الإتجار بالنساء:
ملحوظات على “الاقتصاد السياسي” للجنس *
إن الكتابات التي تناولت النساء – سواء منها النسوية أو المضادة للنسوية – مليئة بتفكير عميق عن طبيعة ومنشأ القهر الواقع على النساء وتدني منزلتهن الاجتماعية. وهذه ليست مسألة تافهة، حيث إن الإجابات عليها تحدد رؤانا للمستقبل، وتقييمنا لما إذا كان أملنا في مجتمع فيه مساواة جنسية أمرًا واقعيًا أم خلاف ذلك. والأهم، أن تحليل أسباب قهر النساء يشكل أساس أي تقدير لما يجب تغييره للوصول إلى مجتمع دون تراتب مبني على النوع. وهكذا، إذا كان العنف والسيادة المتأصلان لدي الذكور هما منشأ قهر الإناث، فمن المنطقي أن يتطلب البرنامج النسوي إما إبادة الجنس الموذي، أو مشروعًا لتحسين النسل لتعديل صفات هذا الجنس. فإذا كان ظلم الناس، لاسيما النساء، بسبب جنسهن من النواتج الجانبية لنهم الرأسمالية للربح، لكان من شأنه أن يتناقص حتى يكاد ينتهي مع قيام ثورة اشتراكية ناجحة. وإذا كانت الهزيمة التاريخية لنساء العالم قد حدثت على أيدي ثورة أبوية مسلحة، فقد حان الوقت لبدء تدريب قوات حرب العصابات التابعة للنساء المحاربات (الأمازونيات) في جبال الآديرونداك. **
لا يدخل في نطاق هذا البحث إجراء نقد مستمر لبعض التفسيرات الشائعة حاليًا لمنشأ عدم العدالة في المجال الجنسي، كنظريات النشوء والارتقاء الشائعة التي من أمثلتها كتاب الحيوان الإمبريالي، أو ما يزعم عن الانقلاب الذي خلع النظم الأموية عن سدة الحكم في عصور ما قبل التاريخ, أو محاولة استباط جميع ظواهر تدني المكانة الاجتماعية للنساء من الجزء الأول من كتاب رأس المال. أريد أن أرسم بدلاً من ذلك خطوطًا عامة لبعض عناصر شرح بديل للمشكلة.
تساءل ماركس (Marx) ذات مرة: “ما العبد الزنجي؟ إنه إنسان من العِرق الأسود. إن الشرحين يتساويان في الجودة. الزنجي هو الزنجي. إنه لا يصير عبدًا إلا في إطار علاقات معينة. إن ماكينة غزل القطن المسماة باسم ماكينة جيني ليست إلا ماكينة لغزل القطن. وهي لا تصبح رأسمالا إلا في إطار علاقات معينة. فإذا انفصلت عن هذه العلاقات لا تكون رأسمالاً بأكثر ما يكون الذهب في حد ذاته مالاً أو يكون السكر هو سعر السكر” (Marx 1971, 28).. يمكن للمرء أن يعيد صياغة هذا القول على هذا النحو: ما هي المرأة المدجنة؟ إنها أنثى من الجنس البشري. إن الشرحين يتساويان في الجودة. المرأة هي المرأة. وهي لا تصير خادمة، أو زوجة، أو متاعًا, أو فتاة ملهي، أو عاهرة، أو ديكتافونا بشريًا إلا في إطار علاقات معينة. فإذا انفصلت عن هذه العلاقات لا تكون شريكًا مساعدًا للرجل بأكثر ما يكون الذهب في حد ذاته مالاً … الخ. ما هي إذن هذه العلاقات التي تتحول الأنثى في إطارها إلى امرأة مقهورة؟ يقع الموضع الملائم لبدء تفكيك نظام العلاقات الذي جعل النساء فرائس للرجال عند نقاط التقاء كتابات كلود ليفي – شتراوس (Claude Levi-Strauss) مع سيجموند فرويد(Sigmund freud) . لقد نوقش تدجين بالتفصيل في أعمالهما الكاملة، وإن سمى بأسماء أخرى. إن من يقرأ هذه الأعمال يبدأ في تكوين فكرة عن جهاز اجتماعي نظامي يأخذ الإناث كمادة خام ليصنَّعهن وينتج منهن نساء مدجنات. لا ينظر القراء إلى أي من فرويد أو ليفي– شتراوس في هذا الضوء، وبالتأكيد، لم يلق أي منهما نظرة نقدية على العمليات التي يصفها في كتاباته. من ثم، يجب قراءة تحليلاتهما ووصفهما بطريقة تشبه الطريقة التي قرأ بها ماركس علماء الاقتصاد السياسي الكلاسيكيين الذين سبقوه (للإطلاع على هذا أنظري/ أنظر:Althusser and Balibar 1970, 11- 69). إن فرويد وليفي – شتراوس معادلان بمعنى مالريكاردو (Ricardo) وسميث (Smith), فهما لا يريان عواقب ما يقولان، ولا النقد الضمني الذي يمكن أن تولِّده كتاباتهما حين تتعرض لعين نسوية. ورغم ذلك، فهما يزوداننا بأدوات فكرية يمكننا نبني بها وصفًا لهذا القطاع من حياة المجتمع الذي يقع فيه قهر النساء، والأقليات الجنسية، وجوانب معينة من الشخصية الإنسانية في الأفراد. أنا أسمي القطاع من الحياة الاجتماعية “نسق الجنس/ النوع“، وذلك لعدم وجود مصطلح أكثر أناقة. سأقدم تعريفًا أوليًا لـ “نسق الجنس / النوع“، ألا وهو مجموعة الترتيبات التي يحوِّل بها المجتمع الطبيعة الجنسية البيولوجية إلى نواتج للنشاط البشري، والتي يتم من خلالها إشباع هذه الحاجات الجنسية. الغرض من هذا المقال الوصول إلى تعريف أكثر وضوحًا لنسق الجنس/ النوع, وذلك عن طريق قراءة ليفي – شتراوس وفرويد قراءة فيها شيء من الغرابة والتفسير المسهب، وقد استخدم مصطلح “التفسير المسهب (exegetical)” قصدًا. يعرف المعجم كلمة “التفسير المسهب” بأنها “الشرح النقدي أو التحليل؛ لاسيما تأويل الكتب المقدسة“. أحيانًا ما تكون قراءتي لليفي – شتراوس وفرويد قراءة تأويلية حرة، أنتقل فيها من المضمون الصريح للنص إلى فرضياته المسبقة ومعانيه المضنية. تمر قراءتي لنصوص معينة في التحليل النفسي من خلال عدسات زودني بها جاك لاكان (Jacques Lacan), الذي تأثرت تأويلاته لكتابات فرويد تأثرًا شديدًا بكتابات ليفي – شتراوس.1
سأعود لاحقًا لأعطي مزيدًا من التوضيح لتعريف نسق الجنس / النوع. لكني سأبدأ أولاً بمحاولة إيضاح الحاجة مثل هذا المفهوم بمناقشتى لفشل الماركسية الكلاسيكية تمامًا في التعبير عن القهر الجنسي أو إعطاءه فكرة عنه. جاء هذا الفشل من الماركسية، كنظرية للحياة الاجتماعية، غير مهتمة بالجنس. فالبشر على خريطة ماركس العالم الاجتماعي إما عمال، أو فلاحين، أو رأسماليين؛ ولم تر الماركسية أن كونهم أيضًا رجالاً ونساءً أمر ذو بال. والأمر على العكس من خرائط الواقع الاجتماعي كما رسمها فرويد وليفي – شتراوس، إذ اعترفا بعمق بمكان الطبيعة الجنسية في المجتمع، وبالفارق العميق بين الخبرات الاجتماعية للرجال والنساء.
لا توجد نظرية تفسر قهر النساء – بأنواعه اللانهائية وحدوثه بوتيرة رتيبة متشابهة، عبر كل الثقافات – وعبر التاريخ – في قوة قدرة النظرية الماركسية تفسير القهر الطبقي. لذا, لا عجب في حدوث محاولات عديدة لتطبيق التحليل الماركسي على قضية النساء. ولهذا طرق عدة.
أثير أن النساء مخزون من القوى العاملة من أجل الرأسمالية , وأن أجور النساء الأقل من أجور الرجال عمومًا تعطي مزيدًا من الفائض لصاحب العمل الرأسمالي، وأن النساء يخدمن أهداف الاستهلاكية الرأسمالية بأدوارهن كمديرات لاستهلاك الأسرة، وما إلى ذلك. [….]
