النوع والمكانة: شرح موقع النساء في المجتمع*
يهتم هذا الفصل بمعنى أن يكون الشخص امرأة، وكيف يتنوع أوجه الفهم الثقافي لـ “المرأة” كفئة عبر المكان والزمان، وكيف تتعلق أوجه هذا الفهم بموقع النساء في مختلف المجتمعات. لا مناص من أن تنجذب عالمات (وعلماء) الأنثروبولوجيا المعاصرات (والمعاصرين) ممن يستكشفون موقع النساء، سواء في مجتمعهن أو في غيره من المجتمعات إلى المناظرة حول أصول نشأة تدني منزلة النساء وشيوعها في عموم الكون. وقد كان الاهتمام بمراتب العلاقات بين الرجال والنساء من سمات تخصص الأنثروبولوجي منذ نشأته الأولى. وقد أعطى ظهور نظريات النشوء والارتقاء في القرن التاسع عشر دفعة قوية لدراسة النظرية الاجتماعية والسياسية، وما يتعلق بها من مسألة التنظيم الاجتماعي في المجتمعات غير الغربية. وقد كانت مفاهيم مثل “القرابة (kinship)، و“العائلة (family)”، و “الأسرة (household)”، و“الأخلاق الجنسية القويمة (sexual more) مهمة لفهم التنظيم الاجتماعي في هذه المجتمعات.
وفي خضم المناظرة التي شجرت، اتخذت العلاقات بين الجنسين موقعًا مركزيًا في النظريات التي وضعها من يسمون بـ “الآباء المؤسسين لعلم الأنثروبولوجيا“1 ونتج عن هذا أن عددًا من المفاهيم والفرضيات التي تظهر في موقع بارز من علم الأنثروبولوجيا المعاصر، بما في ذلك الأنثروبولوجيا النسوية، تدين بنشأتها لمختلف منظري القرن التاسع عشر. من الصحيح طبعًا أن الكثير من ادعاءات مفكري القرن التاسع عشر قد فندت ووجد أنها تفتقر إلى الدقة. وفي مجال الأنثروبولوجيا، نقد عدد من العلماء، منهم مالينوفسكي (Malnowski) ورادكليف براون (Radcliffe-Brown) البحث عن ماض موجود بالفعل وليس قائمًا في الفكر فقط، وخصا بالنقد التأكيد على اتخاذ النشوء والارتقاء لمسار خطي وحيد، والانتقال من “حق الأم” إلى “حق الأب“. وقد شهدت عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين إنشاء الأنثروبولوجيا كتخصص محدد، مع التأكيد على العمل الميداني الإمبيريقي. وما حدث كان إعادة نظر في القرابة، والتأكيد الصريح على وظيفة المؤسسات الاجتماعية في مجتمعات بعينها، لا على مكان هذه المؤسسات في نوع من المخططات التاريخية المتعارف عليها.
وأنا أدعي هنا أن الكثير من الفرضيات النظرية للقرن التاسع عشر ما زالت موجودة بيننا، وأهدف بادعائي هذا إلى أن أوضح أن الهموم التي تواجهها أنثروبولوجيا النساء لها بالضرورة تاريخ طويل في علم الأنثروبولجيا.2 علاوة على ذلك، فان مجرد وجود فترات استمرار وفترات انقطاع ثقافية يعد جزءًا مهمًا من فهم ضرورة النقد النسوي المعاصر.
وأي محاولة لتخليق مختلف النُهُج التي تقررها الباحثات أنفسهن في النسوية المعاصرة فيها تعميم بالضرورة.3 وهذا أيضًا حال أي محاولة لإسباغ ثوب رسمي على مختلف النُهُج التي تميز دراسة النساء في الأنثروبولوجيا. وسيتضح فيما بعد في هذا الفصل وفي الفصل الرابع الطرق التي تُظهر بها هذه المواقف المختلفة أهم الخلافات بين المثقفين والمثقفات في العلوم الاجتماعية ككل. لكن أفضل ما يوضح مختلف المواقف النظرية في الأنثروبولوجيا النسوية ذلك الخلاف السائد في هذا الموضوع، الذي يتمثل في السؤال: هل عدم التساوي بين الجنسين شيء عام في الكون أم لا؟ 4 أو بعبارة أخرى، هل منزلة النساء أدني دائمًا من منزلة الرجال؟
يعتمد تحليل تدني منزلة النساء (women`s subordination) على بعض الاعتبارات الخاصة بالعلاقات المكتسية بصيغة النوع. تدخل التحليلات الأنثروبولوجية إلى دراسة النوع من منظورين مختلفين، وإن كانا ليسا متنافيين. يمكن النظر إلى النوع إما من زاوية أنه بناء رمزي، أو من زاوية أنه علاقة اجتماعية. وكما سنرى، يميل المنظور المعين الذي يأخذ به كل باحث أو باحثة على حدة إلى تقرير أنواع الشرح الذي سيقدمه الباحث لمسألة نشأة تدني منزلة النساء وطبيعته. وإني سأبدأ في القسم التالي بمناقشة النوع كبناء رمزي.
من أبرز إسهامات أنثروبولوجيا النساء تحليلها الدائم لرموز النوع والصور النمطية للجنس. أهم ما يواجه الباحثات (والباحثين) في هذا المجال من مشكلات مسألة كيفية شرح ما يلاحظنه (ويلاحظونه) من أوجه التنوع الهائل في فهم الثقافة لمعنى فئتي “الرجل” و “المرأة“، وأن بعض الأفكار حول النوع تظهر في نطاق واسع من مختلف المجتمعات. وفيما يلي الطريقة التي عبرت بها شيري أورتنر (Sherry Ortner) عن المشكلة في بداية مقالها “هل المرأة بالنسبة للرجل كالطبيعة بالنسبة للثقافة؟“:
يستمد علم الأنثروبولوجيا الكثير من قدرته الإبداعية من التوتر الحاصل بين ما يتطلبه تفسير ما هو مشترك بين البشرية كافة من جهة وبين الخصوصيات الثقافية للجماعات البشرية من جهة أخرى. ووفقًا لهذا القانون، تقدم لنا المرأة واحدة من أهم المشكلات التي تتحدانا وتفرض علينا تناولها. إن المنزلة الثانوية للمرأة في المجتمع شيء مشترك بين البشرية كافة حقًا، على اختلاف الثقافات. لكن داخل هذه الحقيقة المشتركة، يتنوع إدراك المجتمعات المختلفة للمرأة وتمثيلها الرمزي لها اختلافًا شاسعًا، بل قد تكون هذه الاختلافات متناقضة مع بعضها البعض. والأدهي أن المعاملة التي تلقاها النساء فعلاً، والقوة النسبية للنساء ومشاركتهن في المجتمع تتنوع تنوعًا كبيرًا من ثقافة إلى أخرى، وبين مختلف الفترات التاريخية التي مرت بها تقاليد كل ثقافة معينة على حدة. إن هاتين النقطتين كلتيهما – ألا وهما الحقائق المشتركة بين البشرية كافة والتنوعات الثقافية بين مختلف المجتمعات البشرية – مسألة تحتاج إلى تفسير (Ortner 1974¸ 67).
كان مقال شيري أورتنر ومقال إدوين أردنر المعنون “الاعتقاد ومشكلة المرأة (Edwin Ardener 1975) إشارة بدء لإطار مؤثر وقوي لدراسة مشكلة تدني منزلة النساء من خلال تحليل الرموز المتعلقة بالنوع.
بدأت أورتنر مقالها بافتراض أن تدني منزلة النساء مسألة عامة في جميع أنحاء الكون، وحيث إن هذه الحالة ليست متأصلة في الفوارق البيولوجية بين النوعين، فلابد من تقديم تفسير بديل لها. وانطلاقًا من فكرة أن الفوارق البيولوجية بين الرجال والنساء لم تكتسب أهمية إلا في إطار نسق قيمة تحدده الثقافات، فقد وضعت أورتنر مشكلة عدم التساوي بين الجنسين على مستوى الأيديولوجيات والرموز الثقافية (Ortner 1974¸ 71). ثم طرحت بعد ذلك السؤال التالي: ما الذي يجمع بين مختلف الثقافات بحيث تعطي كلها قيمة متدنية للمرأة؟ وأجابت على هذا السؤال بأن النساء في جميع أنحاء العالم لابد أنهن قد ارتبطن بشيء تحط كل الثقافات من قيمته. وترى أورتنر أنه “شيء واحد لا غير، ألا وهو “الطبيعة” بأكثر معانيها عمومية” (Ortner 1974¸ 72). كل الثقافات تدرك الفرق بين المجتمع البشري وعالم الطبيعة، وتميز بينهما. تحاول الثقافة التحكم في الطبيعة وتجاوزها لتستغلها لخدمة أغراضها. ومن ثم تكون الثقافة أعلى منزلة من عالم الطبيعة، فتسعى إلى فرزها و“إخضاعها للمجتمع“، كي تنظم العلاقات بين المجتمع وقوى البيئة وأحوالها وتحافظ على استمرارها. وتقول، أورتنر إن الثقافات توحد بين النساء والطبيعة أو تربطهن بها رمزيًا، بينما تربط الرجال بالثقافة. وحيث إن الثقافة تسعى للتحكم في الطبيعة وتجاوزها، فمن “الطبيعي” أنه ينبغي التحكم في النساء أيضًا واحتوائهن بفضل ارتباطهن الوثيق “بالطبيعة“. ويجدر بنا أن نورد بعضًا من حجج أورتنر بالتفصيل، لأن ما تؤكده من أسس ربط النساء بالطبيعة – أو اعتبارهن أقرب للطبيعة من الرجال – تثير سلسلة كاملة من القضايا التي تشكل أسس النقد النسوي، لكنها تهدد أيضًا باكتساحه في بعض اللحظات. أن عمومية الرأي الذي تطرحه شيري أورتنر ترغمها على تقديم حجج عامة بنفس القدر لمساندة رأيها. ويمكن تلخيص حجتيها الرئيسيتين على النحو التالي:
1 – إن التكوين النفسي للمرأة ووظائفها الإنجابية المتخصصة تجعلها تبدو أقرب للطبيعة. أما الرجال، فهم على عكس النساء، مضطرون إلى البحث عن سبل ثقافية للإبداع (التكنولوجيا والرموز) بينما تشبع النساء قدراتهن الإبداعية على نحو طبيعي من خلال عملية ولادة الأطفال. من ثم، يزداد الارتباط المباشر للرجال بالثقافة وقوتها الخلاقة, على عكس الطبيعة. “المرأة تقوم بعملية الخلق بشكل طبيعي من داخل وجودها ذاته، أما الرجال فهم أحرار في أن يخلقوا أشياء يشكل اصطناعي (أو هم مرغمون على ذلك)، بمعنى أنهم يقومون بعملية الخلق من خلال وسائل ثقافية، وبطريقة من شأنها أن تحافظ على دوام الثقافة” (Ortner 1974¸ 77).
2 – تعتبر الأدوار الاجتماعية للنساء أقرب للطبيعة لأن انخراطهن في الإنجاب يميل إلى وضعهن في حدود وظائف اجتماعية معينة تعتبر أيضًا أقرب للطبيعة. تشير أورتنر هنا إلى احتباس النساء في مجال البيت. والنساء يرتبطن أساسًا في السياق المنزلي العائلي بتربية الأطفال، وهكذا يرتبطن بشخص في مرحلة ما قبل التنشئة الاجتماعية، أو أنه لم يخلق ثقافيًا بعد. ثم تشير أورتنر إلى أن الربط الضمني بين الأطفال والطبيعة من سمات عدد من المجتمعات (Ortner 1974, 78) .والارتباط الطبيعي بين النساء والأطفال والأسرة يعطي مستوى إضافيًا من مستويات التصنيف. فحيث إن النساء محتبسات في السياق المنزلي، تصير العلاقات داخل العائلة وبين العائلة وغيرها من العائلات أهم دوائر نشاطهن، على عكس الرجال، الذين يعملون في المجالين السياسي والعام للحياة الاجتماعية. وهكذا يظل الرجال مرتبطين بالمجتمع و“الصالح العام“، بينما تظل النساء مرتبطات بالعائلة، وبالتالي باهتمامات خصوصية أو مفتتة اجتماعيًا.
وتحرص أورتنر على التأكيد في بحثها على أن النساء “في الواقع” لسن أقرب للطبيعة ولا أبعد منها عن الرجال بأية حال. بل تهدف إلى تحديد كنه وموقع التقييمات الثقافية التي تجعل النساء يبدین “أقرب إلى الطبيعة“.
إن صياغة عبارة إن “الطبيعة بالنسبة للثقافة كالأنثى بالنسبة للذكر” تقدم للأنثروبولوجيا الاجتماعية إطارًا تحليليًا قويًا كان له وقع واسع النطاق على هذا التخصص في سبعينيات القرن العشرين وبدايات ثمانينياته. وقد كان هذا الإطار قويًا لأنه قدم طريقة للربط بين الأيديولوجيات الجنسية والصور النمطية لكل من نسق الرموز الثقافية الأوسع نطاقًا والأدوار والخبرات الاجتماعية. تتباين الأيديولوجيات الجنسية والصور النمطية تباينًا كبيرًا، لكن تظهر ارتباطات رمزية معينة بين النوع وغيره من الجوانب العديدة للحياة الثقافية عبر نطاق واسع من المجتمعات. يمكن تصور الاختلافات بين الرجال والنساء كمجموعات تتكون كل منها من زوج من التعارضات التي تتناغم بدورها مع مجموعات أخرى من التعارضات. وهكذا قد يربَط الرجال بما هو “مرتفع“، و“يمين“، و “عالِ” ، و“ثقافة“، و“قوة“؛ بينما تربط النساء بعكس ذلك مما هو “منخفض“، و “يسار“، و“هابط“، و“طبيعة“، و“ضعف“. وهذه الارتباطات ليست متأصلة في الطبيعة البيولوجية أو الاجتماعية للجنسين، لكنها بني ثقافية، تعززها بقوة الأنشطة الاجتماعية التي تحدد هذه البني وتتحدد بها. إن قيمة تحليل “الرجل” و “المرأة” كفئات أو بني رمزية تكمن في تحيد التوقعات والقيم التي تربط مختلف الثقافات بينها وبين كون الشخص أنثي أو ذكرًا. يقدم هذا التحليل مؤشرًا يدل على السلوك المثالي للرجال والنساء في مختلف أدوارهن (وأدوارهم) الاجتماعية، التي يمكن عندئذ مقارنتها بالسلوكيات والمسئوليات الفعلية للجنسين. إن قيمة التحليل الرمزي للنوع لن تظهر إلا بفهم كيف يُبنَى الرجال والنساء اجتماعيًا، وكيف تحدد هذه البنى الأنشطة الاجتماعية وتعيد تحديدها. لقد ظهرت بالطبع كتابات تنقد التعارض بين الطبيعة /الثقافة – الأنثى/ الذكر (Mathieu¸ 1978; MacCormack and Strathern¸ 1980)، لكن هذا التعارض يوفر لنا نقطة بدء مفيدة لمناقشة البناء الثقافي للنوع، ولفحص كيف يمكن فهم الارتباطات الرمزية المعطاة لفئتي “الرجل” و“المرأة” باعتبارها نتيجة للأيديولوجيات الثقافية، لا خصائص متأصلة أو فسيولوجية فيهما.
إن مفهوم الدنس من سمات الرمزية التي تعزى للنوع التي جذبت انتباه الكثيرات (والكثيرين) من الباحثات (والباحثين) الراغبات في تفسير تدني مكانة النساء. إن المحرمات والقيود التي تفرض على سلوكيات الكثيرات من النساء بعد الولادة والحيض، تعطى مفاتيح لكيفية تصنيف الناس لبعضهم البعض، ليبنوا عالمهم الاجتماعي.5 إن تحليل المعتقدات المتعلقة بالدنس وعلاقتها بالأيديولوجيات الجنسية تحليل كاشف، لأن مثل هذه المعتقدات كثيرًا ما ترتبط بالوظائف الطبيعية للجسد البشري. ويمكن أن نجد في جميع أنحاء العالم أمثلة لمجتمعات تعتبر النساء مسببات للدنس، إما عمومًا أو في أحيان معينة. لكني سأركز هنا – بغرض الإيضاح – على المجتمعات الميلانيزية بسبب ثراء المادة الإثنوجرافية المتوفرة عن المعتقدات المتعلقة بالدنس والتعارضات القائمة على الجنس بين هذه الجماعات .6
تعتبر النساء مسببات الدنس بين جماعة الكاولونج التي تعيش في نيوبريتان، وذلك منذ الفترة السابقة على بلوغهن حتى ما بعد فترة انقطاع الحيض، لكنهن يصرن “خطرات” على وجه الخصوص أثناء الحيض والولادة. ففي أثناء هذه الفترات يتعين على النساء أن يبتعدن عن الحدائق، والديار، ومصادر المياه، كما أن على المرأة أن تحرص على ألا تمس أي شيء قد يحدث أن يمسه رجل (Goodale 1980¸ 129). ودنس الإناث خطر فقط على الرجال البالغين، الذين قد يمرضوا إذ ابتلعوا أشياء مدنسة، أو مروا تحت شيء مدنس أو امرأة مسببة للدنس. والدنس ينتقل في الحالة العادية في اتجاه رأسي من أعلى إلى أسفل، وهذا لا يستلزم بالضرورة الفصل بين النوعين ومنعهما من التجاور جنبًا إلى جنب (Goodale 1980¸ 130- 131) لكن الدنس ينتشر أثناء الحيض والولادة من المرأة إلى من حولها، وهذا يستلزم فصلها ماديًا عن كل المواضيع والأشياء التي يستخدمها الجنسان كلاهما. نتيجة لذلك، تعزل النساء أثناء الولادة والحيض بعيدًا عن المناطق الرئيسية للسكن وفلاحة البساتين.
