هل المرأة بالنسبة للرجل كالطبيعة بالنسبة للثقافة؟
تاريخ النشر:
2015
اعداد بواسطة:
هل المرأة بالنسبة للرجل كالطبيعة بالنسبة للثقافة؟ *
شيري ب. أورتنر1
يستمد علم الأنثروبولوجيا الكثير من قدرته الإبداعية من التوتر الحاصل بين ما يتطلبه تفسير ما هو مشترك بين البشرية كافة من جهة وبين الخصوصيات الثقافية للجماعات البشرية من جهة أخرى.
ووفقًا لهذا القانون، تقدم لنا المرأة واحدة من أهم المشكلات التي تتحدانا وتفرض علينا تناولها. في المنزلة الثانوية للمرأة في المجتمع شيء مشترك بين البشرية كافة حقًا، على اختلاف الثقافات. لكن داخل هذه الحقيقة المشتركة، يتنوع إدراك المجتمعات المختلفة للمرأة وتمثيلها الرمزي لها اختلافًا شاسعًا، بل قد تكون هذه الاختلافات يتناقض بعضها مع البعض. والأدهى أن المعاملة التي تلقاها النساء فعلاً, والقوة النسبية للنساء ومشاركتهن في المجتمع تتنوع تنوعًا كبيرًا من ثقافة إلى أخرى، وبين مختلف الفترات التاريخية التي مرت بها تقاليد كل ثقافة معينة على حدة. أن هاتين النقطتين كلتيهما – ألا وهما الحقائق المشتركة بين البشرية كافة والتنوعات الثقافية بين مختلف المجتمعات البشرية – مسألة تحتاج إلى تفسير.
لا ريب أن اهتمامي بتلك المسألة يتجاوز اهتماماتي الأكاديمية، فأنا أتمنى أن أشهد حدوث تغير أصيل حقيقي، ويزوغ نظام اجتماعي وثقافي تنفتح فيه أمام النساء أكبر قدر ممكن من أبواب تحقيق القدرات كما تنفتح أمام الرجال. أن شيوع تدني منزلة النساء بين جميع الجماعات البشرية، ووجوده في جميع الترتيبات الاجتماعية والاقتصادية على مختلف أنواعها, وفي مجتمعات تتباين في درجات تعقدها، كل ذلك يمثل مؤشرًا يجعلني أعتقد أننا بصدد مواجهة شيء عميق الغور، وشديد العناد، شيء لا يمكن علاجه بمجرد إعادة ترتيب حفنة من المهام والأدوار في النظام الاجتماعي، ولا حتى بإعادة ترتيب الهيكل الاقتصادي برمته.
أولاً، من المهم أن نرتب مستويات المشكلة ونصنفها، فقد يكون ما فيها من التشوش عظيم القدر. فمثلاً، يمكن أن نخرج بتخمينات شديدة الاختلاف عن مكانة المرأة في الصين بدلالة تختلف باختلاف الجانب الذي ننظر إلى المرأة منه في الثقافة الصينية. فمذهب الطاوية يعطى وزنًا متساويًا للمبدأ الأنثوي (الين) والمبدأ الذكري (اليانج) “إن كل ظواهر الكون تنشأ مما بين هاتين القوتين من تعارض، وتبادل وتفاعل“.2 ومن ثم يمكننا أن نخمن أن الأيديولوجية العامة للثقافة الصينية تعطي قيمة متساوية للذكورة والأنوثة. لكن عند النظر إلى التركيب الاجتماعي، نرى قوة مبدأ الانحدار من سلسال الأب، وأهمية الأبناء الذكور، والتركيب الذي تكون فيه السلطة على الأسرة بيد الأب أو أقربائه. يمكننا إذن أن نخلص إلى أن الصين في المجتمع الأبوي النموذجي. وعند النظر بعد ذلك إلى الأدوار الفعلية التي يلعبها الأفراد في الأسرة، ومن الذي يمسك بزمام القوة والتأثير فيها، والإسهامات المادية للنساء في المجتمع الصيني، التي ثبت بالملاحظة أنها كلها شديدة الأهمية، نجد أن كل هذا يغرينا بأن نقول إن النساء يتمتعن “في الواقع” بمكانة عظمي في النظام الاجتماعي، وهي مكانة موجودة ضمنًا دون أن يقال هذا صراحة. أو قد نعيد التركيز على أن إحدى الربات، كوان – ين، هي الربة المركزية في البوذية الصينية (الربة التي تحظى بأكبر قدر من العبادة وتنتشر صورها أكثر من بقية الأرباب)، مما قد يغرينا بالقول بأن الصين “فعلا” نوع من المجتمع الأموي، كما حاول الكثيرون أن يقولوا من قبل عن ثقافة عبادة الربات في مجتمعات ما قبل التاريخ وفجر التاريخ. وباختصار، لابد أن نتمتع بوضوح رؤية تام لما نحاول أن نفسره، قبل أن نشرع في تفسيره فعلاً.
يمكننا أن نميز ثلاثة مستويات للمشكلة: (1) أن للنساء منزلة اجتماعية ثانوية في كل المجتمعات في هذا العالم، وأن هذه حقيقة عامة. وهنا يواجهنا سؤالان مهمان. أولهما: ما الذي نعنيه بهذا, وما هو دليلنا على أن هذه حقيقة عامة؟ والثاني: حيث إننا قد برهنّا على صحة ما نقول، فكيف نفسر وجود هذه الحقيقة؟ و(۲) أن الأيديولوجيات، والتصورات الرمزية، والترتيبات الاجتماعية الهيكلية المتعلقة بالنساء خاصة تتباين تباينًا شاسعًا من ثقافة إلى أخرى. والمشكلة عند هذا المستوى أن نشرح أي مركب ثقافي بعينه على أساس العوامل النوعية التي تخص تلك الثقافة – وهذا هو المستوى المعياري للتحليل الأنثروبولوجي. و(۳) أن التفاصيل التي يمكن ملاحظتها على أرض الواقع والتي تخص أنشطة النساء، وإسهاماتهن، وما لديهن من ضروب القوة، إلخ ، كثيرًا ما تكون مختلفة عن الأيديولوجية الثقافية لمجتمعهن، ودائمًا ما يقيدها الزعم بأن النساء ربما لا يحرزن أبدًا مراتب تعلو على الرجال رسميًا في النظام الاجتماعي برمته، وهذا هو مستوى الملاحظة المباشرة، التي كثيرًا ما يأخذ بها الآن الباحثات والباحثون الأنثروبولوجيون ذوات وذوي التوجه النسوي.
يهتم هذا البحث في المقام الأول بالمستوى الأول من المسألة، ألا وهو شيوع الحط من قيمة النساء في عموم أنحاء العالم. وهكذا، لا يعتمد البحث على بيانات تخص ثقافة بعينها بل على تحليل “الثقافة” التي تعتبر في عمومها عملية من نوع خاص تجري في العالم. ولابد من تأجيل مناقشة المستوى الثاني – ألا وهو مشكلة التباينات بين الثقافات في إدراكها للنساء وقيمتهن النسبية فيها – إلى بحث آخر، حيث إنه يتطلب الكثير من البحث المقارن بين الثقافات. أما عن المستوى الثالث، فسيتضح من النهج الذي أتبعه أني أعتبر أنه لمسعى مضلل أن نقتصر على التركيز على ما تمتلكه النساء في أي مجتمع من المجتمعات من ضروب القوة فعليًا، رغم عدم اعتراف ثقافاتهن بهذا وحطها من قيمته، دون أن تفهم أولاً الأيديولوجية التي تكتنف هذا المجتمع بظلالها والمزاعم الأعمق غورًا لثقافة هذا المجتمع التي تجعل من هذه الضروب من القوة أمرًا غير ذي أهمية.
ما الذي أقصده بقولي إن المرأة تعتبر أدنى قيمة من الرجل إلى حد ما في كل مكان وفي كل الثقافات المعروفة؟ بادئ ذي بدء، لابد من أن أؤكد أنني أتكلم عن تقييمات ثقافية : فأنا أقول إن كل ثقافة على حدة تجري هذا التقييم بطريقتها الخاصة وبشروطها الخاصة. وعند نظرنا إلى أي مجتمع بعينه، نسأل: مما تتكون الشواهد الدالة على أن هذا المجتمع يعتبر أن قيمة النساء أدنى من قيمة الرجال؟
توجد ثلاثة أنواع من البيانات من شأنها أن تكون شواهد دالة على ما نقول: أ) عناصر الأيديولوجيا الثقافية وأقوال الإخباريين التي تحط صراحة من قدر النساء, إذ تعتبرهن هن وأدوارهن، والمهام الموكلة إليهن، ونواتج أعمالهن، ومحيطهن الاجتماعي أقل قدرًا من نظائر كل هذا لدى الرجال وما يرتبط بالذكور. ب) الأدوات الرمزية، مثل أن تُعزى للنساء القدرة على تدنيس المقدسات، وهو ما يمكن تفسيره على أنه تصريح بالحط من قيمتهن. ج) الأدوار الاجتماعية التي تحظر على النساء المشاركة في بعض المجالات التي تقع فيها أعلى قوى المجتمع مقامًا أو التي يحس فيها بوجود هذه القوى، أو تحظر عليهن الاتصال بهذه المجالات. يمكن بالطبع أن تكون كل هذه الأنواع الثلاثة من البيانات ذات علاقة ببعضها البعض في أي نظام اجتماعي، لكن ليس بالضرورة أن يحدث هذا. كما أن أيًا منها على حدة يكفي عادة لتأكيد تدني منزلة المرأة في أي ثقافة معنية. ومن المؤكد أن استبعاد النساء من أكثر الشعائر قدسية أو من أعلى المجالس السياسية منزلة دليل كاف واضح على ذلك. كما أن الأيديولوجية الثقافية التي تحط صراحة من قدر النساء (ومهامهن، وأدوارهن، ومنتجاتهن، إلخ) دليل واضح على ذلك بما فيه الكفاية. والمؤشرات الرمزية – مثل الدنس – عادة ما تكون دليلاً كافيًا، رغم أننا نحتاج إلى مؤشر آخر غير الدنس للدلالة على تدني منزلة المرأة في قليل من الحالات التي يعتبر فيها أن الرجال والنساء يدنسون بعضهم البعض فيها على قدم المساواة، وهذا المؤشر الآخر موجود دائمًا، بقدر ما أكدته دراساتي.