باختصار؛ ذهب ماركس إلى أن الرأسمالية تتميز عن جميع أنماط الإنتاج الأخرى بهدفها الفريد، ألا وهو خلق رأس المال والتوسع فيه. […] إن الرأسمالية مجموعة من العلاقات الاجتماعية – أشكال الملكية، وما إلى ذلك – يأخذ فيها الإنتاج شكل تحويل المال، والأشياء، والناس إلى رأس مال. ورأس المال عبارة عن كمية من البضائع أو الأموال، حين تدخل في عملية تبادلية مع العمل، تعيد إنتاج وتقوية نفسها باستخلاص العمل غير المأجور، أو فائض القيمة، وإضافته إلى نفسها. […] والتبادل بين رأس المال والعمل الذي ينتج فائض القيمة، ومن ثم رأس المال، له طبيعة نوعية خاصة جدا. العامل يحصل على أجر؛ والرأسمالي يحصل على الأشياء التي صنعها العامل أو العاملة في فترة الوظيفة. فإذا تجاوز إجمالي قيمة الأشياء التي صنعها العامل أو العاملة قيمة أجره أو أجرها، يكون هدف الرأسمالي قد تحقق. الرأسمالي يستعيد تكلفة ما دفعه من أجر, مضافًا إليه، علاوة، هي فائض القيمة. هذا يحدث لأن الأجر لا يحسب على أساس قيمة ما يصنعه العامل أو العاملة، لكن على أساس قيمة ما يلزم للحفاظ على جهده أو جهدها، أي إعادة إنتاج العامل أو العاملة من يوم إلى آخر، وإعادة إنتاج القوى العاملة بأكملها من جيل إلى جيل. ففائص القيمة إذن هو الفرق بين ما تنتجه الطبقة العاملة ككل، وكمية الإجمالي الذي يعاد استخدامه للحفاظ على بقاء الطبقة العاملة […].
فكمية الفرق بين إعادة إنتاج القوى العاملة وبين ما تنتجه تعتمد إذن على تحديد ما هو لازم لإعادة إنتاج هذه القوى العاملة. يميل ماركس إلى تحديد هذه القيمة على أساس كمية السلع اللازمة للحفاظ على صحة العامل أو العاملة، وحياتهما، وقوتهما، من طعام، وكساء، ومسكن، ووقود. لكن هذه السلع لابد أن تستهلك أولاً حتى يمكن أن تصير قوتًا، وعند شرائها بالأجر لا تكون في شكل قابل للاستهلاك فورًا، إذ لا بد من عمل إضافي لمعالجة هذه الأشياء حتى تتحول إلى بشر. فالطعام لابد أن يطهي، والملابس لابد أن تغسل، والفراش لابد أن يرتب، والحطب لابد أن يقطع، الخ. الأعمال المنزلية إذن عنصر مهم في عملية إعادة إنتاج العامل الذي يستخرج منه فائض القيمة. وحيث إن النساء هن من يقمن عادة بالأعمال المنزلية، فقد لوحظ أن النساء يرتبطن بالسلسلة المؤدية لفائض القيمة عبر إعادة إنتاج القوى العاملة، علمًا بأن فائض القيمة شرط أساسي من شروط الرأسمالية.2 يمكن أن نُحاجّ أيضًا في أنه حيث إن العمل المنزلي لا يدفع عنه أجر, فإن عمالة النساء في البيت تسهم في الكمية النهائية لفائض القيمة الذي يحققه الرأسمالي. لكن شرح فائدة النساء للرأسمالية شيء، والمحاجاة في أن هذه الفائدة تفسر نشأة قهر النساء شيء آخر تمامًا. عند هذه النقطة بالضبط يكف تحليل الرأسمالية عن تفسير الكثير مما يخص النساء وقهر النساء.
إن النساء مقهورات في مجتمعات لا يمكن أن توصف بأنها رأسمالية، حتى ولو باستخدام أوسع آفاق الخيال. ففي وادي الأمازون، ومرتفعات نيو غينيا، حين لا تنفع آليات التخويف الذكورية العادية، كثيرًا ما تحبس النساء في بيوتهن خوفًا من عمليات الاغتصاب التي تقوم بها العصابات، قال أحد رجال الماندوروكو: “نحن نروض نساءنا بالموزة(Murphy 1959, 195) . والسجل الإثنوغرافي ملئ بممارسات من نتائجها أن تحفظ النساء (مركزهن)، مثل مراسم العبادة الخاصة بالرجال، وطقوس التنصيب السرية، والمعارف السرية للرجال، الخ. يصعب وصف أوروبا الإقطاعية السابقة على الرأسمالية بأنها كانت مجتمعًا خاليًا من التعصب الجنسي. ثم قبضت الرأسمالية على مقاليد الأمور، وغيرت فكرتي الذكر والأنثى اللتين سبقتاها بقرون. لا يمكن لأي تحليل لإعادة إنتاج القوى العاملة تحت النظام الرأسمالي أن يفسر ربط الأقدام، وأحزمة العفة، وأي من مجموعة الممارسات البيزنطية الفيتيشية المهدرة للكرامة، ناهيك عن ما ظلت الممارسات المعتادة أكثر من غيرها تفعله بالنساء في مختلف الأزمنة والأمكنة. بل إن تحليل إعادة إنتاج القوى العاملة لا يفسر حتى لماذا تتولى النساء عادة الأعمال المنزلية في البيت، ولا يتولاها الرجال. […]
نظر إنجلز (Engels) في كتابه أصل العائلة، والملكية الخاصة، والدولة إلى القهر الجنسي كجزء من الإرث الذي آل إلى الرأسمالية من الأشكال الاجتماعية التي سبقتها.
وفقًا للمفهوم المادي، فإن العامل الأخير الحاسم في التاريخ هو إنتاج الحياة المعاشة وإعادة إنتاجها. وأعيد القول بأن لهذا العامل اثنين من الخصائص: إنتاج وسائل البقاء، والطعام، والملابس، والمأوى، والأدوات الضرورية لكل هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى إنتاج البشر أنفسهم، أي إكثار النوع البشري. والتنظيم الاجتماعي الذي يعيش في ظله أهل حقبة تاريخية معينة أو بلد معين يحدده هذان النوعان من الإنتاج، في مرحلة إنشاء العمالة من جهة, والأسرة من جهة أخرى. (Engels 1972, 71- 72 , تشديد المؤلفة).
إن هذه الفقرة تشير إلى إدراك الكاتب لشيء مهم، هو أن الجماعة البشرية يجب أن تفعل ما هو أكثر من استعمال نشاطها لإعادة تشكيل العالم الطبيعي من أجل إطعام نفسها، وكسوتها وتدفئتها. عادة ما ندعو النسق الذي تتحول بمقتضاه عناصر العالم الطبيعي إلى أشياء يستهلكها الإنسان باسم “الاقتصاد“. لكن الحاجات التي يشبعها النشاط الاقتصادي، حتى بأغنى المعاني الماركسية، ليست كل المتطلبات الأساسية للبشر، فالجماعة البشرية لابد أن تعيد إنتاج نفسها أيضًا من جيل إلى آخر. لابد من إشباع حاجات الطبيعة الجنسية والإنجاب / [إعادة إنتاج البشر] بقدر إشباع الحاجة إلى الطعام، ومن أوضح ما يمكن استنباطه من بيانات علم الأنثروبولوجيا أن هذه الحاجات تكاد لا تشبع بأي شكل “طبيعي” بأكثر مما يشبع الاحتياج للطعام. الجوع هو الجوع، لكن الثقافة تحدد ما الذي يعتبر طعامًا وكيفية الحصول عليه. ولكل مجتمع أيضًا نسق خاص بالجنس/ النوع، يتكون من مجموعة من الترتيبات يشكل التدخل الاجتماعي بمقتضاها المادة الخام للجنس والإنجاب /إعادة إنتاج البشر لدى الإنسان، وتشبع هذه الحاجات بطريقة متعارف عليها، مهما كانت غرابة بعض الأعراف.3
لقد جرى إخضاع عالم الجنس، والنوع، والإنجاب / إعادة إنتاج البشر لدى الإنسان لنشاط اجتماعي لا يكل ولا يني لآلاف السنين، وقد غير هذا النشاط الاجتماعي ذلك العالم. أن الجنس كما نعرفه – هوية الفرد من حيث النوع، والرغبات والخيالات الجنسية، ومفهوم الطفولة– هو نفسه ناتج اجتماعي. […] في معظم التراث الماركسي، بل وفي كتاب إنجلز، كان مفهوم “الوجه الثاني للحياة المادية” يميل إلى التراجع نحو الخلفية حتى التلاشي، أو إلى الاندماج في الفكرة المعتادة عن “الحياة المادية“. لم تحدث أبدًا متابعة لافتراض إنجلز ولم يخضع أبدًا للتحسين اللازم له. لكنه يشير إلى وجود وأهمية مجال الحياة الاجتماعية الذي أريد تسميته باسم نسق الجنس / النوع.
