقول المؤلفة إن 14 ٪ فقط من النساء الناشطات اقتصاديًا يعملن في القطاع الخاص؛ وكما هو الحال بالنسبة لجميع الأماكن الأخرى، تتركز عمالة النساء في الوظائف منخفضة الأجر، التي لا توفر فرصًا للتدريب والترقي. كما يعتبر أصحاب العمل أن الأمومة ورعاية الطفولة أمور مكلفة؛ وهو ما يجعل 17٪ فقط من إعلانات العمل في الجرائد موجهة إلى النساء. كما تقل فرص عمل النساء في الزراعة، بينما كن يعملن تقليديًا في المهام الموسمية. فمع هجرة أعداد كبيرة من الرجال في السبعينيات إلى دول الخليج، قامت النساء والأطفال بحل محلهم في الحقول؛ ولكن، عندما عاد الرجال الثمانينيات، انخفضت عمالة النساء؛ كما مثلت الميكنة الزراعية عائقًا وقف أمام حصول النساء على فرص العمل. ونقلاً عن إحصائية مصرية، تؤكد المؤلفة وجود علاقة سببية واضحة بين الفقر والنوع فيما يتعلق بالأسر التي تعولها نساء؛ إذ يعيش 65% من أفراد تلك الأسر تحت خط الفقر مقارنة بنصف هذه النسبة في الأسر التي يعولها رجال. ويدفع الفقر هؤلاء النساء إلى قبول أي نوع من أنواع العمل؛ إذ أن العمل أصبح أمراً ألزاميًا بالنسبة إليهن، ولا يعد فرصة؛ كما أنه لا يمثل وسيلة لتحقيق النفس. ذلك أن الفرص المتاحة أمامهن تتراوح ما بين الخدمة في المنازل والبيع في الشارع. ثم تنتقل بنا المؤلفة إلى مثال بيرو حيث أعلن الرئيس في صيف 1990 عن تبنى سياسات التكييف الهيكلي؛ وفقًا للتقديرات في منتصف عام 1991، وجد أن 83% من السكان أصبحوا غير قادرين على تناول ما يكفي من السعرات الحرارية والبروتينات. لعبت النساء دورًا مهمًا أمام هذا الوضع؛ فقمن بافتتاح المطابخ الشعبية لإمداد الناس بالطعام. تستنتج المؤلفة أنه كلما تراجعت الدولة عن توفير الخدمات الاجتماعية، تقوم مجموعات من المجتمع المدني بتولي أمور المجتمع، وخاصة النساء المتطوعات. غير أن مزيدًا من هؤلاء النساء القائمات على المطابخ الشعبية اضطررن خلال السنوات الأخيرة إلى البحث عن مصدر للدخل في القطاع غير الرسمي لأن أزواجهن فقدوا وظائفهم؛ كما أن هناك تناميًا في أعداد النساء المقيمات بمفردهن.
لقد لاحظت منظمة اليونيسيف منذ عام 1983 أن النساء والأطفال هم – بصفة خاصة – الذين يدفعون ثمنًا اجتماعيًا باهظًا نتيجة لبرامج التكييف الهيكلي. وعلى الرغم من أن تلك السياسات قد تكون حققت بعض الإنجازات على المستوى الاقتصادي الكلي، فإنها كانت عبارة عن وصفة مرة بالنسبة للأسر الفردية. وقد دفعت النساء الثمن من خلال القيام بأيام عمل مدتها أطول وأكثر قسوة بسبب الانتقال من المجال الاقتصادي الأوسع إلى مجال اقتصاد الإعاشة غير مدفوع الأجر.
تحت عنوان فرعى “الألعاب البهلوانية من أجل البقاء“، تحدثنا المؤلفة عن الازدواجية المتعمقة في حياة المدن، حيث توجد جنبًا إلى جنب الأحياء الراقية والعشوائيات، والتي نرى فيها أولاد الذوات وأولاد الشوارع. ومع الانخفاض الفعلي للدخول، وتقهقر مستوى الخدمات التعليمية والصحية، تقوم النساء بتعبئة طاقاتهن من أجل الحصول على دخل بسيط إضافي من القطاع غير الرسمي؛ ويكون ذلك إما من خلال طهي الفول لعمال البناء، وعرضه عند مواقع العمل، أو خدمة هؤلاء في الحانات خلال الأمسيات، كما أنهن يقتطعن من النفقات بطرق متعددة، مما يجعل عملهن غير المأجور أكثر كثافة وثقلاً؛ فعلى سبيل المثال، ينتقلن مشيًا على الأقدام بدلاً من ارتياد المواصلات العامة. وتقوم المجموعات النسائية بدور مهم في صفوف المجتمع المدني من أجل سد الفجوات المترتبة على انسحاب الدولة؛ وتتراوح هذه القوى ما بين مجموعات تطوعية غير رسمية تنشط في والعشوائيات، ومنظمات غير حكومية كبيرة تتلقى التمويل من المانحين الأجانب. تشير أيضًا المؤلفة إلى ردود أفعال الرجال أمام هذا الإحساس الجديد بعدم الأمان، والذي يتجلى في تصاعد العنف الأسرى؛ كما أن التحرش الجنسي من الأمور الشائعة في أماكن العمل.