في جميع هذه النقاط، أو في أي منها، نجد أن النساء يقعن في منزلة أدنى من منزلة الرجال في أي مجتمع من المجتمعات. لقد ثبت أن البحث عن ثقافة تسودها المساواة بين الجنسين حقًا، ناهيك عن البحث عن ثقافة أموية (ماترياركية) أمر لا طائل ورائه، ومن المهم أن تتقبل حركة المرأة عمومًا هذه الحقيقة المرة. ويكفي مثال من مجتمع واحد ظل تقليديًا على الجانب الطيب من سجل مكانة النساء في المجتمع. فقد أشارت دراسة لووي إلى أنه بين السكان الأصليين لأمريكا الذين يعتمدون انحدار النسب عن الأم “تقلدت … النساء مناصب شرفية عليا في رقصة الشمس (صان دانس)؛ وكان بوسعهن أن يكن مديرات مسئولات عن مراسم احتفال التبغ، وقد لعبن في هذا الاحتفال دورًا بارزًا أكثر من دور الرجال بشكل ملحوظ؛ كما لعبن أحيانًا دور المضيفات في احتفال اللحم المطهو؛ ولم يكن أحد يمنعهن من مداواة الناس بحفز إفراز العرق لديهم، أو تطبيبهم بأي طريقة أخرى، ولا من استطلاع رؤيتهن للأمور“. لكن النساء [أثناء الحيض] کن يركبن جيادًا أقل منزلة، وهذا دليل واضح على أن الحيض كان يعتبر مصدرًا من مصادر التهديد بحدوث الدنس، لأنهن لم يكن يسمح لهن أثناءه بالاقتراب من أي رجل جريح، ولا من الرجال المجتمعين للاستعداد لشن حرب. وظلت آثار هذا التحريم باقية في شكل منع النساء من الاقتراب من المقدسات في فترة حيضهن“. وتزيد دراسة لووي على ذلك أنها سبقت تعدادها لحقوق النساء في المشاركة في مختلف الطقوس التي ورد ذكرها سلفًا، بأنها ذكرت أنه كانت لدي هذه الجماعة مجموعة من الدمي المستخدمة في رقصة الشمس كانت تلف معًا في حزمة واحدة, ولم يكن من المسموح لأي امرأة بفك هذه اللفافة. وحين حاولنا اقتفاء آثار هذا الطقس وجدنا أنه “وفقًا لما أدلى به جميع الإخباريين من جماعة لودج جراس ومعظم الإخباريين الآخرين، فإن الدمية التي يملكها ذو الوجه المتغضن لها الأولوية على بقية الدمي، ليس فقط في فك الغلاف عنها، بل أيضًا في جميع أنواع التطبيب على الإطلاق لدى السكان الأصليين لأمريكا … ولم يكن من المسموح لأي امرأة بالتعامل مع هذه الدمية على وجه الخصوص …..” .3 والخلاصة، أن من المرجح أن السكان الأصليين لأمريكا يعتبرون حالة نمطية إلى حد معقول. نعم، فمن المؤكد أن النساء لديهم قدرًا معينًا من القوة والحقوق، وهي في هذه الحالة قوة وحقوق تضعهن في مراتب عليا نسبيا. لكن يوجد أخيرًا خط فاصل بين المسموح لهن والممنوع عليهن، فالحيض يهدد الحرب بالفشل، علمًا بأن الحرب أحد أهم المؤسسات ذات القيمة لدى القبيلة – فهي مركزية بالنسبة لتعريفهم لأنفسهم – ويحرم على النساء معاينة أكثر مقدسات القبيلة قداسة مباشرة بالنظر أو اللمس.
والأمثلة المشابهة موجودة بقدر يزيد عن ذلك أضعافًا مضاعفة ولا نهائية، لكني اعتقد أن الوقت قد حان لنقلب الموائد رأسًا على عقب. فلم يعد من مسئوليتنا أن نعطي أمثلة توضح أن تدني منزلة المرأة أمر عام في جميع الثقافات، بل صار من مسئولية من يجادلون ضد هذه الفكرة أن يقدموا لنا أمثلة مضادة لأمثلتنا. سأعتبر أن المنزلة الثانوية للنساء في عموم الثقافات أمرًا بديهيًا، وأنطلق في بحثي من هذه البديهية.
إذا كان تقييم النساء بالنسبة للرجال أمرًا عامًا في جميع الثقافات، فكيف نفسر هذا؟ يمكننا طبعًا أن نقيم تفسيرنا لهذه الحالة على الحتمية البيولوجية، التي تقول بأن ذكور الجنس البشري لديهم سمات خاصة موروثة جينيًا تجعل منهم الجنس السائد بحكم الطبيعة؛ وأن الإناث ينقصهن “هذا الشيء الموروث جينيا“، وبناء على ذلك، فإن النساء لسن ذوات منزلة أدنى من الرجال بحكم الطبيعة فقط، بل إنهن أيضًا راضيات على وجه العموم تمامًا بما يتاح لهن عن فرصة تعظيم اللذة التي يستمددنها من الأمومة، التي تعتبر أعظم تجارب الحياة إرضاء لهن على الإطلاق. ودون أن ندخل في تفنيد مفصل لهذا الموقف، من الإنصاف أن نقول إنه قد فشل في إقناع الأنثروبولوجيين الأكاديميين، اللهم إلا قلة نادرة منهن ومنهم، لا يعني هذا القول بأن الحقائق البيولوجية لا علاقة لها بالموضوع، ولا ينفي اختلاف الرجال عن النساء؛ بل يعني أن هذه الحقائق والفوارق ليست لها دلالة على الرفعة أو التدني إلا في إطار نظم قيمة تحددها الثقافات.
فإذا لم نكن نرحب بإقامة تفسيرنا لهذه الحالة على الحتمية الجينية، يبدو لي أننا ليس لدينا إلا طريق آخر لنسلكه ونحن نتقدم في مسعانا. لابد أن نحاول تفسير تدني منزلة النساء في ضوء الأحوال الإنسانية الأخرى العامة بين جميع البشر، والعوامل الداخلة في تركيب بنية أكثر الأوضاع المشتركة بين جماعات الجنس البشري، أيما كانت ثقافاتها. فمثلاً، لكل إنسان جسد مادي، وعقل غير مادي يدرك به معاني الأشياء، وهو أو هي فرد في مجتمع مكون من غيره أو غيرها من الأفراد، وهو أو هي وارث التقاليد ثقافية، ولابد لبقائه أو لبقائها على قيد الحياة من الانخراط في بعض العلاقات مع “الطبيعة“، أو العالم الخارج عن نطاق البشر، مهما كان بينه أو بينها وبين هذا العالم من وسائط. وكل آدمي أو آدمية مولود (لأم)، وتنتهي حياته أو حياتها بالوفاة؛ ويفترض أن جميع البشر (من الجنسين) مهتون ما يبقيهم شخصيًا على قيد الحياة؛ والمجتمع/ الثقافة له مصلحة في بقاء الشخص على قيد الحياة؛ والمجتمع/ الثقافة لديه اهتمام بالاستمرار والبقاء بما يتجاوز حياة أفراد معينين أو موتهم، أو أن المجتمع/ الثقافة لديهما على الأقل نزوع نحو الاهتمام بذلك. وهلم جرا. وعلينا أن نسعى لتفسير عمومية حقيقة تدني قيمة النساء في هذا العالم من الظروف المشتركة بين البشرية جمعاء.
وأترجم المشكلة بعبارة أخرى إلى هذا السؤال البسيط: ما الذي يوجد في البنية المشتركة والظروف المشتركة للوجود يكون من شأنه أن يحط من قيمة النساء؟ وإني أفترض على وجه الخصوص أن كل ثقافة من الثقافات تربط بين المرأة وبين شيء تحدد كل ثقافة أنه قليل القيمة، أو فلنقل أنها تجعل النساء رمزًا لهذا الشيء، الذي تعتبر الثقافة أن منزلته في الوجود أدني من منزلتها. يبدو الآن أن ما يناسب هذه الفئة شيء واحد لا غير، ألا وهو “الطبيعة” بأكثر معانيها عمومية. فكل ثقافة، أو “الثقافة” عمومًا مشغولة بعملية توليد نُسُق من الأشكال ذات المعنى (الرموز، والأعمال الفنية، إلخ) والحفاظ على استمرارها، بطرق تسمح للبشرية بتجاوز المعطيات البديهية للوجود الطبيعي، وليِّها لتناسب أغراض كل ثقافة معنية، والتحكم فيها لحساب مصالحها. وهكذا يمكننا أن نعتبر الثقافة عمومًا معادلاً لفكرة الوعي الإنساني، أو مساوية لمنتجات الوعي الإنساني (أي نظم الفكر والتكنولوجيا)، التي تحاول البشرية أن تسمو بفضلها على الطبيعة وتؤكد تحكمها فيها، ولو بأقل قدر ممكن.
والآن، فإن فئتي “الطبيعة” و“الثقافة” بالتأكيد فئتان من فئات الفكر البشري؛ فلا يوجد في عالم الواقع خارج فكر الإنسان مكان يمكن أن نجد فيه حدودًا بين هاتين الحالتين من حالات الوجود في هذين العالمين من عوالمه. ولا ريب أن بعض الثقافات تتحدث عن تعارض أقوى بين الاثنين من بعضها الآخر– بل إن البعض قد ذهبوا إلى أن الشعوب البدائية (بعضها أو كلها) لا ترى ولا تحدس أي فرق إطلاقًا بين الحالة الثقافية للإنسان وحالته الطبيعية. لكني أصر رغم ذلك على أن وجود الطقوس لدى عموم البشر علامة على تأكيد القدرة الخاصة للإنسان – على اختلاف الثقافات البشرية – على التصرف وفقًا للمعطيات البديهية للوجود الطبيعي وتنظيمها، لا مجرد التحرك معها سلبيًا بالتبعية أو تركها تحركه. وفي الطقس، تتدخل كل ثقافة من الثقافات تدخلاً غائيا في أشكال معينة من الوجود الطبيعي بغرض تنظيمها والحفاظ على النظام العام للثقافة، وتصرح من خلال التدخل أن العلاقات الملائمة بين الوجود الإنساني والقوى الطبيعية يعتمد على إسهام الثقافة بقوتها الخاصة في تنظيم عملية وجود العالم بأكملها.
وكثيرًا ما تعبر الثفاقات عن هذه الأفكار في شكل معتقدات عن الطهارة والدنس. وكل الثقافات تقريبًا فيها نوع أو آخر من مثل هذه المعتقدات، ويبدو أنها في معظمها (وإن لم يكن فيها بأكملها) تدور حول العلاقة بين الطبيعة والثقافة.4
يتمثل واحد من أشهر أوجه معتقدات الطهارة /الدنس عبر الثقافات في الاعتقاد بأن الدنس “مُعْدٍ” بطبيعته، (إذ جعلت الثقافات الدنس معادلاً للطاقات الطبيعية التي لا تخضع لعملية تنظيم)، وذلك لخدمة أغراض هذا الاعتقاد، فالدنس إذا ترك وشأنه، فسوف يمتد إلى كل ما ومن يخالطه ويطغى عليهم. فإجابتنا على اللغز القديم عن الدنس مستمدة من فرضيتنا النظرية هذه. يتساءل اللغز: إذا كان الدنس قويًا إلى هذا الحد، فكيف يمكن تطهير أي شيء أصابه الدنس؟ وعند إدخال العامل المطهر، كيف يقوم بالتطهير ولا يؤثر فيه الدنس ويدنسه هو نفسه؟ تتلخص إجابتنا في سطر واحد، ألا وهي أن التطهير يمارس في سياق طقسي، وأن طقس التطهير – باعتباره نشاطًا ذا غرض محدد واع بفِعله (الرمزي)- أقوى من الطاقات الطبيعية التي ينازلها.
