الاستعمار الكولونيالي والقومية والنساء المُستَّعمَرات

تاريخ النشر:

2015

اعداد بواسطة:

الاستعمار الكولونيالي والقومية والنساء المُستَّعمَرات:

التنافس في الهند *

بارثا تشاترجي 1

مسألة المرأة في التقاليد

تصور حالة الظروف السياسية للهند فيما قبل الفتح البريطاني على أنها كانت حالة من الفوضى, وغياب القانون، والاستبداد المتعسف، وبغض النظر عن ذلك، فقد كان من العناصر المركزية لحكم الاستعمار البريطاني توجيه النقد إلى العادات الاجتماعية البالية والبربريةللشعب الهندي، التي تفرضها تقاليدهم الدينية، أو هكذا كان الاعتقاد السائد عنها. من ثم، واكب مشروع إرساء الاستعمار إجراءات منظمة وقانونية وعقلانية الحكم الرشيد ونظرته إلى نفسه على أنه يحمل أيضًا رسالة إدخال المدنيةإلى الهند. والنقاد الاستعماريون بتعريفهم لهذه التقاليد على أنها بالية وبربريةيكررون دومًا سرد قائمة من الفظائع التي ترتكب ضد النساء الهنديات، ومرتكبوها ليسوا فقط من الرجال، ولا رجال طبقات معينة، بل هيئة كاملة من القوانين المكتوبة والممارسات التقليدية، التي قالوا إنها بتبريرها لهذه الفظائع في إطار محكم من المذاهب الدينية، قد جعلتها تبدو لمرتكبيها ومن يعانين منها على السواء كعلامات ضرورية على السلوك القويم. وباتخاذ العقل الاستعماري لموقع المتعاطف مع نساء الهند المحرومات من الحرية والمقهورات، فقد تمكن من تحويل هذه الصورة عن المرأة الهندية إلى علامة على الطبيعة القهرية والراسفة في الأغلال التي جبل عليها التراث الثقافي لبلد بأكمله.

فلنأخذ مثلاً التقرير التالي الذي كتبه رحالة قدم إلى الهند في بواكير القرن التاسع عشر:

المرأة لا تفعل أي شيء لمجرد متعتها الخاصة في أي فترة من فترات حياتها ولا تحت أي ظرف من ظروف المجتمع. فآباؤهن وأزواجهن، وأبناؤهن يدّعون حمايتهن؛ لكن هذه الحماية المفروضة على النساء ليلاً ونهاراً تفرض عليهن أن يبقيهن من يحمونهن في حالة من حالات التبعية التامة لهم. ويؤكد القائلون إن المرأة لا يناسبها الاستقلال إطلاقًا، ولا تنفع الثقة في نيلها للحرية لقد اختصت الآلهة النساء بحب مخدعهن، ومقعدهن، وحب الزينة، واشتهاء المدنسات, والغضب العارم، والمرونة والرغبة في الأذى وسوء السلوك. وعلى الرغم من أن الأزواج مجردون من كل الخواص الطيبة، فإنهم مع ذلك يقدرون الشكل الذي تأخذه قدرة نسائهم على التمييز الأخلاقي والحكم العقلي علي الأمور، بحيث يلزمون الزوجات بتبجيل الزوج كإله, والخضوع لما يوقعه عليهن من عقاب بدني بغرض التأديب وقتما شاء، بضربهن على ظهورهن ومؤخراتهن سواء بعصا أو بحبل ولا يمكن تصور حالة تبعية أكثر صرامة، وازدراء وامتهانًا من الحالة المفروضة على الجنس الأضعف بين الهندوس؛ وإتمامًا للوصمة، وملئًا لكأس المر المخصصة للمرأة، كما لو كانت تستحق الاستبعاد من الخلود كما تستبعد من العدالة، ومن الأمل كما من الاستمتاع، يحكم على الأنثى بأنه ليس من شأنها الاطلاع على نصوص الفيدا – بما يعني أن النساء الخاطئات عن طريق جهلهن المطبق بالمعلومات التي تتيح لهن التكفير عن سيئاتهن، وعدم صلاحيتهن للشهادة القانونية، لابد أن يكن خبيثات كالزيف نفسه، وغير قادرات على تقديم الشهادة. فنافورة الحكمة مغلقة أمامهن، وجداول المعرفة ناضبة؛ وينابيع السلوى الفردية، التي تعد بها ديانتهن، تحجب عن النساء ويمنعن من ورودها في ساعات الحزن الموحش والألم الممض الحارق؛ والمرأة المنبوذة على هذا النحو، المرمية في برية من الفجيعة والكرب بمواردها الفقيرة، قد ينضب ماؤها، ومع تركها على هذا الحال، هل سيكون مثيرًا للعجب أن تعانق في لحظة يأس المحرقة المشتعلة وألسنة لهبها اللافحة، بدلاً من طول ظلام الوحدة والمذلة، ومهانة المعاناة والأسى؟ (Massie 1839¸ 153- 154)

يمتزج في هذه القطعة من النثر التي تحبس الأنفاس تعاطف جياش مع إدانة أخلاقية تامة لتقليد رآه الكاتب ينتج هذه العادات البربرية ويضفي عليها القداسة. لقد كانت عادة السوتي هي التي قدمت أكثر الأمثلة حسمًا في هذه الكتابة الأدبية التي تدين أول عاداتهم وأكثرها إجرامًا، كما وصفها بينتينك، الحاكم العام الذي أصدر قانونًا بإلغائها. حقًا، لقد كان الوقع العملي لنقد التقاليد الهندية هو بالضرورة المؤدي إلى تمدينالشعب الهندي؛ وقد بني صرح الخطاب الكولونيالي بأكمله أساسًا حول هذا المشروع.

وبالطبع، حدث في داخل الخطاب الذي بني على هذا النحو الكثير عن المناظرات والخلافات حول الطرق الخاصة التي ينفذ بها هذا المشروع. وتراوحت الاختيارات ما بين تولي المبشرين المسيحيين تحويل الهنود إلى المسيحية، وخطوات تشريعية وإدارية تتولاها الدولة الاستعمارية نحو النشر التدريجي للمعرفة الغربية المستنيرة. وكان خلف كل اختيار منها الاعتقاد الكولونيالي بأن الهنود أنفسهم لابد أن يؤمنوا في النهاية بعدم قيمة عاداتهم التقليدية ويعتنقها أشكالاً جديدة من النظام الاجتماعي المتمدين والعقلاني.

لا يلزمنا الخوض في التفاصيل التاريخية للكيفية التي تقررت بها الاستراتيجيات السياسية لهذه الرسالة التمدنية. ويجب أن نلحظ أن ما يسمى مسألة المرأة على جدول أعمال الإصلاح الاجتماعي الهندي في بدايات القرن التاسع عشر لم تكن له علاقة كبيرة بالالتقاء السياسي بين دولة استعمارية كولونيالية وما يفترض أنه من تقاليدشعب مهزوم؛ أعنى التقليد الذي أنتجه الخطاب الاستعماري الكولونيالي، كما أوضحت لاتا ماني (Mani 1986¸ 1987) مؤخرًا في دراستها عن منع عادة الساتيداها [حرق الأرامل]. لقد كان الخطاب الاستعماري الكولونيالي هو الذي وضع تعريفًا للتقاليد التي يلزم نقدها وإصلاحها، بافتراضه لهيمنة النصوص الدينية البراهماتية، وخضوع كل الهندوس تمامًا لما تمليه هذه النصوص، وما يوجد في التعاليم المقدسة لهذه النصوص من أسس ضرورية لممارسات مثل حرق الأرامل. وسنرى الآن كيف أن الحركة القومية الهندية, وهي تحدد لنفسها موقعًا معارضًا للحكم الاستعماري الكولونيالي، قد أخذت مسألة المرأة كمشكلة أقامها لها غيرها، وبصورة أدق عاملتها على أنها مشكلة من مشاكل أحد التقاليد الهندية.