اقتُرِحَت أسماء أخرى لنسق الجنس / النوع، أشهر البدائل هي “أسلوب الإنجاب / إعادة إنتاج البشر“، و“النظام الأبوي” . تبدو المجادلة في المصطلحات من الحماقة، لكن هذين المصطلحين قد يسببان خلطًا. وقد اقترحت المصطلحات الثلاث للتمييز ما بين الُنُسق الاقتصادية والنُسُق الجنسية“، وللإشارة إلى أن النُسُق “الجنسية” لها نوع من الاستقلال بذاتها ولا يمكن تفسيرها على طول الخط بعبارات القوى الاقتصادية. فقد اقترح مصطلح “أسلوب الإنجاب / [إعادة إنتاج البشر]” مثلاً كمعارضة لمصطلح “أسلوب الإنتاج” الأكثر شيوعًا. لكن هذا الاصطلاح يربط “الاقتصاد” بالإنتاج، والنسق الجنسي بـ “الإنجاب / إعادة إنتاج البشر“. وهو يختزل ثراء أي من النسقين، حيث إن عمليات “الإنتاج” و“إعادة الانتاج” تحدث في النسقين كليهما، فكل أسلوب إنتاج يتضمن إعادة إنتاج: إعادة إنتاج الأدوات، والعمالة، والعلاقات الاجتماعية. لا يمكننا اختزال كل جوانب الإنجاب / إعادة لإنتاج الاجتماعي ذي الوجود المتعددة إلى نسق جنسي. إن إحلال الآلات مثال على إعادة الإنتاج في النسق الاقتصادي. ومن جهة أخرى، لا يمكننا أن نقصر النسق الجنسي على “الإنجاب / إعادة إنتاج البشر“، لا بالمعنى الاجتماعي ولا بالمعنى البيولوجي للكلمة. إن نسق الجنس / النوع ليس مجرد لحظة إعادة الانتاج في “أسلوب إنتاج معين“. إن تشكيل هوية الفرد حسب نوعه مثال على الإنتاج في عالم النسق الجنسي. ونسق الجنس / النوع يتضمن ما يتجاوز مجرد “علاقات الإنجاب“، أي إعادة الإنتاج بالمعنى البيولوجي.
لقد أدخل مصطلح “النظام الأبوي” لتمييز القوى التي تحافظ على استمرارية التعصب الجنسي عن غيرها من القوى الاجتماعية الأخرى، مثل الرأسمالية. لكن استخدام مصطلح “النظام الأبوي” يضعف رؤيتنا لفروق أخرى تميز هذه القوى. أن استخدام مصطلح “النظام الأبوي” يعادل استخدام مصطلح الرأسمالية للإشارة إلى جميع أساليب الإنتاج، بينما تكمن فائدة مصطلح “الرأسمالية” بالتحديد في أنه يميز بين مختلف النُسُق التي تزود المجتمعات باحتياجاتها وتنظمها. […] تكمن قوة مصطلح “الرأسمالية” في أنه يعني ضمنًا وجود بدائل للرأسمالية.
ولكل المجتمعات بالمثل طرق نسقية للتعامل مع الجنس، والنوع، والأطفال الرضع. قد يتميز النسق المستخدم في مجتمع ما بالمساواة بين الأفراد مختلفي الجنس، على الأقل نظريًا، أو قد يكون نسقًا مقسمًا إلى شرائح على أساس النوع، ويبدو أن هذا هو الحال في معظم الأسئلة المعروفة أو كلها. لكن من المهم – حتى في مواجهة تاريخ مسبب للاكتئاب – الحفاظ على التمييز بين قدرة البشر على خلق عالم جنسي وضرورة خلق هذا العالم، وبين طرق القهر العملية التي استخدمت لتنظيم العالم الجنسي لمختلف الناس. إن مصطلح النظام الأبوي يدمج المعنيين في مصطلح واحد، أما مصطلح نسق الجنس / النوع فمصطلح محايد يشير إلى المجال المعنىّ كما يشير إلى أن القهر ليس أمرًا حتميًا في هذا المجال، لكنه نتاج علاقات اجتماعية معينة تنظمه.
وأخيرًا، لدينا النُسُق المقسمة إلى شرائح على أساس النوع، والتي لا توصف بشكل كاف بأنها نظم أبوية. أن الكثير من مجتمعات نيو غينيا تقهر النساء بقسوة (مثل جماعات الإنجا, والمارينج، والبينا بينا، والهولي، والميلبا، والكوما، والجاهوكو – جاما، والفور، والماريند آنيم). (ولمزيد من الإطلاع على مثل هذه الطرائف المسلية انظري / انظر: Berndt 1962; Langness 1967; Rappaport and Buchbinder 1976; Read 1952; Meggitt 1964; Glasse 1971; Strathern 1972; Reay 1959; Van Baal 1966; Lindenbaum 1973) لكن قوة الذكور في هذه الجماعات لا تقوم على أساس أدوارهم كآباء بالمعنى البيولوجي أو الاجتماعي، بل على الذكورة الجمعية للبالغين، المتجذرة في مراسم سرية، والبيوت الخاصة بالرجال، وكل ما يخصهم من أدوات الحرب، وشبكات التبادل، والمعارف الطقسية، ومختلف إجراءات التنصيب.
إن النظام الأبوي شكل خاص جدًا من أشكال الهيمنة الذكورية، واستخدام هذا المصطلح يجب أن يقتصر على البدو الرعاة من النوع الذي ذكره العهد القديم الذين استمد المصطلح منهم، أو على الجماعات الشبيهة بهم.
[…]
وأيما مصطلح استخدمناه، من المهم أن ننشئ مفاهيم تصف بكفاءة التنظيم الاجتماعي للطبيعة الجنسية وإعادة إنتاج أعراف الجنس والنوع. ويلزمنا أن نتابع المشروع الذي تخلى عنه إنجلز حين حدد موضع قهر النساء في تطور حدث في أسلوب الإنتاج.4 ولكي نفعل ذلك يمكننا أن نحاكي منهج إنجلز لا نتائجه. دخل إنجلز إلى مهمة تحليل “الوجه الثاني للحياة المادية” عن طريق دراسة نظرية نُسُق القرابة. إن نُسُق القرابة متنوعة وتؤدي العديد من المهام. لكنها تتكون من أشكال من الطبيعة الجنسية المنظمة اجتماعيًا، وهي تعيد إنتاج هذه الأشكال. والناس يلتزمون بنُسُق القرابة والأشكال الملحوظة عمليًا من نُسُق الجنس /النوع.