والخوف من الدنس بين جماعة الكاولونج مهم، لأنه يميز العلاقات بين الجنسين ويحدد خواص الرجال والنساء. ووفقًا لقول جودال، يتساوى الجماع الجنسي مع الزواج في نظر جماعة الكاولونج، و “الرجال ينتابهم حرفيًا رعب تام مميت من الزواج (والجنس)” (Goodale 1980¸ 133), ويعتبر الجماع الجنسي مدنسًا للرجال، كما أنهم يعتبرونه أيضًا “شبيها بسلوك الحيوان” ، لذلك لا بد أن يحدث في الغابة، بعيدًا عن الديار والحدائق. يتزوج الرجال والنساء لينجبوا ذرية تعيد إنتاج نوعهم، وهذا هو المعنى المركزي والغرض المحوري للعلاقة الجنسية. ومما يعزز هذه النظرة الخاصة للزواج أن الكاولونج اعتادوا اعتبار الانتحار طريقة مقبولة لإنهاء “علاقة غير مثمرة“.
وحيث إن رجال الكاولونج يخافون من الدخول في علاقة زواج ويترددون في دخولها فلا عجب إذن أن النساء هن اللاتي يأخذن الدور السائد في الغزل (Goodale 1980¸ 135). فالفتيات يمكنهن أن يقدمن لمن يخترنهن من الرجال الطعام أو التبغ، أو يمكن أن يهاجمونهن جسديًا. وما على الرجل إلا أن يفر أو يظل ثابتًا في مكانه دون رد بالمثل، حتى يصلا إلى اتفاق فيما يتعلق بالأشياء والنفائس التي قد تتوقع الفتاة أن تتلقاها من الرجل. وتشير دراسة جودال إلى أن الفتيات يلقين تشجيعًا منذ طفولتهن المبكرة على التصرف مع الذكور بجرأة وعدوانية، وأن الرجال عليهم إما أن يخضعوا دون رد بالمثل أو يفروا هاربين. فإذا أراد رجل المبادرة بالتقرب إلى امرأة سيعتبر ما يفعله اغتصابًا. وللنساء حرية تكاد تكون تامة في اختيار الزوج، رغم أنهن يستشرن أقربائهن المقربين. وقد تخدع المرأة عريسًا مترددًا أو تستدرجه إلى “مصيره“، وغالبًا ما يحدث هذا بمساعدة إخوتها الذكور، لكن النساء أنفسهن نادرًا ما يُغصَبن على زيجات لا يرغبنها (Goodale 1980¸ 135) .
ومن النظر إلى هذه الحقائق القليلة المتعلقة بالعلاقات بين الرجال والنساء في جماعة الكاولونج، يمكن إثارة عدة نقاط تتعلق بالتنوع الثقافي لتعريفات النوع، ومصداقية اعتبار النساء “أقرب إلى الطبيعة” من الرجال.
أولاً: من الواضح أن سلسلة من التباينات ستظهر لو حدث أن قارننا أفكار جماعة الكولونج عن السلوك الملائم للرجال والنساء بنظرات أهل أوروبا أو أمريكا الشمالية المعاصرين لهذه المسائل. فالنساء في المجتمع العربي لا يتمتعن بقيمة عالية “كآخذات بزمام المبادرة“، ويصدق هذا بوجه خاص على العلاقات الجنسية. كما أن المجتمع الغربي يشجع الرجال على الفعل الإنجابي وعلى “الدفاع عن أنفسهم“، بينما من الواضح أن رأي جماعة الكاولونج معكوس آية الفكرة الغربية عن سلبية المرأة وايجابية الرجل. أن الرغبة في إنجاب الأطفال سبب قوي للزواج في المجتمع العربي، لكن الزواج نفسه يفهم على أنه مشاركة، ومن سماته الأساسية الرفقة والحياة العائلية. أما الزواج لدى جماعة الكاولونج فيبدو مؤسسة مختلفة عن ذلك تمامًا. هذه النقاط توضح أنواع التباين بين الثقافات التي يمكن أن توجد، لا في سلوك النساء والرجال فقط، بل أيضًا في صنف الفرد التي يقصد أن يكونه الرجل وتكونه المرأة. ويثير هذا أيضًا قضية تنوع المؤسسات الاجتماعية مثل مؤسسة الزواج عبر الثقافات. لكن التنوع ليس القضية الوحيدة قيد البحث. ففكرة المرأة التي “تغوي” الرجل أو “توقعه في شباكها“، وما يضاهيها من صورة “العريس المتردد” كلها صور تجد لها صدى في الثقافة الغربية. والقضية التي يثيرها التحليل الرمزي للنوع هي كيف نستغل هذه المخيلة المعقدة والمتغيرة لتصل إلى فهم لموقع النساء في المجتمع. من الواضح أن نساء الكاولونج يتمتعن بدرجة معتبرة من الاستقلال الاقتصادي، بما في ذلك التحكم في مواردهن ونواتج عملهن (Goodale 1980¸ 128- 139) لكن هؤلاء النساء أنفسهن يعتبرن خطرات على الرجال ومسببات لتدنيسهم. ولا يتضح بالضرورة كيف يمكن لأي تحليل أن يؤدي إلى فهم هذه التناقضات وموازنتها.
يمكن تطبيق فكرة أورتنر عن أن النساء يعتبرن “أقرب للطبيعة” بسبب وظائفهن الفسيولوجية وأدوارهن الإنجابية على البيانات التي جمعت من جماعة الكاولونج. ويبدو أن سلسلة من التداعيات تربط بين كل من: النساء – الزواج – الجماع الجنسي – السلوك الشبيه بسلوك الحيوان – الغابة، سوف تظهر كما لو كانت تربط الوظائف الفسيولوجية والوظائف الإنجابية للنساء (التي هي مسببة للدنس) بمجال الغابة “الطبيعي” غير الآدمي. ولا يفصلنا عن هذا إلا خطوة قصيرة للقول بأن النساء متدنيات المكانة لأنهن مسببات للدنس، وهن مسببات للدنس ببسب الوظائف “الطبيعية” لأجسادهن، التي تربطهن بدورها بمعنى ما بعالم الطبيعة. ومما يعزز هذه السلسلة من التداعيات بقوة عزل النساء ماديًا في الغابة أثناء الولادة أو الحيض. لكن كما وضحت جودال في مقالها، تشوب مساواة المرأة بالطبيعة والرجل بالثقافة على هذا النحو البسيط أوجه نقص معينة. فأولاً، من الواضح أن الرجال والنساء جميعًا مرتبطين بالغاية وعالم “الطبيعة” من خلال الاشتراك معًا في العلاقات الجنسية. والديار التي تقع في مركز كل منطقة سكنية خالية من الغابات يشغلها الرجال العزاب والنساء العازبات، أما الأقران المتزوجون فيعيشون في أكواخ تقع على هوامش المناطق المزروعة، وهي في الحقيقة هوامش عالميّ الثقافة والطبيعة. وتصور جودال (Goodale 1980¸ 121) نموذج جماعة الكاولونج على هذا النحو:
الثقافة:الطبيعة
المناطق الخالية من الغابات : الغابة
العزاب والعازبات:المتزوجون والمتزوجات
وبعبارة أخرى، يصير النساء والرجال جميعًا (لا النساء فحسب) في ارتباط بالطبيعة من خلال المشاركة في الإنجاب (Goodale 1980¸ 140) . كما أن نسق الصور التمثيلية لدى جماعة الكاولونج أنه لا يقدم برهانًا قويًا على الارتباط المفرد بين الثقافة والرجال. ومن الملامح الملحوظة لعدد من التحليلات التي تستخدم نموذج /الطبيعة الثقافة – الأنثى /الذكر أن الربط بين النساء والطبيعة كثيرًا ما يؤخذ به التعبير ضمنًا عن ارتباط مماثل بين الرجال والثقافة. وهذا الافتراض لا يتمتع دائمًا بالمصداقية.
وثانيًا: فإن القول بأن النساء “أقرب للطبيعة” بسبب وظائفهن الإنجابية يثير عددًا من الصعوبات. فإذا كانت النساء “ينظر إليهن” باعتبارهن “أقرب للطبيعة“، فمن الذي يراهن على هذا النحو؟ هل ترى النساء أنفسهن أقرب للطبيعة، وجالبات للدنس، أو هل حتى يرين أن وظائفهن الإنجابية تحدد تعريفهن؟ يبدو أن نساء جماعة الكاولونج قد يجبن بالنفي على كل هذه التساؤلات. إن نموذج الطبيعة /الثقافة – الأنثى/ الذكر يفترض وجود وحدة ثقافية، ولا يوجد ما يبرر هذا الافتراض، ولا يدع مجالاً لإمكانية أن ترى مختلف الجماعات في المجتمع الواحد الأشياء وتخبرها بطرق مختلف.7 تشير جودال (Goodale 1980¸ 130- 131) إلى أن نساء الكولونج لا يهتممن في معظم الأحيان باحتمال تأثيرهن المدنس للرجال، باستثناء أن الأمهات قد يبدين اهتمامًا بتأثيرات النساء المدنسة على أبنائهن. وهذا يؤكد صعوبة أخرى تفترض وجود تعارض بسيط بين “المرأة” و“الرجل” كفئتين رمزيتين، وأن هناك تركيزًا عن غير وجه حق على مجموعة واحدة من العلاقات التي يؤثر فيها اختلاف نوعي طرفيها. فالتعارض بين الجنسين عادة ما يبنى، ضمنيًا على أساس التعارض بين الزوجين، ولا يذكر – إذا ذكر أصلاً – إلا القليل عن غير ذلك من العلاقات التي يختلف نوعًا طرفيها، كعلاقات الأخ/ الأخت، والأم /الابن، والأب/ الابنة، وهي أيضًا علاقات تشكل أيضًا جزءًا مهمًا من كون الفرد رجلاً أم المرأة.
ويبرز وسط الكاولونج ما يؤكد أن العلاقات بين الزوجين ليست نموذجًا ملائمًا لغيرها من العلاقات التي يختلف نوع طرفيها، ذلك أن الأخ قد يقف بجانب أخته ليساعدها على ضمان الحصول على زوج. وهذا يوحي بأن القلق المحتمل الذي يميز العلاقات بين الأزواج والزوجات قد لا يكون من السمات المميزة للعلاقات بين الأخوة والأخوات.
وتتعلق النقطة الثالثة التي يجب أن تثار في مواجهة التعارض بين الطبيعة/ الثقافة – الأنثى /الذكر بطبيعة الخصوصية الثقافية لفئات التحليل. فـ “الطبيعة” و“الثقافة” ليستا فئتين خاليتين من القيمة ومن صلات الوصل مع غيرهما من الفئات؛ بل هما بنيتان ثقافيتان بنفس الطريقة بالضبط التي تبنى بها فئتا “المرأة” و“الرجل“. وفكرتا الطبيعة والثقافة كما تستخدمان في التحليل الأنثروبولوجي مستمدتان من المجتمع الغربي، وهما بهذه الصفة من نواتج تقليد ثقافي معين وتتخذان مسارًا تاريخيًا خاصًا8، وكما لا يمكننا الزعم بأن فئتي “المرأة” و“الرجل” تحملان المعنى نفسه في كل مكان، فلابد أن نعي أيضًا أن المجتمعات الأخرى قد لا تدرك الطبيعة والثقافة كفئتين متمايزتين ومتعارضتين بنفس الطريقة التي تدركهما بها الثقافة العربية. كما أننا – حتى حيث يوجد هذا التمايز – يجب ألا نفترض أن المصطلحين الغربيين “طبيعة” و “ثقافة” ترجمة كافية أو معقولة للفئات التي تدركها الثقافات الأخرى (Goody 1977¸ 64¸ Rogers 1978¸ 134¸ Strathern 1980¸ 175- 176)
جماعة الجيمي التي تقطن مرتفعات بابوا في غينيا الجديدة ترى أن النساء مسببات للدنس، لكن هذا لا يمكن إرجاعه إلى أنهن مرتبطات بالطبيعة في تعارض مع الثقافة (Cillison 1980) توجد في فكر جماعة الجيمي فكرة “البري“، وهي تشير إلى الحياة النباتية والحيوانية التي تتكون منها الغابات المطيرة. تعتبر هذه الجماعة أن الغابة مملكة للذكور، تسكنها أرواح من ماتوا من الأسلاف (متجسدة في الطيور والحيوانات الكيسية) وتؤكد كثافة عالم الطبيعة وقدرته الخلاقة، إلى جانب القدرة الخلاقة المتعالية للروح الذكورية في العالم. “وهم يعبرون في طقوسهم عن طموحهم للتوحد مع العالم غير البشري، ولتجديد حيويتهم عن طريق قواه الذكورية غير المحدودة (Gillison 1980¸ 144). أما المنطقة السكنية فهي ترتبط – على عكس ذلك – بالنساء.
تستخدم جماعة الجيمي كلمة “كور” للإشارة إلى كل من الأرض البور والحياة الآخرة. وكلمة دوسا هي مضاد كلمة كور، وتعني “الدنيوي“، وتشير إلى النباتات والحيوانات المدجنة، كما تشير إلى “القيود التي تكبل الوجود الاجتماعي للبشر” (Gillion 1980¸ 144). وحتى لو أمكن ترجمة كلمة كور إلى كلمة “طبيعة” وكلمة دوسا إلى كلمة “ثقافة“، فإن هاتين الفئتين لا ترتبطان بالنساء والرجال على الترتيب. ومجموعة التعارضات الثنائية لدى جماعة الجيمي قد تقرب من هذا النموذج:
دوسا: كور
أرض مزروعة: أرض بور
علاقات الذكور بالإناث: الرجال
يتضح من بحث جيليسون أن التعارضات بين الطبيعة /الثقافة – الأنثى / الذكر لا تنطبق على جماعة الجيمي. كما أنه رغم وجود تمايز بين “المزروع” و “البري“، فإنه لا يناظر التمايز بين الطبيعة والثقافة في الفكر الغربي. “فالطبيعة” في الفكر الغربي شيء يجب إخضاعه “للثقافة” والتحكم فيه بمعرفتها؛ أما في فكر جماعة الجيمي، “فالبري” متعال على الحياة الاجتماعية للبشر، وهو بالتأكيد لا يخضع لتحكمهم فيه أو ازدرائه. إن مفهوم علو شأن الثقافة على الطبيعة مفهوم غربي، وهو جزء من جهاز المفاهيم الذي يملكه مجتمع يرى أن الحضارة ذروة انتصار “الرجل /الإنسان (في الأصل الإنجليزي كلمة “man” تحمل معنى المزدوج للإنسان عمومًا والذكر خصوصًا، ولا يمكن التعبير عن ذلك باللغة العربية في كلمة واحدة. (المترجمة))” على الطبيعة. وقد كان التصنيع، والعلوم الحديثة والتكنولوجيا كلها خبرات أساسية لظهور مفهومي الطبيعة والثقافة لدى الغربيين. وظهور الأسلحة النووية هي أكثر مظاهر هذه المخيلة جلبًا للخوف وإغراقًا في الوهم، بما يكمن خلفها من فكرة ضمنية عن أن “الإنسان /الرجل يمكنه التحكم في العالم” بكل المعاني.
من المشكلات لا تنتهي في علم الأنثروبولوجيا أن الفئات التحليلية تتسم بالتمركز حول عرق معين. وقد أدى ظهور “علم الأنثروبولوجيا للنساء” – وهو علم يشهد نموًا مضطردًا – إلى إبراز المخاطر المتأصلة في الافتراضات المرتبطة بثقافة معينة وتوضيحها بقوة، فهذا العلم قد اتخذ من نقد التحيز الذكوري إحدى نقاط انطلاقه (انظري /انظر: Rosaldo and Lamphere 1970; Reiter 1975; Moore “Chapter One¸” 1988). لكن كما توضح مناقشة نموذج الطبيعة /الثقافة، فإن مشكلة التحيز “التحليلي” أمر ما زال على “علم الانثروبولوجيا للنساء” أن يستمر في مواجهته، كما يتعين ذلك على جميع جوانب هذا التخصص. يرجع هذا جزئيًا إلى الافتراضات التي عميقة الجذور الكامنة خلف الجانب النظري لعلم الأنثروبولوجيا عمومًا، والتي تتجاوز مراحل الاعتراف بالتحيز الذكوري في مناهج البحث الميداني وممارساته (انظر /انظري: Moore¸ “Chapter One¸” 1988)، ويمكن إيضاح عمق جذور هذه الافتراضات بمناقشة موضوع النساء والمجال الخاص.