 

قدمت في عمل آخر لي (Chatterjee 1989) إطارًا موسعًا لتحليل القوى المتناقضة التي تتجاذب الأيديولوجية القومية في نضالها ضد سيادة الاستعمار الكولونيالي والحلول التي قدمها الاستعمار لهذه التناقضات. وباختصار، تم بناء هذا الحل على فصل مجال الثقافة إلى مجالين: المجال المادي والمجال الروحي. وقد كانت مطالب الحضارة العربية أقوى ما تكون في المجال المادي. فالعلم، والتكنولوجيا، والأشكال الرشيدة للتنظيم الاقتصادي، والمناهج الحديثة في إدارة شئون الدولة، هي التي أعطت البلدان الأوروبية القوة التي تمكنت بها من إخضاع الشعوب غير الأوروبية وساعدتها على فرض سيطرتها على العالم بأسره. وكان على الشعوب الواقعة تحت الاستعمار لكي تتغلب على هذه السيطرة أن تتعلم هذه التقنيات المتفوقة في تنظيم الحياة المادية وأن تدمجها في ثقافتها الخاصة، وقد كان هذا أحد أوجه المشروع القومي لترشيد وإصلاح الثقافة التقليدية لشعوبه، لكن هذا لا يعني محاكاة الغرب في كل وجوه الحياة، لأن الفروق المميزة الفاصلة بين الغرب والشرق ستختفي حينئذ، مما يهدد الهوية الذاتية للثقافة القومية نفسها، والحق ما ذهب إليه القوميون الهنود في نهايات القرن التاسع عشر من أن محاكاة الغرب في أي شيء غير الوجوه المادية للحياة أمر غير مرغوب فيه، بل وغير ضروري، لأن الشرق كان متفوقًا على الغرب في المجال الروحي. أما الضروري فكان استثمار التقنيات المادية للحضارة الغربية الحديثة مع الحفاظ على الجوهر الروحي المميز للثقافة القومية وتقويته. وبهذا تمت صياغة المشروع القومي، وهو ما زال متأرجحًا بين هذا وذاك حتى اليوم كتبرير أيديولوجي للانتقائية في الأخذ بالحداثة الغربية. والطريقة الخاصة التي شكل بها هذا الإطار الأيديولوجي مسار السياسات القومية يتكون منها المحتوى الأساسي لكتابة التاريخ الهندي الحديث، ومن الضروري لغرضنا الحالي أن نشير فقط إلى أن القومية لم تكن مجرد اهتمام بالنضال السياسي من أجل السلطة؛ بل لقد ربطت بين مسألة الاستقلال السياسي للأمة وبين جميع أوجه الحياة المادية والروحية للشعب. وفي كل الحالات وجدت مشكلة في اختيار ماذا نأخذ من الغرب وماذا نترك، كما ترددت أسئلة مفادها: هل هذا مرغوب فيه؟ هل هذا ضروري؟ وكانت إجابات هذه الأسئلة مادة لمناظرات حول الإصلاح الاجتماعي في القرن التاسع عشر. ولفهم الهوية الذائية للأيديولوجية القومية بعبارات ملموسة، لابد أن نمعن النظر في الكيفية التي وضعت بها إجابات هذه الأسئلة.

يبين خطاب القومية أن تميز المادي عن الروحي قد تكثف في تعارض ثنائي مناظر له، وإن كان أقوى أيديولوجيا بمراحل، وهو التعارض الذي يتمثل في تميز الخارجي عن الداخلي. وقد ذهب الكتاب القوميون إلى أن المجال المادي يقع خارجنا، فهو مجرد شيء خارجي، يؤثر فينا، ويشكلنا، ونحن مرغمون على التكيف معه، لكنه في النهاية شيء غير ذي أهمية لنا. أما ما يقع داخلنا فهو الروحي، إنه ذاتنا الحقة؛ وهو الشيء المهم لنا بحق. تبع هذا أنه طالما كانت الهند تعنى بالحفاظ على التميز الروحي لثقافتها، فبمقدورها أن تقدم كل التنازلات وكل أنواع التكيف اللازمة كي تتوائم مع متطلبات العالم المادي الحديث دون أن تفقد هويتها الحقيقية. وقد كان هذا هو المفتاح الذي قدمته الحركة القومية لحل المشكلات التي تحتاج إلى التأني في معالجتها، والتي طرحتها قضايا الإصلاح الاجتماعي في القرن التاسع عشر.

ويؤدي تطبيق تميز الداخلي عن الخارجي على المادة الملموسة للمعيشة اليومية إلى فصل المجال الاجتماعي إلى غار وباهير، أي البيت والعالم. العالم هو الخارجي، وهو مجال المادة؛ أما البيت فيمثل الذات الروحية الداخلية للإنسان؛ هويته الحقيقية. العالم أرض غدارة للسعي للمصالح المادية، تسودها الاعتبارات العملية بامتياز، وهو أيضًا المجال النموذجي للذكور. أما البيت في جوهره فيجب أن يظل بعيدًا عن تأثيرات الأنشطة الدنيوية الخاصة بالعالم المادي, والنساء هن الصورة التي تمثل، وهكذا يحدث تعريف الأدوار الاجتماعية حسب نوع الفرد لتتطابق مع تقسيم المجال الاجتماعي إلى قسمين منفصلين: الغار والباهیر.

لم نحصل حتى الآن على أي شيء مختلف عن التصور النموذجي لأدوار الرجال والنساء في أي نظام أبوي تقليدي. فإذا وجدنا الآن أن هذه الاتجاهات الاجتماعية تستمر بلا انقطاع في مرحلة الإصلاح الاجتماعي في القرن التاسع عشر، فإن هذا من شأنه أن يغرينا بتسمية هذا الوضع باسم النزعة المحافظة، كما أسمته بالفعل الكتابة الليبرالية لتاريخ الهند، فهو مجرد دفاع عن الأعراف التقليدية (انظري/ انظر مثلاً:(Murshid 1983 لكن لو فعلنا هذا لكنا مخطئين، فقد أدخل الوضع الكولونيالي والاستجابة الأيديولوجية التي أبدتها الحركة القومية لنقد العادات الهندية مادة جديدة تمامًا على هذه المصطلحات وأثر في إدخال تحولات عليها.

إن التعارض الثنائي بين المادي والروحي، الذي تتطابق معه كلمتا العالم والبيت، قد اكتسب كما لاحظنا من قبل دلالة شديدة الخصوصية في العقل القومي. فالعالم كان المكان الذي تتحدى فيه السلطة الأوروبية الشعوب غير الأوروبية، والذي أخضعتهم فيه لنفسها بفضل امتياز ثقافتها المادية. لكن القوميين يؤكدون أنها فشلت في استعمار الهوية الداخلية الجوهرية للشرق، التي تكمن في ثقافته الروحية المتميزة التي تعلو على ثقافة الغرب، وهي المجال الذي ظل فيه الشرق خارج سطوة الغرب، وظل الشرق فيها سيدًا مهيمنًا على قدره. وقد كان العالم بالنسبة لشعب يرزح تحت نير الاستعمار قيدًا ممضًا، فرضه عليه ضعفه المادي، كما كان مكانًا للقهر والمهانة اليومية، مكانًا فرض فيه قبول معايير المستعمِر بالقوة. وسرعان ما ذهب القوميون إلى أن العالم هو المكان الذي ينتظر أن تشن فيه المعركة من أجل الاستقلال القومي، وتطلب هذا أن يتعلم الخاضعون من الغرب العلوم والفنون الحديثة للعالم المادي، وحينئذ تتساوى قواهما وينتهي الأمر بخلع المستعمِر. لكن في فترة النضال الوطني بأكملها، وجدت حاجة ملحة لحماية القلب الداخلي للثقافة القومية، والحفاظ عليه وتقويته، فهو جوهرها الروحي، ولا ينبغي عدم السماح للمستعمر بأي تجاوز أو تطاول على قدس الأقداس الداخلي هذا. لقد كانت محاكاة المعايير الغربية في العالم والتواؤم معها ضرورة، أما فِعل هذا في البيت فينحدر إلى إلغاء الهوية الذاتية للمرء.

وما إن نضاهي هذه المعاني الجديدة للتعارض الثنائي بين البيت والعالم بتعريف الأدوار الاجتماعية بدلالة النوع، حتى تفهم الإطار الأيديولوجي الذي حلت فيه الحركة القومية مسألة المرأة، وإنه لمن الخطأ الفادح أن نرى فيه نبذًا تامًا للغرب، كما كان شأن الليبراليين في غمرة بأسهم في مواجهة الكثير من علامات النزعة الاجتماعية المحافظة في ممارسات الحركة القومية. الأمر على العكس تمامًا: فالنموذج القومي قد قدم حقًا مبدءًا أيديولوجيا للاختيار، حيث لم يكن الأمر نبذًا للحداثة؛ بل كان محاولة لجعل الحداثة تتسق مع المشروع القومي.