وعلى أية حال، رأيي ببساطة أن كل ثقافة تعترف ضمنًا بالفرق بين عمل الطبيعة في حد ذاته وعمل الثقافة، وتؤكده، حيث تعتبر أن عمل الثقافة هو الوعي البشري ومنتجاته؛ كما أن الثقافات تعترف أيضًا بأن تميز الثقافية يعتمد بالضبط على أنها يمكن أن تتجاوز معطيات الطبيعة تحت معظم الظروف، وتحولها لخدمة أغراضها. وهكذا، فالثقافة (أي كل ثقافة) تؤكد عند مستوى ما من مستويات الوعي أنها ليست متميزة فقط على الطبيعة، بل ومتفوقة عليها في القوة أيضًا, وهذا الإحساس بالتميز والتفوق يعتمد بالضبط على تحويل الطبيعة، أي على إخضاعها “للمجتمع” و“الثقافة“.
ولنعد الآن إلى قضية النساء. عند بداية تفكيري في الموضوع، صغت فكرتي كالتالي: يمكن تفسير تدني قيمة المرأة في عموم الثقافات بمنتهى السهولة بالتسليم بأن المجتمعات قد وحدت المرأة بالطبيعة أو ربطتها بها رمزيًا، في تعارض مع الرجل، الذي وحدته المجتمعات مع الثقافة. وحيث أن مشروع الثقافة يهتم دائمًا باحتواء الطبيعة وتجاوزها، فإن المرأة لو كانت جزءًا من الطبيعة، فستجد الثقافة أن من “الطبيعي” أن تضعها في منزلة دنيا، ناهيك عن أن تقهرها. يمكن أن تبدو هذه الفرضية قوية إلى حد معتبر، لكن يبدو أيضًا أنها تفرط في تبسيط الحالة. فالصيغة التي أود الدفاع عنها والتوسع في شرحها إذن هي أن النساء يعتبرن “مجرد” كائنات أقرب إلى الطبيعة من الرجال، أي أن الثقافة (التي تعتبر بشكل غامض إلى حد ما معادلاً للرجال) تعترف بأن المرأة مشارك فعال في عملياتها الخاصة، لكنها تراها – في الوقت نفسه ذات جذور ضارية في مزيد من العمق في الطبيعة أو أكثر ارتباطًا بها مباشرة.
يبدو أن هذا التنقيح للفكرة ضئيل القدر، بل – حتى – تافهًا، لكني أراه ترجمة أكثر دقة للمزاعم الثقافية المتعلقة بالنساء. كما أن صياغة الفكرة بهذه العبارة له الكثير من الميزات التحليلية أكثر من الصياغة البسيطة لها، وسأعود لمناقشة هذا فيما بعد. يمكن ببساطة أن نؤكد هنا أن الفكرة المنقحة ما زال بإمكانها تفسير تدني قيمة النساء في عموم الثقافات، لأنه حتى لو لم تعتبر المرأة معادلاً للطبيعة، فستظل تعتبر صورة تمثيلية لرتبة أدنى من الوجود، وأقل سموًا عن الطبيعة من الرجل. والسؤال التالي هو لماذا أمكن تصور المرأة على هذا النحو.
يبدأ الأمر برمته بالجسد طبعًا، والوظائف الإنجابية الطبيعية الخاصة بالنساء وحدهن.
ويمكننا أن نختار لنقاشنا ثلاثة مستويات يكون لهذه الحقيقة الفسيولوجية البحتة دلالة عندها:
(1) أن جسدها [المرأة] ووظائفه أكثر انخراطًا لزمن أطول في “حياة النوع البشري“، الأمر الذي يبدو أنه يضعها في موضع أقرب إلى الطبيعة، على عكس الرجال، الذين تحررهم فسيولوجية أجسادهم من هذه الوظائف بشكل أكثر اكتمالاً ليتفرغوا لمشروعات الثقافة.
(۲) أن جسد المرأة ووظائفه يوكلان إليها أدوارًا اجتماعية تعتبر بدورها أدنى مرتبة من الثقافة ويجعلانها متعارضة مع المراتب العليا للعملية الثقافية.
(۳) أن أدوارها الاجتماعية التقليدية، المفروضة عليها بسبب جسدها ووظائفه، تجعل لها – بدورها – تركيبًا نفسيًا مختلفًا، وهذا التركيب النفسي بدوره، مثله كمثل طبيعتها الفسيولوجية وأدوارها الاجتماعية، يعتبر “أقرب للطبيعة“.
سأناقش كل نقطة من تلك النقاط على حدة، لأوضح أولاً كيف تميل عوامل معينة في كل حالة إلى وضع المرأة في صف واحد مع الطبيعة، ثم تشير إلى عوامل أخرى توضح وضعها تمامًا في صف الثقافة، وهكذا تضعها هذه العوامل مجتمعة في موقع متوسط إشكالي. وسيتضح في مسار النقاش السبب الذي يجعل الرجال يبدون أقل وقوعًا في الموقع المتوسط بمقارنتهم بالنساء وتبدو سمتهم “الثقافية” أكثر نقاء من النساء. وأعيد القول إني أتعامل فقط على مستوى العموميات الثقافية والإنسانية. وأنوي تطبيق هذه الحجج على الإنسانية بشكل عام؛ فقد نبتت من الظرف الإنساني، كما كانت خبرتها الإنسانية وواجهتها حتى يومنا هذا.
1- اعتبار فسيولوجيا المرأة أقرب إلى الطبيعة
إن فكرتي عن أن فسيولوجيا المرأة تعتبر “أكثر التصاقًا بالطبيعة” فكرة توقعتها سيمون دي بوفوار، بتواضع عظيم ولأسباب وجيهة، وبناء على الكثير من البيانات القوية. تعرض سيمون دي بوفوار التركيب الفسيولوجي لجسد الأنثى الآدمية، وتطوره ووظائفه، وتخلص إلى أن “الأنثى تقع فريسة لبقاء النوع البشري، إلى حد أكبر من وقوع الذكر فريسة له“. وتوضح أن الكثير من مجالات وظائف الجسد الأنثوي الكبرى وعملياته لا تخدم أي وظيفة ظاهرة لصالح صحة المرأة كفرد واستقرارها، بل بالعكس، فممارسة الوظائف العضوية النوعية الأجساد النساء كثيرًا ما تكون مصدرًا يجلب لهن عدم الارتياح، والألم، والخطر. فالثديان لا علاقة لهما بالصحة الشخصية المرأة؛ ويمكن استنصالهما في أي مرحلة من مراحل حياتها. “والكثير من إفرازات المبيضين تعمل لصالح البويضة، لتعزز نضجها، وتعد الرحم لمتطلباتها؛ أما فيما يتعلق بالمرأة ككل، تسبب هذه الإفرازات إخلالاً بتوازن كيانها أكثر مما تؤدي لتنظيم توازنه – فالمرأة تعد لمتطلبات البويضة أكثر مما تعد لمتطلباتها الشخصية ككيان“. كثيرًا ما يكون الحيض مصحوبًا بتوعك، وقد يكون مصحوبًا أحيانًا بالألم، وكثيرًا ما يرتبط بمشاعر سلبية، وهو على أية حال يتطلب أداء مهام مسببة للضيق، من تنظيف، وتخلص من النفايات؛ ومما لم تذكره سيمون دي بوفوار، أن الحيض كثيرًا ما يخل بانتظام حياة المرأة في الكثير من الثقافات، إذ يضعها في حالة موصومة بما لا يستحب، تشمل وضع قيود مختلفة على أنشطتها واتصالاتها الاجتماعية. وأثناء الحمل، تتحول الكثير من الفيتامينات والمعادن التي تأخذها المرأة عن طريق مواردها الغذائية إلى تغذية الجنين، مما يستنزف قواها وطاقاتها الخاصة، وأخيرًا, تأتي ولادة الطفل /الطفلة نفسها محفوفة بالألم والمخاطر. والخلاصة أن سيمون ديبوفوار تخرج بأن الأنثى “ترسف في قيود العبودية للجنس البشري أكثر من الذكر، وأن صفاتها الحيوانية أكثر ظهورًا منه“.5
لقد قصدت سيمون دي بوفوار أن يكون المسح الذي أجرته مسحًا وصفيًا خالصًا، وهو يبدو كذلك بكل إنصاف. فالموضوع ببساطة أن من الحقائق أن جسد المرأة مكرس بنسبة أكبر للعمليات الطبيعية المحيطة بتناسل الجنس البشري، فنسبة أكبر من حيز جسدها، ومن فترة حياتها مكرسة لهذا الغرض، وهذا ما يحدث – بالتأكيد – على حساب صحتها الشخصية، وقوتها, واستقرارها عمومًا، بل أحيانًا ما يكلفها هذا الكثير. كما أن التركيب الفسيولوجي لجسد المرأة أضعف من جسد الرجل، “وبذلك تكون قبضتها على مقاليد العالم محدودة؛ إذ لا يتاح المرأة إلا القليل من الصلابة والمثابرة لإنجاز مشروعات هي أقل قدرة في العموم على الاضطلاع بها“.6
وتمضي سيمون دي بوفوار في مناقشة الآثار السلبية التي تنطوي عليها “عبودية المرأة للنوع البشري” وضعفها الجسدي العام من حيث العلاقات بالمشروعات التي ينخرط فيها البشر, المشروعات التي تتولد عنها الثقافة ويتحدد تعريفها. وهكذا تصل دي بوفوار إلى أصعب نقاط فكرتها، إذ تقول: “يكمن هنا مفتاح اللغز برمته. فأي نوع من أنواع الكائنات الحية لا يحافظ على استمرار وجوده على المستوى البيولوجي إلا بخلق نفسه من جديد، لكن هذا الخلق لا يؤدي إلا إلى تكرار إنتاج نفس الحياة في المزيد من أفراد النوع المعين من الكائنات الحية. لكن الإنسان يضمن تكرار الحياة مع السمو على هذه الحياة من خلال الوجود [أي أن تكاثره فعل متجه نحو هدف وله معنى]؛ وبهذا السمو يخلق الإنسان قيما تنزع عن التكرار البحت أي قيمة. أما في الحيوانات، فإن حرية نشاط الذكر وتنوعه يذهبان هباء، لأنه نشاط لا ينطوي على أي مشروع. فما يفعله ذكر الحيوان ليس ذا أهمية، عدا خدمته لنوعه. أما ذكر الإنسان، فهو حين يخدم نوع الجنس البشري، فإنه يعيد في نفس الوقت تشكيل وجه الأرض، حيث يبتكر أدوات جديدة، ويخترع المستقبل, ويشكله7. بعبارة أخرى، يبدو أن جسد المرأة يحكم عليها بمصير يقتصر على مجرد إعادة إنتاج الحياة بالتناسل؛ أما الذكر، الذي تنقص جسده وظائف الخلق الطبيعية، فلابد له (أو أنه لديه فرصة) أن يؤكد قدراته الخلاقة خارج جسده، على نحو “اصطناعي“، بواسطة التكنولوجيا والرموز. وهو إذ يفعل ذلك، يخلق أشياء تتمتع بالبقاء، والخلود، والسمو نسبيًا، بينما لا تنتج المرأة إلا أشياء فانية، بشرًا فانين.