(حول الدور الذي لعبته الطبيعة الجنسية في الانتقال من القرد إلى “الإنسان“)
نسق القراية بالنسبة لعالم الأنثروبولوجيا ليس قائمة بأسماء الأقرباء البيولوجيين، بل هو نسق من التقسيمات ومراتب المكانة التي كثيرًا ما تتعارض مع العلاقات الجينية الفعلية. ولدينا عشرات من الأمثلة على تقدم مراتب المكانة المحددة اجتماعيًا بين الأقارب على القرابة البيولوجية […]
في المجتمعات التي سبقت ظهور الدولة، يدل مصطلح القرابة على التفاعل الاجتماعي، وتنظيم الاقتصاد، والأنشطة السياسية، والاحتفالية، إلى جانب النشاط الجنسي. وتتحدد واجبات الأفراد، ومسئولياتهم ومميزاتهم مقابل الآخرين من حيث قرابتهم أو عدم قرابتهم لبعضهم البعض. فتبادل السلع والخدمات، والإنتاج والتوزيع، والكراهية والتضامن، والطقوس والاحتفالات، تحدث كلها في إطار هيكل منظم للقرابة. وقد أدى وجود القرابة في عموم المجتمعات وفعاليتها وقدرتها على التكيف بالكثير من علماء الأنثروبولوجيا إلى التفكير في أن اختراع القرابة، مع اختراع اللغة، كانا التطورين اللذين حددا بحسم القطيعة بين القردة الشبيهة بالإنسان والجنس البشري (Sahlins 1960; Livingstone 1969; Levi-Strauss 1969)
تتمتع فكرة أهمية القرابة بمكانة المبدأ الأول في علم الأنثروبولوجيا، لكن المفعول الداخلي لنُسُق القرابة ظل طويلاً محورًا لجدل شديد. تتنوع نُسُق القرابة بشدة من ثقافة لأخرى. وفيها كل أنواع القواعد المحيرة التي تتحكم فيمن يمكن أن يتزوجه الفرد (أنثى كان أم ذكرًا) أو لا يمكن أن يتزوجه. إن التعقيد الداخلي لهذه النظم محير جدًا. لقد أثارت نظم القرابة مخيلة علماء الأنثروبولوجيا لعدة عقود ودفعتهم لمحاولة تفسير المحرمات المتعلقة بزنا المحارم، وزواج أبناء وبنات العم والخال، وشروط الانحدار من سلسال القرابة، والعلاقات التي تفرض على الشخص تجنب أشخاص معينين أو ترغمه على عقد علاقات حميمة معهم، والعشائر والجماعات، ومحرمات التسمية، وما إلى ذلك من الأشياء المتنوعة التي توجد في أوصاف نُسُق القرابة الفعلية. […]
إننا حين نأخذ بمشروع إنجلز لاستخراج نظرية عن القهر الجنسي من دراسة القرابة، لتمتع بميزة النضج الذي حققه علم الأعراق (الإثنولوجي) منذ القرن التاسع عشر. ولدينا أيضًا ميزة الاطلاع على كتاب شديد التميز وملائم على نحو الخصوص، ألا وهو كتاب الهياكل البدائية للقرابة لمؤلفه ليفي – ستراوس، وهو كتاب يفهم القرابة صراحة على أنها فرض للتنظيم الثقافي على حقائق الإنجاب البيولوجي. يتخلل الكتاب وعي بأهمية الطبيعة الجنسية في المجتمع الإنساني. وهو وصف للمجتمع لا يفترض وجود ذات إنسانية مطلقة لا علاقة لها بالتقسيم حسب النوع الاجتماعي. فالذات الإنسانية في كتاب ليفي شتراوس – على عكس ذلك– إما أن تكون ذكرًا أو أنثى دائمًا، ومن ثم، يمكن تتبع المصائر الاجتماعية المتباينة للجنسين. وحيث إن ليفي – شتراوس يرى أن جوهر نسق القرابة يكمن في تبادل النساء فيما بين الرجال، فهو يبني نظرية ضمنية عن القهر الجنسي. […]
مونيك ويتينج
إن كتاب الهياكل الأولية للقرابة تقرير عظيم عن نشأة المجتمع الإنساني وطبيعته. وهو أطروحة عن نظم القرابة لدي حوالي ثلث أعراق الكرة الأرضية. والأهم أنه محاولة لفهم خفايا المبادئ البنائية للقرابة. يذهب ليفي – شتراوس إلى أن تطبيق هذه المبادئ (التي لخصها في الفصل الأخير من كتاب الهياكل الأولية للقرابة) على بيانات القرابة تكشف عن منطق معقول للمحرمات وقواعد الزواج التي حيرت علماء الأنثروبولوجيا الغربيين وعضت على فهمهم. يبني ليفي – شتراوس لعبة شطرنج شديدة التعقيد إلى حد أننا لا يمكننا تلخيصها هنا. لكن قطعتين من لعبة الشطرنج التي ابتكرها لهما علاقة بالنساء – “الهدية” ومحرمات زنا المحارم، وهما متصلتان على نحو مزدوج يشكل إضافة لمفهومه عن تبادل النساء.
ويعد كتاب الهياكل الأولية للقرابة جزئيًا– عبارة عن شرح توضيحي جذري لنظرية شهيرة أخرى عن تنظيم المجتمع البدائي، وردت في مقال موس (Mauss) عن الهدية (انظري / انظر أيضًا: Sahlins 1972, Chapter 4.) كان موس هو أول من نظر لأهمية أحد أبرز سمات المجتمعات البدائية، ألا وهو مدى سيطرة تقديم الهدايا، وتلقيها، وتبادلها على الخطاب الاجتماعي. في هذه المجتمعات، تدور كل الأشياء المتنوعة في عملية تبادل: الطعام، والسحر، والطقوس، والكلمات، وأدوات الزينة، وأدوات العمل، والقوى.
[…]
ورغم أن كلا من موس وليفي – شتراوس يؤكدان ما في تبادل الهدايا من جوانب التضامن، فإن الأغراض الأخرى التي يخدمها تقديم الهدايا تؤكد فقط فكرة أن الهدايا وسيلة عامة للتجارة الاجتماعية في جميع المجتمعات. أشار موس إلى أن الهدايا كانت خيوط الخطاب الاجتماعي، والوسائل التي كانت تجمع شمل هذه المجتمعات في غياب مؤسسات حكومية متخصصة. […]
أما ليفي – شتراوس فيضيف إلى نظرية التبادل البدائي فكرة أن الزواج أول الأشكال الأساسية لتبادل الهدايا، وفيه تكون النساء أثمن الهدايا. ويذهب إلى أن أفضل طريقة لفهم محرمات زنا المحارم في النظر إليه كآلية لضمان حدوث مثل هذه المبادلات بين العائلات وبين الجماعات. وحيث إن تحريم زنا المحارم أمر يعم كل أنحاء البسيطة، إلا أن محتوى المحظورات فيه متنوع, فلا يمكن فهمه على أنه يهدف لمنع حدوث التزاوج بين الأقرباء ذوي التركيب الجيني الواحد. بل إن تحريم زنا المحارم يفرض هدفا اجتماعيًا هو التزاوج من خارج الجماعة والتحالف في المناسبات البيولوجية التي تحتفي بالجنس والانجاب. إن تحريم زنا المحارم يقسم عالم الاختيار الجنسي إلى فئات من الشركاء الجنسيين المحرمين والمباحين. فبتحريم الزواج داخل جماعة معينة يصير من الضروري حدوث التبادل بالتزاوج بين الجماعات وبعضها البعض، وهذه وظيفة تحريم زنا المحارم على وجه الخصوص. […]
إن نتيجة إهداء امرأة أعمق من نتيجة عمليات إهداء أي هدايا أخرى، لأن العلاقة التي تنشأ عن إهداء امرأة ليست مجرد علاقة تبادل، لكنها علاقة قرابة. لقد صار الشريكان في عملية التبادل صهرين، وذريتهما سترتبط ببعضها برباط الدم، […] وكما هو الحال في الأنواع الأخرى من تقديم الهدايا، فعلاقات الزواج ليست مجرد انشطة لإقرار السلام، إن قد توجد في علاقات الزواج منافسة شديدة، ويوجد الكثير من الأصهار الذين يحاربون بعضهم البعض. لكن الحجة عمومًا هي أن تحريم زنا المحارم يؤدي إلى إنشاء شبكة واسعة من العلاقات، وإلى مجموعة من الناس تربطهم هياكل القرابة ببعضهم البعض. وكل مستويات التبادل الأخرى، وكمياته واتجاهاته – بما في ذلك تبادل الكراهية – تنظمها هذه الهياكل. إن احتفالات الزواج التي سجلتها التقارير الإثنوغرافية ما هي إلا لحظات في مسيرة منظمة لا تنتهي، تمر فيها النساء، والأطفال والقواقع، والكلمات، وأسماء الماشية، والأسماك، والأسلاف، وأسنان الحوت، والخنازير، وبنات اليام، والسحر، والرقصات، والأبسطة، الخ من يد إلى يد، وتترك آثارها في شكل ارتباطات تربط الناس ببعضهم البعض. إن القرابة منظمة، والمنظمات تعطي القوة. لكن، من الذي ينتظم في هذه المنظمة؟
إذا كانت النساء هن من يتم تبادلين، فالرجال الذين يعطونهن ويأخذونهن هم من يرتبطون ببعضهم، ولا تزيد النساء عن كونهن قنوات لنقل العلاقات أكثر منهن شريكات فيها. إن تبادل النساء لا يعني ضمنًا بالضرورة أنهن قد حولن إلى أشياء (تشيأن)، بالمعنى الحديث للكلمة، حيث إن الأشياء في العالم البدائي مشحونة بالكثير من الخصائص الشخصية. لكنه يعني ضمنًا التمييز بين الهدية ومن يهديها. إذا كانت النساء هن الهدايا، يكون الرجال هم الشركاء الذين يباشرون التبادل. والتبادل المتبادل، يضفي قوة الرباط الاجتماعي شبه السحرية على الشركاء، لا على الهدايا. وتقضي العلاقات في هذا النسق أن توجد النساء في وضع لا يجنين فيه أي ربح من عمليات تبادلهن، وطالما حددت العلاقات أن الرجال هم الذين يتبادلون النساء، فإن الرجال هم المستفيدون من ناتج هذا التبادل، ألا وهو التنظيم الاجتماعي.