من اللافت للنظر كم الكتابات التي تناولت النساء في القرن التاسع عشر والتي تتعلق بما يتهدد نساء البنغال من خطر التغريب. وقد تناولت تقريبًا كل أشكال الاتصال المكتوبة, والشفوية, والمرئية هذا الموضوع، بدءًا من المقالات الثقيلة لدعاة الأخلاق في القرن التاسع عشر، إلى الروايات، والكتابات الهزلية، والمشاهد التمثيلية القصيرة العابثة والأناشيد، إلى لوحات الباتوا. وقد كانت المحاكاة الاجتماعية الساخرة أكثر الوسائط شيوعًا وأشدها تأثيرًا لنقل هذه الأيديولوجية. فقد التقط الجميع الفكرة، من إسوارشاندرا جوبتا (۱۸۱۲ ١٨٥۹) ومسرحيات الكابييال التي ظهرت في القرن التاسع عشر لمشاهير رواد المسرح البنغالي الحديث: ميشيل مادهو سودان دوت (1824- 1873)، ودیاباندو میترا (۱۸۳۰ ۱۸۷۳)، وجيوتيرين رابندرانات طاغور (1849 – ١٩٢٥)، أوبیندرانات داس (١٨٤٨١٨٩٥)، وآمريتالال بوس (۱۸5۳ ۱۹۲۹). وقد كانت السخرية من فكرة المرأة البنغالية التي تحاول محاكاة تصرفات امرأة من الميمساهيب وصفة أكيدة محسوبة لاستدرار ضحكات أصحاب الصوت الأجش ولدفع المشاهدين من الذكور والإناث لإدانتها أخلاقيًا، ويالها من فكرة! لأنه كان يصعب أن نجد أي شاهد تاريخي على وجود أي امرأة حقيقية تماثل مثل هذه الصورة الكاريكاتورية في كلكتا في منتصف القرن التاسع عشر ولو من بعيد، حتى وسط نساء أكثر العائلات أخذًا بالأساليب الغربية. كانت هذه الأعمال تنتقد طبعًا التصرفات، وأنواع قطع الملابس الجديدة، كالبلوزات، والجيليهات، والأحذية (التي اعتبرت كلها، يا للعجب، سوقية، رغم أنها تكسو البدن أفضل من الساري الذي كانت النساء البنغاليات ترتدينه حتى منتصف القرن التاسع عشر، بغض النظر عن مدى ثراء الواحدة منهن أو مكانتها الاجتماعية، والمكون من مقطع وحيد من القماش)، كما كانت تقدم نقدًا لاستخدام أدوات التجميل والمجوهرات الغربية، وقراءة الروايات، وأشغال الإبرة (التي اعتبرت إنفاقًا للوقت فيما لا طائل ورائه)، وركوب العربات المكشوفة. وما قوى من السخرية ذلك التلميح المستمر إلى أن المرأة التي تأخذ بالأساليب الغربية تكون مغرمة بالأبهة الفارغة، ولا تولي بيتها إلا القليل من الاهتمام. لا يمكن أن يخطئ المرء في كل هذا النقد – التوبيخ الممزوج بالحسد لثراء النخبة الاجتماعية الجديدة ورفاهيتها، تلك النخبة التي ظهرت والتفت حول مؤسسات الإدارة والتجارة الكولونيالية.

من الواضح أن هذه الكتابات المليئة بالمحاكاة الساخرة والهجاء الساخر في النصف الأول من القرن التاسع عشر قد اشتملت على الكثير مما أثاره الدفاع المباشر عن التقاليد والرفض الصريح الجديد. لم تكن الخطوط الواضحة للنموذج القومي قد ظهرت بعد. وعند إلقاء نظرة استرجاعية، تبدو هذه الفترة كفترة من القلائل الاجتماعية الهائلة والتشوش الأيديولوجي بين المتعلمين، وهي الفترة ما بين راوهون (۱۷۷۲۱۸۳۳) إلى فيدياساجار (۱۸۲۰۱۸۹۱)، ثم بدأ خطاب جديد في التشكل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهو خطاب مستقى من مصادر متنوعة، ألا وهو خطاب الحركة القومية. وقد حاول هذا النَهج الجديد تعريف المبادئ الاجتماعية والأخلاقية لتحديد موقع النساء في عالم الأمة الحديث“.

ولنأخذ مثلاً مسارًا من أوضح المسارات صياغة عن الموضوع: ألا وهو مقال بوديف موخوبادهياي الذي يحمل بالهندية عنوان باريباريك براناندا [وتعنى مقال عن الأسرة] والذي نشر في عام ۱۸۸٢. يعرض بوديف المشكلة بأسلوبه المميز في عرض الحقائق، فيقول:

إن انبهارنا بما يميز طريقة الحياة الإنجليزية من بريق خارجي وتظاهر بالعظمة قد أدى إلى ظهور بوادر انقلاب في بيوتنا. فالرجال يتعلمون اللغة الإنجليزية ويصيرون من الصهيب. والنساء لا يتعلمن اللغة الإنجليزية، لكنهن يحاولن أن يصرن من البيبي. في الأسر التي تعيش على دخل يبلغ مائة روبية، لم تعد النساء يتولهن الطهو، ولا الكنس، ولا ترتيب الفراش فكل شيء يتولاه الخدم والخادمات؛ [والنساء لا يفعلن شيئًا إلا قراءة الكتب, وحياكة السجاجيد ولعب الورق. ما النتيجة؟ ضربت الفوضى أطنابها في البيت وتبعثر نظام الأثاث، وصارت الوجبات رديئة، ودمرت صحة جميع أفراد الأسرة؛ فالأطفال يولدون ضعفاء وكسحاء، ولا تنقطع الأمراض عنهم، ويموتون مبكرين.

واليوم تقوم الكثير من حركات الإصلاح؛ ولا ينقطع الكلام عن تعليم المرأة على وجه الخصوص. لكننا نادرًا ما نسمع عن الفنون العظيمة التي كانت النساء يتدربن عليها فيما سلف، ولو كان الإقبال قد استمر على هذا التدريب لمكننا من تجاوز هذه الأزمة التي تسببت عن المحاكاة غير المشروعة. وأعتقد أننا لن نسمع بعد ذلك أبدًا عن هذا التدريب، (جرهاكاريار فيافستها، ورد في: (Mukhopaudhyay 1969, 480)

لقد تم طرح المشكلة هنا بالعبارات العملية لعلم الاجتماع الوضعي، وهو جنس كان الكتاب البنغاليون الجادون في زمن بوديف يفضلونه كثيرًا، لكن الإحساس بالأزمة الذي عبر عنه بوديف كان واقعًا حقيقيًا إلى حد بعيد. فبوديف يردد صوت أحاسيس قطاعات كبيرة من الطبقة الوسطى البنغالية التي ظهرت حديثًا حين يقول إن مؤسستي البيت والعائلة نفسيهما مهددتان تحت الظروف الخاصة للحكم الاستعماري الكولونيالي، وهو ظرف خارجي غير مسبوق أبدًا تم إلقاؤه علي البنغاليين، فأرغموا على التكيف مع هذه الظروف، الأمر الذي لم يكن فيه بد من درجة معينة من محاكاة الغرباء. لكن، هل يمكن السماح لهذه الموجة من المحاكاة بالدخول إلى بيوتهم؟ ألن يهدم هذا هويتهم الداخلية؟ لقد كان من الواضح أن مجرد معالجة المعايير القديمة لحياة الأسرة لن يكفي؛ فكانت هذه المعايير تنهار بسبب القوة الطاغية للظروف، وقد دعت الحاجة إلى ظهور معايير جديدة، تكون أكثر ملاءمة للظروف الخارجية الجديدة للعالم الحديث لكنها ليست مجرد محاكاة الغرب. ما هي إذن – المبادئ التي كان من الممكن بناء هذه المعايير بها؟

يقدم بوديف الإجابة القومية المميزة؛ ففي مقال بعنوان الحشمة” (لاجاستيلاتا ورد في (Mukhopadhyay 1969, 445- 448)، يتكلم بوديف عن المبادئ الطبيعية والاجتماعية التي تقدم الأساس الذي تقوم عليه الفضيلة الأنثوية. فهو يقول إن الحشمة، أو الاحتشام في السلوك والتصرفات من السمات التي تميز الإنسان على وجه الخصوص؛ فهي لا توجد في طبيعة الحيوان. وإعراض البشر عن السمات الحيوانية الخالصة هو ما يرفع دعائم الفضائل، كالحشمة. ومن هذا الوجه، يسعى البشر إلى أن يغرسوا في أنفسهم وفي حضارتهم خصائص روحانية أو شبيهة بخصائص الإله، تتعارض تمامًا مع أشكال السلوك الشائعة في الطبيعة الحيوانية. كما أن نساء الجنس البشري يغرس في أنفسهن هذه الخصائص الشبيهة بالخصائص الإلهية ويرعينها أكثر مما يفعل الرجال بمراحل، فهن محميات إلى حد معين من المساعي المادية الصرفة لتأمين العيش في العالم الخارجي، وبذلك يعبرن في مظهرهن وسلوكهن عن الخصائص الروحانية التي تميز المجتمع البشري المتحضر ومرهف الحس.