ساقت أورتنر بعض الأسباب التي تجعل الناس يرون النساء “أقرب للطبيعة“، منها أن النساء مرتبطات بالمجال “الخاص” للحياة الاجتماعية لا بالمجال “العام” لها، بدأ ظهور موضوع منبثق عن هذه الفكرة في علم الأنثروبولوجيا للنساء “يربط ثنائية الطبيعة /الثقافة بتقسيم مطابق بين “الخاص” و“العام“، وهو إطار قدم بالمثل على أنه نموذج عام في كل الكون لتفسير تدني منزلة النساء. وقد ظهر حديثًا عدد من الكتابات التي نقدت نموذج وضع “الخاص” مقابل “العام” (Burton 1985¸ Chapters Two and Three; Rapp 1979¸ Rogers 1978; Rosaldo 1980; Starthern 1984; Tilly 1978; Yanagisako 1979) لكنه ما زال رغم ذلك من السمات البارزة لمختلف أنواع التحليل، وكثيرًا ما يستخدم كطريقة لتنظيم البيانات الإثنوغرافية، ولتحديد مجال وأضح يخص النساء في المادة التي يقدمها البحث.
كان نموذج المجال “الخاص” مقابل المجال “العام“، وما زال، نموذجًا قويًا في الأنثروبولوجيا الاجتماعية، لأنه يقدم طريقة لربط تقدير قيمة لفئة “المرأة” بتنظيم أنشطة النساء في المجتمع. ومن أوائل تحليلات هذا النموذج ما ورد في مقال لميشيل روزالدو، الذي وجهت فيه الانتباه إلى إمكانية تطبيق هذا النموذج على عموم الكون، إذ قالت: “رغم أن هذا التعارض (“الخاص” مقابل “العام“) يظهر بقدر أو بآخر في مختلف النسق الاجتماعية والأيديولوجية, فانه يقدم إطارًا عامًا لفهم أنشطة الجنسين” (Rosaldo 1974¸ 23). وتربط روزالدو، كما تربط أورتنر, بين “توحيد النساء بالخاص الذي يحط من قدرهن” وبين دورهن الإنجابي (Ronaldo 1974¸ 30; 1980¸ 397) . إن التعارض بين “الخاص“/ “العام“، مثله مثل التعارض بين الطبيعة /الثقافة، مستمد في النهاية من دور المرأة كأم ومشرفة على تنشئة الأطفال وتربيتهم. وللفئتين “الخاص” و“العام” علاقة تراتبية بعضهما مع البعض. تعرف روزالدو “الخاص” بأنه المؤسسات والأنشطة التي تنظم حول جماعات الأم – الطفل، بينما يشير “العام” إلى الأنشطة، والمؤسسات، وأشكال الروابط التي تربط جماعات أم – طفل معينة، وتحدد مرتبتها، وتنظمها، أو تدرجها تحت فئة أخرى” (Rosaldo 1974¸ 23; 1980¸ 398) فالرجال والمجال العام يحددان إذن فئة النساء والمجال الخاص، اللذين يعتبران أقل أهمية من الرجال والمجال العام. لكن كلا من الفصل الفئوي “للخاص” عن “العام” وعلاقتهما النسبية ببعضهما البعض موضوع مفتوح للبحث.
وقد أشار عدد من المؤلفين إلى أن التقسيم الصارم للحياة الاجتماعية إلى مجالين “خاص” و “عام” يدين بالكثير لانتشار تأثير النظرية الاجتماعية التي ظهرت في القرن التاسع عشر (Coward 1983¸ Rosaldo 1980¸ Collier et al 1982). رأي منظرو القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أن التحولات في العلاقات بين الجنسين – التي تتمثل في تغير هيكل الأسرة – مؤشر دال على تطور تاريخ البشرية. إن فكرة إن تاريخ البشر يمكن فهمه بعبارة الصراع بين الجنسين، حيث استسلم “حق الأم” في النهاية مفسحًا الطريق “لحق الأب“، قد أكد بشدة على فهم مصطلح “الحقوق“. وقد اتضح أن حقوق النساء في المجتمعات التي تأخذ “بحق الأم” لم تكن لتقارن بحقوق الرجال في المجتمعات التي تأخذ “بحق الأب” (Coward 1983¸ 52- 56). لم يمكن العثور على أي مجتمع بدائي يستبعد فيه الرجال على نحو منتظم من الحقوق السياسية والسلطة، بالطريقة التي استبعدت بها النساء من هذه المجالات في المجتمعات الغربية في القرن التاسع عشر. إن مجرد النضال من أجل حق النساء في الاقتراع قد وضح أن الرجال يمكن أن يمثلوا النساء في المجال السياسي، لكن لم تظهر سابقة مثلت فيها النساء الرجال9 . وقد كان البيت مجال النساء, على عكس الرجال الذين كان عالم السياسة مجالهم. وقد أدى استبعاد النساء من التصويت إلى تعريفهن على أنهن منقوصات الحقوق السياسية، ومن ثم على أنهن منقوصات المواطنة، وتابعات للرجال. وقد سادت في تلك الأيام أيديولوجية تقول بأن الرجال عليهم أن يحكموا المجتمع، وعلى النساء أن يحكمن البيت (Coward 1983¸ 56) وهكذا، بنى المجتمع الغربي في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين فهمًا للحقوق السياسية قائمًا على أساس تقسيم الناس حسب الجنس. وكانت النتيجة نموذجًا للحياة الاجتماعية يفصل المجال “الخاص” عن المجال “العام“, ويعطي حقوقًا مختلفة للأفراد المعرفين /المعرفات حسب النوع في إطار هذين المجالين المنفصلين. وأدي تحديد هذه “الحقوق” المختلفة إلى مزيد من بناء فهم ثقافي ذي خصوصية لما يحب أن يكون عليه الرجال والنساء، سواء في البيت أو خارجه. وقد شكل هذا البناء أساسًا قامت عليه الأفكار التي تدور حول الأمومة، والأبوة، والعائلة، والبيت. وقد ثابرت هذه الأفكار على البقاء في المجتمع الغربي بعدة طرق متنوعة، وأثرت في الحفاظ على استمرار التقسيم الثنائي بين “الخاص” /”العام” كإطار تحليلي في علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية. ومن أحدى طرق كشف الطبيعة التعسفية والخصوصية الثقافية للتقسيم بين “الخاص” / “العام” فحص بعض الافتراضات المتعلقة بوظيفة الأمومة والعائلة التي تقوم عليها هذه الوظيفة. (انظري /انظر أيضًا Moore 1988¸ Chapter Five).
ومن أسباب قدرة التعارض بين “الخاص“/ “العام” على الادعاء بقوة بمصداقيته الأصيلة عبر الثقافات أنه يفترض مسبقًا أن الأم والطفل وحدة محددة الملامح وموجودة “بطبيعة الأمور” عمومًا في كل الكون. ومهما وجد من توسع ثقافي في أشكال الأسرة وأدوار النوعين من الرجال والنساء، فالنساء هن اللاتي يلدن الأطفال. وفكرة اعتبار وحدات الأم – الطفل اللبنات التي يبني منها المجتمع، كما عبرت عن ذلك روزالدو من بين آخرين وأخريات، امتدادًا للخلاف الفكري في الأنثروبولوجيا الاجتماعية حول الأصول التي نشأت منها العائلة والأشكال التي تتخذها.
وقد كتب مالينوفسكي عملاً مبكرًا عن السكان الأصليين لأستراليا، جلب فيه الاستقرار للخلافات التي شجرت حول ما إذا كانت كل المجتمعات مقدرًا لها أن تحوي عائلات (Malinowski 1913). ذهب مالينوفسكي إلى أن العائلة نظام عام في كل الكون لأنها لبت احتياجًا إنسانيًا عامًا لرعاية الأطفال والعناية بهم. وعرّف العائلة بأنها تتكون من: (۱) وحدة اجتماعية مترابطة يمكن تمييزها عن مثيلاتها من الوحدات الأخرى؛ (۲) موقع مادي (بيت) تمارس فيه وظائف رعاية الأطفال؛ (۳) مجموعة معينة من الروابط العاطفية (حب) بين أفراد الأسرة (Collier et al 1982).
هذا التعريف المكون من ثلاثة أجزاء للعائلة ملزم بدقة، لأنه متناغم جيدًا مع الأفكار الغربية عن أشكال العائلة ووظائفها، و“العائلة“، مثلها مثل أي وحدة مقارنة، تثير مشكلات تتعلق بالتمركز العِرقي، ومن الواضح أن السمات التي ذكرها مالينوفسكي للعائلة قد تأثرت بالأيديولوجية السائدة في القرن التاسع عشر من البيت بصفته ملجأ وفردوسًا للرعاية، منفصلاً عن تقلبات العالم العام (Thore 1982) . تُصَوَّر العائلة، والبيت، و“الخاص” في المجتمع الغربي على أنها وحدة واحدة تتحدد في مواجهة المجال “العام” الذي يشمل العمل (من وظائف ومشروعات) والسياسة, وبعبارة أخرى، يقع “الخاص” في مواجهة علاقات السوق الرأسمالية. تشمل علاقات السوق علاقات التنافس، والتفاوض، والتعاقد التي يراها المجتمع الغربي منفصلة عن علاقات الحميمية والرعاية ومعارضة لها، فعلاقات الحميمية والرعاية ترتبط بالعائلة والبيت (Rapp 1979¸ 510). هذه النظرة الخاصة للمجالين “الخاص” و“العام” للحياة الاجتماعية، وعلاقتهما ببعضهما البعض لا يمكن أن تعتبر نظرة عامة تشمل الكون بأسره، وسأعود في موقع لاحق من هذا الفصل للمشكلات النوعية التي يثيرها افتراض أن مفاهيم “الخاص” و” العام” يمكن تطبيقها على الثقافات الأخرى.
لقد كان تعريف مالينوفسكي للعائلة شديد التأثير في علم الأنثروبولوجيا. حقًا، إن عالمات (وعلماء) الأنثروبولوجيا اللاحقات (واللاحقين)- بما فيهم فورتس (Furtes 1969)، وفوكس (Fox 1967), وجوديناف (Goodenough 1970)، وجوف (Gugh 1959)، وسميث (Smith 1956) – قد طعنّ (وطعنوا) في فكرة مالينوفسكي عن عمومية وجود العائلة النووية في كل الكون. وعلي عكس ذلك، ذهبوا إلى أن الوحدة الأساسية للمجتمع ليست العائلة النووية المكونة من أب، وأم وأطفال، بل الوحدة المكونة من الأم والطفل، وهكذا، “تمثل … المرأة وأطفالها الذين تعولهم … جماعة العائلة النووية في المجتمعات البشرية” (Goodenough 1970¸ 18). لكن على الرغم من “إبعاد” الأب عن وحدة العائلة، فإن علم الأنثروبولوجيا المعاصر ما زال يحتفظ بالمفهوم الأساسي الذي أرساء مالينوفسكي للعائلة، والوحدات المكونة من الأم – الطفل تقدم الآن الإطار اللازم لرعاية الأطفال؛ كما تشكل وحدات مترابطة يمكن تمييزها عن مثيلاتها من الوحدات الأخرى، وتحتل موقعًا ماديًا معينًا، وتتشارك في روابط عاطفية عميقة من نوع معين. والأنثروبولوجيا المعاصرة إذ تفصل الأب عن وحدة الأم – الطفل قد أكدت الفرق بين الأمومة والأبوة، وعززت الفكرة القائلة بأن “الأم” هي علاقة القرابة التي تعبر أكثر من غيرها عن الحقيقة البيولوجية. والعلاقة بين الأم والطفل “طبيعية” بشكل خاص، بسبب الحقيقة التي لا مماراة فيها عن أن المرأة موضع الحديث قد ولدت الطفل. وتطرح دراسة بارنز (Barnes 1973) فكرة أن “الأبوة ليست وضعًا اجتماعيًا يثبت نفسه بنفسه، على عكس الأمومة. ويمضي في القول بأن الأبوة (“الوالد” genitor) وضع اجتماعي، على عكس الأمومة (“الوالدة” genetrix) التي تقررها عمليات طبيعية بشكل أوضح. وقضيته العامة فحواها أنه حيث إن “الوالد” وضع اجتماعي، والمجتمعات تتباين بشدة في الحقوق والواجبات والامتيازات والالتزامات التي قد تربطها بهذا الوضع، (Barnes 1973¸ 68)، فالأبوة تتباين بشدة عبر الثقافات، أما الأمومة فأكثر طبيعية، وأكثر عمومية في الكون بأسره، وأكثر ثباتًا.
مهما كانت الأفكار عن الأبوة أو الأمومة الجسديين، تنتهي كل الثقافات إلى إلحاق أهمية رمزية بكل من الأبوة والأمومة. وأنا أقترح أن الأبوة هي الرمز الأكثر تحررًا, القادر على أخذ نطاق أعرض من المعاني التي تعزوها إليه الثقافة، لأن الرابطة التي تربطه بعالم الطبيعة أضعف. (Barnes 1973¸ 71)
إن علاقات الطبيعة بالأبوة والأمومة مختلفة. (Burnes 1973¸ 72).
وفي علم الأنثروبولوجيا المعاصر، يتضح الميل للنظر إلى الأمهات وعملية الأمومة على أنها “طبيعية“، وهو ميل موروث مباشرة من رأي مالينوفسكي عن العائلة (Collier et al 1982¸ 28; Yanagisako 1979¸ 199). وفكرة عمومية وظيفة الأمهات ووحدات الأم – الطفل في الكون بأسره هي التي تحافظ على استمرارية سهولة فصل “الخاص” عن “العام“، وتشجع وجهة النظر التي ترى أن الوحدات “الخاصة” في كل مكان لها نفس الشكل والوظيفة، اللذين تمليهما الحقائق البيولوجية للإنجاب وضرورة صيانة الطفل (Yanagisako 1979¸ 189). والنقاد النسويات (والنسويون) المحدثات (والمحدثون) يتناولن بالنقد المباشر فكرة أن للأمهات والأمومة خواص ثابتة بذاتها، بل وبالأخص أن لها صبغة “طبيعية“، كما ينقدن المفاهيم التابعة لذلك عن العائلة والمجال الخاص.
إن الفكرة التي مفادها أن انفصال المجال “الخاص” عن الساحة “العامة” سمة عامة السائر المجتمعات البشرية لهي فكرة تستبعد على نحو فعّال إمكانية طرح أسئلة عن جوانب “الخاص” التي تبدو أشد طبيعية، وهي التي تبنى من خلال فكرة “الخاص” نفسها، تلك التي توضح: المفاهيم المتداخلة “للأم” و “دور الأمومة” (Harris 1981). إن مفهوم الأم ليس مجرد أحد معطيات عملية طبيعية (الحمل، والولادة، والإرضاع، والرعاية)، لكنه بنية ثقافية تقيمها مختلف المجتمعات وتتوسع فيها بطرق مختلفة. إنها ليست مجرد مسألة التنوع الثقافي في الطرق التي تقوم بها النساء بأداء دورهن كأمهات؛ فالأمهات في بعض المجتمعات دافئات، معطاءات للرعاية، متفرغات للأمومة، وهن في مجتمعات أخرى سلطويات، متباعدات، وغير متفرغات للأمومة (Drummond 1978¸ 31; Collier and Rosaldo 1981¸ 275- 276) والمسألة أيضًا تعني كيف يربط كل مجتمع من المجتمعات فئة “النساء” بما يعزى إلى الأمومة من صفات الخصوبة، والطبيعية، والحب الأموي، والرعاية، ومنح الحياة، والإنجاب. وتتضح الحاجة إلى فحص التداعيات التي تربط فكرة “المرأة” بفكرة “الأم“، خاصة لدى الكاتبات (والكتاب) الذين يأملون في الربط بين عمومية تدني منزلة النساء بدورهن الذي يبدو عموميًا كأمهات ومربيات للأطفال. في المجتمعات الغربية تتداخل فئتا “النساء” و“الأمهات” بطرق جوهرية وقاطعة 10. فالأفكار عن النساء والنظرات إليهن ترتبط بشدة بالأفكار عن الزواج، والعائلة، والبيت، والأطفال والعمل. ويبنى مفهوم “النساء” من خلال هذه الكوكبة من الآراء المختلفة، وبالتالي، تبني النساء كأفراد ذواتهن من خلال التعريفات التي أعطتها الثقافة لحالة كون الفرد امرأة، والتي تظهر بناء على ذلك، حتى لو تقدم هذا البناء عبر الصراع والتناقض. والنتيجة تعريف “المرأة” بعبارة تعتمد على مفهوم “الأم“، وعلى الأنشطة والتداعيات التي يجذبها هذا المفهوم لنفسه. وبالطبع، لا تُعرِّف الثقافات الأخرى “المرأة” على نفس النحو، ولا تقيم بالضرورة علاقة وثيقة بين “المرأة” والبيت أو المجال الخاص كما تفعل الثقافة الغربية.