إن هذه الصيغة تفتح الباب لعدد من الاستبصارات المهمة. فهي تفسر مثلاً اللغز الكبير عن سبب تمتع أنشطة الذكور التي تنطوي على تدمير للحياة (مثل الصيد والحرب) بجاذبية أشد من الجاذبية التي تتمتع بها قدرة النساء على الولادة، وعلى خلق الحياة، إذا جاز لنا القول.8 لكننا ندرك في الإطار الفكري لسيمون دي بوفوار أن القتل ليس هو الوجه المهم وذا القيمة من وجوه الصيد والحرب؛ بل إن ما له قيمة وأهمية في هذين النشاطين هو طبيعتهما السامية (اجتماعيًا وثقافيًا)، على عكس السمة الطبيعية لعملية الولادة: “لأن الإنسان لا يعلو على الحيوان بسبب منحه للحياة، بل بسبب مخاطرته بالحياة؛ ولهذا لا تعزي الرفعة في البشرية إلى الجنس الذي يجلب الحياة، بل إلى الجنس الذي يقتل“.9
وهكذا، إذا كان الذكر يرتبط في جميع أنحاء العالم (على مستوى اللاوعي) بالثقافة, وتبدو الأنثى أكثر قربًا للطبيعة، فمن السهل فهم مبررات هذه الروابط، بمجرد أن نأخذ في اعتبارنا الآثار الذي ينطوي عليها التباين الفسيولوجي بين الذكر والأنثى. لكن في الوقت نفسه لا يمكن الرمي بالمرأة في فئة الطبيعة بصورة كاملة، لأنه من الواضح جدًا أنها كائن بشري مكتمل، وقد نفح كيانها بالوعي البشري، مثلها مثل الرجل؛ إنها نصف الجنس البشري، وبدون تعاونها، ينهار المشروع البشري بأكمله. قد يبدو أن المرأة في حوزة الطبيعة أكثر من الرجل, لكنها بفضل ما تملكه من وعي تفكر، وتتكلم، وتبدأ عمليات الاتصال بغيرها، وتتعامل مع الرموز، والفئات، والقيم. والمرأة تشارك في الحوار مع غيرها من البشر، لا مع غيرها من النساء فقط، بل مع الرجال أيضًا. وكما يقول ليفي – شتراوس: “لا يمكن أن تصير المرأة مجرد علامة لا أكثر, حيث أنها تظل شخصًا، حتى في عالم الرجل، وحيث إنها طالما عُرِّفت كعلامة لابد أن [تظل] أيضًا معترفًا بها كمولدة للعلامات“.10
حقًا، إن موضوع تمتع المرأة بوعي بشري كامل، وانخراطها التام في المشروع الثقافي للسمو على الطبيعة، والتزامها به، يمكن أن يفسر لغزًا كبيرًا آخر من ألغاز “مشكلة المرأة“، وقبول المرأة في كل الكون عمومًا للانتقاص من قيمتها، ويا لهذا من مفارقة! لأن المرأة ستبدو أنها كآدمية واعية، وكعضو في ثقافتها قد اتبعت منطق فرضيات الثقافة، ووصلت إلى خلاصة الثقافة يدا بيد مع الرجل. وقد عبرت سيمون دي بوفوار عن هذا بقولها: “لأن المرأة أيضًا كائن موجود, فإنها تشعر بالحاجة الملحة إلى تجاوز الوجود، ومشروعها ليس مجرد تكرار بحت، بل فيه سمو نحو مستقبل مختلف – وتجد المرأة في أعماق قلبها تأكيدًا لادعاءات الرجل. تشارك المرأة الرجال في احتفاليات الاحتفاء بنجاحات الذكور وانتصاراتهم. ويتركز سوء حظها في أنها قد قسم لها بيولوجيا أن تعيد تكرار الحياة، حتى ولو كانت ترى أن تلك الحياة لا تحمل في حد ذاتها الأسباب التي تبرر وجودها، تلك الأسباب التي هي أهم من الحياة ذاتها“.11
بعبارة أخرى، فإن وعي المرأة – عضويتها في الثقافة، إذا جاز لنا القول– يشهد عليه جزئيًا أنها تقبل الحط من قدر ذاتها وتتبنى وجهة نظر الثقافة. والمرأة تعتبر جزءًا من الطبيعة أكثر مما يعتبر الرجل بسبب انشغال جسدها بالوظائف الطبيعية المحيطة بالإنجاب أكثر من انشغال جسد الرجل بهذه الوظائف. لكن بسبب وعيها ومشاركتها في الحوار الاجتماعي، فهي تعتبر مشاركة جزئيًا في الثقافة. وهكذا، تبدو المرأة كشيء متوسط بين الثقافة والطبيعة، ونقل منزلتها في سلم السمو عن منزلة الرجال.
2 – اعتبار الدور الاجتماعي للمرأة أقرب إلى الطبيعة
وهكذا، تميل الوظائف الفسيولوجية لجسد المرأة في حد ذاتها إلى إعطاء دافع (بالمعنى الدلالي) لتصوير المرأة على أنها أقرب للطبيعة، وهي صورة تميل هي نفسها لقبولها، بحكم أنها مراقبة لنفسها وللعالم المحيط بها. المرأة تقوم بعملية الخلق بشكل طبيعي من داخل وجودها ذاته، أما الرجال فهم أحرار في أن يخلقوا أشياء بشكل اصطناعي (أو هم مرغمون على ذلك)، بمعنى أنهم يقومون بعملية الخلق من خلال وسائل ثقافية، وبطريقة من شأنها أن تحافظ على دوام الثقافة. كما أن الوظائف الفسيولوجية للمرأة قد مالت إلى تحديد حركتها الاجتماعية، وذلك على مستوى الكون أجمع، وإلى أن تحتبسها – على مستوى الكون – في سياقات اجتماعية معينة، تعتبر بدورها أقرب للطبيعة. أي أن الوضع الاجتماعي الذي تضعها فيه وظائف جسدها، وليست هذه الوظائف فحسب، يميل إلى حمل الدلالة نفسها. وطالما اعتبرت المرأة (من منظور الثقافة) دائمة الارتباط بهذه المواقع الاجتماعية، فإن هذه المواقع تضيف وزنًا (ربما كان الجزء الحاسم من الثقل) إلى صورة المرأة ككائن أقرب للطبيعة. وأنا أشير هذا طبعًا إلى أن احتباس المرأة في السياق المنزلي الأسري الذي ينبع الدافع إليه بلا شك من اضطلاعها بإرضاع الأطفال.
إن جسد المرأة، مثله كمثل أجساد إناث جميع الحيوانات، يفرز لبنًا أثناء الحمل وبعده لتغذية الوليد الرضيع. ولا يمكن للوليد أو الوليدة البقاء على قيد الحياة في هذه المرحلة من العمر دون لبن الثدي أو لبن صناعي له تركيبة مشابهة جدًا للبن الأم. وحيث أن عملية إفراز اللبن ترتبط ارتباطًا مباشرًا بحمل معين في طفل معين أو طفلة معينة يجعل جسم الأم يمر بهذه العملية، فإن علاقة الرضاعة بين الأم وطفلها أو طفلتها تعتبر رابطة “طبيعية“، وتعتبر جميع الترتيبات الأخرى لإطعام الرضيع غير طبيعية وبدائل مؤقتة للرضاعة الطبيعية. ويبدو أن الثقافة تشعر أن الأطفال وأمهاتهم ينتمون لفئة واحدة. كما أن الأطفال عندما يتجاوزون فترة الرضاعة تلزمهم ملاحظة ورعاية مستمرة، لأنهم لا يكونون أقوياء بما يكفي للاضطلاع بالأعمال الكبيرة، مع أنهم قادرون على الحركة، ويصعب التحكم فيهم، كما يكونون غير قادرين – بعد – على فهم مختلف المخاطر. والشخص “الواضح” الذي عليه القيام بهذه المهمة هو الأم، باعتبار أن هذه المهمة امتداد “طبيعي” لرابطة الرضاعة بينها وبين أطفالها، أو لأنها تكون قد رزقت برضيع جديد وانخرطت في أنشطة رعاية الأطفال. على أية حال؛ فالأنشطة التي تخص المرأة تحددها القيود التي يقيدها بها أطفالها وانخفاض مستوى قواهم ومهاراتهم، فتحتبس المرأة في الإطار المنزلي للعائلة؛ “فالمرأة مكانها البيت“.
إن ربط المرأة بالدائرة المنزلية يسهم بعدة طرق في النظر إليها ككائن أقرب للطبيعة. ففي المقام الأول، قد يسهل اعتبار الرضع والأطفال جزءًا من الطبيعة. فالأطفال يكادون ألا يكونوا آدميين، فهم لم يخضعوا إطلاقًا للتنشئة الاجتماعية، وهم كالحيوانات لا يسيرون منتصبي القامة، ولا يتحكمون في عملية إخراج الفضلات، ولا يتكلمون. بل إنه من الجلي أن الثقافة لم تعرك الأطفال الذين تجاوزوا مرحلة الرضاعة بقليل تمامًا بعد؛ فهم ما زالوا لا يفهمون الواجبات والمسئوليات والأخلاقيات الاجتماعية، وما زالت حصيلتهم اللغوية قليلة ولم يتعلموا بعد إلا القليل من المهارات. ويسهل على المرء أن يجد اعترافًا ضمنيًا بربط الأطفال بالطبيعة في الكثير من الممارسات الاجتماعية. فمثلاً, معظم الثقافات لديها طقوس تدشين للمراهقين (للصبيان في المقام الأول طبعًا – وسأعود إلى هذه النقطة لاحقًا) تهدف إلى نقل الطفل طقسيًا من حالة أدنى من حالة الوجود البشري التام إلى حالة نضج اجتماعي وثقافي؛ والكثير من المجتمعات لا تقدم طقوسًا جنائزية للأطفال الذين يموتون في عمر مبكر، على أساس فكرة صريحة عن أنهم لم يصيروا كائنات اجتماعية بعد. ومن المفارقات الساخرة أن الكثير من الثقافات تبرر طقوس تدشين المراهقين التي تمارسها بأنها طقوس لتطهير الصبيان من الدنس الذي تراكم عليهم من ارتباطهم بأمهاتهم وغيرهن من النساء لوقت طويل، بينما قد يكون الدنس الذي يعزى إلى النساء مستمدًا من ارتباطهن بالأطفال لوقت طويل.