إن كل التعارضات الثنائية والنظائر ذات العلاقة بالموضوع موجودة هنا، يتطابق التعارض الثنائي بين المادي والروحي مع التعارض بين الخصائص الشبيهة بخصائص الحيوانات وتلك الشبيهة بخصائص الإله، والتي تتطابق بدورها مع الفضائل الأنثوية والذكورية. ثم يستثمر بوديف هذا القالب الأيديولوجي بمحتواه من الصبغة القومية على وجه الخصوص فيقول:

في مجتمع يلتقي فيه الرجال والنساء بعضهم ببعض، ويتحاورون دائمًا مع بعضهم، ويأكلون ويشربون معًا, ويسافرون معًا، يرجح أن تكون تصرفات النساء خشنة بعض الشيء، خالية من الخصائص الروحانية وتبرز فيها السمات الحيوانية بشكل نسبي. لهذا السبب، لا أظن أن عادات مثل هذا المجتمع مبرأة من العيوب. يذهب البعض إلى أن سمات الرجال تكتسب خصائص معينة رقيقة وروحانية بسبب هذا الارتباط الوثيق مع النساء. ولأعترف بهذا. لكن هل يمكن تعويض الخسارة المترتبة على خشونة السمات الأنثوية وتفسخها باكتساب الذكور لدرجة معينة من الرقة؟ (لاجستيلاتا ورد في: (Mukhopadhyay 1969, 446)

ثم يدفع بالفكرة إلى البيت قائلاً:

إن الذين وضعوا قواعدنا الدينية قد اكتشفوا الروحانية الداخلية التي تقبع في داخل كل مسعى لابد أن يقوم به الإنسان، حتى أكثر المساعي حيوانية، وبهذا أزالوا الخصائص الحيوانية من هذه الأفعال. لم يحدث هذا في أوروبا. فالدين هناك منفصل تمامًا عن الحياة [المادية] الأوروبيون لا يشعرون بالميل إلى تنظيم جميع وجوه حياتهم وفقًا لمعايير الدين؛ ويدينون هذا على أنه نزعة إكليروسية في نسق الآريا, الزوجة إلهة. في النسق الأوروبي، فهي شريكة ورفيقة. (لاجستيلاتا ورد في (Mukohopadhyay 1969, 447

يمكننا أن نستنبط الآن بسهولة المعيار الجديد لتنظيم حياة العائلة وتقرير السلوك القويم للنساء في ظروف العالم الحديث، فلابد من التكيف مع العالم الخارجي في نواحي النشاط المادي، وسيحمل الرجال عبء هذه المهمة. ولا يمكن فصل العائلة عن تأثير التغيرات التي تحث في العالم الخارجي، بقدر اشتباكها مع العلاقات الاجتماعية الأوسع نطاقًا. بناء على ذلك، فإن تنظيم البيت وطرق الحياة فيه لابد أيضًا أن تتغير، لكن الشرط الأساسي كان الحفاظ على الروحانية الداخلية التي تتميز بها الحياة الاجتماعية وسط الهنود. كان البيت هو الموضع الأساسي للتعبير عن الخاصية الروحانية للثقافة القومية، ولابد أن تحمل النساء المسئولية الرئيسية عن حماية هذه الخاصية ورعايتها، ومهما واجهت النساء من تغيرات في الظروف الخارجية يجب ألا يفقدن فضائلهن ذات الصبغة الروحانية أساسًا (أي فصائلهن الأنثوية)؛ بعبارة أخرى، لا ينبغي لهن أن يصرن متأثرات بالغرب أساسًا. يتبع ذلك، كمعيار بسيط للحكم على مدى الإصلاح المرغوب فيه، أنه لابد من الحفاظ دائمًا على التمييز الأساسي بين الأدوار الاجتماعية للرجال والنساء من حيث الفضائل المادية والروحانية. ولابد من وجود فارق ملحوظ في درجة أخذ النساء بأساليب حياة الغرب وطريقة أخذهن بهذه الأساليب في العالم الحديث للأمة، يميز أخذ الرجال بها.

كان هذا هو المبدأ المركزي الذي حلت به القومية مسألة المرأة من حيث مشروعها التاريخي الخاص. لم تتم صياغة التفاصيل بالطبع على الفور. والحقيقة أنه منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى اليوم، وجدت الكثير من الخلافات حول التطبيق المضبوط للتعارضات الثنائية البيت / العالم, الروحاني / المادي، المؤنث / المذكر في مختلف الأمور المتعلقة بالحياة اليومية للمرأة الحديثة” – ملبسها، ومأكلها، وتصرفاتها، وتعليمها، ودورها في تنظيم الحياة في البيت، ودورها خارج البيت. وقد ثارت المشكلات الملموسة من سرعة تغير الوضع، سواء الخارجي أو الداخلي، الذي وجدت الأسرة التي من الطبقة المتوسطة نفسها فيه؛ وقد استمدت الحلول الخاصة بهذا الوضع من مختلف المصادر: إعادة بناء التقاليد الكلاسيكية، والقوالب الشعبية التي أخذت بالحداثة، والمنطق النفعي للممارسات الصناعية والبيروقراطية، والفكرة القانونية عن المساواة في دولة ديموقراطية ليبرالية. لم يكن محتوى الحل موضوعًا مسبقًا ولا عصيًا على التغير، لكن كان لابد أن يكون شكله متسقًا مع نسق التعارضات الثنائية التي شكلت المشروع القومي واحتوته.

أخضعت المرأة الجديدة التي وضع تعريفها على هذا النحو لنوع جديد من النظام الأبوي. والحقيقة أن النظام الاجتماعي الذي يربط البيت بالعالم الذي وضع فيه القوميون المرأة الجديدة لم يكن متباينًا فقط مع المجتمع العربي الحديث، بل كان متميزًا تميزًا صريحًا عن النظام الأبويللتقاليد الداخلية للجماعة، وهي نفسها التقاليد التي وضعها المحققون الكولونياليون موضع الاتهام. ومن المؤكد أن الحركة القومية أخذت بعدة عناصر من التقاليد كعلامات على هويتها الثقافية المنتمية للجماعة، لكنها صارت الآن تقاليد أضفي عليها الطابع الكلاسيكي، إذ أدخلت عليها إصلاحات، وأعيد بناؤها، وزودت بعقوبات ضد الاتهام بالبربرية وعدم العقلانية. بل إن غاندي قال عن القواعد الأبوية التي وضعتها الكتب المقدسة:

من المحزن أن نعتقد أن السميريتيس تحتوي على نصوص يمكن ألا تطالب احترام الرجال بإظهار أي احترام للنساء, وهم الذين يرعون حرية المرأة كحريتهم بالضبط، والذين يعتبرونها أم البشر والسؤال هو ما الذي يمكن فعله بالسميريتيس التي تحتوي على نصوص مؤذية للحس الأخلاقي. وقد اقترحت بالفعل أن كل ما يطبع باسم الكتب المقدسة يلزم ألا نأخذه باعتباره كلمة الإله أو الكلمة التي نزل بها الوحي. (Gandhi 1970, 85)

وقد كان النظام الأبوي الجديد متميز تميزًا واضحًا أيضًا عن الظرف الاجتماعي والثقافي الراهن الذي كانت أغلبية الشعب تعيشه، لأن المرأة الجديدةكانت بالضبط عكس المرأة التي من العامة، التي كانت امرأة خشنة، سوقية، عالية الصوت، متأهبة للشجار، لا يوجد لديها حس أخلاقي رفيع، منفلتة جنسيًا، عرضة للقهر البدني القاسي بين الذكور. ومع المحاكاة الساخرة للمرأة التي أخذت بأساليب الحياة الغربية، فقد تردد التأكيد على هذا الوجه الآخر للمرأة مرارًا وتكرارًا في أدب القرن التاسع عشر من خلال ذكر شخصيات نسائية من الطبقة الدنيا يظهرن في الأوساط الاجتماعية للطبقة الوسطى الجديدة، مثل الخادمات، والغسالات، والحلاقات، والبائعات، والقوادات، والعاهرات. وقد كانت هذه الحالة المتردية للنساء بالضبط هي التي زعم القوميون أنهم سيصلحونها، ومن خلال هذه التباينات عزي إلى المرأة الجديدة التابعة للأيديولوجية القومية مكانه ثقافية أرفع من مكانة نساء العائلات محدثة الثراء اللاتي أخذن بأساليب الحياة الغربية، واللاتي نشأت عائلاتهن بسبب ارتباطها بالمستعمر الكولونيالي، بالإضافة إلى علو مكانة المرأة الجديدة على نساء الطبقات الدنيا. وقد كان حصول المرأة على ثقافة قومية رفيعة بجهودها الخاصة علامة على الحرية الجديدة التي اكتسبتها. وقد كانت هذه نقطة القوة الأيديولوجية المركزية للحل القومي لمسألة المرأة.