إن الربط بين “المرأة” و “الأم” ليس رابطًا طبيعيًا بأي حال من الأحوال كما قد يبدو للوهلة الأولى. وربما تكون أفضل طريقة لإيضاح هذه الفكرة أن نناقش ما قد يبدو للعين الغربية بوصفه أكثر سمات دور الأمومة “طبيعية“، وهو تربية الأطفال وولادتهم.
إن تربية الأطفال من الأنشطة التي يفترض أنها تميز المجموعات التي تعيش في المجال المنزلي الخاص في جميع المجتمعات البشرية بأسرها (Goody 1972). وهذا على الرغم من النطاق العريض من التنوع الذي لوحظ في تكوين الجماعات التي تعيش في المجال المنزلي الخاص، وفي إيكال مهام تربية الأطفال لأفراد معينين. وتوضح كارول ستاك في كتابها الذي يتناول الأمريكيين الحضريين مدى تنوع تشكيل العائلة بين عائلات سكان الحضر من السود, وتقول إن 20% من الأطفال في دراستها قد تربوا في عائلة غير تلك التي تعيش فيها أمهم البيولوجية، رغم أن العائلة المعنية في معظم الحالات كانت على علاقة بعائلة الأم (Canol Stack 1974)، لكن الأمر لا يتعلق بمجرد الادعاء بأن الأمهات قد لا يكن الأفراد الوحيدات اللاتي يرعين الأطفال، بل يتعلق بالتأكيد على (1) أن الوحدات المنزلية الخاصة قد لا تبنى بالضرورة حول أمهات بيولوجيات لأطفالهن، و(٢) أن مفهوم “الأم” في أي مجتمع قد لا يبني من خلال الحب الأمومي، والرعاية اليومية للأطفال، والتقارب الجسدي. إن الحقائق البيولوجية للأمومة لا تنتج علاقة عامة أو غير متغيرة بين الأم والطفل، ولا وحدة مكونة من أم – طفل. ويمكن إيضاح هذه النقطة بالرجوع إلى المجتمع البريطاني، وإلى التغيرات في الأفكار عن الأمومة، والطفولة والحياة العائلية.
وقد وضح فيليب آريس (Philip Aries 1973) أن الطفولة كما نفهمها في الثقافة العربية اليوم ظاهرة حديثة.11 ففكرة وجود عالم الطفل منفصل عن عالم الراشدين، له أنشطته، وأغذيته، وله مواصفات للسلوك والملبس، أمر يخص فترات تاريخية معينة. وفكرة أن الأمهات كن دائمًا معزولات في البيت مع أطفالهن، ينظمن يومهن حول المهام الأولية لرعاية الأطفال، والعمل كموجهات أخلاقيات للمجتمع من خلال مسئوليتهن عن التنشئة الاجتماعية للصغار، ليست أمرًا يمكن تعميمه على جميع فترات الحياة الغربية، ناهيك عن سائر الثقافات الأخرى12. فقبل صدور قوانين تنظيم العمل في المصانع، كان النساء والأطفال أهمية في العمل وكسب العيش في بعض قطاعات المجتمع البريطاني (Olafson Hellerstein et al 1981¸ 44- 46; Walvin 1982). لكن عند الطرف الآخر من الطيف، في المجتمع الفيكتوري، كانت الحياة العائلية وحياة النساء مختلفة تمامًا عن ذلك. كانت نساء الطبقة المتوسطة والعليا مسئولات عن إدارة منازل أسرهن، ونادرًا ما عملن خارج المجال المنزلي الخاص. لكن استبعاد هؤلاء النسوة من العمل المأجور لا يعني بالضرورة أن الأمهات البيولوجيات كن مسئولات عن رعاية أطفالهن، والعناية اليومية بهم، وتربيتهم. فالكثير من عائلات الطبقتين المتوسطة والعليا كانت تعتمد على المربيات على نطاق واسع، لا للعناية بالأطفال الصغار فقط، بل لإدارة قسم كامل من بيت الأسرة اسمه “غرفة الأطفال“، وكان وجود ما يزيد عن ٢ مليون مربية أطفال مؤشرًا مهمًا يدل على وجودهن وتأثيرهن المهم على قيم وتصرفات الطبقة العليا البريطانية بأسرها وعلى قسم كبير من الطبقة الوسطى فيها من ١٨٥٠ إلى ١٩39 (أي على ثقافة هذه الطبقات) (Boon 1974¸ 138) .
وكما يلاحظ دراموند (Dramond 1978¸ 32)، فإن ظاهرة مربية الأطفال طريقة من شأنها أن تقدم فكرة “الأمومة” كفكرة مبنية اجتماعيًا. وقد أشار كل من بوون ودراموند إلى أن مربية الأطفال تمثل تآكلاً نظريًا للمفهوم العام عن العائلة القائمة على أسس بيولوجية وثقافية، والمبنية على أساس وحدة مكونة من الأم – الطفل. وينبه بوون إلى أن تقليد بديلة الأم يرجع إلى عدة قرون في إنجلترا قبل ظهور مربية الأطفال، من خلال مؤسسات مثل المرضعات، والتبني, ونظام الصبي المقيم لدى صاحب العمل. “ففي الطبقة العليا البريطانية بعد القرن الثامن عشر، كانت الوالدات يرضعن أطفالهن لفترة قصيرة، ثم تقوم مربيات الأطفال بباقي المهمة؛ وفي الطبقة الأرستقراطية البريطانية قبل القرن الثامن عشر، كانت المرضعات يرضعن الأطفال وتقوم الوالدات ببقية المهمة” (Boon 1974¸ 138)، ولم تكن الأمهات البريطانيات يعتبرن “أمهات سيئات” بسبب إيكال رعاية الأطفال إلى غيرهن على هذا النحو. لم يكن الموضوع أن الأمهات كن يتلقين مجرد مساعدة في العناية بالأطفال – وهي ظاهرة موثقة جيدًا في الكثير من المجتمعات في جميع أنحاء العالم – بل كان وجود مربية الأطفال في مركَّب الأم – الطفل ذا تأثير واضح في الطريقة التي يبنى بها مفهوم “الأم“. كما أثر وجودها أيضًا في العلاقة بين فئتين من معطيات الثقافة، ألا وهما فئتا “المرأة” و“الأم“.
فالحياة العائلية في الأسر الفيكتورية من الطبقة العليا لم تكن من النوع الذي يستدعيه إلى الذهن استخدام مصطلح “العائلة” اليوم. ويوضح بوون أن ظهور وحدات اجتماعية فرعية داخل المجال المنزلي الخاص يثير سؤالاً عما إذا كانت “عائلات” الطبقة العليا البريطانية وحدات بيوت أسرة أصلاً بالمعنى المعاصر الذي تفهم به الأسرة في القرن العشرين (Boon 1974¸ 319). ويستشهد بوون بدراسة كاثورن – هاردي عن وجود وحدات منفصلة تتكون منها الأسرة التي يضمها بيت واحد: “فالمطبخ مسئولية رئيسة (أو رئيس) الطهاة؛ ومدبرة المنزل مسئولة عن عموم أعمال بيت الأسرة، وملاءات السرير، إلخ؛ ورئيس الخدم مسئول عن غرفة المئونة، وغرفة الطعام؛ وغرفة الأطفال من مسئولية مربية الأطفال” (Cathorne -Hardy 1972¸ 191- 192).
إن وجود مربية الأطفال يشكك في اقتصار علاقة الحب على الأم – الطفل: “فكثير من الأطفال كانوا يحبون مربياتهم أكثر من حبهم لأمهاتهم، وكانوا على حق في هذا” (Cathorne -Hardy 1972¸ 235)؛ كما يشكك أيضًا في ترابط الوحدة المنزلية الخاصة القائمة على وحدة الأم – الطفل؛ و أخيرًا، تشكك في العلاقة المفردة بين الوحدات التي تتكون كل منها من أم – طفل ووجود موقع مادي محدد تقوم فيه الأم بأنشطة رعاية الأطفال، لأن غرفة الأطفال كثيرًا ما كانت منفصلة عن بقية بين الأسرة: “فقد يكون لها السلم الخاص المؤدي إليها، والباب الخاص بها الذي يؤدي لخارج المنزل، وقد تقع في جناح مستقل، أو ممر مستقل، أو طابق مستقل كثيرًا ما كان يفصله عن بقية بيت الأسرة باب كاتم للصوت، مكسو بالجوخ الأخضر السميك، المحلى بأزرار نحاسية، يمنع من في أحد القسمين من سماع ما يدور في القسم الآخر” (Catherne- Hardy 1972¸ 77) وباختصار، يشكك وجود مربية الأطفال في التعريف المكون من ثلاثة أجزاء العائلة الذي ذكرناه سلفًا. ولهذا يحاول بوون ودراموند الربط بين “ظاهرة مربية الأطفال” والقضايا الأوسع التي تثيرها دراسة القرابة في علم الأنثروبولوجيا. وبوون صارم بشكل خاص بهذا الشأن، إذ يقول:
هل كانت العائلة التي وصفها موردوك، والعائلة الموجودة الآن التي وصفها جوديناف، والمكونة من الأم – الأطفال حالات من التمحور حول عِرق أم حلم مستحيل … ؟ هل كان التعريف الوظيفي للعائلة أقل تمحورًا حول العِرق وأكثر رومانتيكية خالصة … ؟ يمكن للتعريفات الوظيفية غير الناضجة التعميمية – أولاً للعائلة النووية والآن للعائلة المتمحورة حول الأم – أن تؤدي إلى تحريف إدراكنا للعائلة عبر الحضارات من أكثر من وجه. لماذا الادعاء أصلاً بعمومية الوظيفية، بينما يكفي طرح المشكلة استدلاليًا؟ (Boon 1972¸ 139).
يمكننا عند هذه النقطة أن نحاج في أنه حتى لو لم تنفرد الأمهات دائمًا برعاية أطفالهن، وحتى لو لم يشغل موقعًا محددًا مشتركًا معهم، أو حتى لو لم يحببنهم، فمن المؤكد على الأقل أنهن قد ولدنهم. إن الحقائق البيولوجية للإنجاب لها صبغة “طبيعية” واضحة، وهي بلا مراء وضع عام في سائر الكون، وهذا يفسر انتشار الاتجاه لرؤية حياة النساء على أنها مرتبطة ارتباطًا لا فكاك منه بطبيعتهن الفسيولوجية: “البيولوجيا مصير“، لكن كما ذهبت إلى ذلك من قبل، فإن فئة “الأم” بناء ثقافي، مثلها مثل فئة “المرأة“. ويشرح دراموند هذه الفكرة جيدًا إذ يقول:
إن الأمومة أبعد ما تكون عن “أكثر الأمور طبيعية في العالم“، بل الأمومة في الحقيقة من أبعد الأمور عن الطبيعة … وبدلاً من الخوض في تأصل شيء بيولوجي – ثقافي عام في سائر الكون اسمه “الرابطة بين الأم والطفل“، لا بد من النظر إلى الحمل بالطفل، وحضانته ورعايته كأمر محير يضرب قلب الفهم الإنساني ويستدعي تأويلاً ثقافيًا عالى القدر, لا تأويلاً ناقصًا.(Dramond 1978¸ 31)
لا يقصد دراموند مجرد زيادة تقدير الدور الذي تلعبه العوامل الثقافية في تعريف وضع الأم، بل يقصد الإصرار على أن الثقافة تشكل إمكانيات الخبرة البشرية، بما في ذلك خبرة الولادة والأمومة. هذه الفكرة لا تقدر حق قدرها في الثقافة الغربية، على الرغم من أن مجتمعات أخرى تعلى من قدرها بلا شك. في بعض الثقافات تحظى عمليات منح الحياة، التي تشمل الحيض والحمل والولادة باهتمام المجتمع ككل، ولا يقتصر الاهتمام بها على النساء أو المجال “المنزلي الخاص” فقط. في هذه المجتمعات، يؤمن الرجال بأن لهم دورًا مهمًا في إعادة إنتاج المجتمع وفي عملية خلق الحياة. ومن ثم، لا تُعرَّف النساء في هذه المجتمعات عن طريق التأكيد التام على “قدراتهن” البيولوجية أو على تحكمهن في أهم مجالات الحياة – وأوضحها الإنجاب – التي يستبعد منها الرجال. وقد لوحظ أن نطاقًا عريضًا من مختلف المجتمعات لا تتوسع في مفهوم “المرأة” من خلال أفكار عن الأمومة، والخصوبة، والإنجاب.
أدت قراءة الكتابات التي تناولت السكان الأصليين لأستراليا، ومجتمعات الصيادين وجامعي الثمار وفلاحي البساتين الأمريكيين، والآسيويين والأفارقة إلى اكتشاف أن موضوعات الأمومة والتكاثر الجنسي أقل مركزية بكثير في تصورات هذه الشعوب عن “المرأة” عما افترضنا. وعلى عكس توقعاتنا بأن الأمومة توفر للنساء في كل مكان مصدرًا طبيعيًا للإشباع العاطفي والقيمة الثقافية، وجدنا أنه لا النساء ولا الرجال في المجتمعات شديدة البساطة يحتفين ويحتفون بالنساء كمانحات للرعاية أو بالقدرة الفريدة لهن على منح الحياة … فقد كانت المرأة الخصبة، والمرأة الأم ومصدر الحياة بأكملها غائبة بشكل ملحوظ من كل التفسيرات المتاحة (Collier and Rosaldo 1981¸ 275- 276)
ويمضي كوليير وروزالدو في ضرب أمثلة من جماعة الكونج من أهل البوشمان في كالاهاري, وجماعة المورنجين من السكان الأصليين لأستراليا، وجماعات الإيلونجوت من الفلبين. إن ضربهما لجميع أمثلتهما مما يسميانه “المجتمعات البسيطة” ليس بأمر ذي دلالة. فكثيرًا ما يذهب الدارسات (والدارسون) إلى أن مثل هذه المجتمعات تزيد فيها المساواة، وأن تحكم النساء في الموارد والعمل بقدر كبير يحسن من مكانتهن. وسأعود إلى هذه الفكرة في جزء لاحق من هذا الفصل، حين أتناول قضية المعارضة لفكرة عمومية تدني منزلة النساء. لكن لابد من أن نلحظ هنا وجود قدر من الشواهد من المجتمعات بسيطة القدر تدعم فكرة أنه يبدو أن مكانة النساء و“قيمتهن” الثقافية تتحسن حين لا يقتصر تعريفهن على دورهن كأمهات ومربيات للأطفال. لكن لا بد أن نعي أن هذا ليس نفس الشيء كقولنا إن مكانة النساء دالة لدورهن كأمهات ومربيات للأطفال. النساء في كل مكان يلدن الأطفال، لكن هذا يلقى درجات متباينة من الاعتراف الثقافي والتوسع. لا يمكن قراءة ما تعنيه “المرأة ثقافيًا قراءة مباشرة مما تفعله النساء في المجتمع.
في بعض المجتمعات، تنتظم مشاركة الرجال في الإنجاب وخلق الحياة حول اهتمام طقسي بالوظائف الفسيولوجية لجسد الأنثى، وهي ممارسة تعرف في علم الأنثروبولوجيا باسم تقاس الأب (couvades). ونفاس الأب مصطلح فضفاض، لكنه عادة ما يعني “التزام الزوج بمحرمات غذائية أثناء فترة ولادة زوجته ونفاسها، وبقيود على بعض التصرفات العادية له، بل وعزله في بعض الحالات أثناء هذه الفترة (Paige and Paige 1981¸ 189)، وقد تنوعت تفسيرات هذه الممارسة،13 واعتبرت أحيانًا بمثابة تأكيد اجتماعي للأبوة (Douglus 1968; Malinowski 1960 (1927) ¸ 214- 215)، لكن كتابًا آخرين اعتبروا أن هذه الممارسة بمثابة اعتراف بدور الزوج في الولادة، وأعتقد أن كلامهم يبدو معقولاً. وقد ورد أن موس (Mauss) قد فسر نفاس الأب بقوله “إن الولادة ليست حدثًا قليل الأهمية، ومن الطبيعي جدًا أن يتولاه الوالدان كلاهما” (Dumont quoted in Riviere 1974¸ 430)، وهذا القول قريب من حجة دراموند المذكورة سلفًا والمتعلقة “بالطبيعة” الاجتماعية للتكاثر البيولوجي، ومن حجة بياتريس بلاكوود ، التي درست ممارسات نفاس الأب لدى جماعة الكورتاتشي بمنطقة الباسيفيكي. فالزوج من جماعة الكورتاتشي يظل في عزلة أثناء ولادة زوجته ولمدة ستة أيام بعدها، ويلتزم بتحريم أطعمة معينة على نفسه، ويمنع عن القيام بالأعمال العادية لكسب عيش الكفاف (Beatrice Blackwood 1974¸ 150- 160) . وتفسر بلاكوود هذه الأنشطة بأنها اعتراف بدور الزوج في ميلاد الطفل (Paige and Paige 1981¸ 190).
ونفاس الزوج ليس إلا إحدى مجموعات الممارسات المرتبطة بمشاركة الذكر في الإنجاب. ودراسة أنَّا ميجز(Anna Meiges) عن جماعة الهوا في بابوا بغينيا الجديدة تقدم لنا مثالاً مختلفًا لاهتمام الذكور بالإنجاب، إذ لاحظت ما يلي في حالة جماعة الهوا: (۱) الذكور يحاكون الحيض، “وهو شيء يفترض أنهم يكرهونه في النساء“؛ و(۲) الذكور يعتقدون أن بإمكانهم الحمل.