وفقًا لتقديرات منظمة الصحة العالمية، أصبحت اليوم معدلات وفيات الأطفال في كل من الصين، والهند، وكوبا أعلى مما كانت عليه في التسعينيات؛ ولم تتحسن الأوضاع على الإطلاق فيما يتعلق بـ 51 بلدًا آخر. كما تستنتج الشبكة العالمية للنساء من أجل الحقوق الإنجابية أن الصحة لم تعد تعتبر حقًا من حقوق الإنسان، بل أصبحت خدمة يمكن بيعها وشراؤها في السوق. وقد أدى هذا الوضع إلى وجود عالمين متناقضين تمامًا في مناطق مثل أفريقيا؛ حيث يرسل الأغنياء أطفالهم إلى المدارس الخاصة والجامعات الأجنبية، ويذهبون إلى الطبيب الخاص أو إلى المستشفى الخاص؛ هذا في حين يعمل الموظفون التابعون للنظام العام بلا حماس نظرًا للظروف الصعبة المحيطة بهم، والتي تدفعهم باستمرار إلى البحث عن مصادر إضافية للدخل. يبرز من تحليل الإجراءات الاجتماعية المصاحبة – افتراضًا – لسياسات التكيف الهيكلي في زمبابوى أن الرجال هم الذين يستفيدون أساسًا من الدعم؛ حيث يذهب معظم التمويل إلى برامج التوظيف الخاصة بالقطاع العام؛ كما بلغ المستفيدون من الرجال في بوليفيا نسبة 99 ٪، مع 84% في حالة الهند. والواقع، أن أموال الدعم الاجتماعي غالبًا ما لا تصل إلى أفقر فئات المجتمع. أحد أسباب ذلك هو الفرضية بأن الدعم ينبغي أن ينبع من الطلب؛ وهو ما لا تستطيع التعبير عنه تلك الفئات، إما بسبب نقص المعلومات، أو للإجراءات المعقدة المطلوبة، تبلغ النساء 70 ٪ من أفقر فقراء العالم؛ وتتفاقم أمامهن مخاطر التعرض للفقر نتيجة للحقوق المنقوصة تقليديًا، إلى جانب التهميش المصاحب لأشكال التنمية الجديدة. يكمن السبب الأساسي لتأنيث الفقر في التناقض الوارد بين أعباء العمل الثقيلة والدخول المنخفضة؛ ويظهر هذا التباين بمزيد من الوضوح في حالة النساء المعيلات لأسر (35%على مستوى العالم). وفقًا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تغيرات خريطة الفقر بسرعة منذ الثمانينيات؛ إذ تتعرض النساء، والأطفال، والمسنون، لخطر الفقر أكثر من الرجال؛ وينطبق الأمر نفسه على سكان المدن أكثر من سكان الريف، وعلى الأفريقيين أكثر من الآسيويين. لقد تكثف الاستقطاب الاجتماعي في عديد من البلدان؛ وأصبحت الفجوة بين الأغنياء والفقراء أوسع في كل من البرازيل، وجواتيمالا، وغينيا بيساو، والولايات المتحدة الأمريكية.