يمكننا أن نتتبع شكل هذا الحل في العديد من الجوانب الخاصة التي تغيرت فيها حياة الطبقة الوسطى وظروفها عبر الأعوام المائة الماضية أو نحو ذلك.

فلنأخذ حالة تعليم البنات، ذلك الموضوع الذي كثرت فيه اللجاجة والذي شغل انتباه المصلحين الاجتماعيين في القرن التاسع عشر بدرجة كبيرة.2 وقد لجأت بعض المعارضات المبكرة لافتتاح مدارس للبنات إلى التقاليد لتدعمها، تلك التقاليد التي يفترض أنها تحظر تقديم التعليم للنساء من خلال الكتب، لكن هذه الحجة لم تلق الكثير من الدعم. وقد وجد أن التهديد الحقيقي يكمن في أن الإرساليات المسيحية هي التي نظمت المدارس المبكرة وترتيبات تعليم النساء في البيوت؛ مما أثار التخوف من تغيير ديانة البنات وتعرض النساء لتأثيرات غربية ضارة (Laird 1972, 137- 139). وقد زال التهديد حين بدأ الهنود أنفسهم في افتتاح مدارس للبنات في خمسينيات القرن التاسع عشر. وقد انتشر التعليم بشكل ملحوظ بين نساء الطبقة الوسطى في البنغال في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فقد زادت عدد مدارس البنات من 95 مدرسة التحقت بها ٢٥٠٠ تلميذة في عام 1863، إلى ٢٢٣٨ مدرسة في عام ۱۸۹0 زاد عدد تلميذاتها عن 80000 تلميذة (Murshid 1983, 43).. وفي مجال التعليم العالي، احتفلت الهند بشأندراموخي بوز (١٨٦٠ ١٩٤٤) وكادامبيني جانجولي (١٨٦١۱۹۲۳) کمثلين لما يمكن للنساء البنغاليات إنجازه في التعليم الرسمي؛ وقد حصلتا على درجة الليسانس من جامعة كالكتا في عام 1883، قبل ان توافق معظم الجامعات البريطانية على قبول النساء في ملفات اختباراتها. ثم التحقت كادامبيني بعد ذلك بكلية الطب وصارت أول طبيبة تتلقى تعليمًا طبيًا رسميًا.

ولا شك أن نشأة كتابات داعية للتعليم وظهور وسائل تعليمية باللغة البنغالية قد جعلا القبول العام للتعليم الرسمي وسط نساء الطبقة الوسطى أمرًا ممكنًا، ويبدو لنا ذلك الجدل – الذي طال في القرن التاسع عشر حول المقرر الدراسي الأنثويالملائميبدو لنا الآن طريفًا بعض الشيء، لكن لا يصعب تحديد ما اهتم به هذه الجدال فعلاً. لقد اعتبرت معظم محتويات التعليم المدرسي الحديث مهمة للمرأة الجديدة، لكن كان من الصعب إدارتها باللغة الإنجليزية لاعتبارات عملية، إذ كانت غير ذات أهمية، لأن مكان المرأة المتعلمة المركزي كان ما زال في البيت وكانت تحمل تهديدًا لأنها يمكن أن تحط من قيمة هذا الموقع المركزي وتزيحه عن مكانه، وهو الموقع الذي حدد ليكون المكان الاجتماعي للنساء. وقد حلت المشكلة بفضل جهود المثقفين الذين جعلوا من المهام الأساسية للمشروع القومي خلق لغة حديثة وكتابات ملائمة لدائرة القراء التي ما تنفك تتسع لتشمل النساء حديثات التعلم. ووجدت قوة مهمة شكلت الأدب الجديد للبنغال من خلال الدوريات والكتب المدرسية، والكتابات الإبداعية، وحثت على إتاحته للنساء اللاتي لا يعرفن القراءة إلا بلغة واحدة، ألا وهي لغتهن الأم.

لم يصبح التعليم الرسمي مقبولاً فحسب، بل صار في الحقيقة مطلبًا للمرأة الجديدة المحترمة [البرادهاماهيلا]، حين ظهر بالبيان العملي أن من الممكن للمرأة أن تكتسب الرهافة الثقافية التي يقدمها التعليم الحديث دون إخلال بموقعها في البيت، أي دون أن تصير ميمصهيب. حقًا، لقد استمد التفسير القومي للمرأة الجديدة قوته الأيديولوجية من أنه جعل هدف الرهافة الثقافية من خلال التعليم تحديًا شخصيًا أمام كل امرأة، وبذا، فتح مجالاً للمرأة كي تصير فاعلة مستقلة باتخاذ قرارها. ويفسر هذا إلى حد بعيد الدرجة الملحوظة من الحماس التي سادت بين نساء الطبقة الوسطى أنفسهن ليكتسبن لأنفسهن فوائد التعلم الرسمى ويستخدمنها. وقد كان هذا هدفًا وضعنه لأنفسهن في حياتهن الشخصية بإرادتهن الحرة؛ وكان إنجازه يعني الحصول على الحرية.3 لقد كان من علامات الإنجاز حقًا ادعاء النساء بالسمو الثقافي في العديد من الجوانب المختلفة: فهن يسمون على النساء الغربيات اللاتي كان من المعتقد أن التعليم لا يعني لهن إلا الحصول على المهارات المادية للتنافس مع الرجال في العالم الخارجي، ومن ثم يفقدن فضائلهن (الروحية) الأنثوية؛ ويسمون على الجيل الذي سبقهن من نساء بيوتهن اللاتي حرمتهن التقاليد الاجتماعية القاهرة والبالية من فرصة الحرية؛ ويسمون على نساء طبقاتهن الدنيا اللاتي كن عاجزات ثقافيًا عن تقدير فضائل الحرية.

وقد كان هذا التفسير القومي للإصلاح على وجه الخصوص كمشروع لكل من تحرير النساء وتحريرهن لأنفسهن (ومن هنا كان المشروع الذي ينبغي أن يشارك فيه الرجال والنساء معًا) هو الذي يفسر السبب الذي جعل الأجيال المبكرة من النساء المتعلمات أنفسهن حريصات بشدة على دفع الفكرة القومية عن المرأة الجديدةقدمًا، وكثيرًا ما شعر المؤرخون المحدثون من ذوي الاتجاه الليبرالي بشيء من الحرج الشواهد الغزيرة على وجود النساء الكاتبات في القرن التاسع عشر، بما في ذلك اللاتي وقفن على جبهة حركة الإصلاح من نساء بيوت الطبقة الوسطى، وتحدثن عن مبررات أهمية ما يسمى الفضائل الأنثوية“. فقد كتبت رادهاراني لاهيري مثلاً في عام ١٨٧٥:

إن أعمال المنزل أهم الموضوعات التي يمكن أن تتعلمها النساء فمهما اكتسبت المرأة من معرفة، لا يمكنها المطالبة بأي سمعة حسنة إذا لم تكن ماهرة في أعمال المنزل، (ورد في:Murshid 1983, 601)

وتحدثت أخريات غيرها عن حاجة المرأة المتعلمة إلى اكتساب الفضائل النسائية، مثل العفة والتضحية بالذات، والخضوع، وتكريس نفسها للغير، والطيبة، وما يلزم الحب من صبر وعمل شاق. وقد قدم الحل القومي للمشكلة بدقة وجهة النظر الأيديولوجية التي جعلت هذه الاعتراضات على الأنوثة” (ومن ثم قبول نظام أبوي جديد) أمرًا لا مفر منه، وقد أجادت كتابات كوندامالا ديبي في 1870 التعبير عن وجهة النظر هذه حين نصحت غيرها من النساء بقولها:

لو كنتن قد اكتسبتن معرفة حقة، فلا تسمحن بوجود مكان في قلوبكن للسلوك المشابه لسلوك الميساهيب، فهو لا يلائم ربة البيت البنغالية. انظرن كيف يمكن للمرأة المتعلمة أن تقوم بأعمال المنزل عن تفكير وتدبير وعلى نحو منظم لا تعرفه المرأة الجاهلة التي لم تتعلم. وانظرن كيف كان يمكن للعالم أن يكون مكانًا تعسًا ما لم يعين لنا الإله مكاننا هذا فيه. (ورد في: Borthwick 1984, 105)

لقد قصد بالتعليم إذن أن يحصن النساء بالفضائل – الفضائل البرجوازية المضبوطة المميزة للأشكال الاجتماعية الجديدة من التربية والضبط، ومن إقرار النظام، والتدبير في الأمور الاقتصادية، والنطاقة، والإحساس الشخصي بالمسئولية، والمهارات العملية للقراءة، والحساب والصحة العامة، والقدرة على إدارة الأسرة وفقًا للشروط المادية والاقتصادية الجديدة التي وضعها العالم الخارجي. ومن أجل هذا، يلزم أن يكون لديهن أيضًا فكرة عن العالم الذي يقع خارج البيت، بل والذي يمكنهن أن يغامرن بالخروج إليه طالما لا يهدد أنوثتهن. وهذا المعيار الأخير، الذي أسبغ الآن على محتواه ثوب قومي مميز، قد مكّن من إزاحة حدود البيت من الحدود المادية التي حددتها من قبل قواعد الحجاب إلى مجال أكثر مرونة، رغم أنه مقرر ثقافيًا، تقيمه الفوارق بين السلوك المسموح به اجتماعيًا للذكور والإناث. وما إن تثبت الأنوثة الجوهرية للنساء من حيث خصائص روحانية معينة مرئية ثقافية، يمكنهن الذهاب إلى المدرسة، والسفر بالمركبات العامة, ومشاهدة برامج التسلية العامة، بل والالتحاق بوظائف خارج البيت أحيانًا. لكن العلامات الروحانية الدالة على أنوثة المرأة صارت الآن ظاهرة بوضوح، في ملبسها، وعاداتها في الأكل، وسلوكها الاجتماعي، وتدينها. وقد حصلنا على العلامات الخاصة بكل هذا من مصادر متنوعة, ولكل منها تاريخها الخاص من حيث منشئها، فزي البهادراماهيلا – مثلاً – قد مر بمرحلة كاملة من التجريب قبل أن يحظي ما سمي باسم ساري البراهميكا بالقبول كزي سائد وسط نساء الطبقة المتوسطة، علمًا بأنه عبارة عن طريقة لارتداء الساري مع بلوزة، وجيليه وحذاء، وقد صارت هذه الطريقة موضة في الأسر البراهمية. (انظري انظر : Borthwick 1984, 245- 256) ويمثل هذا الزي أيضًا علامات تعبر عن الهوية القومية، والتحرر الاجتماعي، والثقافة الرفيعة، وتشير إلى الفوارق الضرورية بين من يأخذن بكل هذا وبين الميمصهيب، ونساء الأجيال السابقة، ونساء الطبقات الدنيا. كما كان لابد من التأكيد في هذا الزي – مثلما في كل الجوانب الأخرى لحياة المرأة على الطابع الروحاني لشخصيتها، مقارنة بالتنازلات التي بلا حصر التي يضطر الرجال إلى تقديمها خضوعًا لضغوط العالم المادي.

وقد جعلت الحاجة إلى التأقلم مع الظروف الجديدة خارج البيت الرجال مرغمين على المرور بسلسلة كاملة من التغيرات في ملبسهم، وعادات أكلهم، والتزامهم بالطقوس الدينية والعلاقات الاجتماعية، وكان لابد من تعويض كل هذه الأنواع من الاستسلام بتأكيد النقاء الروحاني من جانب النساء، فيجب عليهن ألا يأكلن، ولا يشربن، ولا يدخن بنفس الطريقة التي يأكل بها الرجال ويشربون ويدخنون، ولابد أن يستمرون في الالتزام بالطقوس الدينية التي يجد الرجال صعوبة في القيام بها؛ ولابد أن يحافظ على ترابط الحياة العائلية والتضامن مع الأقارب، وهي أمور ما عاد بوسع الرجال الآن إعارتها الكثير من الاهتمام. وقد وضع النظام الأبوي الجديد الذي دعت إليه القومية على عاتق النساء شرف مسئولية اجتماعية جديدة، وقد أدى ربط مهة تحرير المرأة بالهدف التاريخي للسيادة الوطنية إلى إخضاع النساء لنوع جديد من تدني المنزلة، وإن كان مشروعًا تمامًا.

وعلى غرار كل أشكال ممارسة السيادة المتسمة بالهيمنة، جمع هذا النظام الأبوي بين السلطة القاهرة والقوة الخفية للإغراء. وقد عبر الشكل الأيديولوجي المقلوب لعلاقات القوة بين الجنسين عن هذا بشكل عام؛ ألا وهو الإفراط في إطراء المرأة كإلهة أو كأم. ومهما كانت الديانات الهندية الكلاسيكية أو الممارسات الدينية للقرون الوسطى التي شكلت المصادر المستقى منها الشكل الأيديولوجي الخاص الذي تعرف في إطاره تفسير المرأة الهنديةفي الآداب والفنون الهندية الحديثة اليوم، فهو بالكامل نتاج لتطور ثقافة الطبقة الوسطى المهيمنة التي تزامنت مع عهد القومية. وقد خدم هذا الشكل الأيديولوجي في استخدام كل ما للإلهام الميثولوجي من قوة لتأكيد ما صار على أي حال من السمات المميزة للأنوثة في التفسير الجديد للمرأةالتي تعتبر رمزًا للأمة، وبالتحديد الخصائص الروحانية للتضحية بالذات، والإحسان، والإخلاص، والتدين، وهلم جرا. وكما رأينا، لم تعرقل هذه الطبيعة الروحانية فرص المرأة في الخروج من الجدران المادية للبيت؛ بل على العكس، يسرت لها ذلك، إذ مكنتها من الخروج إلى العالم تحت شروط من شأنها ألا تهدد أنوثتها. والحق أن صورة المرأة كإلهة أو كأم قد خدمت في محو طبيعتها الجنسية في العالم الذي يقع خارج البيت.

ولهذا التفسير للمرأة الكثير من الآثار المهمة. فمثلاً، لننظر إلى ملاحظة كثيرًا ما تبدی, ألا وهي الغياب النسبي للتمييز بين الجنسين في المهن التي يشغلها أفراد الطبقة الوسطى في الهند، وهي من المجالات المركزية التي طالب بها دعاة حقوق المرأة في الغرب الرأسمالي. ودون إنكار لإمكانية وجود الكثير من التعقيدات التي تكمن خلف هذه الملاحظة التي تكاد تكون ملاحظة سطحية، فمن المؤكد أن هناك تناقضًا في أنه حيثما كانت وظائف الطبقة الوسطى مجالاً للتنافس الشديد بين الجماعات الثقافية التي تتميز عن بعضها وفقًا للطائفة، والديانة، واللغة، وما إلى ذلك. طوال عهد السياسات القومية وما بعد الكولونيالية في الهند، لم يكن النوع أبدًا قضية يثار حولها اللجاج العام. وبالمثل، منح الهيكل الجديد للهند المستقلة حق التصويت للنساء دون أن يثار حوله جدل شديد ودون أن تقوم أبدًا حركة الدعوة لمنح النساء حق الترشيح والتصويت في أي مرحلة من مراحل السياسات القومية في الهند. لقد افترض الجميع أنه من الطبيعي أن تحصل النساء على حق التصويت، وهذا يشير إلى انعكاس تام في أوضاع الشروط التي بني عليها النظام الأبوي التقليدي القديم. ومن أحد المداخل التي يمكن الأخذ بها لدراسة هذه المشكلة ما يقترحه إطارنا الحالي: أن تثبيت الأيديولوجية القومية للخصائص المذكرة / المؤنثة من حيث التعارض الثنائي بين المادي/ الروحاني لا يجعل من النساء اللاتي تقلدن الوظائف المهنية منافسات للرجال الباحثين عن عمل، لأنه لا يوجد في هذا التفسير علامات ثقافية خاصة تميز النساء عن الرجال في العالم المادي.