من الصعب وصف حالة اعتقاد جماعة الهوا بحمل الرجال. فلو سألنا معظم الإخباريين “هل يمكن أن يحمل الذكر؟” لأجابوا “لا … لكن مناقشات الإخباريين للكثير من محظورات الطعام وما يتجنبونه في الجنس تتضمن هذا الاعتقاد. في هذه السياقات، يعترف الإخباريون صراحة بهذا الاعتقاد، بل إن بعضهم يدعون أنهم قد رأوا أجنة بعد إسقاطها من أجساد ذكور.(Anna Meiges 1976¸ 393).
تعزي ميجز ما يفعله الرجال من محاكاة الحيض بالفصد، والاعتقاد بحمل الذكور إلى رغبتهم في محاكاة القدرات الإنجابية للنساء. وإنه لسؤال مطلق ما إذا كانت هذه المعتقدات تشير إلى أن الرجال يشتهون القدرات الإنجابية للنساء، أو حتى أن الأمر كما ذهب إليه بيتلهايم (Bettelheim 1962¸ 109- 113) يتجلى فيه رغبة الرجال في الاعتراف بالنواحي الأنثوية في طبيعتهم. لكن المهم أن الفسيولوجيا تقدم إمكانات؛ لا تحتم زيادات تكميلية ثقافية.
ذهبت في القسم الأول إلى أن فئتي “المرأة” و “الرجل” مبنيتان اجتماعيًا، وأنه حتى الوظائف ذات الصبغة الطبيعية الأوضح، وهي “دور الأمومة“، نشاط محدد ثقافيًا. وقد أسهمت الباحثات (والباحثون) النسويات (والنسويون) بأن أوضحن الطابع المركب والمتنوع لهاتين الفئتين اللتين كانتا تأخذان كأمر مسلم به فيما سبق، وأكدن على إشكالية المجموعات التحليلية المتميزة، مثل الطبيعة – الثقافة، والخاص – العام، القائمة على تجانس هذه الفئات عبر الثقافات، وعلى أن فيها احتمال التحريف. لكن لا يسهل إجماع عالمات (وعلماء) الأنثروبولوجيا النسويات (والنسويون) فيما بينهم على هذه القضايا، ويأخذ مختلف العالمات (والعلماء) مواقف متباينة فيما يخص الفائدة العملية لأطر التحليل عبر الثقافية ومدى ملاءمتها. وسيزداد هذا اتضاحا في القسم التالي، حيث سألتفت إلى تناول الكاتبات (والكتاب) اللاتي (والذين) لا يرون أن تدني منزلة النساء أمر يعم الكون بأسره.
ومن المدهش أن العالمات (والعلماء) اللاتي (والذين) يصررن على أن تدني منزلة النساء ليس أمرًا عامًا في الكون بأسره يملن إلى تناول مشكلة العلاقات بين الجنسين من خلال الاهتمام بما يفعله الرجال والنساء، لا من خلال تحليل التقييمات الرمزية التي تعطى للنساء والرجال في أي مجتمع من المجتمعات. وهن (وهم) من ثم يهتممن (ويهتون) بالتفسير الاجتماعي للنوع أكثر من غيره من التفسيرات، أي يهتمون بالنوع باعتباره علاقة اجتماعية. وكما ذهبت في بداية هذا الفصل، فإن المداخل الرمزية والاجتماعية لدراسة النوع ليست متنافية، لكن الكثير من التحليلات ذات الاتجاه الاجتماعي كثيرًا ما يعتورها غياب أي تحليل مقبول للتقييمات والأيديولوجيات الثقافية. لكن التأكيد على ما يفعله النساء والرجال لا مفر من أن يثير تساؤلات حول تقسيم العمل على أساس الجنس، وحول ما يتعلق بذلك من تقسيم الحياة الاجتماعية إلى مجالين: “منزلي خاص” و “عام“، يضم الأول أنشطة النساء والثاني أنشطة الرجال.
إليانور ليكوك عالمة أنثروبولوجيا ماركسية نقدت الافتراض بعمومية تدني منزلة النساء في سائر الكون، وهي تراه افتراضًا منبثقًا أساسًا عن أسلوب تحليل لا تدعمه شواهد تاريخية (Eleanor Lencock 1978¸ 254) , ولا يأخذ في الاعتبار آثار الاستعمار ونهوض اقتصاد رأسمالي عالمي (Leacock 1972¸ 1978¸ 253- 255 ; Etienne and Leacock¸ 1980)، ويعاني من تحيز متمحور حول العِرق ومتحور حول الذكور (Leacock 1978¸ 247- 248; Etienne and Leacock). ولا تستثني ليكوك من هذا النقد بعض النصوص النسوية المبكرة، أبرزها كتاب إرنشتاین فريدل (Frnestine Friedl 1975) المعنون عن النساء والرجال، ومجموعة مقالات (Rosaldo and Lamphere 1974) عن النساء والثقافة والمجتمع.
ترفض ليكوك في كتاباتها حجتين قدمتهما كاتبات نسويات أخريات: (1) أن مكانة النساء ترتبط على نحو مباشر بوظائف الولادة وتربية الأطفال، و(٢) أن التمييز بين “المنزلي الخاص” / “العام” إطار ذو مصداقية عبر الثقافات يصلح لتحليل العلاقات التي يؤثر فيها نوع الأفراد. وقد استخدمت ليكوك مواد من مجتمعات الصيادين وجامعي الثمار، واتبعت خطى إنجلز (۱۹۷۲) في الذهاب إلى أن تدني منزلة النساء بالنسبة للرجال، ونشوء العائلة كوحدة اقتصادية مستقلة، والزواج الأحادي كلها أمور تتعلق بتطور ملكية وسائل الانتاج. وسأناقش علاقة حجة إنجلز بالأنثروبولوجيا النسوية في الفصل الثالث، لكن أهم ما يمكن ملاحظته فيما يتعلق بكتابات ليكوك حجتها القائلة بأنه في المجتمعات “السابقة على ظهور الطبقات” كانت النساء والرجال أفرادًا مستقلين بقرارهن وقرارهم، وكانت لأوضاعهن وأوضاعهم القيمة والهيبة نفسيهما. لقد كانت هذه الأوضاع مختلفة عن بعضها البعض، لكن هذا الاختلاف لم ينطو أبدًا على تدن أو سمو. وتتحدث ليكوك عن وضع النساء في مثل هذه المجتمعات فتقول:
[عند] أخذ نطاق القرارات التي تأخذها النساء في الاعتبار، يظهر دور النساء في الاستقلال باتخاذ القرار ودورهن العام. لم تكن النساء في وضع “المساويات” للرجال بالمعنى الحرفي للكلمة (وهذه نقطة أثارت الكثير من الخلط)، لكن كان وضعهن كما هن عليه: أفراد من الإناث، لهن حقوق، وعليهن واجبات ومسئوليات، تكمل حقوق الرجال وواجباتهم ومسئولياتهم، ولم تكن بأي حال من الأحوال حقوقًا وواجبات ومسئوليات ثانوية بالنسبة لنظيراتها لدى الرجال. (Leacock 1978¸ 252).
تقول حجة ليكوك أن الأمر – على عكس التفسيرات السابقة للإثنوغرافيين الذكور – أن النساء في كل المجتمعات يقدمن إسهامًا اقتصاديًا كبيرًا، وأن مكانة النساء – على عكس تأكيدات بعض الأنثروبولوجيين والأنثربولوجيات النسويات– لا تعتمد على دورهن كأمهات ولا على احتباسهن في المجال “المنزلي الخاص“، بل على ما إذا كن يتحكمن أولاً يتحكمن في (1) الحصول على الموارد، و(۲) ظروف عملهن و(۳) توزیع نواتج عملهن. وقد أورد عد من الباحثين والباحثات هذه الحجة ( مثل Brown 1970¸ Sanday 1974 and 1981¸ Chapter Six; Schlegel 1977). وتشير ليكوك في عرضها للوصف الإثنوغرافي لجماعة الإيروكيز الهندية إلى أن تقسيم الحياة الاجتماعية إلى مجالين منفصلين: “منزلي خاص” و “عام” أمر لا معنى له في المجتمعات المحلية الصغيرة, التي يجري فيها الإنتاج الأسري وإدارته في حياة “عامة“، واقتصادية وسياسية.
السيدات الكبيرات في جماعة الإيروكيز يحفظن القمح واللحم، والأسماك، ونباتات فصيلة التوت، والقرع والدهون، ويخزننها مدفونة في حفر خاصة أو في منازلهن الخشبية الطويلة، ويتحكمن في توزيعها … وقد أدى تحكم النساء في توزيع الأطعمة التي كن ينتجنها، وكذلك اللحوم، إلى اكتسابهن قوة بحكم الأمر الواقع تمكنهن من الاعتراض على قرارات إعلان الحرب والتدخل لإقرار السلام. وكانت النساء يحرسن أيضًا “الكنز العام للقبيلة” المحفوظ في البيت الخشبي الطويل [بيت العائلة الممتدة]، والخرز المصنوع من الأصداف الذي كانت القبيلة تستخدمه للزينة أو بمثابة النقود، وأشغال الريش، والفراء … وما ينبغي التأكيد عليه أن هذا كان “تدبيرًا منزليًا له نظام مختلف شديد الاختلاف عن تدبير أمور العائلة النووية أو الممتدة في المجتمعات الأبوية. ففي المجتمعات الأبوية، قد تداهن النساء الرجال, أو يتلاعبن بهم، أو يجافينهم كوسيلة للضغط من أجل الحصول على مطالبهن، لكنهن يفعلن ذلك دائمًا خلف الواجهة العامة؛ أما في مجتمع الإيروكيز، فقد كان “التدبير المنزلي” نفسه هو الاقتصاد “العام“. (Leacock 1978¸ 253).
وقد قدمت الدراسات حجة مماثلة فيما يتعلق بعدد من مجتمعات الصيادين وجامعي الثمار. فقد سجلت دراسة فيليس كابيري التي أجريت في ثلاثينيات القرن العشرين وضع الاستقلال باتخاذ القرار الذي تتمتع به نساء السكان الأصليين لأستراليا، وعدم تدني منزلتهن تجاه الرجال. وقد أرجعت دراسة كابيري وضع النساء إلى أهمية إسهامهن الاقتصادي وتحكمهن فيه (Phyllis Kaberry 1939¸ 142- 143)، وإلى مشاركتهن في طقوس النساء، التي كانت لها قيمة كبيرة لدى كل من الرجال والنساء (Phyllis Kaherry 1939¸ 277)، وقد ذكرت دايان بيل في تقريرها الإثنوغرافي الحديث عن نساء السكان الأصليين نقاطًا تقارن بتلك النقاط، تلاحظ فيها أن عالمي الرجال والنساء مستقلان إلى حد بعيد عن بعضهما البعض من حيث الأمور الاقتصادية والطقوس (Diune Bell 1983¸ 23) . ونتيجة لذلك، تتساوى أسس القوة لكل من الرجال والنساء، وإن كانت تقوم على خصوصية كل نوع منهما على حدة. وتتردد أصداء كتابات ليكوك في كتابات بيل حين تذهب إلى أن الانفصال والاختلاف لا يعني بالضرورة الانطواء على دونية أو تدن. لكن التقرير الإثنوغرافي الذي يصف السكان الأصليين فيه الكثير من الإشارات إلى العلاقات بين الذكور والإناث يصعب تركيبها مع هذه الصورة عن التكامل القائم على الاستقلال باتخاذ القرار، خاصة التقارير التي تتناول عنف الذكور نحو النساء. ويبدو أن كلا من دراسات بيل (Bell 1980¸ 1983) وليكوك تعزي هذه الأحداث إلى التغيرات التي طرأت على العلاقة بين الجنسين نتيجة لزيادة الاحتكاك “بالرجل الأبيض“، ومؤسسة التحفظات، والدمج في الاقتصاد الأسترالي الأوسع.
ومن الأفكار التي صارت موثقة جيدًا وتحظى بقبول واسع الآن حدوث تحولات في العلاقات بين الجنسين في كثير من أنحاء العالم تحت الوقع المتتالي للاستعمار, و“التغريب” والرأسمالية العالمية. فقد لاحظت عدة دراسات أن التنمية والعمل المأجور يزيدان من اعتماد النساء على الرجال بتقويض النسق التقليدية التي كان فيها النساء قدر من التحكم في الإنتاج والإنجاب (انظري/ انظر: Moore 1988¸ Chapters 3 and 4).14 وتستطيع ليكوك أن توضح في دراستها عن هنود المونتاجنيز، وهم صيادون يعيشون في شبه جزيرة لابرادور، أن العلاقات بين الجنسين قد تغيرت بقدر معتبر تحت وقع تجارة الفراء، وتأثيرات أوروبية أخرى، تشمل إرساليات المبشرين الجيزويت، وأن من عواقب ذلك تقويض مكانة النساء السابقة المبنية على استقلالهن باتخاذ القرار(Leacock 1972¸ 1982).
وكارين ساكس عالمة أنثروبولوجيا ماركسية أخرى تتبنى قضية تفترض فيها أن تدلي منزلة النساء أمر عام في الكون بأسره. وقد كتبت سكس مقالاً مبكرًا (Caren Sacks 1974) حاولت فيه تعديل فكرة إنجلز القائلة بأن تدني منزلة النساء قد بدأ مع ظهور الملكية الخاصة، بأن ذهبت إلى وجود “الكثير الجم من البيانات التي توضح أن النساء لسن متساويات تمامًا مع الرجال في معظم المجتمعات غير الطبقية التي لا تعرف الملكية الخاصة” (Sacks 1974¸ 213) . لكن رغم هذا التأكيد، تتفق ساكس عمومًا مع موقف إنجلز بسبب (1) أنه يقدم تفسيرًا للأوضاع التي تصير النساء الواقعات تحتها في منزلة أدنى من منزلة الرجال، و(٢) أنه يدعم البيانات الإثنوغرافية والتاريخية التي جمعت منذ نشر کتاب إنجلز الذي يوضح أن “الوضع الاجتماعي للنساء لم يكن دائمًا وفي كل مكان أو في معظم نواحيه في منزلة متدنية بالنسبة لمنزلة الرجال” (Saks 1974¸ 207). ومقال ساكس مفيد لأنه لا يفترض تساوي مكانة النساء مع الرجال واستقلالهن باتخاذ القرار في المجتمعات “ما قبل الطبقية“، كما يبدو أن ليكوك تفعل، وهو من ثم يسمح بإمكانية فحص التنوع في وضع النساء في تلك المجتمعات.
وقد وضعت ساكس في دراسة حديثة لها موضوعها “أخوات وزوجات“(Sacks 1979) إطارًا لفحص التنوع في مكانة النساء عبر الثقافات. تبدأ ساكس كتابها بترديد نقد سابق (Saks 1976) عن أن الطرق التي كان الباحثات (والباحثون) الأنثروبولوجيات (والأنثروبولوجيون) يميلون إليها لوضع افتراضاتهم عن وجود تقسيم للعمل على أساس الجنس في المجتمعات غير الطبقية تفترض ضمنًا بالضرورة عدم المساواة في العلاقات بين الذكور والإناث. وتمضي في نقد دراسات النسويات وغير النسويات على حد سواء لافتراضها مسبقًا أن تدني منزلة النساء تتعلق بأدوارهن كأمهات. تذهب ساكس إلى أن هذا الافتراض المسبق فيه تمحور حول العِرق، من حيث كونها تلصق مفاهيم عربية عن العائلة والعلاقات الاجتماعية – الجنسية بثقافات أخرى. وتمضي ساكس لتقترح إطارًا لتحليل وضع النساء على أساس أخذ اختلاف علاقات النساء بوسائل الإنتاج في الاعتبار. تحدد ساكس أسلوبين من أساليب الإنتاج في المجتمعات غير الطبقية: أسلوب مشاعي وأسلوب مشاركة الأقارب. في النوع الأول، كل الناس، سواء كانوا رجالاً أم نساء “لهم نفس العلاقة بوسائل الإنتاج، ومن ثم يتساوون مع بعضهم البعض بصفتهم وصفتهن أفرادًا في مجتمع من “الملاك“(Sacks 1979¸ 113). وفي النوع الثاني، تتحكم جماعات ذوي القربي تحكمًا جماعيًا في وسائل الإنتاج، وتتباين مكانة النساء وفقًا لما إذا كن يُعَرَّفن في المقام الأول كـ ( أ ) أخوات؛ وفي هذه الحالة يعتبرن عضوات في جماعة الأقرباء التي تتحكم في وسائل الإنتاج، أو (ب) زوجات؛ يستمددن حقوقهن من الزواج من داخل جماعة الأقرباء المتحكمة في وسائل الإنتاج لا من خلال علاقتهن بجماعة أقربائهن (اللاتي ولدن بين ظهرانيهم).