الأثر الضمني الإشكالي الثاني للارتباط الوثيق بين النساء والجو المنزلي مستمد بعض الصراعات الهيكلية المعينة بين الأسرة والمجتمع الكبير في أي نَسَق اجتماعي. وقد أظهرت دراسة روزالدو12 بقوة التأثير الضمني “للتعارض بين ما هو منزلي وما هو اجتماعي” على مكانة النساء، وكل ما أوده أن أبين أهمية ما أظهرته دراستها لما يطرحه الموضوع الذي بين أيدينا الآن. إن فكرة تعارض الوحدة المنزلية – الأسرة البيولوجية المسئولة عن إنجاب افراد جدد للمجتمع وتنشئتهم اجتماعيًا – مع الكيان الاجتماعي، والشبكة المركبة من تحالفات وعلاقات، ألا وهي المجتمع، هي أيضًا أساس فكرة ليفي – شتراوس التي قدمها في دراسته المعنونة الهياكل الأولية للقرابة. يذهب ليفي – شتراوس إلى أن هذا التعارض موجود في كل النُسُق الاجتماعية، بل يزيد على ذلك أن لهذا التعارض دلالة التعارض بين الطبيعة والثقافة. إن حظر زنا المحارم, وزيادة على ذلك قاعدة الزواج من خارج الجماعة، شائعان على مستوى العالم أجمع، وشيوعهما هذا يضمن التخلص التام من خطر رؤية قيام العائلة البيولوجية كنسق مغلق، وبذا, يستحيل على الجماعة البيولوجية أن تبقى في عزلة عن غيرها، ورابطة التحالف مع عائلة أخرى تضمن سيادة ما هو اجتماعي على ما هو بيولوجي، وسيادة الجانب الثقافي على الجانب الطبيعي.13 وبينما لا تفصح كل الثقافات عن تعارض بين ما هو منزلي وما هو اجتماعي في حد ذاتهما، إلا أنه يصعب المماراة في أن الجانب الاجتماعي دائمًا ما يطوي الجانب المنزلي تحت جناحه؛ فالوحدات المنزلية تتحالف مع بعضها البعض من خلال إعمال قواعد تقع منطقيًا في مستوى أعلى من تلك الوحدات نفسها، وتخلق وحدة أسرية جديدة – مجتمعًا – تقع منطقيًا في مستوى أعلى من الوحدتين القادرتين على التناسل اللتين تتكون منهما هذه الأسرة الجديدة.
والآن، حيث إن النساء مرتبطات بالسياق المنزلي، ومحتبسات فيه بالفعل بدرجة أو بأخرى، فإن الثقافات توحد بينهن وبين هذه المرتبة الأدنى من التنظيم الاجتماعي/ الثقافي. ما الذي آثار هذا الوضع على الطريقة التي تصور بها المجتمعات النساء؟ أولاً, لو حدث تأكيد على الوظيفة البيولوجية النوعية للعائلة (الإنجاب)، كما هو الحال في صياغة ليفي – شتراوس لفكرته, لوحدت الثقافة بين العائلة، ومن ثم المرأة، وبين الطبيعة بشكل خالص وبسيط، کشیء متعارض مع الثقافة. لكن من الواضح أن هذا الحكم متسرع وغير واقعي، فالفكرة تبدو أوضح لو صيغت على هذا النحو: الأسرة (ومن ثم المرأة) تمثل أنواعًا من الاهتمامات أدنى مستوى، ومتشظية اجتماعيًا، وذات طابع خصوصي، على عكس العلاقات داخل العائلة، التي تمثل أنواعًا من الاهتمامات أعلى مستوى، وأكثر قدرة على جلب القبول الاجتماعي، وذات طابع أكثر عمومية. وحيث أن الرجال ينقصهم الأساس الطبيعي للتوجهات الأسرية (الرضاعة، التي تمتد إلى رعاية الأطفال)، فإن دائرة نشاطهم تحدد على مستوى العلاقات داخل الأسرة، ومن ثم، يبدو أن التبرير الثقافي لوضعهم مقبول، فالرجال هم المالكون “الطبيعيون” للديانة، والطقوس، والأمور السياسية، وغير ذلك من عوالم الفكر والفعل الثقافي التي تصنع فيها الأفكار العمومية الخاصة بتخليق الثقافة والمجتمع. وهكذا يوحد المجتمع بين الرجال والثقافة، بمعنى كل ما يمت إلى الإبداع البشري، في تعارضها مع الطبيعة؛ ويوحد على وجه الخصوص بين الرجال والثقافة بمعناها القديم، الذي يعني أعلى وأرفع مراتب الفكر البشري، كالفن، والقانون، والدين، إلخ.
ونعيد القول بأن منطق التبرير الثقافي هنا، الذي يضع النساء في مرتبة أدنى من الثقافة، ويضع الرجال في مرتبة الثقافة منطق واضح ويبدو شديد الجاذبية على السطح. وفي الوقت نفسه، لا يمكن ربط المرأة تمامًا بالطبيعة، لأن لوضعها – حتى في السياق المنزلي – جوانب توضح بجلاء لا يقبل الشك إسهامها في العملية الثقافية. وغني عن القول طبعًا أنه فيما عدا إرضاع المواليد الجدد لا يوجد سبب يبرر حتمية استمرار الربط بين الأم – وليس الأب أو أي شخص آخر – وبين رعاية الطفل، بل أن أدوات الرضاعة الصناعية يمكن أن تقطع هذا الرباط البيولوجي بين المرأة والوليد. بل إنه حتى بافتراض وجود أسباب عملية وعاطفية أخرى تتآمر لإبقاء المرأة في هذه الدائرة، يمكننا توضيح أن أنشطة المرأة في هذه الدائرة يمكن أن تضعها تمامًا بنفس المنطق في فئة الثقافة، مما يوضح بمثال عملي الطابع التعسفي النسبي لتعريف المرأة بأنها أدنى ثقافيًا من الرجال. فالمرأة مثلاً لا يقتصر دورها على إطعام الأطفال والتنظيف ورائهم في عملية رعاية بسيطة، بل هي في الحقيقة العامل الأولى في تنشئتهم الاجتماعية, إنها هي التي تحول الوليد الجديد (صبيًا كان أم فتاة) إلى آدمي تابع للثقافة، إذ تعلمه السلوكيات الحميدة، وكيف يتصرف بلياقة لكي يصير عضوًا أصيلاً في الثقافة. إن وظيفة المرأة في التنشئة الاجتماعية وحدها تصلح أساسًا لترشيحها لأن تكون ممثلة تمامًا للثقافة كأي شخص آخر. لكن في كل مجتمع تقريبًا توجد نقطة تنتقل عندها التنشئة الاجتماعية للصبيان إلى أيدي الرجال. فالصبيان لا يعتبرون – وفقًا لمجموعة أو أخرى من الشروط – قد اكتملت تنشئتهم الاجتماعية بعد “حقًا“، ولا يمكن إنجاز إدخالهم إلى عالم حالة الآدمي الكامل (اجتماعيًا وثقافيًا) إلا على أيدي الرجال. يمكننا أن نرى هذا الأمر وهو مازال مستمرًا في مدارسنا، حيث تنقلب تدريجيًا نسبة الإناث إلى نسبة الذكور بين هيئة التدريس كلما ارتقى التلميذ في الصفوف الدراسية؛ فمعظم هيئة تدريس رياض الأطفال من الإناث، ومعظم أساتذة الجامعة من الذكور.14
فلنعد للنظر إلى الطهو. الطهو عمل النساء في الغالبية العظمى من المجتمعات. لا شك أن هذا ينبع من اعتبارات عملية؛ حيث إن على المرأة أن تبقى في المنزل مع الوليد، فمن المناسب أن تمارس الأعمال المنزلية. لكن لو كان ما ذهب إليه ليفي – شتراوس15 حقيقيًا، ألا وهو أن تحويل المقادير النيئة إلى طعام مطهو يمكن أن يمثل في الكثير من النظم الفكرية الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة، نجد المرأة هنا وقد وضعت في مرتبة تناسب هذه العملية المهمة من عمليات التدخل الثقافي في الطبيعة، مما يمكن أن يضعها بسهولة في فئة الثقافة، التي تنتصر على الطبيعة. لكن عندما تنشئ إحدى الثقافات تراثًا للمطبخ الراقي (كالمطبخ الفرنسي أو الصيني مثلاً)، الذي يعتبر أنه الطهو “الحقيقي“، على عكس الطهو المنزلي البسيط المعتاد، فدائمًا ما يكون رؤساء الطهاة في هذه المطابخ الراقية رجالاً. وهكذا، يعاد إنتاج هذا النمط في مجال التنشئة الاجتماعية، حيث تمارس النساء عمليات تحويل المواليد من الطبيعة إلى الثقافة، وهي عملية تعتبر وظيفة متدنية المستوى. لكن حين تميز الثقافة مستوى أعلى من مستويات نفس الوظيفة، فإنها تقصرها على الرجال.
باختصار، يمكننا أن نرى مرة أخرى مصدر إظهار النساء في وضع متوسط أكثر من الرجال فيما يتعلق بالتعارض الثنائي بين الطبيعة والثقافة. فالمرأة عضو في الثقافة، لكن علاقاتها بالطبيعة تبدو مباشرة أكثر من علاقات الرجال بالطبيعة، لذا تعتبر شيئًا متوسطًا بين الفئتين.
۳ – اعتبار التركيب النفسي للنساء أقرب للطبيعة
لا تقتصر فكرة اختلاف النساء عن الرجال على التكوين الجسدي والموقع الاجتماعي فقط، بل إن فكرة اختلافهن عنهم أيضًا في تكوينهن النفسي تعد فكرة خلافية إلى أبعد حد. أود أن أذهب إلى أن المرأة ربما يكون لها تكوين نفسي مختلف، لكني سأعتمد كثيرًا على دراسة لتشودورو تذهب على نحو مقنع إلى أن التكوين الثقافي ليس شيئًا متأصلاً في تكوين الفرد، بل يتولد عن خبرة التنشئة الاجتماعية التي تمر بها الإناث، والتي يحتمل أن تكون عامة على مستوى الكون. لكني أرى أننا لو سلمنا بما يسمى التكوين النفسي الأنثوي (الذي لا ينبع من داخل الفرد)، فإن هذا التكوين النفسي ما زالت تعلق به كثير من الصفات التي تدعم وجهة النظر التي تعتبر المرأة أقرب للطبيعة.