نصل إلى الفصل الخامس بعنوان “تنويعات الحداثة” الذي يتناول من جهة “الاستهلاك كثقافة كونية“، ومن جهة أخرى “سياسات الهوية“. تحت العنوان الفرعي الأول، ترى المؤلفة أن عولمة الاستهلاك أدت إلى تنامي التطابق في الأذواق، والسلوكيات، والاتجاهات القيمية؛ وتشير إلى أن الإعلام والهجرة من أهم الآليات التي تولد هذا التطابق في القيم والأهداف. وبالتوازي مع عولمة الاستهلاك وصناعة الثقافة التي تقوم بها الشركات الغربية، هناك أسواق فرعية إقليمية كبيرة برزت في بلدان الجنوب. تتكيف تلك الأسواق فيما يشبه التوليفة – أو الانصهار – بين الثقافة الغربية الحديثة والثقافات التقليدية. في هذا المجال، بدأت تتبلور ثلاثة مراكز مؤثرة هي: أمريكا اللاتينية، والفضاء الثقافي الياباني الصيني، والهند. وهو ما يتجلى في الأفلام والدراما التليفزيونية النابعة من هذه المناطق التي أصبحت تزاحم الأعمال الأمريكية والأوروبية. ومع ذلك، تشهد عديد من البلدان النامية العودة إلى قيم وسلوكيات أصولية لحماية هوياتها الأصلية. أما فيما يتعلق بسياسات الهوية، تقص لنا المؤلفة أن مئات الآلاف من الأمريكيات الأفريقيات قمن في أكتوبر 1997 بمظاهرة في شوارع وميادين مدينة فيلادلفيا وقد وصفت إحدى المنظمات هذه المظاهرة بالكلمات التالية: “هذه المسيرة هي إعلان عن التحرر من الجهل، والظلم، والفقر، والاستغلال، أي من أي شيء سلبي، يفرق فيما بين النساء السود ويسئ إلينا كبشر“. هذه الحالة تشير إلى أقلية مهمشة اجتماعيًا، تسعى إلى بناء هوية في مواجهة الثقافة المهيمنة. يعد هذا الشكل من سياسات الهوية أحد الأعراض الجانبية للعولمة. يحظى تشكيل هذه الهوية الجماعية بجمهور؛ بل إنه يخلق فهمًا جديدًا للذات؛ خاصة حينما يتزايد الإقصاء الاجتماعي، والاقتصادي، تتعاظم أهمية تعريف النفس من حيث الثقافة، أو الدين، أو العرق. إذ ينظر إلى الذين يهاجرون من الريف إلى المدينة، أو من بلد أو قارة إلى أخرى، باعتبارهم كائنات فضائية، وهم يفقدون حاملين موروثهم الثقافي؛ كما لا يمثل مكان الإقامة الجديد هوية مباشرة بالنسبة إليهم، بل إن هذه الهوية أصبحت منقطعة الأوصال جغرافيا، وعليها العثور على مكان آخر.
أخيرًا، يتناول الفصل السادس بعنوان “عولمة الحركات النسائية” أهمية التشابك بين الحركات النسائية على مستوى العالم. فتشير المؤلفة إلى مشاركة النساء من القرى والعشوائيات في منتدى المنظمات غير الحكومية المنعقد في بكين عام 1995 على هامش المؤتمر العالمي للمرأة بأعداد لم يسبق لها مثيل. جاءت هؤلاء النساء وهن يحملن نسويتهن المحلية النابعة من نضالاتهم اليومية، ومشاكلهن التي يتم تكييفها مع الإمكانات المحلية. وقد أدركن أن صراعهن من أجل القروض الشخصية، وتأمين المسكن، والمساعدة في رعاية الأطفال، أو الدفاع عن الزوجات المعرضات للعنف، لا تتضمن فقط أبعاد العنف والتمييز ضد النساء؛ بل تعلمن أن ينظرن إلى الظلم الواقع عليهن كأحد أعراض هيكل أوسع من الظلم يربط بين المستوى الكلى والمستوى الجزئي.
تمثلت مرجعيات هذا المنتدى في الاعتراف بالتنوع الموجود على مستوى الإطار العالمي للسياسات النسائية، بدلاً من البحث عن مواقف واستراتيجيات متطابقة؛ وهو ما تجلى في رفع شعار “قوتنا تنبع من تنوعنا“. وكان ذلك بمثابة إقرار بأنه لا توجد جبهة نسائية سياسية موحدة، أو نسوية كونية. بل إن ما طغى على المناقشات هو البحث عن عناصر مشتركة مستقاة من الخبرة، ومن الرغبة في التفاهم المتبادل والتعاون. كما نظرت المنظمات غير الحكومية النسائية إلى نفسها باعتبارها قوة ثالثة مختلفة عن الحكومات والقطاع الخاص. وبدلاً من البحث عن مظلة مشتركة تضمهن، بدأت تتشكل الشبكات وآليات التنسيق؛ كما شهد هذا المؤتمر للمرة الأولى تشكيل عدد كبير من الائتلافات جنوب – جنوب، وعبرت النساء عن إمكانية التواصل عبر وسائل الاتصال الحديثة (مثل البريد الخاص. الإلكتروني والإنترنت). وهكذا عكست هؤلاء النساء عملية العولمة.