والفكرة في حجة ساكس هي أنه حيث تكون النساء قادرات على ممارسة حقوقهن كأخوات تتحسن مكانتهن مقارنة بالمجتمعات التي تحدد فيها حقوق النساء في نطاق أضيق باعتبارها حقوق للزوجة. وهذه المسألة لا تثار في أسلوب الإنتاج المشاعي، فوفقًا لقول ماكس، لا يوجد في هذه المجتمعات فروق واضحة بين الحقوق المختلفة للأخوات أو الزوجات.
لقد أدهشني التباين بين الأخت والزوجة في عدد من المجتمعات الإفريقية التي يتعاون فيها الأقارب على الإنتاج، سواء كانت من المجتمعات السابقة على ظهور الطبقات أو اللاحقة لظهورها، مثل مجتمعات لافدو, ومبوندو، وإيجبو. وقد تأثرت أيضًا بطمس العلاقة بالزوجة للعلاقة بالأخت في المجتمعات الطبقية، كما في مجتمع البوجاندا. كما أني لم أر لا زوجات ولا أخوات بوضوح في الجماعات التي تنتقل بحثًا عن الكلأ، كما هو الحال لدى المبوتي. ولكلمة الزوجة والأخت معان مماثلة تنطوي على تباين من حيث الدلالة على علاقات المرأة بوسائل الإنتاج، وبغيرها من الراشدين والراشدات، وبالقوة، وبطبيعتها وحياتها الجنسية. ولا أعتقد أني انتهكت البيانات كثيرًا بتفسيري للأخت في أوضاع مشاركة الأقارب المنحدرين عن الأب على محمل أنها المرأة المالكة، ذات القدرة على اتخاذ القرار بين الآخرين من المجموعة، وأنها شخص تتحكم في نوازعها وحياتها الجنسية. والزوجة – على عكس ذلك – متدنية المنزلة بشكل يقرب كثيرًا مما أكده إنجلز عن العائلة القائمة على الملكية الخاصة. (Sacks 1979¸ 110)
ويبدو أن دراسة ساكس تقوم على افتراض مؤداء أنه لو كان للرجال والنساء نفس فرص الحصول على وسائل الإنتاج لوجدت بالضرورة مساواة جنسية.
وتقدم دراسة بيرتون (Burton 1985¸ 23- 30) نقدًا مقنعًا لعدد من كتابات ساكس، يقوم على تحليل مقال سابق لها (Sacks 1976)، لكن له أيضًا علاقة بنقد كتاب “أخوات وزوجات“. وتوجد نقطتان لهما أهمية خاصة هنا: تتعلق الأولى باستخدام التعارض الثنائي بين المنزلي الخاص /العام والثانية بمشكلة أيديولوجيات النوع وعلاقتها بالأحوال الاقتصادية. يقوم استخدام ساكس للتمييز بين الأخت / الزوجة على أساس فرض ضمني مؤداه أن حقوق وأنشطة إحداهما يمكن تمييزها بسهولة عن حقوق وأنشطة الأخرى. قد يكون هذا الافتراض غير مبرر في سياق المجتمعات التي يفترض أن العائلات لم تصر فيها وحدات اقتصادية مستقلة بعد. بعبارة أخرى، قد يستحيل التفرقة بين مجال “منزلي خاص” محدد للنساء فيه حقوق بصفتهن زوجات وبين مجال “عام” أو مشترك محدد للنساء فيه حقوق بصفتهن أخوات. وقد وضعت ساكس في دراسة أخرى (Sacks 1976) الضعف التحليلي الذي يشوب تقسيم “المنزلي الخاص” و“العام” الي مجالين متعارضين في المجتمعات غير الطبقية، لكن لا يبدو أنها تربط إدراكها لهذا بتمييزها هي شخصيًا بين الأخوات والزوجات. 15
يتعلق النقد الثاني بقضية الأيديولوجيات الثقافية. أعتقد أن معظم الباحثات النسويات قد يتفقن الآن على أن التقييمات الثقافية للنساء والرجال في المجتمع تنشأ من شيء يتجاوز مجرد مواضعهن ومواضعهم فيما يتعلق بالإنجاب. من السمات المعترف بها للصور التمثيلية للنوع أنها “نادرًا ما يتجلى فيها بدقة العلاقات بين الذكور والإناث، وأنشطة الرجال والنساء، وإسهامات الرجال والنساء في أي مجتمع بعينه” (Ortner and Whitehead 1981a¸ 10). وقد أدرك علم الأنثروبولوجيا النسوية هذا مبكرًا، وأنتج كمية كبيرة من الكتابات التي وضحت بشكل قاطع أنه على الرغم من تصوير هذه الصور التمثيلية للرجال كأصحاب السيادة في الكثير من المجتمعات، فقد امتلكت النساء فعلاً كمًا لا بأس به من القوة واستخدمنها بمهارة. 16 لم تكن النقطة المقلقة في هذا البحث أنه أوضح كيف أن علم الأنثروبولوجيا كفرع علمي قد أهمل وجوهًا مهمة من حياة النساء وخبراتهن فحسب، بل إنه أنتج أيضًا تفسيرات المجتمعات كانت النساء فيها متدنيات المنزلة بالنسبة للرجال، بينما لم يكن كذلك في الحقيقة فيما يخص قدرتهن على الفِعل، والتعبير، واتخاذ القرار في عالم التعاملات وكسب العيش في الحياة اليومية، وهذا الوضع يشار إليه أحيانًا باسم “خرافة سيادة الذكر” (Rogers 1975)، وهو جزء من الخلاف الذي ناقشناه في الفصل الأول والذي يتعلق بإمكانية وجود نموذجين منفصلين للعالم: “ذكوري” و“أنثوي“. والمشكلة التي تقدمها بشأن دراسة ساكس أننا لو فكرنا في النساء باعتبارهن في منزلة أدنى من الرجال، بينما هن يمتلكن بالفعل درجات معينة من الاستقلال الاقتصادي والسياسي، لكان من الصعب أن نرى كيف يمكن استشفاف مكانة المرأة في أي مجتمع مباشرة من موقع النساء في علاقات الإنتاج.
إن التمثيل الثقافي للجنسين له تأثير واضح على تقرير مكانة النساء ووضعهن في المجتمع، وإذا مُثِّلت النساء في صورة كائنات متدنيات المنزلة بينما من يمتلكن في نفس الوقت قوة اقتصادية وسياسية لا يستهان بها، لكان هذا سمة من سمات الحياة الاجتماعية التي تتطلب تفسيرًا. ويبدو أن ساكس لا تتناول قضية أيديولوجيات النوع على أي نحو نظامي، ولم تبذل إلا القليل من المحاولات لتفسير السبب في أن التقييمات الثقافية للنساء والرجال كثيرًا ما تفشل في أن يتجلى فيها حصولهن وحصولهم على الموارد والتحكم فيها.
المزج بين الرمزي والاجتماعي17
حاول عدد من الباحثات (والباحثين) النسويات (والنسويين) المزج بين مداخل رمزية واجتماعية لدراسة النوع، بسبب إدراكهن لأن الأفكار عن النساء والرجال إما أنها مستقلة تمامًا عن علاقات الإنتاج الاقتصادية أو مستمدة منها على نحو غير مباشر. ينشئ سقال جان كوليير وميشيل روزالدو عن “السياسات والنوع في المجتمعات البسيطة” (Collier and Rosaldo 1981) نموذجًا لتحليل أنساق النوع في المجتمعات ذات الاقتصاد البسيط، وهو نموذج يمكن مقارنته على نحو عام بالأسلوب “المشاعي في الإنتاج” الذي قالت به ساكس. يذهب مقال كوليير وروزالدر إلى أنه يستحيل فهم العمليات الإنتاجية والسياسية بمعزل عما لدى الناس من تصورات ذهنية ثقافية لهذه العمليات، وأن أي تحليل لا بد أن يركز على ما يفعله الناس وعلى أوجه الفهم الثقافية التي تقوم عليها أفعالهم (Collier and Rosaldo 1981¸ 276) . وهدفهما تقديم طريقة ما للربط بين الأفكار الثقافية عن النوع والعلاقات الاجتماعية الفعلية التي يعيش فيها الأفراد المصطبغين بصبغة النوع، ويفكرون، ويتصرفون.
يركز مقال كوليير وروزالدو على المجتمعات التي يخدم فيها العريس أهل العروس لفترة كجزء من مهرها، وهي مجتمعات يقيم فيها أزواج البنات علاقات طويلة المدى مع والدي زوجاتهم من خلال تقديم هدايا من العمل والأطعمة. وحجتهما أن هذه الهدايا – التي تسبق الزواج وتستمر بعده – تخلق مجموعات من الواجبات والعلاقات الاجتماعية متميزة تمامًا عن نظيراتها في المجتمعات التي يدفع فيها العريس أو أقاربه مهرًا لأقارب العروس قبل الزواج، حيث يعطي زوج الابنة سلعًا لأقارب زوجته في وقت عقد الزواج مقابل حقوق عمل زوجته، وعلاقته الجنسية بها، وذريتها. يلمح المؤلفان هنا إلى أن تحليل النوع في المجتمعات ذات الاقتصاد البسيط لا بد أن يقوم على كيفية حدوث الزواج في هذه الجماعات. ويذهبان إلى أن الباحثين والباحثات في علم الأنثروبولوجيا قد أدركوا منذ زمن بعيد أن القرابة والزواج ينظمان علاقات الإنتاج وبنية الحقوق والواجبات في المجتمعات غير الطبقية. ونتيجة لذلك، لابد أن يقدم تنظيم الزواج والعلاقات التي تبني حوله مفاتيح لفهم تنظيم علاقات الإنتاج القائمة على النوع.
الناس “يكونون” عائلات” عند الزواج، لكنهم يتعاقدون أيضًا على قروض، ويغيرون محل إقامتهم، ويثيرون عداوات, ويقيمون روابط تعاونية. إن تصنيف المجتمعات غير الطبقية من حيث تنظيم الزواج قد يبدو إذن خطوة أولى مهمة لتحليل النوع. إن اختلاف طرق “عقد الزواج” لدى الشعوب القبائلية يرجح أن هذه الطرق تتطابق مع الفوارق المهمة في التنظيم الاقتصادي والسياسي من جهة، ومع التنوعات البارزة في طرق الإعراب عن النوع من جهة أخرى. (Collier and Rosaldo 1981¸ 278)
وهذا الموقف – أساسًا – تطوير لحجة سابقة قالت بها جانيت سیسكیند (janet Siskind 1973, 1978) وجایل روبین (Gayle Robin 1975) مفادها أن القرابة والزواج محددات قوية لطريقة بناء الأفكار حول النوع. وهنا يتجاوز مقال كوليير وروزالدو الحجة التي وضعتها ساكس. فبدلاً من النظر إلى بنى النوع كانعكاسات مباشرة للعلاقات الاجتماعية أو علاقات الإنتاج، يفسر أن هذه البنى على أنها “تصريحات ذات صبغة طقسية شديدة” تتوسع في تناول ما يدركه الرجال والنساء كأفراد کاهتمامات سياسية بارزة على وجه الخصوص. فالزواج في المجتمعات التي يخدم فيها العريس أهل عروسه قبل وبعد الزواج علاقة سياسية إلى حد بعيد، لأنه الوسيلة الأولية التي ينشئ الرجال والنساء من خلالها علاقات بأفراد آخرين. وهي أيضًا الآلية التي تنشأ من خلالها علاقات الإنتاج، والحقوق والواجبات. وهكذا، يذهب كوليير وروزالدو إلى أن علاقات النوع تتلقى تأكيدًا رمزيًا لأنها الساحة الاجتماعية التي يجري فيها تمكين الأفراد من المطالبة بحقوق سياسية وبدء استراتيجيات شخصية. وتبنى التصورات الذهنية الثقافية عن النوع من خلال تباري الرجال والنساء في مطالبة بعضهم البعض بحقوق، في سياق مجموعة معينة من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية.
ويمكن مقارنة هذه الحجة عمومًا بحجة أتيت أنا بها فيما يتعلق بالبحث الذي أجريته على شعب الماراكويت في كينيا (Moore 1986). في مناقشتي للعلاقات بين الجنسين أوضحت أن جماعة الماراكويت تعتمد على اختلاف الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للرجال والنساء في المجتمع، وتستخدم هذه الفوارق كآلية لتوليد الرمز. فالأفكار الثقافية حول اختلاف خواص واتجاهات وسلوكيات النساء عن نظيراتها لدى الرجال تتولد وتعبر عن نفسها من خلال الصراعات والتوترات التي تنشأ بين زوجين قرينين بشأن الادعاء في الحق بالأرض، والحيوانات وغير ذلك من الموارد وسبل الحصول عليها (Moore 1986¸ 46- 71) . والأفكار الثقافية عن النوع لا تتجلى فيها مباشرة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للنساء والرجال، رغم أنها تنشأ حقًا في سياق هذه الظروف. يرجع هذا إلى أن الصور النمطية للنوع تنشأ وتستخدم في ظل الاستراتيجيات التي يوظفها الأفراد من الجنسين لتحقيق مصالحهم ومصالحهن في مختلف السياقات الاجتماعية. ولنأخذ مثلاً عبارة كثيرًا ما ترد على شفاه رجال جماعة الماراكويت: “النساء كالأطفال، يتكلمن قبل أن يفكرن“. وفي مجتمع يعلق أهمية كبيرة على الأقدمية التي يجلبها التقدم في السن وزيادة الخبرة، من الواضح أن هذه العبارة لا علاقة لها بما اذا كانت النساء شبيهات بالأطفال فعلاً أم لا. بل إن الأمر لا يعدو صورة نمطية للنوع لها قوة كبيرة، لم تتأثر كثيرًا بحقيقة أن الرجال يمكنهم أن يذكروا عددًا من النساء القويات وذوات التأثير بين معارفهم. وهي كصورة نمطية تتعلق بالتأكيد بأن النساء في هذا المجتمع الذي يعتمد الانحدار عن سلسال الأب قاصرات قانونيًا فيما يتعلق بمجالات حياة معينة، لكن لا بد من تفسير قوة هذه الصورة النمطية وانتشارها من حيث استخدامها الاستراتيجي في سياق الحياة اليومية الذي يجري فيه التعامل بين النساء والرجال. وتستمد هذه الصورة النمطية قوتها – جزئيًا – من اتساع نطاق تطبيقها: فهي تميز دوافع المرأة كفرد في حالة الصراعات الزوجية، كما تشير إلى صفة تعزى للنساء كمجموعة متميزة عن الرجال. لكن رغم ذلك، يعرف النساء والرجال كلاهما أن هذا النوع من الصور النمطية متناقض مع الخبرة الحياتية، وأنها لا علاقة لها بجوهر واستمرار قوتهم وقوتهن البلاغية والمادية. إن مثل هذه العبارات لا تقتصر على تقديم أسباب استراتيجية لضرورة استبعاد النساء من أنشطة معينة, بل تضمن أيضًا استبعادهن في الكثير من الحالات. إن قوة الصور النمطية للنوع ليست في الذهن فقط، لأن لها واقع مادي فعلي، يساعد على تعزيز الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تنشأ فيها هذه الصورة النمطية وتستخدم.
شهد علم الأنثروبولوجيا ككل في السنوات الأخيرة عودة للاتجاه نحو النظريات المتعلقة بالمفكرين من الفاعلين الاجتماعيين والاستراتيجيات التي يستخدمونها في حياتهم اليومية، ويعد هذا التحول النظري – جزئيًا – رد فعل على تأثير البنيوية في علم الأنثروبولوجيا، وهو يضع تأكيدًا خاصًا على النماذج التي يرى الفاعلون أن العالم يسير عليها، وعلى كيف تؤثر في الفعل الاجتماعي، بدلاً من التركيز على نماذج المحللين أو الأنثروبولوجيين. وقد وجدت الأنثروبولوجيات النسويات أن هذا الأمر ملهم بشكل خاص، بسبب الدور المركزي الذي يعطيه التحليل النسوي بجميع أشكاله لخبرة النساء الفعلية (انظر /انظري: Strathern 1987b ; Coehane et al. 1982; Register 1980; Rapp 1979) 18 يشمل هذا التأكيد على الخبرات بالضرورة بعض الاعتبارات المتعلقة “بالذات التي تمر بالخبرة” أو “الشخص“.