[…]
إن “تبادل النساء” مفهوم مغرٍ وقوي. تكمن جاذبيته في أنه يضع قهر النساء في إطار النظم الاجتماعية لا البيولوجية. كما أنه يقترح علينا أن نبحث عن الموضع النهائي لقهر النساء في مجال الاتجار بالنساء، لا في مجال الاتجار بالبضائع، ليس من الصعب بالتأكيد أن نجد أمثلة إثنوغرافية وتاريخية على الاتجار بالنساء. فالنساء يجري منحهن في الزواج، ويؤخذن عنوة في الحروب، ويتم تبادلهن مقابل جمائل، ويرسلن إلى آخرين من باب التكريم، ويجري الاتجار بهن، وابتياعهن، ويبعهن. وهذه الممارسات أبعد ما تكون عن أن تقتصر على العالم “البدائي” ، لا يبدو أنها تصبح أكثر بروزًا وتأخذ مزيدًا من الطابع التجاري في المجتمعات الأكثر “تحضرًا“. ويحدث الاتجار بالرجال أيضًا بالطبع، لكن الاتجار بهم لا يحدث بصفتهم رجالاً، بل بصفتهم عبيدًا، أو عاهرين، أو نجومًا رياضيين، أو أقنانًا، أو كما يحدث في حالة بعض الكوارث الاجتماعية. والنساء يقايض بهن باعتبارهن إماءً، أو أقنانًا, أو عاهرات، لكن الاتجار بهن يحدث أيضا لمجرد أنهن نساء. وإذا كان الرجال فاعلين جنسيين (من يباشرون التبادل) والنساء شبه مفعول بهن جنسيًا (هدايا) طوال معظم تاريخ البشرية، فإن كثيرًا من الأعراف، والكليشيهات، والسمات الشخصية تبدو معقولة جدًا (من بينها العرف العجيب الذي يعطي الأب بمقتضاه العروس لعريسها). و” تبادل النساء” مفهوم إشكالي أيضًا. فمنذ ذهب ليفي – شتراوس إلى أن تحريمات زنا المحارم ونتائج تطبيقه شكل نشأة الثقافة، يمكننا استنباط أن الهزيمة التاريخية العالمية للنساء قد حدثت مع نشأة الثقافة، وأنها شرط للثقافة. فاذا أخذنا بتحليل ليفي – شتراوس في شكله الخالص، يكون على البرنامج النسوي أن يشمل مهمة أكثر صعوبة حتى من القضاء على الرجال، إذ عليه أن يحاول التخلص من الثقافة وإحلال ظاهرة جديدة تمامًا محلها على وجه الأرض. لكن المحاجاة في أنه لو لم يوجد تبادل النساء لانتفي وجود الثقافة أمر محاط بالشكوك على أحسن الأحوال، حتى ولو كان سبب الشك الوحيد أن الثقافة بحكم تعريفها عمل خلاق. بل إن القول بأن “تبادل النساء” يفسر بكفاءة كل الشواهد العملية لنظم القرابة ما زال موضع خلاف. بعض الثقافات – مثل ثقافتي الليلي واللوما – تتبادل النساء صراحة وعلنًا. وفي ثقافات أخرى يمكن للمرء أن يستنتج وجود تبادل للنساء. وفي بعضها الآخر، لاسيما في ثقافات الصيادين وجامعي الثمار الذين استبعدتهم عينة ليفي – شتراوس، يشك في فعالية المفهوم بالكلية. من نحن حتى نتشئ مفهومًا يبدو مفيدًا جدًا لكنه صعب إلى هذا الحد؟
إن “تبادل النساء” ليس من محددات الثقافة، كما أنه ليس نسقًا في حد ذاته ولا لذاته. هذا المفهوم قلق حك لكنه مكثف ينتاب جوانب معينة من العلاقات الاجتماعية في مجالي الجنس والنوع، أن نسق القرابة عبارة عن فرض أهداف اجتماعية على جزء من العالم الطبيعي.
[…] ولهذا النسق علاقات الإنتاج، والتوزيع، والتبادل الخاصة به، التي تشمل أشكالاً معينة من “ملكية” البشر. وهذه الأشكال ليست بأكملها حقوق ملكية خاصة فقط، بل هي أنواع مختلفة من الحقوق التي يملكها مختلف الناس في أناس آخرين. إن معاملات التبادل في الزواج – الهدايا والأشياء التي يتم تبادلها في دائرة الاحتفالات التي تعتبر علامة على الزواج – مصدر غني للبيانات التي تمكننا من أن نقرر بالضبط من له أي حق من الحقوق على من. ولا يصعب أن تستنبط من هذه التبادلات أن حقوق النساء في معظم الحالات تعتبر مؤخرة أكثر من حقوق الرجال.
إن نظم القرابة لا تتبادل النساء فقط. إنها تتبادل المداخل إلى الجنس، وأنواع المكانة التي تأتي عن طريق سلسال النسب، وأسماء العائلة التي ينحدر منها الفرد وأسلافها، والحقوق والناس رجالاً، ونساءً وأطفالاً – في نظم علاقات اجتماعية ملموسة. ودائمًا ما تشمل هذه العلاقات حقوقًا معينة للرجال، وأخرى للنساء. إن عبارة “تبادل النساء” اختزال للتعبير عن أن العلاقات الاجتماعية في أي نسق قرابة تعين للرجال حقوقًا معينة على قريباتهم من النساء، وأن النساء ليست لهن نفس الحقوق، لا على أنفسهن ولا على أقربائهن من الرجال. فتبادل النساء بهذا المعنى إدراك عميق لنسق لا تملك فيه النساء حقوقًا كاملة على أنفسهن. […]
إذا كان ليفي – شتراوس قد أصاب في رؤيته لتبادل النساء كمبدأ أساسي للقرابة، يمكننا النظر للمكانة الثانوية للنساء باعتبارها من نواتج العلاقات التي تنظم الجنس والنوع وتنتجهما. أن القهر الاقتصادي للنساء ناتج جانبي وثانوي. لكن توجد “اقتصاديات” للجنس والنوع، وما زال يلزمنا علم اقتصاد سياسي للنظم الجنسية. يلزمنا أن ندرس كل مجتمع على حدة لنحدد بالضبط الآليات التي تنتج أعرافًا معينة للطبيعة الجنسية وتحافظ على استمرار هذه الأعراف، إن “تبادل النساء” خطوة أولى نحو بناء ترسانة من المفاهيم التي يمكن أن نصف بها النظم الجنسية.
يمكننا الخروج بمزيد من المفاهيم من مقال كتبه ليفي – شتراوس بعنوان “العائلة“، يقدم فيه اعتبارات أخرى لتحيله للقرابة (Levi- Strauss 1971). يصف ليفي – شتراوس في كتابه الهياكل الأولية للقرابة القواعد والنظم التي تحكم الاقتران الجنسي. أما في مقال “العائلة” فيثير قضية الشروط المسبقة اللازمة لكي تقوم نظم الزواج بعملها. يتساءل ليفي – شتراوس في هذا المقال عن نوع “الناس” الذين تتطلبهم نظم القرابة، وذلك عن طريق تحليل تقسيم العمل على أساس الجنس.
رغم أن كل مجتمع فيه نوع أو آخر من تقسيم المهام على أساس الجنس، فإن المجتمعات تتباین بشدة في إسناد عمل أو آخر لجنس معين أو آخر. فالزراعة تمثل في بعض الجماعات عمل النساء، وهي في غيرها عمل الرجال. وفي بعض المجتمعات تحمل النساء الأثقال، ويحملها الرجال، في مجتمعات أخرى. بل أننا نجد أمثلة للنساء صيادات ومحاربات، ولرجال يقومون بمهام رعاية الأطفال. أجرى ليفي – شتراوس مسحًا على تقسيم العمل على أساس الجنس، خلص منه إلى أن تقسيم العمل ليس من الخصائص البيولوجية، لكن لابد أن يكون له غرض آخر. وقد ذهب إلى أن هذا الغرض هو ضمان اتحاد الرجال بالنساء عن طريق جعل أصغر وحدة اقتصادية قادرة على البقاء تضم رجلاً واحدًا وامرأة واحدة على الأقل. […] يمكننا إذن أن نرى أن تقسيم العمل على أساس الجنس من “المحرمات” ، فهو يحرم تشابه الرجال والنساء، وهو نوع من التحريم يقسم الناس على أساس الجنس إلى فئتين متنافيتين لا ثالث لهما، وهو نوع من التحريم يضاعف من الفروق البيولوجية بين الجنسين، ومن ثم يخلق النوع. ويمكن أن يعتبر تقسيم العمل أيضًا تحريمًا لحدوث أي ترتيبات جنسية غير التي تضم رجلاً واحدًا وامرأة واحدة على الأقل، فهو بذلك يوصي بالزواج بين جنسین متغايرين.
[…]
من المهم أن نمضي في هذا النوع من الاستنباط حتى إلى أبعد مما وصل إليه ليفي – شتراوس، وأن نشرح بالتفصيل الأساس المنطقي لكامل تحليله للقرابة. وعلى المستوى الأكثر عمومية، يقوم التنظيم الاجتماعي للجنس على أساس النوع، واقتصار الممارسة الجنسية جبريًا على حدوثها بين جنسين متغايرين، وتقييد الطبيعة الجنسية للأنثى.