والحق أن الفوارق المميزة التي كثيرًا ما اكتسبت أهمية هي تلك القوارق التي تفعل فعلها بين النساء في العالم خارج البيت. فهذه الفوارق (أو تنويعات خفيفة عليها) يمكن أن تميز النساء بملبسهن، وعادات الأكل لديهن (كاحتساء الخمور/ التدخين)، وتمسكهن أو عدم تمسكهن بالعلامات الدينية لحالة المرأة، وسلوكهن نحو الرجال، وما إلى ذلك، وتصنفهن كنساء متفرنجاتأو تقليدياتأو من الطبقة الدنيا، وكلها حالات تشير إلى انحراف عن المعايير المقبولة. فالمرأة التي تحدد على أنها متفرنجةمن شأنها أن تستدعي ما ليس من الصفات التي تعزى للمرأة الطبيعية (الأم / الأخت / الزوجة / الابنة)، فهي تعتبر وقحة، وجشعة، وغير متدينة، ومنفلتة جنسيًا، وهذه ليست نظرة الرجال فقط لمثل هذه المرأة، بل هي أيضًا نظرة النساء اللاتي يرين أنفسهن مسايرات للمعايير المشروعة، والتي هي بالضبط مؤشر على المكانة المهيمنة للتفسير الأيديولوجي للمرأة. وتوجد مجموعة مناظرة من الفوارق التي تميز المرأة التي من الطبقة الدنياأو من العوامعن المرأة الطبيعية” (وربما كان أكثر موضوعات الازدراء تطرفًا بالنسبة لمعتنق الأيديولوجية القومية النمط الذي يمثل المرأة التي تجمع بين خواص الإنجليزية والهندية، فهي متفرنجة، ومن العوام في نفس الوقت). ولا عجب في أن الانحراف عن المعايير يحمل معه أيضًا إمكانية وجود عدة معان متنوعة غامضة – إذ تصير علامات عدم المشروعية الوازع الذي ينهي عن السلوك الذي لا يسمح به لمن هن طبيعيات” – وهذه هي أنواع المعاني التي استغلتها، حتى الثمالة، وسائل الإعلام التجارية مثلاً، من أفلام، إلى إعلانات إلى موضات. وهنا نجد لحظة أخرى من لحظات الاختلاف بين تفسير المرأة في الأيديولوجية القومية وبين تفسيرها كأداة للجنس في النظام الأبوي الغربي: فالذكر المعتنق للأيديولوجية القومية يعتقد أن زوجته / أخته / ابنته طبيعية، لأنها بالضبط ليست أداة للجنس، بينما يرى أن النساء اللاتي يمكن أن يكن أدوات جنسية لسن طبيعيات“.

أختتم هذا المقال بإبراز ملمح مهم آخر من ملامح الطريقة التي سعت بها الحركة القومية إلى حل مسألة المرأة في تآلف مع مشروعها القومي. ولهذا الملمح علاقة بالجانب السياسي المباشر للمسألة، والذي يتعلق بعلاقتها بالدولة. فالقومية، كما سبق أن ذكرت، حددت موضع ذاتيتها في المجال الروحاني للثقافة، حيث اعتبرت نفسها أسمى من الغرب، ومن ثم رأت نفسها متمتعة بالسيادة والسلطة العليا. ولم يكن بوسعها السماح باجتراء القوة الاستعمارية على هذا المجال. وقد حدد هذا الاستجابة المميزة للقومية لاقتراحات إحداث الإصلاح الاجتماعي من خلال تشريعات تصدرها الدولة الاستعمارية. فقد كان قوميو بواكير القرن التاسع عشر – على عكس المصلحين الأوائل من راموهون إلى فيدياساجار – معارضين عمومًا لمثل هذه الاقتراحات، لأن هذه الطريقة في الإصلاح بدت كما لو كانت تنكر قدرة الأمة على التصرف بنفسها، حتى في مجال من المجالات التي تمتعت فيها بالسيادة. من ثم، قامت المعارضة القومية في الحالة الخاصة بإصلاح حياة النساء على أساس أن هذا مجال كانت الأمة تعمل فيه من تلقاء نفسها، خارج نطاق توجيه الدولة الاستعمارية وتدخلها.

يمكننا الآن أن نطرح سؤالاً آخر ونقدم إجابة له، وهو سؤال أقض مضجع مؤرخي الإصلاح الاجتماعي في الهند. في بواكير القرن التاسع عشر، لم تكن قضايا الإصلاح الاجتماعي مجرد أكثر مواد السياسات الجديدة إثارة للعواطف وأشدها خلافية، بل كانت تضع في مركز اهتمامها أيضًا موقع النساء. وقد كانت أكثر المسائل التي حرصت هذه القضايا على إثارة الجدل حولها حتى منتصف القرن هي مسائل حرق الأرامل، وزواج الأطفال، وتعدد الزوجات، وإعادة تزويج الأرامل، وتعليم النساء، وكما رأينا، صار الموضوع يخص تحديد محور أساسي للتقاليد الثقافية للأمة يمكن الدفاع عنه في مواجهة النقد الذي تكيله الأيديولوجية العقلانية الجديدة المستوردة من الغرب. لكن مع صعود السياسات القومية في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، لم تعد قضايا الإصلاح الاجتماعي ومسألة المرأة مواضيع للخلاف السياسي. يمكننا أن نرى الآن أن هذا لم يحدث بسبب استبعاد الليبرالية السابقة عليه من جدول الأعمال السياسي بفعل نزعة محافظة تبدو متخلفة سعت إلى نبذ الحداثة، ولا بسبب أن قضايا أكثر إثارة للعواطف تتعلق بالقوة السياسية قد طغت عليها. بل يكمن السبب في أن القومية رفضت جعل مسألة المرأة قضية يجري حولها التفاوض السياسي مع الدولة الاستعمارية.

تقول الحقيقة التاريخية البسيطة أن حياة نساء الطبقة الوسطى، الآتيات من الشريحة السكانية التي شكلت الأمةبالفعل في الهند في أواخر عهد الاستعمار الكولونيالي قد تغيرت بأسرع المعدلات بالضبط أثناء فترة الحركة القومية، وقد حدث هذا بسرعة حقًا جعلت بإمكان النساء من جميع الأجيال عبر السنوات المائة الأخيرة أن يقلن صادقات إن حياتهن كانت مختلفة اختلاف واضحًا عن الحياة التي عاشتها نساء الأجيال السابقة. وغالبًا ما حدثت هذه التغيرات في فترة الاستعمار الكولونيالي خارج ساحة القلاقل السياسية، في مجال ظنت فيه الأمة نفسها حرة بالفعل. ولم تكتسب الأمة السيادة إلا بعد الاستقلال، أي أنه صار من المشروع تجسيد أفكار الإصلاح في التشريعات التي تسن حول قواعد الزواج، وحقوق الملكية، وحق التصويت، والحق في الأجر المتساوي، وجودة الفرص، وما إلى ذلك. وبالطبع عادت مسألة المرأة لتكون قضية سياسية في حياة الدولة القومية.

من المشكلات الأخرى التي يمكن أن نراها الآن من منظور أوضح مشكلة الغياب الظاهر لأي نضال مستقل للنساء أنفسهن من أجل المساواة والحرية. وإننا لنكون مخطئين لو بحثنا عن شواهد لمثل هذا النضال في الأرشيف العام للشئون السياسية، لأن المعركة من أجل الفكرة الجديدة عن سمات المرأة في عهد القومية شنت في البيت، على عكس الحركة النسائية في أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين. ونحن نعرف الآن من الشواهد التي تركتها لنا السير الذاتية, والكتابات عن تاريخ العائلة، والكتب الدينية، والأعمال الأدبية، والمسرحيات، والأغاني، ولوحات الفن التشكيلي، وغير ذلك من المنتجات الفنية الثقافية أن البيت قد صار الموقع الرئيسي للنضال الذي تعين أن يسبغ من خلاله ثوب الوضع الطبيعي على التفسير المهيمن للنظام الأبوي القومي الجديد. هذا هو التاريخ الحقيقي لمسألة المرأة التي رسمنا حدود أرضها من خلال فحصنا لتسلسلها في الفكرة القومية عن المرأة، لكننا لم نستكشف هذه الأرض. والخطاب القومي الذي سمعناه حتى الآن خطاب عن النساء؛ فالنساء لا يتحدثن هنا. وهو خطاب يعزي للنساء مكانًا، وعلامة وقيمة متشيئة؛ فالنساء هنا لسن فاعلات ذوات إرادة ووعي. وعلينا الآن أن نسأل أسئلة مختلفة تمامًا لنجعل النساء في التاريخ الهندي الحديثن يتحدث بالأصالة عن أنفسهن.