إن تقصي البحث في البناء الثقافي للذات أو الشخص، من خلال تحليل هوية النوع الخاص بالفرد، مجال لا يفتأ علم الأنثروبولجيا النسوي يقدم إسهامات مهمة وجوهرية للتطور النظري فيه. إن تحليل النساء كأشخاص يعود بنا لا محالة إلى المناظرات حول التقسيم بين “المنزلي الخاص / العام“، وإلى قضايا تتعلق بالقوة، والاستقلال باتخاذ القرار، والحجية. تذهب إليزابيث فیثورن (Elizabeth Faithorn 1976) بقوة في مقال سابق لها بعنوان “النساء بوصفهن أشخاصًا” إلى مساندة تحليل العلاقات بين الذكور والإناث التي ترى أن النساء أفراد لهن قوة بموجب حقهن الخاص في ذلك. وكما لاحظنا، فقد كانت إعادة تقييم أنشطة النساء سمة بارزة في “الأنثروبولوجيا من أجل النساء” في نهايات سبعينيات القرن العشرين، لكنه كان ذا أهمية خاصة في التقارير الإنثوغرافية عن أهل مالينيزيا، حيث صحبها تأكيد خاص على النساء بوصفهن أفرادًا أشخاصًا. ونحن ندين بكثير من الفضل للتحليل الشهير الذي قدمته آنيت واينر (Annette Weiner) عن نساء جماعة التروبرياند، والذي أظهر أهمية النظر إلى النساء بوصفهن أفرادًا. “فسواء حظيت نساء هذا المجتمع بتقدير قيمتهن على الصعيد العام أو عزلن في المجال الخاص، وسواء كن يتحكم في السياسة، وفي قدر من السلع الاقتصادية، أو لا يملكن التحكم إلا في الرقي السحرية، فإنهن لا يعملن في هذا المجتمع بوصفهن أشياء مفعول بها، بل بوصفهن أفرادًا لديهن قدر معين من التحكم” (Weiner 1976¸ 228). تقوم حجة وينار على أن بعض الأنشطة الثقافية المعينة مجال للنساء، وأن النساء يمارسن قدرًا معتبرًا من القوة في هذا المجال، وهكذا ينشئن لأنفسهن ساحة للعمل الاجتماعي تبين قيمتهن في مجتمع التروبرياند.
أما دراسة داريل فيل (Daryl Feil) فقد حللت العلاقات بين الجنسين بين جماعة الإنجا, وتؤكد بشكل مماثل على النساء بوصفهن أشخاصًا: “النساء في غينيا الجديدة “أشخاص” ، مهما كانت الفكرة التي يحملها هذا اللفظ ومهما ظهرن على هذا النحو في الكتابات السابقة أم لم يظهرن” (Feil 1978¸ 268). لكن موقف دراسة فيل يختلف بعض الشيء عن موقف دراسة واينر في نقطتين، فهي تذهب أولاً إلى أن معاملة النساء بوصفهن أشخاصًا تستلزم إيضاح أنهن يشاركن في أمور الحياة الاجتماعية – السياسية التي تقدم عادة على أنها مجال الرجال، بينما تقول دراسة فاينار إن للنساء قوة في مجال يخصهن على نحو خاص، على الرغم من أنهن مساويات في القيمة للرجال. وثانيًا، تقول دراسة فيل إن قوة النساء تقع في مجال أمور الحياة اليومية، بينما تؤكد دراسة فاينار القوة الثقافية للإشارات الرمزية لحالة الأنوثة، التي تظهر بشكل مبالغ فيه في الأنشطة والأشياء التي تخص الأنثى نوعيًا (انظري /انظر : Strathern 1984a). والقضية المركزية هنا قصية قديمة، وهي أننا لو أردنا أن ترى النساء كراشدات اجتماعيًا بالفعل بما لهن من حق خاص، فهل يكفي أن نقول إنهن يملكن القوة في تلك المجالات من الحياة الاجتماعية التي كثيرًا ما قدمت على أنها المجال العام. السياسي الذي يخص الرجال؟ إن هذه القضية أساسًا قلب للخلاف الذي يدور حول المنزلي / الخاص العام رأسًا على عقب، من حيث كونها تستخدم التمييز بين المنزلي الخاص/ العام كوسيلة لإنشاء المشكلة التي تسعى لحلها.
لقد أشارت مارلين ستراثيرن إلى عدد من السقطات المحتملة فيما يخص إعادة تقييم النساء بوصفهن أشخاصًا أو أفرادًا ذوات قوة، وهو أمر نحتاجه كثيرًا، لكنه أمر محفوف بالحرج في بعض الأحيان. وتسعى كتاباتها عن مفاهيم النوع، والهوية والذات لدى الجماعة الهاجين التي تسكن بابوا بمرتفعات غينيا الجديدة (Strathern 1980¸ 1981b¸ 1984a) إلى إرساء أرضية يقوم عليها تحليلها لتلك المفاهيم، بينما تقدم عرضًا نقديًا للكثير من الافتراضات الإنثوغرافية الغربية التي يمكن أن تشكل خلفية الأطر التحليلية. إن تصورات “الفرد” أو “الشخص تتباين بين الثقافات بقدر ما يتباين مفهومي “المرأة” و“الرجل“. وتوضح ستراثيرن أن مطالبة الباحثات والباحثين في علم الأنثروبولوجيا بضرورة معاملة النساء بوصفهن أفرادًا أو أشخاصًا بما لهن من حق تكمن خلفها قوة تفوق المعتاد. لكن صياغتنا لمثل هذا المطلب تنطوي على خطر وضعنا في موضع من يكتفي باللجوء إلى الافتراضات الغربية عن طبيعة حالة الشخصية والعلاقة بين الأفراد والمجتمع: “يمكننا أن نتحدث بحرص عن أفكار جماعة الهاجين عن فكرة الشخص، بمعنى تحليلي، بفرض أننا لا نضخم من بناء أفكارهم بفكرة “الفرد” الأيديولوجية لدى الثقافة الغربية، إذ أنه من الأفضل النظر إلى هذه الفكرة الأيديولوجية الغربية كنمط ثقافي معين (للشخص) لا كفئة تحليلية جلية في ذات نفسها” (Strathern 1981b¸ 168) .
إن مفهوم الفرد في الفكر الغربي عبارة عن كوكبة شديدة الخصوصية من الأفكار، تجمع بين نظريات الاستقلال باتخاذ القرار، والفِعل، والقيمة الأخلاقية، مع رأي خاص عن الطريقة التي يكوِّن بها الأفراد المجتمع ويقفون بعيدًا عنه في نفس الوقت. ولأن مفهوم “الفرد” أو “الشخص” يشمل أفكارًا عن الفعل، والاختيار، والتصرف الأخلاقي، فمن الواضح على ما يبدو أنه يشمل بالضرورة مشكلات التوقعات. بعبارة أخرى، فإن وجهات النظر عن التصرف الاجتماعي الملائم للفرد دائمًا ما تصطدم بطريقة تقدير الناس لدوافع الآخرين، وسلوكياتهم، وقيمتهم الاجتماعية. وافتراض أن الأفكار الغربية عن “الفرد” أو “الشخص” الفاعل تلائم السياقات الأخرى يعني تجاهل مختلف الآليات والتوقعات الثقافية التي تسير من خلالها عملية التقييم تلك.
والفكرة الثانية التي تطرحها ستراثيرن فيما يتعلق بتحليلنا للمفهوم الغربي عن الفرد المستقل باتخاذ قراره تتضمن تقسيمًا للحياة الاجتماعية بين المجالين “المنزلي الخاص” و “العام“. توضح ستراثيرن أن النساء في الثقافة الغربية قد يفهمهن المجتمع على أنهن لا يرقين إلى مرتبة الأشخاص، بسبب ارتباطهن بما هو طبيعي، بالأطفال، وبالمجال “المنزلي الخاص“، أكثر من ارتباطهن بالثقافة و“بالعالم الاجتماعي للشئون العامة” التي ترى عادة كمجال للرجال (Strathern 1984 a¸ 17). وعلى غرار ما تذهب إليه ستراثيرن، فهذه هي بالضبط المعايير التي تستخدمها أورتنر لتفسير تدني منزلة النساء في عموم الكون على هذا النحو، وهي بذلك معرضة لنفس أوجه النقد الشبيهة بتلك التي وجهت من قبل لما كتبته أورتنر سابقًا (انظر/ انظري عاليه). تؤكد ستراثيرن أن إلصاق تدني المنزلة بطبيعة الانشغال بالأعمال المنزلية الخاصة أو منشأ غربي, ووفقًا للحجج التي طرحت بالفعل، يجب عدم الخلط بينه وبين بعض خواص المجال “المنزلي الخاص” أ والنساء السارية بين الثقافات. ومن الواضح أن جماعة الهاجين قد ربطت ربطًا رمزيًا واجتماعيًا بين “الأنوثة” و“الاختصاص بالمجال المنزلي الخاص” ، لكن الأمر ما وضحته ستراثيرن، إذ لا يمكن تفسير هذه الارتباطات بالتمييزات الغربية بين الطبيعة /الثقافة والخاص /العام (Strather 1980; 1984a 17- 18). ولكي نتمكن من تقديم نساء جماعة الهاجين، لا يلزم أن نعيد تقديم “المنزلي الخاص” أو أن نوضح أن هؤلاء النساء نشطات في المجال “العام” ، إذ أن ربط المجال “المنزلي الخاص” بشيء يحط من القدر أو اعتباره أقل مرتبة من المجال الاجتماعي ليس من سمات تفكير أهل جماعة الهاجين.
لكن في النظرية الاجتماعية لدي جماعة الهاجين، لا يلزم أن تعتمد هوية النساء كأشخاص على إثبات أنهن قويات في مجال خلقنه بأنفسهن، ولا في قدرتهن على التحرر من القيود المنزلية الخاصة التي أنشأها الرجال .. ترتبط الأنوثة بالمجال المنزلي الخاص من خلال الرمز والعادات، وهذا الارتباط بالمنزل والخاص قد يمثل بدوره رمزًا لمصالح تتعارض مع المصالح العامة والجمعية للرجال. لكن نساء جماعة الهاجين لا تخيم عليهن فكرة أنهن يمكن أن يكن أقل قدرًا على نحو ما من الإنسان الكامل، وهو أمر يحط من قدر الشخص إلى حد بعيد في نسقنا الاجتماعي (Strathern 1984a¸ 18).
إن الفارق بين الذكر والأنثى في فكر جماعة الهاجين له قيمة مجازية، وهو يستخدم للتنظيم أوجه التباين أو الفوارق الأخرى، مثل المنزلي الخاص / العام، والحثالة /أصحاب الهبية، والمصالح الفردية / الصالح العام، وهي مصطلحات للتعبير عن قدر القيمة الاجتماعية (Strathern 1981b¸ 169- 170). لكن أوجه التباين تلك فوارق أخلاقية مميزة تنطبق على الرجال، كما تنطبق على النساء, ونساء جماعة الهاجين لا يربطن على الدوام أو برباط لا فكاك منه بقطبهن السالب.
إن ما تعبر عنه هذه التباينات ليست مجرد “مشكلة نساء” بل “مشكلة ناس” (Strathern 1981b¸ 170). وتؤكد ستراثيرن أن تصرفات الإناث كأفراد مستقلة إلى حد ما عن القيم والارتباطات التي تضفى على مفهوم “كون الفرد أنثى” في ثقافة جماعة الهاجين (Stratern 1981b¸ 168¸ 184¸ 1984a¸ 23). 19 فالنساء، كالرجال، يمكن التفكير فيهن على أنهن يتصرفن لأجل الصالح العام للمجتمع أو يتبعن مصالحهن الفردية؛ ويمكن اعتبارهن أفرادًا ذوات هيبة أو من الحثالة (Strathern 1981b¸ 181- 182). “فالمرأة كفرد في جماعة الهاجين لا تتوحد تمامًا مع الصور النمطية لجنسها. وحين تستخدم جماعة الهاجين النوع لإنشاء قيم أخرى … فإنها تفصل ما بين الخصائص الموضوعة للذكورة والأنوثة وبين الرجال والنساء الفعليين والفعليات. فالشخص من أي من الجنسين يمكن أن يتصرف وتتصرف بطريقة ذكورية أو أنثوية” (Strathern 1981b¸ 178). ونساء جماعة الهاجين يرتبطن ارتباطًا وثيقًا بالمجال المنزلي الخاص، لكن فهم ما يعنيه هذا الارتباط بالضبط موضوع مطروح للتحليل. فالرغبة في إعادة القيمة إلى النساء “بما يحق لهن كأشخاص” من شأنها أن تتقوض إذا تحولت إلى ما يزيد قليلاً عن انعكاس للاهتمامات الثقافية الغربية. والإسهام الذي قدمته كتابات ماريلين ستراثيرن هو تذكرتنا بأن بني النوع ترتبط بمفاهيم الذات، والشخصية، والاستقلال باتخاذ القرار. وأي تحليل لهذه المفاهيم يتضمن بالضرورة بعض اعتبارات الاختيار، والاستراتيجية، والقيمة الأخلاقية والقيم الاجتماعية في ارتباط كل ذلك بتصرفات الفاعلين الاجتماعيين الأفراد. وهذه هي مجالات التحليلات الاجتماعية التي يمكن التعرف فيها بوضوح على أوجه الارتباط بين النواحي الرمزية أو الثقافية للحياة الاجتماعية والظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يعيش الناس في ظلها، وفحص هذه الأوجه. وهذا هو المجال الذي يمكن فيه أن تستمر دراسة النوع في تقديم إسهام مهم لتطوير النظرية الأنثروبولوجية.
* Henrietta L Moore “Gender and Status: Explaining the Position of Women” in Feminism and Anthropology, ed Henrietta Moore (Univ. of Minnesota Press¸ 1988¸) pp. 12- 42.
1 للإطلاع على تفاصيل هذه الحجة انظري/ انظر: Coward¸ 1983;Rosaldo,1980: 401- 9; Fee¸ 1974; Rogers¸ 1978: 125- 7
2 نشر هنري، مين (Hery Maine) في عام ١٨٦١ كتابه عن “القانون القديم“، الذي ناقش فيه التنوع التاريخي للهياكل القانونية، مع تركيز خاص على مختلف أشكال علاقات الملكية. وقد استخدم مين دراسته للقانون المقارن لوضع نظرية عن العائلة الأبوية. وقد أدى به اهتمامه بالملكية، والإرث والحقوق إلى أن يعتبر العائلة الخلية الأساسية، لا للقانون القديم فقط، بل للمجتمع عمومًا. رأی مين أن العائلة – تحت حكم الأب وسلطته – في المبدأ الأول الذي ينظم المجتمع. وسرعان ما تعرضت نظرية أولوية العائلة الأبوية إلى هجوم شنه مجموعة من العلماء، الذين نشروا جميعًا كتبًا في الوقت نفسه تقريبًا الذي نشر فيه مين كتابه، ادعوا فيها أن العائلة الأبوية قد نشأت عن شكل أسبق من التنظيم الاجتماعي الذي ساده “حق الأم” (Bachofen 1861; Mclennan 1865; Morgan 1877) وقد أدى الزخم الذي أعطى قوة دفع لهذه الادعاءات جزئيًا من أنشطة الاستعمار الكولونيالي الأوروبي الذي كان ينتج شواهد على وجود أشكال من العائلة غير الأبوية (Meek 1976). كانت هذه النصوص موالية لنظرية التطور، من حيث سعيها للبحث عن أصول منشأ الأشكال الاجتماعية وتاريخها. قال باشوفين إن الصراع بين الجنسين من السمات المميزة لتطور المجتمع، حيث يفسح “حق الأم” في النهاية الطريق أمام “حق الأب“. وقد كانت الأولوية التي أعطيت للتحولات في أشكال الممارسات الجنسية وممارسات الزواج من معالم كتابات ماکلینان ومورجان (Goody 1976¸ 1- 8; Schneider and Gough 1961) . وقد طرح منظرو القرن التاسع عشر هؤلاء أسئلة عن علاقة العائلة بالتنظيم السياسي للمجتمع، والتغيرات في العلاقات الجنسية وعلاقات الزواج، والأسس التي تقوم عليها هياكل القرابة بأنواعها، والمناقشات التي تتعلق بمفاهيم لها علاقات ببعضها البعض، مثل مفاهيم “زنا المحارم” ، و“القوة” ، و“الملكية الخاصة“، و“العداوة الجنسية“، و“النسب“، وهي أسئلة أسست معايير قياس الخلاف الذي ظل قائمًا حول هذه الموضوعات في الأنثروبولوجيا المعاصرة، وإن كانت قد تحولت في نفسها إلى أسئلة يطرحها هذا العلم. والفكرة التي تتخلل هذا الخلاف وتوحده هي: ما الوظائف الاجتماعية لمختلف أشكال التحكم في العلاقة الجنسية؟ لقد افترضت الصياغة النظرية للجنس بعبارة “العلاقات الجنسية” وجود تقسيم مطلق بين الجنسين، من جهة، لأن التكاثر الجنسي اشتمل على اتحاد جنسين مختلفين ببعضهما البعض. ومن جهة أخرى، لأن وجود تقسيم العمل على أساس الجنس كان يعزى إلى وجود جماعتي مصالح تختلفان عن بعضهما البعض، تتكون إحداها من النساء والأخرى من الرجال (Coward 1983). هاتان الفكرتان لهما علاقة بعضهما البعض، حيث إن تقسيم العمل بين الجنسين كان يعتبر مستمدًا في النهاية من الأدوار المختلفة الرجال والنساء في التكاثر الجنسي. وقد أبرزت النظريات الاجتماعية لنهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين مكانة النساء (وضعهن في المجتمع) من خلال التركيز على تغيير العلاقات الجنسية وهيكل العائلة في سياق تطور المجتمع. وقد تفرع عن الخلاف حول “موقع النساء” اهتمامات أقرب بكثير إلى البيت مع ظهور الحركة النسوية القرن التاسع عشر وازدهار الخطاب عن الطبيعة الجنسية في المجتمع الغربي (مثل الكتابات التالية:Foucault 1978; Heath 1982; Weeks 1981¸ 1985) .