إن النوع فصل مفروض اجتماعيًا بين الجنسين، وهو ناتج العلاقات الاجتماعية القائمة على الطبيعة الجنسية. ونظم القرابة تقوم على أساس الزواج، وهي من ثم تحول الذكور والإناث إلى “رجال” و“نساء“، كل منهما نصف ناقص لا يكتمل إلا باتحاده بالنصف الآخر. الرجال والنساء يختلف بعضهما عن الآخر بالطبع. لكنهما ليسا مختلفين اختلاف الليل عن النهار، والأرض عن السماء، والين عن اليانج، والحياة عن الموت. والحق أن النساء والرجال، من منظور الطبيعة، أقرب لبعضهما البعض أكثر من قرب أيهما لأي شيء آخر، مثل الجبال، أو حيوانات الكانجارو، أو نخيل جوز الهند. وفكرة أن الرجال والنساء مختلفون عن بعضهم البعض أكثر من اختلاف أيهم عن أي شيء آخر لابد أنها وليدة أي شيء آخر غير الطبيعة. علاوة على ذلك، فبرغم وجود فرق متوسط بين الرجال والنساء في عدد متنوع من السمات، فإن نطاق التنوع في هذه السمات فيه تداخلات كبيرة. فمثلاً؛ سنجد دائمًا بعض النساء أطول قامة من بعض الرجال، رغم أن الرجال أطول في المتوسط من النساء. لكن فكرة أن النساء والرجال فئتان متنافيتان لابد أنها نشأت من شيء آخر غير تعارض “طبيعي” لا وجود له. إن الهوية الجنسية كفئة خالصة لا تعبر عن الفروق الطبيعية، بل تعبر عن قمع أوجه الشبه الطبيعية بين الرجال والنساء. وهي تتطلب الكبت: كبت أي شيء في الرجل له سمات “أنثوية“، وكبت كل شيء في المرأة يمكن وصفه بان له سمات “ذكرية“. […]
كما أن الأفراد يصطبغون بصبغة النوع لضمان حدوث الزواج. يقترب ليفي – شتراوس إلى حد الخطر من القول بأن ممارسة الجنس بين جنسين متغايرين عملية أحدثتها المؤسسات. فإذا كانت الحتميات البيولوجية والهورمونية طاغية بالقدر الذي ترغبه الخرافات الشعبية، لما كان من الضروري ضمان اتحاد الجنسين المتغايرين عن طريق اعتمادهما المتبادل على بعضهما البعض اقتصاديًا. كما أن تحريم زنا المحارم يفترض مسبقًا تحريم العلاقات الجنسية المثلية، وإن كان بدرجة أقل من الوضوح، إذ إن حظر بعض العلاقات الجنسية بين جنسين متغايرين يفترض وجود تحريم للعلاقات الجنسية بين جنسين غير متغايرين (متماثلين). إن النوع لا يعني فقط الانتماء لأحد الجنسين، بل يستدعي توجيه الرغبة الجنسية نحو الجنس الآخر. إن تقسيم العمل على أساس النوع متضمن في وجهي النوع: الذكر والأنثى، فهو يخلقهما، ويخلق كل منهما برغبة جنسية تجاه الجنس المغاير. أن قمع الجزء الجنسي المثلي في الطبيعة الجنسية للإنسان، وبالتبعية، قمع ذوي الجنسية المثلية ناتج عن نفس النسق الذي تقهر قواعده وعلاقاته النساء.
والحق أن الوضع ليس بمثل هذه البساطة، كما يتضح لنا حين ننتقل من مستوى العموميات إلى مستوى تحليل نظم جنسية معينة. إن نظم القرابة لا تقتصر على تشجيع العلاقات الجنسية بين جنسين متغايرين على حساب إلحاق الأذى بالعلاقات الجنسية المثلية، فبعض الأشكال المعينة من العلاقات الجنسية بين جنسين متغايرين قد تكون مطلوبة في المقام الأولى، فمثلاً؛ لبعض نظم الزواج قاعدة تحتم الزواج بين أبناء وبنات العمومة. والشخص الذي يعيش في ظل مثل هذا النسق ليس فقط ذا نزعة لعقد علاقات جنسية مع الجنس المغاير، بل هو أيضًا “ذو نزعة للزواج من أبناء أو بنات عمومته“. فإذا زادت قواعد الزواج على ذلك تعيين الزواج بين أبناء وبنات الخئولة، لصار الرجل “ذا نزعة جنسية نحو بنت شقيق الأم” ، ولصارت المرأة ذات “نزعة جنسية نحو ابن شقيقة الأب“
من جهة أخرى، قد تؤدي التعقيدات الشديدة لنسق القرابة إلى أشكال معينة من الجنسية المثلية تحت مظلة مؤسسية.
[…]
توجد قاعدتا التقسيم على أساس النوع والنزوع الجنسي الإجباري نحو الجنس المغاير حتى في تحولاتهما. تنطبق هاتان القاعتان بالتساوي على القيود المفروضة على سلوكيات الذكر والأنثى وشخصيتيهما. تملي نظم القرابة نوعًا من نحت الطبيعة الجنسية للجنسين. لكن يمكننا أن نستنبط من كتاب الهياكل الأولية للقرابة أن القيود المفروضة على الإناث عند استدعائهن لخدمة الأقرباء أكثر من تلك المفروضة على الذكور. فإذا كانت النساء يبادلن، بأي ما معنى نفهم به المصطلح، لكانت الديون الزوجية تحسب بلحم الإناث. فالمرأة يجب أن تصير شريكة جنسية لرجل ما لأن آخر يدين بها له مقابل زواج سابق. […] من وجهة نظر النسق، الطبيعة الجنسية المفضلة للأنثى هي تلك التي استجابت لرغبات الآخرين، لا التي رغبت هي بشكل إيجابي وسعت لمن يستجيب لرغبتها.
إن هذا النوع من التعميم خاضع لتنوعات شديدة وللحركة الحرة في النظم الفعلية. تعطينا جماعتا الليلي والكوما مثالين من أوضح الأمثلة الإثنوغرافية على تبادل النساء. فالرجال في الثقافتين مشغولون تمامًا بمخططات تجعل من الضروري لهم أن يتحكموا تمامًا في المصائر الجنسية لقريباتهم. والكثير من المشكلات الصارخة في المجتمعين مضمونها نساء يحاولن تجنب تحكم أقربائهن في حياتهن الجنسية. […]
ويوجد تعميم أخير يمكن توقعه كأحد عواقب تبادل النساء في ظل نسق يمسك فيه الرجال بزمام الحق في النساء. ما الذي يمكن أن يحدث لو أن امرأتنا الافتراضية رفضت الزواج بالرجل الذي وعدوه بها، بل وطلبت بدلاً منه امرأه؟ فإذا كان الرفض بسبب أمر واحد منهما مثيرًا للقلاقل، فإن الرفض المزدوج بسبب الأمرين حري بإشعال ثورة.
والملخص، أن بعض التعميمات الأساسية عن تنظيم الطبيعة الجنسية للبشر يمكن
استخلاصها من تفاسير نظريات ليفي – شتراوس عن القرابة. هذه التعميمات هي: تحريم زنا المحارم، وقصير العلاقات الجنسية إجباريًا على تلك التي تحدث بين نوعين مغايرين، والتقسيم غير المتساوي للجنسين. وعدم التساوي بين النوعين الاجتماعيين، أي أن الفرق بين من يباشر التبادل ومن يجري تبادله، يستدعي وضع قيود على الطبيعة الجنسية للأنثى. ونظم القرابة الملموسة لديها المزيد من الأعراف الخاصة، التي تتباين كثيرًا، فالأنظمة الاجتماعية – الجنسية المعينة متباينة، ولكل منها خصوصيته، وعلى الأفراد الذين يعيشون في كل نسق معين أن يخضعوا لمجموعة محددة من الإمكانات. لابد أن يتعلم كل جيل جديد مصيره الجنسي ويتصرة بما يلائمه، وكل فرد لابد أن يتسم برموز مكانته الملائمة داخل النسق. وإنه من غير المألوف أن يزعم أحد وهو هادئ البال أننا يجب أن نخضع لعرف يقضي بضرورة زواجنا من بنت أخ الأم, أو ابن أخت الأب. لكن توجد جماعات بشرية تعتبر هذا المستقبل في الزواج أمرًا مسلمًا به.
إن علم الأنثروبولوجيا، والأوصاف التي قدمت لنظم القرابة لا يشرحان الآليات التي يحفر بها المجتمع أعراف الجنس والنوع في الأطفال. أما التحليل النفسي فهم نظرية عن إعادة إنتاج القرابة. يصف التحليل النفسي الرواسب التي بقيت داخل الأفراد من مواجهاتهم القواعد المنظمة للطبيعة الجنسية ونظم ضبطها في المجتمعات التي ولدوا فيها.