من المهم نحدد هذا الجانب من التكوين النفسي الأنثوي الذي هو الجانب السائد والعام بين نساء العالم كله. فإذا قلنا إنه العاطفة الجياشة أو اللاعقلانية، فإننا نجد أنفسنا في مواجهة العادات الموجودة في مختلف أنحاء العالم التي تكون فيها وظائف النساء أقرب إلى العملية والنفعية, والدنيوية من وظائف الرجال، كما تعتبرها المجتمعات كذلك. ويبدو أن البعد الهام لهذا الجانب والذي لا يتركز حول الانتماء العرقي بعد ملموس نسبيًا في مقابل الطابع التجريدي النسبي، وأن الشخصية الأنثوية (غير المتأصلة في تكوين الفرد) تميل إلى الانشغال بما هو ملموس، سواء كان ذلك مشاعر، أو أشياء، أو بشر، فهي تميل للنزعات الشخصية، والخصوصية.
وتتقبل دراسة تشودورو الرأي الذي يحدد الشخصية الأنثوية بهذه الحدود، فتقول “إن من خصائص الذات الأنثوية … أن لها حدودًا أكثر مرونة (أي أقل إصرارًا على التمييز بين الذات والآخر)، وأنها تتسم بالتوجه نحو الحاضر أكثر من التوجه نحو المستقبل، وبقدر أكبر نسبيًا من الذاتية ويقدر أقل من الموضوعية المتجردة من العواطف.” وتستشهد تشودورو بدراسات مختلفة من التي تميل إلى تأكيد أن هذه الصورة في حقيقتها صورة دقيقة نسبيًا للشخصية الأنثوية؛ وهي دراسات أجريت أساسًا على المجتمع الغربي، مع أن تشودورو تلمح إلى أن الفرق بين شخصية الذكر وشخصية الأنثى عمومًا يكاد يكون شائعًا على مستوى العالم، ويتلخص هذا الفرق في أن الرجال أكثر موضوعية أو أكثر اتجاها نحو الموضوع، أما النساء فأكثر ذاتية وأكثر اتجاهًا نحو الأشخاص. 16
لقد ناقشت دراسة تشودورو فكرتها الرئيسية بلباقة بالغة. تقول هذه الفكرة إن تلك الفوارق لیست متأصلة في جبلة الأفراد، ولا هي مبرمجة مسبقًا في جيناتهم، لكنها تنشأ من “سمات هيكل الأسرة، التي تكاد تكون عامة في الكون كله، [وبالتحديد] ما يتسم به هيكلها من أن النساء مسئولات إلى حد بعيد أو تمامًا عن رعاية الأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة، وعن التنشئة الاجتماعية للإناث منهم (على الأقل) فيما يلي من مراحل، [وأن هذا] جانب مهم من جوانب عدم التساوي بين تطور نمو الذكور والإناث“. وتقدم تشودورو آراء المنظرين لعلاقات الذات بالموضوع التي ميزوا فيها بين التوحد الوجداني “مع الأشخاص” و “مع المواقف” كعمليات نفسية, حيث يكون “التوحد الوجداني مع الأشخاص” “توحدًا غير محدد مع السمات الشخصية والسلوكية العامة لشخص ما يحبه الفرد أو يعجب به، ومع قيم هذا الشخص المحبوب، واتجاهاته“، و“التوحد الوجداني مع المواقف” و“التوحد مع جوانب معينة من دور شخص آخر“، لا التوحد مع هذا الشخص الآخر بأكمله17. وتذهب تشودورو إلى أن السبب في هذا أن الأم هي التي تتولى التنشئة الاجتماعية المبكرة لكل من البنات والصبيان، فيكتسب الأطفال من النوعين توحدًا وجدانيًا شخصيًا معها. لكن لابد للصبي أن يتحول في النهاية إلى هوية تناسب الدور الذكوري، وهو ما يشمل بناء توحد وجداني مع الأب. وحيث إن الأب غالبًا ما يكون دائمًا أبعد عن الطفل من الأم (إذ نادرًا ما ينشغل بالعناية بالطفل، وربما كان يعمل بعيدًا عن البيت معظم نهاره)، فإن بناء توحد وجداني مع الأب يشمل التوحد مع موقف الدور الذكوري بصفته مجموعة من العناصر المجردة، لا التوحد الوجداني الشخصي مع الأب كفرد واقعي. كما أن الصبي في غضون دخوله إلى العالم الاجتماعي الأكثر اتساعًا يجد أن تنظيم هذا العالم يتمحور في الحقيقة حول معايير أكثر تجريدًا وعمومية18، كما أشرنا في القسم السابق من هذه الدراسة؛ وبذا تعده تنشئته الاجتماعية المبكرة لمواجهة نوع الخبرات الاجتماعية التي سيمر بها، وهذا النوع من الخبرات هو الذي يعزز تنشئة الصبي اجتماعيًا على هذا النحو.
أما البنات فإن التوحد الوجداني لهن مع الأم في سن الرضاعة المبكرة يمكن أن يبقى ويستمر حتى عملية تعلم الهوية التي تناسب الدور الأنثوي. ولأن الأم متاحة للبنت وحاضرة معها أثناء تعلمها للهوية المناسبة لدورها فإن “تعلم البنت للتحول إلى امرأة .. يشمل استمرار علاقة البنت بأمها وتطوير هذه العلاقة، ويقوم على أساس التوحد الوجداني الشخصي العام مع الأم لا على محاولة تعلم أنواع من الأدوار التي تحدد من خارج هذه العلاقة بالأم“19، أن هذا النمط من التوحد الوجداني مع الأم يعد البنت طبعًا لدورها المركزي فيما يلي من مراحل حياتها، كما يعزز هذا الدور ذلك النمط من التوحد الوجداني، علمًا بأن هذا الدور هو: الأمومة؛ ودخول عالم النساء الذي يتميز بالقليل من التحديد الرسمي لمعالمه،20 وخاصة في علاقتها بأطفالها التي تشمل “توحدًا وجدانيًا شخصيًا” مرة أخرى، وهكذا تعاود الدورة البدء من جديد.
ومما يرضيني – أنا على الأقل – أن تشودورو توضح أن مصدر الشخصية الأنثوية يقع في ترتيبات البنية الاجتماعية لا في الفوارق المتأصلة في الأفراد. لكن الفكرة المهمة التي تخدم أغراضي هي أنه على حد شيوع تميز “الشخصية الأنثوية” بالنزعات الشخصية والخصوصية على مستوى العالم تقريبًا – رغم أن هذا قد يكون ناتجًا جانبيًا على مستوى اللاوعى للترتيبات الاجتماعية – فإن وجود مثل هذا التكوين النفسي لدى النساء قد يكون قد أسهم في تكوين النظرة العامة للنساء على مستوى العالم على أنهن أقل قربا للثقافة من الرجال بشكل ما. أي أن المزاج النفسي السائد لدى المرأة في تكوين العلاقات يجعلها تميل إلى الدخول في علاقات مع العالم الذي قد تعتبره الثقافة “أقرب شبهًا بالطبيعة“، فهو عالم مغروس في الأشياء ولا ينفصل عنها كأمر بديهي، وليس كالثقافة، التي تتعالى على الأشياء وتحولها إلى أشياء أخرى بأن تفرض عليها فئات مجردة وقيمًا متعدية للشخصية. أما علاقات المرأة بأشيائها فتميل – كما تميل الطبيعة – إلى أن تكون بلا وسيط نسبيًا، وأكثر مباشرة، بينما يميل الرجال إلى إنشاء علاقاتهم بالأشياء بطرق فيها قدر أكبر من الوسائط، بل كثيرًا ما ينتهي بهم الأمر إلى إنشاء علاقات أبقى وأقوى مع الفئات والأشكال الوسيطة بينهم وبين موضوعات علاقاتهم أكثر من علاقاتهم مع الأشخاص أو الأشياء نفسها.
فإذا كان للنساء حقًا هذا النوع من التكوين النفسي (حتى ولو كان ناتجًا جانبيًا للترتيبات الاجتماعية)، فليس من الصعب أن نرى كيف يعطي هذا التكوين ثقلاً للرأي الذي يراهن “أقرب للطبيعة“. لكن في نفس الوقت، لاشك أن هذا النوع من المزاج النفسي يلعب دورًا قويًا ومهمًا في العملية الثقافية، لأنه رغم أن حالة تكوين العلاقات بلا وسيط تقع بمعنى ما عند أدنى أطراف طيف الوظائف الروحانية للبشر، حيث تغرس العالم في الأشياء وتراها من منظور خصوصياتها، ولا تتجاوزها وتعيد تخليقها، فإن هذه النوعية من حالة إقامة العلاقات تقع أيضًا عند أعلى أطراف هذا الطيف، أي أن الأمهات يملن إلى تكريس أنفسهن لأطفالهن كأفراد، بغض النظر عن جنسهم، أو عمرهم، أو درجة جمالهم، أو انتمائهم العشائري، أو أي أنواع أخرى من فئات التصنيف التي قد يوضع فيها الأطفال. والآن، فإن أي علاقة لها هذا النوع من الخصائص – ليس علاقة الأم بالطفل فقط بالطبع، بل أي نوع من علاقات الالتزام ذات الطابع الشخصي الكبير والتي تتم بلا وسيط نسبيًا – يمكن أن تعتبر تحديًا للثقافة والمجتمع “من أسفل” ، من حيث كونها تمثل الإمكانيات الكامنة لأنواع الولاء الفردي التي تفتت الجماعة وتعليها على تضامن الجماعة مع بعضها البعض. لكنها يمكن أن تعتبر أيضًا علاقات تجسد عامل الربط بين أجزاء الجماعة أو الثقافة أو عامل التخليق لهما “من أعلى“، من حيث كونها تمثل قيمًا إنسانية عامة تعلو على أنواع الولاء الخاصة القائمة على فئات التصنيف الاجتماعي وتتجاوزها. ولابد أن يكون لكل مجتمع فئات تصنيف اجتماعي تتجاوز أنواع الولاء الشخصي، لكن لابد أن يخلق كل مجتمع أيضًا إحساسًا بوحدة معنوية عليا بين كل أفراده، تعلو على فئات التصنيف الاجتماعي تلك وتتجاوزها. وهكذا، فإن هذا المزاج النفسي يعتبر مثالاً لمزاج النساء، الذي يميل لغض الطرف عن فئات التصنيف والسعي إلى “الألفة الوثيقة” 21 مع الآخرين مباشرة وعلى نحو شخصي، وهو إذ يبدو متدنيًا ثقافيًا من إحدى وجهات النظر، فهو يرتبط في نفس الوقت بالعملية الثقافية في أعلى مستوياتها. وهكذا، نعيد القول أيضًا بأننا نرى مصدر ازدياد الغموض الظاهر للمرأة من حيث علاقتها بالطبيعة والثقافة.