إن لموقع الدولة في الحل القومي لمسألة المرأة في عهد الاستعمار الكولونيالي أثر آخر. بالنسبة لقطاعات الطبقة الوسطى التي شعرت بأنها مستبعدة ثقافيًا من تشكيل الأمة، والتي نظمت عندئذ نفسها كجماعات سياسية متميزة، فإن الاستبعاد النسبي من الدولة القومية الجديدة من شأنه أن يعمل كوسيلة إضافية لإزاحة الوكالة الشرعية للإصلاح. في حالة المسلمين في البنغال مثلاً, تأخر تشكيل الطبقة الوسطى، لأسباب لا داعي للخوض فيها هنا. ويمكن أن نرى بالضبط أن نفس أنواع الهموم الأيديولوجية المميزة لرد الفعل القومي لقضايا الإصلاح الاجتماعي في وضع استعماري تفعل فعلها بين المسلمين أيضًا, يفارق زمني (انظر/ انظري(Murshid 1983 . لكن الإصلاحات القومية لم تثمر في حالة المسلمين في الهند المستقلة، بسبب ظهور علاقة استعمارية جديدة بقدر المدى الذي كان التشكيل الثقافي السائد بينهم يعتبر أن طائفتهم مستبعدة عن الدولة. وقد أعيد تنشيط نسق التعارضات الثنائية الذي يشمل الداخل / الخارج، والبيت / العالم، والمؤنث / المذكر. فالإصلاحات التي تمس الجوهر الداخلي لهوية الطائفة لا يمكن أن تجري إلا بمعرفة الطائفة نفسها، وليس بمعرفة الدولة. ومن المفيد أن نلحظ هنا كيف سمح بتغيرات مؤسسية صغيرة في الحياة المدنية للهنود المسلمين منذ الاستقلال وأن نقارنها ببلدان المسلمين التي كانت فيها الإصلاحات الثقافية القومية جزءًا من تشكيل ناجح لدولة قومية مستقلة. والتباين لافت للنظر إذا ما قارننا موقع المسلمات من الطبقة الوسطى في غرب البنغال اليوم بموقعهن في بنجلاديش المجاورة لها.

إن استمرار وجود مشكلة ثقافيةمتميزة للأقليات لمؤشر على قتل الأمة الهندية على أن تحتوي داخل جسدها بشكل فعال كامل الكتلة السكانية التي تزعم أنها تمثلها. ويتضح الفشل حين تلحظ أن تشكل ثقافة قوميةمهيمنة قد بني بالضرورة على تفضيل تقليد أساسي، تحد بدوره بمعرفة نسق قائم على أشكال من الاستيعاد. فأفكار الحرية، والمساواة وتنقية الثقافة مضت يدًا بيد مع مجموعة من التعارضات الثنائية التي استبعدت أغلب جماهير الشعب من الحياة الجديدة للأمة على نحو نظامي، وهم الجماهير الذين ستمثلهم النخبة المتسيدة وتقودهم، لكن لم يمكن دمجهم ثقافيًا مع قادتهم أبدًا, لقد تواطأ الحكام الاستعماريون ومعارضيهم القوميين معًا لإزاحة هيكل المعاني الأساسي من العالم الاستعماري، ذلك الهيكل الذي ارتبط بالأفكار الليبرالية الغربية عن الحقوق، والحرية، والمساواة، وما إلى ذلك. إن افتتاح الدولة القومية في الهند لم يكن ليعني تعميم الفكرة البرجوازية عن الإنسان“.

حقًا، إن الخطاب القومي وهو ينشئ نظامه الأبوي الجديد كتفسير مهيمن لم يكتف بتحديد جوهره الثقافي بصفته جوهرًا متميزًا عن الغرب، بل أيضًا عن جماهير الشعب. لقد عمم نفسه بين الطبقة الوسطى الجديدة، التي تعترف أنها طبقة لا تكف عن الاتساع، وأن الأعداد المطلقة لأفرادها كبيرة بما يكفي لتعيد إنتاج نفسها، لكن لا علاقة لها بالجماهير الهائلة من الطبقات الدنيا. ونعيد القول إن تحليلنا للتفسير القومي للمرأة يوضح كيف أن مكنت التعارضات الثنائية عن الروحاني / المادي، والبيت / العالم، والمؤنث / المذكر من إنتاج خطاب قومي مختلف عن الخطاب الاستعماري الكولونيالي في المواجهة التي حدثت بين هذين الخطابي، لكن هذا الخطاب القومي ظل أسير إطار النزعات الجوهرية الزائفة التي يتميز بها.

* Partha Chatterjee. “Colonialism, Nationalism, and Colonized Women: The Contest in India”, American Ethnologist Vol. 16, no. 4 (NOV., 1989), pp. 622- 633.

1 شكر وعرفان: ناقشت الحجة المطروحة في هذا البحث في لقاءات عقدت في بيركلي وكلكتا, ومونتريال، وأكسفورد، و بیتسبرج، وسانتا كروز وستانفورد. وأني أدين بالعرفان لمن ساعدوني بنقدهم واقتراحاتهم. أدين أيضًا بالعرفان لديبيش شاكرابارتی، ورانجیت جحا, آسوك سين، وسوسي ثارو لما أبدوه من تعليقات على النسخة المبكرة من هذا البحث. وقد قدمت النسخة الراهنة في ملتقى هيئة وينار جرين فاونداشان في ميجاس بإسبانيا، وانتهز الفرصة لأشكر كل من شاركوا في هذا الملتقى، وللأشخاص الثلاثة الذين أجهل أسماءهم الذين قرأوا البحث قبل نشره في مجلة آميريكان إثنولوجيست. بعض أجزاء هذا البحث تشكل جزءًا من مقال أطول سينشر ضمن مجموعة من المقالات في كتاب من تحرير سوديش فايد وكومكوم سانجاري.

2 للاطلاع على المسوح الخاصة بهذا الخلاف انظري /انظر: Murshid 1983, pp. 19 -62: Borthwick 1984, pp. 60 -108: Karlekar 1986.

3 ينتشر في العدد الكبير من السير الذاتية التي كتبتها بنات الجيل المبكر من نساء الطبقة الوسطى المتعلمات روح الإنجاز هذه. للإطلاع على مقدمة لهذا الموضوع باللغة الإنجليزية انظر / انظري: Ghosh 1986

Borthwick, Meredith. 1984 The Changing Role of Women in Bengal 1849-1905. Princeton,N.J.: Princeton University Press.

Chatterjee, Parth. 1986. Nationalist Thought and the Colonial World. London: Zed Books.

Gandhi, M. 1970. Colected Works. Volume 64. New Delhi: Publications Division.

Ghosh, Srabashi. 1986. “Birds in a Cage: Changes in Bengali social Life as Recorded in Autobiographies by Women”. Economic and Political Weekly: Review of Women’s Studies (October), pp. 88-96.

Karlekar, Malavika. 1986. “Kadambini and the Bhadralok Early Debates over Women’s Education in Bengal.” Economic and Political Weekly: Review of Women’s Studies (April), pp. 25-31.

Laird, M. A. 1972. Missionaries and Education in Bengal 1793-1837. Oxford: Clarendon Press.

Mani, Lata. 1986. “The Production of an Official Discourse on Sati in Early Nineteenth- Century Bengal.” Economic and Political Weekly Review of Women’s Studies (April), pp. 32-40.

Mani, Lata. 1987. “Contentious Traditions: The Debate on Sati in Colonial India.” Cultural Critique. Volume 7, pp. 119-156.

Massie, J. W. 1839. Continental India. Volume 2. London: Thomas Ward.

Mukhopdhyay, Bhudev. 1969. Bhudev-racanasambhar, Pramathanath Bisi, ed. Calcutta: Mitra and Ghosh.

Murshid Ghulam. 1983. Reluctant Debutante: Response of Bengali Women to

Modernization 1849-1905. Rajshahi: Rajshahi University Sahitya Samsad.

شارك:

اصدارات متعلقة

استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم
قائمة المصطلحات Glossary
مطبوعات
مطبوعات