لقد صارت المعركة بين التحليل النفسي والحركات النسائية وحركات المثليات والمثليين معركة أسطورية. فهذه المواجهة بين أنصار التطور والمؤسسة الإكلينيكية ترجع جزئيًا إلى نشأة التحليل النفسي وتطوره في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث بالغت التقاليد الإكلينيكية في التفكير في التشريح. فقد ساد اعتقاد بأن الطفل يسير عبر مراحل تطوره العضوي حتى يصل إلى نهاية نضجه التشريحي، وإلى اتخاذ الوضع الجنسي الذي يعلو فيه الرجل المرأة (missionary position). وكثيرًا ما اعتبرت الممارسات الإكلينيكية أن رسالتها إصلاح الأفراد الذين حادوا بشكل أو بآخر عن هدفهم أو هدفهن “البيولوجي“. وقد عملت الممارسات الإكلينيكية التي حولت القانون الأخلاقي إلى قانون علمي على فرض الأعراف الجنسية على المشاركين الخارجين عن القواعد. وبهذا المعنى، كثيرًا ما تجاوز التحليل النفسي كونه النظرية عن آليات إعادة إنتاج الترتيبات الجنسية؛ بل كان أحد هذه الآليات. وحيث إن تمرد النسويات والمثليات والمثليين يهدف إلى تفكيك جهاز فرض الأعراف الجنسية غصبًا، فقد جاء تقد التحليل النفسي في مكانه الملائم.
لكن رفض حركتي النساء والمثليات والمثليين لفرويد له جذور أعمق، تمتد إلى رفض التحليل النفسي نفسه لفهمه للحقائق. لم توثق ما تتركه النظم الاجتماعية التي يسودها الرجال من آثار على النساء بأفضل مما وثقت في الكتابات الإكلينيكية. […] يحتوي التحليل النفسي على مجموعة فريدة من المفاهيم لفهم الرجال, والنساء، والطبيعة الجنسية، فهو نظرية عن الطبيعة الجنسية في المجتمع البشري. والأهم أن التحليل النفسي يقدم وصفًا للآلية التي يقسم بها الجنسان ويجري تشويههما، وكيف يجري تحويل الأطفال الرضع ذوي الطبيعة الجنسية المزدوجة الذين يحملون خصائص الذكور والإناث معًا إلى أولاد وبنات. إن التحليل النفسي نظرية نسوية لم تكتمل.
لم يكن لدى حركة التحليل النفسي حتى نهايات القرن العشرين نظرية محددة عن تطور الأنثي. وقد اقترح بدلاً من ذلك تنويعات على عقدة “إليكترا” في النساء، وكان من المعتقد بناء على هذه العقدة أن خبرة الإناث تعتبر صورة معكوسة لعقد “أوديب” التي وصفت في حالة الذكور. فالولد يحب أمه، لكنه تخلى عنها خوفًا من تهديد الأب بإخصائه. وكان من المعتقد أن البنت تحب والدها، لكنها تتخلى عنه خوفًا من انتقام الأم. وقد افترضت هذه الصيغة أن الأطفال من الجنسين يخضعون لحتمية بيولوجية توجههم نحو النزوع لإقامة علاقة جنسية مع الجنس المغاير. وافترضت أيضًا أن الأطفال في المرحلة السابقة على المرحلة الأوديبية يكونون رجالاً ونساءً “صغارًا“.
وقد صرح فرويد بتحفظاته على القفز إلى أي خلاصة حول النساء على أساس البيانات التي جمعت من الرجال. لكن اعتراضاته ظلت عمومية حتى اكتشاف المرحلة ما قبل الأوديبية لدى النساء. […] إن الأطفال من الجنسين لا يتميزون جسديًا عن بعضهم البعض في المرحلة ما قبل الأوديبية، بما يعني أن تمايزهم إلى أطفال مذكرين ومؤنثات شيء يحتاج إلى شرح، لا إلى افتراض وجوده، وصف الأطفال في المرحلة ما قبل الأوديبية بأنهم مزدوجي الطبيعة الجنسية. يظهر لدى الجنسين كل طيف الاتجاهات الشبقية (الليبيدية)، الإيجابي منها والسلبي. وكانت الأم موضوع رغبة الأطفال من الجنسين.
وقد شكلت خصائص المرحلة ما قبل الأوديبية لدى الإناث على وجه الخصوص تحديًا لفكرة أزلية النزاع لإقامة علاقة جنسية مع الجنس المغاير والهوية النوعية. وحيث إن النشاط الشبقي للبنت كان متجها نحو الأم، يلزم وجود شرح يفسر نزوعها كراشدة لإقامة علاقات جنسية مع الجنس المغاير.
لو استطعنا افتراض أنه منذ سن معين فما فوق تشعر المرأة الصغيرة بالتأثير الأولى للتجاذب المتبادل بين الجنسين فيدفعها ذلك لتوجيه رغباتها نحو الرجال، لوجدنا حلاً مثاليًا مبسطًا. … لكن الحلول لن توجد بمثل هذه السهولة؛ فنادرًا ما نعرف ما إذا كان علينا أن نؤمن بجد بالقوة والحماسة التي يتحدث بهما الشعراء، لكن يصعب تشريحهما تحليليًا, (Freud 1965, 119)
كما أن البنت لا تظهر أي اتجاه “شبقي” أنثوي، وحيث إن رغبتها في الأم نشطة وشديدة، فلابد أيضًا من شرح وصولها في النهاية إلى “الأنوثة“. […] وباختصار، ما عاد من الممكن التسليم بأن التطور الأنثوي انعكاس للطبيعة البيولوجية، فقد بات هذا التطور إشكاليًا إلى أبعد حد. إن فرويد يستخدم مفهومي حد القضيب والخصاء لتفسير اكتساب “الأنوثة” ، وهو ما أجج نيران غضب النسويات منذ قدمها للمرة الأولى.
إن البنت تتحول بعيدًا عن الأم وتكبت العناصر “الذكرية” من نزعاتها الشبقية نتيجة لإدراكها أنها قد تعرضت للخصاء. إنها تقارن بظرها الصغير بالقضيب الذي يفوقه حجمًا، وتسقط فريسة لحسد القضيب والشعور بالدونية في مواجهة قدرة القضيب القائقة والواضحة على إشباع الأم. فتتخلي البنت عن نضالها للفوز بالأم وتتخذ موقفًا أنثويًا سلبيًا تجاه الأب. يمكن أن نقرأ تقرير فرويد على أنه إدعاء بأن الأنوثة من عواقب الفوارق التشريحية بين الجنسين. ومن ثم، اتهم فرويد ببثه لفكرة الحتمية البيولوجية., لكنه – حتى في أكثر كتاباته عن عقدة الخصاء لدى الأنثى التصاقًا بالتشريح – يقول إن “دونية” الأعضاء الجنسية للنساء ناتج لسياق الأوضاع، فالبنت تشعر أنها أقل “تأهيلاً” لامتلاك الأم وإشباعها. فلو لم تواجه الفتاة المثلية في المرحلة ما قبل الأوديبية بالطبيعة الجنسية للأم التي تجعل لديها نزوعًا لإقامة علاقة جنسية مع الجنس المغاير، فلربما خرجت بخلاصة مختلفة عن المكانة النسبية لأعضائها الجنسية.
لم يكن فرويد أبدًا من أنصار الحتمية البيولوجية كما ادعى عليه البعض. لقد أكد مرارًا وتكرارًا أن كل ما يتعلق بالطبيعة الجنسية للراشدين نتج عن التطور النفسي لا البيولوجي. لكن كتاباته كثيرًا ما تكون غامضة، وكلماته تسمح بمساحة كبيرة للتفسيرات البيولوجية التي كانت شائعة جدًا في التحليل النفسي في أمريكا. أما في فرنسا، فاتجاه نظرية التحليل النفسي يميل إلى نزع الصبغة البيولوجية عن فرويد، وفهم التحليل النفسي على أنه نظرية المعلومات لا عن أعضاء الجسم. وجاك لاكان هو المسئول عن هذا الفكر، وهو يصر على أن فرويد لم يقصد أبدا أن يقول أي شيء عن التشريح، وأن نظرية فرويد كانت من اللغة والمعاني الثقافية المفروضة على التشريح.
يقول لاكان أن التحليل النفسي هو دراسة ما ترسب في نفس الأفراد من بقايا نتيجة تجنيدهم الإجباري لخدمة نظم القرابة. […] إن القرابة هي إضفاء الصبغة الثقافية على الطبيعة الجنسية البيولوجية على المستوى الاجتماعي؛ والتحليل النفسي يصف التحولات التي تطرأ على الطبيعة الجنسية البيولوجية للأفراد في خضم عملية دمجهم ودمجهن في الثقافة.