كان غرضي الرئيسي هنا أن أحاول تفسير شيوع المنزلة الثانوية للنساء في عموم الكون. وقد شعرت على المستويين الثقافي والشخصي بتحد كبير وضعتني فيه هذه المشكلة؛ فقد شعرت أنني يجب أن أتناولها قبل شروعي في تحليل وضع المرأة في أي مجتمع بعينه. لقد تمكنت المتغيرات الحالية للاقتصاد، والبيئة، والتاريخ، والبنية السياسية والاجتماعية، والقيم، ورؤية العالم من تفسير التنوع في داخل ما هو عام في الكون، لكنها لم تتمكن من تفسير هذا العام نفسه. وإذا لم نكن لنقبل أيديولوجية الحتمية البيولوجية، فقد بدا لي أننا لا يمكننا المضي في التفسير إلا بالرجوع إلى أشياء أخرى تعم الوضع الثقافي للبشر. وهكذا، فإن المشكلة نفسها قد حددت الخطوط العريضة للنهج الذي انتهجته – رغم أنه لا يقدم طبعًا أي حل معين – ولم يحددها أي ميل من جانبي التحليل البنيوي التجريدي الذي يعم العالم.
وقد ذهبت إلى أن التقييم العام للنساء يمكن تفسيره بوضع فرض مؤداه أن المرأة تعتبر “أقرب للطبيعة” من الرجال، وأنه من الواضح أن الرجال يعتبرون محتلين للمرتبة العليا, مرتبة “الثقافة“. أن مقياس الثقافة – الطبيعة نفسه من منتجات الثقافة، حيث تعتبر الثقافة عملية خاصة متميزة، أقل ما يقال في تعريفها إنها تجاوز المعطيات البديهية الطبيعية للوجود باستخدام نظم فكرية وتكنولوجية. هذا بالطبع تعريف تحليلي، ولكني ذهبت إلى أن كل ثقافة تحتوي هذه الفكرة عند مستوى معين بشكل أو بآخر، وحتى لو كان هذا من خلال ممارسة الطقوس فقط كتأكيد لقدرة البشر على التلاعب بهذه المعطيات البديهية. وعلى أية حال فقد اهتم محور البحث ببيان السبب في أن روى العالم (على شدة اختلافها وتباينها)، والثقافات ذات الدرجات المختلفة من التعقيد قد مالت مرارًا وتكرارًا إلى اعتبار المرأة أقرب للطبيعة من الرجال. والعوامل التي تجعل جذور المرأة تبدو أكثر تعمقًا في الطبيعة وأكثر ارتباطًا بها على نحو مباشر هي: أن التركيب الفسيولوجي للمرأة أكثر انشغالاً “بحياة الجنس البشري” لفترة أطول من انشغال الرجل بذلك, وربط النساء بالسياق المنزلي ذي المرتبة الدنيا هيكليًا، حيث تحمل بمسئوليات وظيفة مهمة، ألا وهي تحويل الرضع الأشبه بالحيوانات إلى كائنات عركتها الثقافة، و“التكوين النفسي” للمرأة الذي شكلته تنشئتها الاجتماعية على ما يرام لأداء وظائف الأمومة، فجعلها أكثر ميلاً إلى أنماط العلاقات الشخصية المباشرة, وأقل ميلاً إلى الأنماط التي تتطلب توسطًا بينها وبين الشخص الذي يشكل الطرف الآخر في العلاقة. لكن الثقافة تعترف في الوقت نفسه “بعضوية” المرأة فيها، وبما لها من مشاركة تامة فيها بالضرورة، ولا يمكنها إنكار هذه العضوية والمشاركة. وهكذا، تعتبر المرأة وسطًا بين الثقافة والطبيعة، أي أنها تحتل موقعًا متوسطًا بينهما.
كما أن هذا الموقع المتوسط له عدة آثار على التحليل، تعتمد على كيف يقرأ المحلل هذا الموقع. فأولاً، بالطبع، يجيب هذا الموقع على سؤالي الأولى عن السبب الذي يجعل المرأة تعتبر أقل منزلة من الرجل في كل مكان، لأنها حتى لو لم تعتبر نقية وبسيطة كالطبيعة، فإنها نظل تعتبر أقل قدرة على تجاوز الطبيعة من الرجال. فموقعها المتوسط يعني ببساطة أن لها “مكانة متوسطة” في سلم التراتب الهرمي للوجود، الذي يتدرج نزولاً من الثقافة إلى الطبيعة.
وثانيًا، قد يكون “للموقع المتوسط” للمرأة دلالة على “قدرتها على العمل كوسيط“، أي على ممارسة نوع من وظيفة التخليق أو التحويل بين الطبيعة والثقافة، التي لا تعتبرهما (الثقافة) هنا طرفين لمُتَّصل واحد، بل تعتبرهما نوعين مختلفين جذريًا من العمليات التي تحدث في العالم. فالوحدة الأسرية – ومن ثم المرأة، التي تبدو في جميع الحالات تقريبًا الممثل الرئيسي للوحدة الأسرية – وكالة مهمة من وكالات الثقافة التي تحول الطبيعة إلى ثقافة، خاصة فيما يخص التنشئة الاجتماعية للأطفال.
إن استمرار قدرة أي ثقافة على الحياة تعتمد على الأفراد الذين جرت تنشئتهم الاجتماعية على ما يرام بحيث يرون العالم بشروط هذه الثقافة، ويلتزمون بوصاياها الأخلاقية بلا تشكك تقريبًا. ولابد من التحكم الوثيق في وظائف الوحدة الأسرية لضمان هذه النتائج بأكبر قدر ممكن؛ ولابد أن يكون استقرارها كمؤسسة فوق كل شك. ونحن نرى هذه الحماية لتكامل الوحدة الأسرية واستقرارها في المحرمات القوية ضد زنا المحارم، وقتل الأم، وقتل الأب، وقتل الأخوة22، وهلم جرا. ومن الواضح أن هذه الأنواع من الأوامر شديدة الأهمية للمجتمع، إلى درجة أنها جُعلت بحيث تبدو أنها تضرب بجذورها في النظام الأساسي للوجود؛ ويعتبر انتهاكها تصرفًا “منافيًا للطبيعة“، وغالبًا ما تعتبر العقوبات المستحقة على هذه الانتهاكات عقوبات أوتوماتيكية وضعتها قوى متجاوزة للطبيعة وليست مجرد عقوبات اجتماعية قائمة على نزعات الإرادة البشرية. وعلى أية حال، طالما ظلت المرأة في جميع ثقافات العالم الوكيل الأول المسئول عن التنشئة الاجتماعية للأطفال، واعتبرت بمثابة التجسيد الكامل لوظائف الوحدة الأسرية، فستنحو إلى الوقوع تحت وطأة أثقل القيود وأضيق الحدود المحيطة بهذه الوحدة. فموقعها المتوسط (وفقًا لتحديد الثقافة له) بين الثقافة والطبيعة، والذي يحمل هنا دلالة عملها كوسيط (أي قدرتها على ممارسة وظائف التحويل) بين الثقافة والطبيعة، لن يكون مسئولاً فقط عن تدني مكانتها، بل يتعدى ذلك إلى مسئوليته عن ثقل القيود التي توضع على أنشطتها. ففي كل الثقافات بلا استثناء، توضع حدود للنشاط الجنسي المسموح به للمرأة أضيق من التي توضع للنشاط الجنسي للرجل، ولا يتاح لها إلا مجال أضيق بكثير لاختيار الأدوار عن المجال المتاح الرجل، ولا يتاح لها سبل للوصول إلى المؤسسات الاجتماعية إلا في نطاق أضيق بكثير مما يتاح للرجل. كما أن المرأة في كل العالم تقريبًا تخضع لتنشئة اجتماعية لتكون لها اتجاهات ورؤی أکثر محافظة وأضيق نطاقًا في مجموعها عمومًا عما للرجال (وتعزز سياقات حياتها في مرحلة الرشد هذه الاتجاهات والرؤى)؛ وهذا بالطبع نمط آخر من أنماط القيود، التي تربط بوضوح بالوظائف الحيوية للمرأة في المجتمع، ألا وهي إنتاج أفراد للجماعة وتنشئتهم اجتماعيًا على ما يرام لهذه الجماعة.
وأخيرًا، قد يكون للموقع الوسيط للمرأة أثر رمزي شديد الإبهام.23 والفكرة هنا لا تتعلق بموقع المرأة بين الثقافة والطبيعة بقدر ما تتعلق بهامشيتها في حد ذاتها في علاقتها “بمراكز” الثقافة، بما يحمله الموضع الهامشي أصلاً من إبهام في المعنى. فإذا فكرنا في “هوامش” الثقافة باعتبارها حدودًا متصلة على أطراف الثقافة أكثر منها حدود عليا ودنيا لها، يمكننا أن نفهم فكرة أن هذه الأطراف يلتقي بعضها ببعض، على حد قولنا، وأن من السهل تحويل أحدها إلى الآخر في الفكر الرمزي، ومن ثم يسهل على هذا الفكر أن يراها حدودًا مقلقلة ومبهمة.
لهذه الأفكار علاقة شديدة بفهم الرمزية الثقافية وتخيلاتها عن النساء. فكما نعرف، فان التخيلات علي المرأة في مختلف أنواع الهياكل الثقافية متنوعة في المعنى بشكل مدهش، وكثيرًا ما تتجسد فيها – في الإرث الثقافي الواحد – أفكار متباينة جذريًا، بل وشديدة التناقض. قلت في مناقشتي “للتكوين النفسي للأنثى” أن المزاج النفسي المرتبط بالنساء يبدو واقعًا عند قاع مقياس أنماط إنشاء العلاقات بين البشر وعند قمته في آن واحد. يميل هذا النمط إلى أن يكون سببًا للانشغال المباشر بالآخرين في حد ذاتهم، لا الانشغال بهم كممثلين لفئة اجتماعية أو أخرى؛ ويمكن اعتبار هذا النمط من إقامة العلاقات إما كنمط “يتجاهل” هذه العلاقات الاجتماعية (وهكذا يكون نمطًا هدامًا) أو كنمط “يتجاوزها” (وهكذا يكون نمطًا يحقق درجة عليا من درجات تخليق هذه العلاقات). ويعتمد هذا على كيف تعني الثقافة بالنظر إلى هذا النمط من أنماط إقامة العلاقات الاجتماعية لأي غرض مفترض. وهكذا، يمكننا أن نفسر بسهولة كلاً من الرموز الهدامة للأنثي (مثل: الساحرات، والحسد، ودنس الحيض، والأم التي تخصي ابنها)، كما يمكن أن نفسر الرموز الأنثوية الدالة على تجاوز الطبيعة (الإلهات الأمهات، والمخَلِّصات الرحيمات، ورموز العدالة التي تصور على هيئة إناث)، والوجود القوي للرمزية الأنثوية (ولكن ليس للنساء الفعليات) في عوالم الفن، والدين، والطقوس، والقانون. كما يمكننا فهم الولع الشديد للرموز الأنثوية المتعارضة بتحول كل منها إلى الآخر بطرق أقرب إلى السحر، مثلها مثل كل الرموز الهامشية: فالعاهرة، يبدو أنه من الممكن تخليصها وتحويلها إلى حالة القداسة بشكل أسهل مما يمكن تحويل ربة البيت الوفية إلى قديسة.