3 للاطلاع على تفسيرات لمختلف المواقف النظرية وتقسيمها إلى أنواع انظري/ انظر:
(Barrett 1980; Eisenstein1984; Elhatain 1981; Glennon 1979)
وللإطلاع على مناقشة العلاقة بين النسوية والأنثروبولوجيا انظر/ انظري الفصل الأول من كتاب: Moore¸ Feminism and Anthropology
4 للإطلاع على عروض المواقف في الأنثروبولوجيا النسوية انظري/ انظر:
Rapp(1979) ¸ Schcper- Hughes(1983) ¸ Rosaldo (1980) ¸ Atkinsan(1982) ¸ Lamphere (1977) and Quinn (1977).
5 انظر / انظري دوجلاس (Douglas 1966).
6 لكن الكثير من التحليلات التي قدمت في الفترة الأخيرة، خاصة عن المجتمعات المحلية في جزر وسط وجنوب المحيط الهادي، قد طعنت في الربط بين الحيض/ الولادة / الطبيعة والدنس، وتذهب دراسة كیسینج (Keeing) إلى أن نساء جماعة الكوايو يعتبرت أجسادهن موضعًا لنظام مقدس، فهي خطرة, لكنها ليست قذرة ولا دنسة (كيسنج، 1985)، للإطلاع على نقد مواز للبيانات المأخوذة من الجماعات البولينيزية انظري /انظر توماس (Thomas 1987)، ورالستون (Rulston 1988).
7 للإطلاع على نقاش عن كيف لا تعتبر صور النساء طيبة لدى كل قطاعات المجتمع أو لدى الدوائر التي يدور فيها الخطاب الثقافي انظر /انظري: Atkinson 1982¸ 248; MacCormack 1980¸ 17- 18; Strathern 1981a)
8 يرجع عدد من الباحثين والباحثات أصول نشأة التمييز بين الطبيعة /الثقافة في الأنثروبولوجيا إلى ليفي – شتراوس، الذي يعترف بأنه مدين لروسو (Russeau)، ومن ثم لما يتضمنه هذا من وجهة النظر الخاصة القائلة بأن الثقافة تعلو على الطبيعة. انظر/ انظري:
Lévi- Strauss 1969¸ 1969; MacCormack 1980; Bloch and Bloch 1980.
9 تقاطعت، بالطبع مع قضايا الحق في التصويت الفوارق الطبقية بالإضافة إلى الفوارق بين الجنسين، لأن من حرموا من حق التصويت لم يكن النساء فقط، بل هرم معهن أيضًا رجال الطبقة العاملة.
10 للاطلاع على تحليل للطرق التي ربطت بها الأفكار عن الأنوثة وإعادة الإنتاج /الإنجاب بعضهما البعض في المجتمع الغربي انظري / انظر: Oakley 1979¸ 613- 6
11 تختلف وجهة نظر ليندا بولوك (Linda Pollock 1983) عن وجهة نظر آريس (Aries)، وهي تذهب إلى أنه من الممكن تتبع مرحلة أو فئة مميزة من الطفولة وإرجاع نشأتها إلى مرحلة من مراحل التاريخ البريطاني أقدم بكثير من تلك التي أشارت إليها آريس. وهذا مجال تثور فيه خلافات شرسة ويكثر فيه صدور المطبوعات الجديدة ، لكن هذا لا يغير من الفكرة العامة المتعلقة بالتنوع التاريخي والثقافي للأفكار عن الأمومة، والطفولة والحياة العائلية.
12 للإطلاع على تطور هذه الحجة انظري /انظر : Greer 1984¸ 2- 5.
وللاطلاع على تاريخ العائلة من منظور نسوي وثبت بأهم المراجع انظر/ انظري: Shanely 1979.
13 للإطلاع على ملخص لهذا انظري/ انظر : Paige and Paige 1981¸ 34- 41¸ Riviere 1974¸ 424- 7
14 للإطلاع على أمثلة نشرت في فترة مبكرة انظر / انظري: Brian 1976¸ Boscrup 1970¸ Bossen 1975¸ Remy 1975¸ Tinker and Bramsen 1976¸ Dey 1981¸ Rogers 1980.
وانظري /انظر أيضًا الفصل الرابع من كتابي (Moore¸ Feminism and Anthropology) للإطلاع على المناقشات التامة لهذه الحجة، وفيه أيضًا أكثر من نقد لمختلف المواقف النسوية.
15 لكن للإطلاع على وجهة نظر مختلفة تؤيد هذا الوجه من أوجه حجة ساكس انظر/ انظري Roberts 1981
16 للاطلاع على أمثلة مبكرة من هذه الكتابات انظري/ انظر:
Friedl 1975¸ Wolf 1972¸ Sanday 1974¸ Lamphere 1974¸ Nelson 1974¸ Rogers 1975.
17 للإطلاع على مناقشات عن التطورات الجديدة في المحاولات للمزج بين المدخلين الرمزي والاجتماعي لدراسة النوع انظر/ انظري:
Atkinson 1982¸ 240- 9¸ Ortner and Whitehead 1981b.
18 للإطلاع على عرض التطورات النظرية في الأنثروبولوجيا انظري /انظر: Ortner 1984.
وللإطلاع على مناقشة الأمور المتوازية في التنظير المعاصر والنسوي لمفهوم “الخبرة” انظر/ انظري Strathern 1987a
19 تقدم دراسة بيرساك (Biersack 1984) فكرة مقارنة من جماعة البايلا، وتصر على أن ما تفعله النساء کأفراد منفصل إلى حد ما عن الصور النمطية الثقافية لجنس الأنثى، رغم أن الخلاصة التي تخرج بها من تحليلها تختلف عن رأي ستراثيرن.
Ardener, Edwin 1975 “Belief and the problem of Women”. In S. Ardener (ed.) , Perceiving Women, 1-17 . London: Dent.
Aries, P. 1973 Centuries of Childhood. Harmondsworth: Penguin.
Barnes, J. A 1973 “Genetrix: Genitor: Nature: Culture?”. In J. Goody (ed.), The Charcter of Kinship. 61-73. Cambridge: Cambridge University Press.
Bell, Diane 1980 “ Desert Politics: Choices in the Marriage Market: In M. Etienne an I Leacock (eds, Women and Colonization, 239-69. New York: Praeger.
Bell, Diane 1983 Daughters of the Dreaming. Melbourne: MCPhee Gribble.
Bettelheim, Bruno 1962 Symbolic Wounds: Puberty Rites and the Envious Male. London:
Thames & Hudson.
Blackwood, B. 1934 Both Sides of Baka Passage. Oxford: Clarendon Press.
Boon, J. 1974 “Anthropology and Nannies”. Man, 9: 137-40.
Brown, Judith 1970 “A Note on the Division of Labour by Sex”. American Anthropologist,
72 (5): 1073-8.
Burton, Clare 1985 Subordination: Feminism and Social Theory. Sydney: George Allen &
Unwin.
Collier, J et al. 1982 “Is There a Family? New Anthropological Views”. In B. Thorne and
M. Yalom (eds), Rethinking the Family: Some Feminist Questions, 25-39. New York:
Longman.
Collier, Jane and Rosaldo, Michelle 1981 “Politics and Gender in Simple Societies”. In S.
Ortner and H. Whitehead (eds), Sexual Meanings, 275-329. Cambridge: Cambridge
University Press.
Coward, Rosalind 1983 Patriarchal Precedents. London: Routledge & Kegan Paul.
Douglas, Mary 1968 “The Relevance of Tribal Studies”. Journal of Psychosomatic
Research, 12: 21-8.
Drummond, L. 1978 “The Transatlantic Nanny: Notes on a Comparative Semiotics of the
Family in English-Speaking Societies”. American Ethnologist, 5 (1): 30-43.
Etienne, Mona and Leacock, Eleanor 1980 Women and Colonization. New York: Praeger.
Faithorn, Elizabeth 1976 “Women as Persons: Aspects of Female Life and Male-Female
Relationships among the Kafe”. In P. Brown and G. Buchbinder (eds), Man and Woman in
the New Guinea Highlands. Washington, DC: American Anthropological Association,
Special Publication, No. 8.
Feil, D. K. 1978 “Women and Men in the Enga Tee”. American Ethnologist, 5 (2): 263-79.
Fortes, Meyer 1969 Kinship and the Social Order. Chicago: Aldine.
Fox, R. 1967 Kinship and Marriage. London: Penguin.
Friedl, Ernestine 1975 Women and Men: An Anthropologist’s View. New York: Holt,
Rinehart & Winston.
Gathorne-Hardy, J. 1972 The Rise and Fall of the British Nanny. London: Hodder &
Stoughton.
Gillison, Gillian 1980 “Images of Nature in Gimi Thought”. In C. MacCormack and M.
Strathern (eds), Nature, Culture and Gender, 143-73. Cambridge: Cambridge University
Press.
Goodale, Jane 1980 “Gender, Sexuality and Marriage: a Kaulong Model of Nature and
Culture”. In C. MacCormack and M. Strathern (eds), Nature, Culture and Gender, 119-42.
Cambridge: Cambridge University Press.
Goodenough, W. H. 1970 Description and Comparison in Cultural Anthropology. Chicago:
Aldine.
Goody, Jack 1972 “The Evolution of the Family”. In P. Laslett and R. Wall (eds),
Household and Family in Past Time, 103-24. Cambridge: Cambridge University Press.
Goody, Jack 1977 The Domestication of the Savage Mind. Cambridge: Cambridge
Press.
Gough, Kathleen 1959 “The Nayars and the Definition of Marriage”. Journal of the Royal
Anthropological Institute, 89 (2): 23-34.
Harris, Olivia 1981 “Households as Natural Units”. In K. Young et al. (eds), Of Marriage
and the Market, 49-68. London: CSE Books.
Kaberry, Phyllis 1939 Aboriginal Woman: Sacred and Profane. London: Routledge &
Kegan Paul,
Keohane, Nannerl, Rosaldo, Michelle and Gelpi, Barbara (eds), 1982 Feminist Theory: A
Critique of Ideology. Brighton: Harvester Press.
Leacock, Eleanor 1972 Introduction to F. Engels, The Origin of the Family, Private
Property and the State. New York: International Publishers.
Leacock, Eleanor 1978 “Women’s Status in Egalitarian Society: Implications for Social
Evolution”. Current Anthropology, 19(2): 247-75.
MacCormack, Carol 1980 “Nature, Culture and Gender: a Critique”. In C. MacCormack and
M. Strathern (eds), Nature, Culture and Gender, 1-24. Cambridge: Cambridge University
Press.
MacCormack, Carol and Strathern, Marilyn (eds), Nature, Culture and Gender. Cambridge:
Cambridge University Press.
Malinowski 1960 (1927) Sex and Repression in Savage Society. London: Routledge &
Kegan Paul.
Malinowski, B. 1913 The Family among the Australian Aborigines. London: London
University Press.
Mathieu, Nicole-Claude 1978 “Man-culture and Woman-nature?” Women’s Studies, 1: 55-
65.
Meigs, Anna 1976 “Male Pregnancy and the Reduction of Sexual Opposition in a New
Guinea Highlands Society”. Ethnology, 15: 393-407.
Moore, Henrietta 1988 “Feminism and Anthropology: The Story of a Relationship”.
Feminism and Anthropology. University of Minnesota Press.
Moore, Henrietta 1988 “The Changing Nature of Women’s Lives: Kinship, Labour and
Household”. Feminism and Anthropology. University of Minnesota Press.
Moore, Henrietta 1988 “Understanding Women’s Work: Kinship, Labour and Household”.
Feminism and Anthropology. University of Minnesota Press.
Moore, Henrietta 1988 “Women and the State”. Feminism and Anthropology. University of
Minnesota Press.
Moore, Henrietta L. 1986 Space, Text and Gender: An Anthropological Study of the
Marakwet of Kenya. Cambridge: Cambridge University Press.
Olafson Hellerstein, E., Hume, L. Parker and Offen, K 1981 Victorian Women. Brighton:
Harvester Press.
Ortner, Sherry 1974 “Is Female to Male as Nature is to Culture?” In M. Rosaldo and L.
Lamphere (eds), Woman, Culture and Society, 67-88. Stanford: Stanford University Press.
Ortner, Sherry and Whitehead, Harriet 1981 Sexual Meanings: The Cultural Construction of
Gender and Sexuality. Cambridge: Cambridge University Press.
Paige, K. E. and Paige, J. M. 1981 The Politics of Reproductive Ritual. Berkeley: University
of California Press.
Rapp, Rayna 1979 “Anthropology: a Review Essay”. Signs, 4 (3): 497-513.
Register, Cheri 1980 “Literary Criticism: Review Essay”. Signs, 6: 268-82.
Reiter, Rayna Rapp 1975 Introduction to R. Reiter (ed.), Toward an Anthropology of
Women, 11-19. New York: Monthly Review Press.
Reviere, P. G. 1974 “The Couvade: a Problem Reborn”. Man, 9: 423-35.
Rogers, Susan Carol 1975 “Female Forms of Power and the Myth of Male Dominance:
Model of Female/Male Interaction in Peasant Society”. American Ethnologist, 2: 727-57.
Rogers, Susan Carol 1978 “Women’s Place: a Critical Review of Anthropological Theory”.
Comparative Studies in Society and History, 20: 123-62.
Rosaldo, Michelle Z. 1974 “Woman, Culture and Society: a Theoretical Overview”. In M.
Rosaldo and L. Lamphere (eds), Women, Culture and Society, 17-42. Stanford: Stanford
University Press.
Rosaldo, Michelle Z. 1980 “The Use and Abuse of Anthropology: Reflections on Feminism
and Cross-cultural Understanding”. Signs, 5 (3): 389-417.
Rosaldo, Michelle Z. and Lamphere, Louise 1974 Women, Culture and Society, 17-42.
Stanford: Stanford University Press.
Rubin, Gayla 1975 ‘The Traffic in Women: Notes on the “Political Economy” of Sex’. In R.
Reiter (ed.), Toward An Anthropology of Women, 157-210. New York: Monthly Review
Press.
Sacks, Karen 1974 “Engels Revisited: Women, the Organization of Production, and Private
Property”. In M. Rosaldo and L. Lamphere (eds), Woman, Culture and Society, 207-22.
Stanford: Stanford University Press.
Sacks, Karen 1976 “State Bias and Women’s Status”. American Anthropologist, 78 (3): 565-
9.
Sacks, Karen 1979 Sisters and Wives: The Past and Future of Sexual Equality. Westport,
Conn.: Greenwood Press.
Sanday, Peggy 1974 “Female Status in the Public Domain”. In M. Rosaldo and L. Lamphere
(eds), Women, Culture and Society, 189-206. Stanford: Stanford University Press.
Sanday, Peggy 1981 Female Power and Male Dominance: On the Origins of Sexual
Inequality. Cambridge: Cambridge University Press.
Schlegel, Alice (ed.) 1977 Sexual Stratification: A Cross-Cultural View. New York:
Columbia University Press.
Siskind, Janet 1973 To Hunt in the Morning. London: Oxford University.
Siskind, Janet 1978 “Kinship and Mode of Production”. American Anthropologist, 80 (4):
860-72.
Smith, Raymond T. 1956 The Negro Family in British Guiana. Routledge & Kegan Paul.
Stack, Carol 1974 All Our Kin: Strategies for Survival in a Black Community. New York:
Harper & Row.
Strathern, Marilyn 1980 “No Nature, No Culture: the Hagen Case”. In C. MacCormack and
M. Strathern (eds), Nature, Culture and Gender, 174-222. Cambridge: Cambridge
University Press.
Strathern, Marilyn 1981 “Self-Interest and the Social Good: Some Implications of Hagen
Gender Imagery”. In S. Ortner and H. Whitehead (eds), Sexual Meanings, 166-91.
Cambridge: Cambridge University Press.
Strathern, Marilyn 1984a “Domesticity and the Denigration of Women”. In D. O’Brien and
S. Tiffany (eds), Rethinking Women’s Roles: Perspectives from the Pacific, 13-31.
Berkeley: University of California Press.
Strathern, Marilyn 1984b “Subject or Object? Women and the Circulation of Valuables in
Highlands New Guinea”. In R. Hirschon (ed.), Women and Property, Women as Property,
158-75. London: Croom Helm.
Strathern, Marilyn 1987 “Out of Context: the Persuasive Fictions of Anthropology”. Current
Anthropology, 28 (3): 1-77.
Thorne, B. 1982 “Feminist Rethinking of the Family: an Overview”. In B. Thorne and M.
Yalom (eds), Rethinking the Family: Some Feminist Questions, 1-24. New York:
Longman.
Tilly, Louise 1981 “Paths of Proletarianization: Organization of Production, Sexual Division
of Labor, and Women’s Collective Action”. Signs, 7 (2): 400-17.
Walvin, J. 1982 A Child’s World: A Social History of English Childhood 1800-1914.
Harmondsworth: Penguin.
Weiner, Annette 1976 Women of Value, Men of Renown. Austin: University of Texas Press.
Yanagisako, Sylvia Junko 1979 “Family and Household: the Analysis of Domestic Groups”.
Annual Review of Anthropology, 8: 161-205.