في هذا المنتدى، اعتبرت العولمة تهديدًا ينبئ باستغلال النساء نظرًا لكونهن موردًا غير مدفوع الأجر، أو منخفض الأجر. وفي الوقت نفسه، نظرت النساء إلى العولمة على إنها فرصة للمقرطة، وممارسة التضامن، ودعم قوى المجتمع المدني. ومع هذه المعادلة الصعبة، تسعى النساء إلى كسر الأسطورة القائلة بغياب أي بدائل للسوق العالمية؛ وهكذا بدأن في رسم معالم تلك البدائل، والتي يمكن إنجازها فيما يلي:
تم النظر لفترة طويلة إلى الاندماج كمفهوم مغاير ومتناقض مع التغيير؛ إلا أنه لم يعد الأمر عبارة عن اختيار محصور بين أن تكون داخل أو خارج العملية القذرة التي تمثلها السياسات والنظام الاقتصادي الرأسمالي. وهو المفهوم الذي أطلقته الشبكة الجنوبية DAWN عام 1995؛ حيث اعتبرت أن الدولة، والسوق، والمجتمع المدني يمثلون ثلاثة قطاعات للمشاركة والتغيير على المستويات الثلاثة المرادفة ، أي:المستوى الكلى، والمستوى المتوسط، والمستوى الجزئي. وهكذا، أصبحت الأهداف الثلاثة المتشابكة تتعلق بـ “إعادة هيكلة السوق“، و “إصلاح الدولة“، و “دعم المجتمع المدني“. وترى هذه المقاربة أنه يمكن تطوير ائتلافات أفقية ورأسية تؤدى إلى النهوض باستراتيجية إجمالية لتغيير “المؤسسات والعمليات“، أي استراتيجية تتجه إلى تلبية احتياجات أضعف فئات المجتمع التي تتكون أغلبيتها من النساء.
استمدت المنظمات النسائية المحلية والدولية خلال العقد الأخير جزءًا كبيرًا من خطابها من خطاب حقوق الإنسان الذي يستند في أساسه إلى احترام الكرامة الإنسانية، والحقوق الأساسية، بغض النظر عن الفروق الفردية أو الثقافية. مع رفع هذا الشعار، تمكنت الناشطات المعنيات بحقوق النساء من التغلب على الوصمة النابعة من اعتبار النساء حالة خاصة، وحقوقهن حقوقًا خاصة. وقد أدى ذلك إلى تغيير نظرة النساء إلى أنفسهن، ونظرة الآخرين إليهن. وبناء على ذلك، أمكن تناول العديد من القضايا المسكوت عنها فيما قبل باعتبارها خاصة، أو ذات طابع ثقافي محدد ، مثل مسألة العنف ضد النساء على سبيل المثال.
قامت خبيرات الاقتصاد النسويات خلال السنوات الأخيرة بتطوير فكرة أهمية تقوية الدوائر والعناصر الإقليمية والمحلية في مواجهة مساوئ العولمة؛ وهن يرون أنه ينبغي توجيه الإنتاج والتجارة نحو تلبية الاحتياجات الأساسية، وليس نحو تحقيق الربح. بناء على ذلك، تقوم المنظرات النسويات ببلورة هدف النشاط الاقتصادي على أنه تلبية للاحتياجات، والنهوض بنوعية الحياة. وهو ما يحتوي ضمنيًا على أسلوب مختلف في العلاقة مع الطبيعة، وحماية تنوعها، وتنوع المجتمعات، وتبنى “الديمقراطية البيئية“، وبناء الشراكة بواسطة الذكاء والإبداع الذي تتسم به الأمور الطبيعية في مواجهة “استعمار الرجال للطبيعة“. وتتمثل نقطة الانطلاق لمعظم النظريات المرتبطة بهذا المفهوم في العلاقة بين العمل المأجور والعمل غير المأجور، وبين الاقتصاديات المستندة إلى الربح والأسواق والاقتصاديات المستندة إلى الرعاية والإنجاب.
نستنتج من هذا الكتاب مدى تشابه أحوال النساء على امتداد العالم على الرغم من التباين الشديد بين ظروف كل بقعة من الأرض على حدة. كما يولد لدينا حالة من الرعب فيما ستؤل إليه الأمور إذا ما اكتفينا بالنظر كشهود سلبيين. فالعولمة موجودة لا محال، وآثارها القاسية برزت على وجوه ملايين البشر المقيمين على هذا الكوكب. كما أن أحوال النساء هي الأكثر تعرضًا للخطر؛ كذلك يثير الكتاب التخوفات المتعلقة بالأجيال القادمة، أي بأطفالنا وأطفال أطفالنا، وبالمستقبل الذي نورثه إليهم. فهل هناك مجال لقلب موازين هذه العولمة الشرسة؟ يشير الكتاب إلى بعض الاجتهادات التي قد تكون مفيدة؛ ولكن الدرس الأكبر الذي نستخلصه يتمثل في كلمتين؛ المقاومة والتضامن. وهاتان الكلمتان تتطلبان جهودًا مضنية من أجل التغيير. إلا أن الخيارات الوحيدة المطروحة أمامنا التغيير أو الموت.
نولة درويش:عضوه مؤسسة بمؤسسة المرأة الجديدة.