فإذا كان لتوسط النساء بين الطبيعة والثقافة (من المنظور الثقافي) هذا الأثر الضمني الذي يميز الظواهر الهامشية، ألا وهو الغموض العام للمعنى، فنحن إذن في موقع أفضل لتفسير “انقلابات الأوضاع” الثقافية والتاريخية هذه التي وضعت فيها النساء رمزيًا في صف واحد مع الثقافة والرجال مع الطبيعة بشكل أو بآخر. ويحضرنا عدد من الحالات: طائفة السيريونون الذين تقول دراسة إنجهام أن “الطبيعة، والنيئ، والذكورة” لديهم تتعارض مع “الثقافة، والمطهو والأنوثة“؛ 24 وألمانيا النازية التي قيل فيها أن النساء حاميات الثقافة والأخلاقيات؛ والحب الرفيع لدى الأوروبيين، الذي قيل إن الرجل فيه هو الوحش والمرأة في الجانب الطاهر السامي – وهذا النمط من التفكير ما زال قائمًا مثلاً بين أهل أرياف إسبانيا في الزمن الحديث؛25 ولا شك في وجود حالات أخرى من هذا النوع. ومازالت هذه الأحوال (بل كل الهياكل الرمزية الثقافية, طبعًا) بحاجة إلى تحليل مفصل لبياناتها الثقافية، لكن جزئية عمومية تهميش النساء بالنسبة للثقافة، وبالذات الالتباس المستقر عند القطب الأنثوي من حيث أسلوب العلاقات الأنثوية بين الأشخاص (من وجهة نظر الثقافة) قد يشكل على الأقل أساس مثل هذه التحليلات.
وباختصار، فإن بديهية النظر إلى النساء ككائنات أقرب للطبيعة من الرجال لها عدة آثار على المضي قدمًا في التحليل، ويمكن قراءتها بعدة طرق مختلفة. ففي حالة قراءة حالة الأنوثة على أنها مجرد موقع متوسط في سلم تقع الثقافة عند أحد طرفيه والطبيعة عند الطرف الآخر فإنها تظل ترى في موقع أدنى من الثقافة، ومن ثم تفسر الزعم الثقافي السائد بأن النساء أقل مرتبة من الرجال في نظام الأشياء. وفي حالة قراءتها كعنصر وسيط في العلاقة بين الثقافة والطبيعة, فإنها قد تفسر جزئيًا الميل الثقافي للحط من قيمة النساء، بل وتحديد وظائفهن وتقييدها، حيث إن الثقافة يجب أن تحافظ على التحكم في آلياتها (النفعية /العملية والرمزية) لتحويل الطبيعة إلى ثقافة. وفي حالة قراءتها كوضع ملتبس بين الثقافة والطبيعة، فقد يساعد الالتباس على تفسير أنه في أوضاع أيديولوجية ثقافية معينة ونظم رمزية معينة يمكن أن توضع النساء في بعض الحالات العارضة في فئة “الثقافة“، ويمكن أن يسند إليهن في أي مناسبة معان شديدة التباين في النظم الرمزية، بل معان متنافرة.
إن الوضع المتوسط، والوظائف الوسيطة، والمعنى الملتبس كلها قراءات مختلفة، تجري لأغراض سياقية مختلفة لعملية إسناد مكانة متوسطة للمرأة بين الطبيعة والثقافة.
وأخير، يجب أن نؤكد طبعًا أن المخطط برمته بناء ثقافي لا طبيعة مسلم بها. فالمرأة ليست “في الواقع” أقرب بأية حال إلى الطبيعة (ولا أبعد عنها) من الرجل، فلكليهما وعي، وكلاهما بشر فانون، لكن توجد بالتأكيد أسباب تفسر لماذا تظهر المرأة بهذه الصورة. والنتيجة دائرة مفرغة: إذ أن لوضع المرأة (الجسدي، والاجتماعي، والنفسي) عدة أوجه تؤدي إلى النظر إليها ككائن “أقرب” للطبيعة، أما النظر إليها ككائن أقرب للطبيعة فيضرب بجذوره في أعماق أشكال مؤسسية تعيد توليد وضع المرأة. وللتغير الاجتماعي آثار دائرية بالمثل: فأي وجهة نظر ثقافية مختلفة لا يمكن لها أن تنبت إلا في تربة حقائق اجتماعية مختلفة، والحقائق الاجتماعية المختلفة لا يمكن لها أن تنبت إلا في تربة وجهة نظر ثقافية مختلفة.
لا يمكن أن تغير النساء أجسادهن. لكن لا يبدو من المرجح أن يكفي الفارق الجسدي بين الرجال والنساء كدافع لتحريك رؤية النساء ككائنات متدنية القيمة ما لم تمنح المتغيرات الاجتماعية والنفسية التي ناقشناها سلفًا وزنًا إضافيًا لهذه الرؤية.
إني لست مستعدة لتقديم برنامج مفصل للتجديد الاجتماعي والثقافي، لكن من الواضح أن المخرج من الدائرة يشمل سماح المجتمع للنساء بالمشاركة في كل الأدوار والأنشطة الاجتماعية المتاحة في إطار الثقافة، وامتلاكهن الفعال لأقصى حد منها. إن بمقدرة الرجال والنساء المشاركة على قدم المساواة في مشروعات الإبداع والتفوق، ويجب أن يحدث هذا. وحينئذ فقط، يمكن رؤية النساء بسهولة ككائنات تقف في صف الثقافة، وفي صف الجدل المستمر بين الثقافية والطبيعة.
* Sherry B. Ortner¸ “Is Female to Male as Nature is to Culture?” ¸ Woman¸ Culture and Society¸ eds M.Z. Rosaldo and L. Lampher (Stanford: Stanford Up¸ 1974) ¸ pp. 68- 87.
1 قدمت النسخة الأولى من هذا البحث في أكتوبر ۱۹۷۲ كمحاضرة ضمن مقرر “النساء: الخرافة والواقع” بكلية سارة لورانس. وقد تلقيت ملحوظات مفيدة من الطالبات والطلبة، ومن زميلاتي وزملائي من هيئة التدريس في هذا المقرر: جون جادول، وإيفا كوليش، وجيردا ليرنر. وقد قدمت مختصرًا لهذه المحاضرة في اجتماع الجمعية الأنثروبولوجية الأمريكية الذي عقد في تورنتو في نوفمبر1972. وقد تلقیت ما بين هاتين المحاضرتين تعليقات نقدية ممتازة من كارين بلو، وروبرت بول، وميشيل روزالدو، وتيرينس تيرنر، وقد كتبت النسخة الحالية من هذا البحث التي أدخلت فيها تغييرًا كبيرًا على الفكرة الأساسية للأطروحة استجابة لتلك التعليقات. إني أتحمل طبعًا مسئولية الشكل النهائي للبحث, الذي سيظهر به في كتاب “النساء، والثقافة، والمجتمع“، من تحرير مشیل روزالدو ولويز لامفير وستنشره دار نشر جامعة ستانفورد، بمدينة ستانفورد في وقت لاحق من هذا العام (Michelle Rosaldo and Louise Lamphere (eds.), Women, Culture and Society, Stanford: Stanford University Press)، أهدي هذا البحث إلى سيمون دي بوفوار، فكتابها “الجنس الثاني” الذي نشر في عام ١٩٤٩ يظل في رأيي أفضل عرض قدم لـ “مسألة المرأة“
2-R. G. H. Siu, The Man of Many Qualities (Cambridge: M. I. T. Press, 1968) p. 2.
3-Robert Lowie, The Crow Indians (New York: Rinehart and co., 1956) , p. 2.
4-Sherry B. Ortner, “Sherpa Purity”, American Anthropologist 75: 49-63
Ortner, “Purification Beliefs and Practices”, Encyclopaedia Britannica :و كذلك
(forthcoming).
5-Simone de Beavoir, The Second Sex, (New York: Bantam Books, 1961(, pp. 60, 24, 24-27 2
and passim, 239.
6 المرجع السابق، ص ۳۱ .
7 المرجع السابق، ص 58 -59 .
8 حقًا، إن من أبشع وجود الظلم الموجودة في الفكر الثقافي ربط المرأة في معظم المتآلفات الثقافية الرمزية بالموت لا بالحياة.
9 المرجع السابق.
10- Claude Lévi-Strauss, The Elementary Structures of Kinship, trans., J. H. Bell and J. R. von Sturmer, ed., R. Needham (Boston: Beacon Press, 1969), p. 496.
11- de Beavoir, The Second Sex, p. 59
12- Michelle Z. Rosaldo, “Introduction” in Rosaldo and Lamphere, Woman.
13- Lévi-Strauss, The Elementary Structures, p. 479.
14 أتذكر أن أول معلم من الذكور تولى التدريس لي كنت في الصف الخامس، وأتذكر أني كنت مندهشة لهذا – لقد كان هذا أمرًا جديرًا بالتلاميذ الأكبر سنًا على نحو ما.
15- Claude Lévi-Strauss, The Raw and the Cooked, trans., J. and D. Weightman (New York: Harper and Row, 1969).
16- Nancy Chodorow, “Family Structure and Feminine Personality”, in Rosaldo and
Lamphere, Woman, pp. 14, 1.
17 المرجع السابق، ص ٢٦.
18- Rosaldo, “Introduction”, pp. 17-18; Chodorow, “Family Structure”, p. 15.
19- Chodorow, “Family Structure”, p. 9.
20- Rosaldo, “Introduction”, p. 18.
21- Nancy Chodorow, “Family Structure”, following David Bakan, The Duality of Human
Existence (Boston: Beacon Press, 1966).
22 لا يبدو أن أي شخص يهتم كثيرًا بقتل الأخوات.
23- Rosaldo, “Introduction”.
24- John M. Ingham, “Are the Siriono Raw or Cooked?” American Anthropologist 37: 1092- 1099.
إن مناقشة إنجهام نفسها بها شيء من الالتباس، حيث إن النساء يربطن أيضًا بالحيوانات: “… من الواضح أن وجهي التباين بين الرجل /الحيوان والرجل /المرأة متشابهان … فالصيد وسيلة حيازة النساء كما هو وسيلة حيازة الحيوانات” . (ص: 1095) والقراءة المتمعنة لبياناته توحي بأن النساء والحيوانات كليهما عامل بتوسط بين الطبيعة والثقافة في هذا التقليد.
25- Rosaldo, “Introduction”; and Julian Pitt-Rivers, People of the Sierra (Chicago: University of Chicago Press, 1961).