تحتوي المصطلحات اللغوية الدالة على القرابة على معلومات عن نسق القرابة. فالمصطلحات الدالة على الأقرباء تحدد مراتب المكانة، وتشير إلى بعض سمات هذه المراتب. فمثلاً، يدعو الرجل من سكان جزر التروبرياند نساء قبيلته بكلمة “أخت“. أما نساء القبائل التي يمكن يتزوج بناتها فيدعوهن بكلمة تدل على إمكانية زواجه منهن. وعندما يتعلم الشاب من أبناء التروبرياند هذه المصطلحات، فإنه يتعلم أي النساء هن اللاتي يكنه أن يرغب فيهن بأمان. تحدث الأزمة الأوديبية – في مخطط لاكان – حين يتعلم الطفل القواعد الجنسية المتضمنة في المصطلحات الدالة على أفراد الأسرة والأقرباء. […]
إن عقدة أوديب جهاز لإنتاج الشخصية الجنسية. من البديهيات الواضحة القول بأن المجتمعات ستغرس في الصغار السمات المميزة الملائمة لاستمرار وظيفة المجتمع. فمثلاً، يتحدث تومسون (E.P. Thompson 1963) عن تحويل بنية الشخصية للطبقة العاملة الإنجليزية، حيث إن أصحاب قد تحولوا إلى عمال صناعة طيبين. وبالظبط كما تتطلب الأشكال الاجتماعية للعمل أنواعًا معينة من الناس, تتطلب الأشكال الاجتماعية للعمل والنوع أنواعًا معينة من الناس. وعقدة أوديب, بأكثر معاني الكلمة عمومية، آلة تشكل الأشكال الملائمة من الأفراد الجنسيين (انظري / انظر أيضًا مناقشة مختلف أشكال “الفردية التاريخية” في: (Althusser and Balibar 1970, 112, 251- 253)
إن التفرقة بين القضيب بمعناه الرمزي (phallus) والعضو الذكري بمعناه البيولوجي penis في مصطلحات التحليل النفسي المعاصرة تؤكد فكرة أن العضو الذكري بمعناه البيولوجي لا يستطيع أن يلعب الدور الموكل إليه بموجب المصطلحات الكلاسيكية لعقدة الخصاء، وهو لا يلعب هذا الدور فعلاً.
وعقدة أوديب مصطلحات فرويد تقدم للطفل بديلين: إما أن يمتلك عضوًا ذكريًا بمعناه البيولوجي أو يكون مخصيًا. أما النظرية اللاكانية عن عقدة الخصاء فهي على عكس ذلك ، إذ تتجاوز أي إشارة إلى الحقيقة التشريحية. والبدائل التي تقدم للطفل ربما تكون بدائل بينأن يمتلك القضيب [بمعناه الرمزي] أو لا يمتلكه. الخصاء يعني عدم امتلاك القضيب (الرمزي). الخصاء ليس “فقدًا” حقيقيًا، لكنه معنى يُضفَي على الأعضاء الجنسية للمرأة. […]
والقضيب [بمعناه الرمزي], إذا جاز لنا القول، سمة مميزة تفرق “المخصي“عن “غير المخصي“. إن وجود القضيب (معناه الرمزي) أو غيابه يحمل الفوارق بين حالتين جنسيتين، “الرجل” و “المرأة“(للاطلاع على السمات المميزة الفارقة بين الرجل والمرأة انظري/ انظر: Jakobson and Halle 1971), وحيث إن الرجل والمرأة ليسا متساويين، فإن القضيب (بمعناه الرمزي) يحمل أيضًا معنى سيادة الرجل على المرأة، ويمكن أن نستخلص أن “حسد القضيب [بمعنى العضو الذكري البيولوجي] إدراك لهذا المعنى. […]
ولاكان يتحدث أيضًا عن القضيب [بالمعنى الرمزي] کشئ، رمزي يتم تبادله داخل العائلات وبين العائلات وبعضها البعض (انظري / انظر أيضًا: (Wilden 1968, 303- 305). من المدهش أن نفكر في هذه الملحوظة من حيث معاملات الزواج المتبادلة وشبكات التبادل في المجتمعات البدائية. في هذه التعاملات المتبادلة، عادة ما يكون تبادل النساء دائرة من دوائر التبادل الكثيرة. فعادة ما يدور تمرير أشياء أخرى داخل المجتمع غير النساء. فالنساء يتحركن في اتجاه، أما الماشية، والقواقع، والبُسُط فتتحرك في اتجاه آخر. فعقدة أوديب، بمعنى ما، تعبير عن تمرير القضيب [بالمعنى الرمزي له] في عمليات التبادل بين العائلات وبعضها البعض، وهو مقلوب تمرير النساء في عمليات التبادل داخل العائلة الواحدة، وفي دورة التبادل التي تظهر من خلال عقدة أوديب، يمر القضيب [بمعناه الرمزي] من رجل إلى آخر، من خلال وسيط هو النساء، فيمر من الأب إلى الابن، ومن شقيق الأم (الخال) إلى ابن الأخت، وهكذا دواليك. وفي هذه الدائرة العائلية لدى جماعة الكولا، تمر النساء في اتجاه، والقصيب [بمعناه الرمزي] في اتجاء آخر. إنه يوجد حيث لا نوجد نحن. فهذا المعنى، يزيد القضيب [بمعناه الرمزي] عن كونه سمة فارقة تميز الجنسين عن بعضهما البعض، فهو تجسيد لمكانة الذكر، التي يسمو إليها الرجال، الذين تحق لهم بطبيعة هذه المكانة حقوق معينة، منها حق الحصول على امرأة. إنه تعبير عن تسليم الذكور للسيادة إلى آخرين فيما بينهم. هذه السيادة تمر من خلال النساء وتستقر على رؤوس الرجال. وتحفر هذه السيادة أثناء تمريرها آثارًا تتركها خلفها، منها هوية النوع، وتقسيم الجنسين. لكن آثارها تتعدى هذا. فهي تترك خلفها “حسد القضيب [بمعنى العضو الذكري البيولوجي]” الذي يكتسب معنى ثريا يسمح له بقلقلة وضع النساء في الثقافة التي يسيطر عليها القضيب [بمعناه الرمزي].
نعود الآن إلى الجنسين المزدوجين (andro- gynes) السابقين على المرحلة الأوديبية، اللذين يقعان على الحدود ما بين البيولوجيا والثقافة. يضع ليفي – شتراوس تحريم زنا المحارم عند هذه الحدود ويذهب إلى أن هذا التحريم الذي يدشنه تبادل النساء هو أصل نشأة المجتمع. بهذا المعنى، يكون تحريم زنا المحارم وتبادل النساء من مكونات العقد الاجتماعي الأساسي (انظري / انظر : (Sahlins 1972, chapter 4). تحدث الأزمة الأوديبية لدى الأفراد عند نفس الحد الفاصل، حين يدشن تحريم زنا المحارم تبادل القضيب [بمعناه الرمزي].
تترسب الأزمة الأوديبية بفعل بعض المعلومات. فالأطفال يكتشفون الفروق بين الجنسين، كما أن على كل طفل أن يصبح أحد أفراد النوعين أو الآخر. ويكتشفون أيضًا تحريم زنا المحارم، وأن بعض جوانب الطبيعة الجنسية محظورة – في هذه الحالة – فالأم ليست متاحة للأطفال بنوعيهما لأنها “تنتمي” للأب. وأخيرًا، يكتشفون أن النوعين لا يملكان نفس “الحقوق” الجنسية ولا نفس المستقبل.
في المسار الطبيعي للأحداث، يتخلى الصبي عن الأم خوفًا من أنه لو لم يفعل لخصاه والده (يرفض أن يعطيه القضيب [بمعناه الرمزي] فيجعل منه بنتًا)، لكن الصبي يؤكد بفعل هذا التخلي العلاقات التي منحت الأم للأب، والتي ستمنحه هو نفسه، إذا صار رجلاً، لامرأة تخصه وحده. والأب يؤكد وجود القضيب [بمعناه الرمزي] في ابنه (لا يخصيه) مقابل تأكيد الابن لحق أبيه في أمه. إن الصبي يستبدل القضيب [بمعناه الرمزي] بأمه، فالقضيب هو المنحة الرمزية التي يمكنه من استبدال امرأة بها. وكل المطلوب منه بعض الصبر. إنه يحتفظ بتنظيمة الشبقي الأولي وجنس موضوع حبه الأول. والعقد الاجتماعي الذي وافق عليه سيعترف له في النهاية بحقوقه ويعطيه امرأة تخصة وحده
أما ما يحدث للبنت فأكثر تعقيدًا. إنها، مثل الولد، تكتشف تحريم زنا المحارم وتقسيم الجنسين. وتكتشف أيضًا بعض معلومات غير سارة عن النوع الاجتماعي الذي تعد للانتماء له. إن تحريم زنا المحارم بالنسبة للصبي تحريم لنساء معينات عليه. أما بالنسبة للبنت فهو تحريم لجميع النساء عليها. وحيث إنها في وضع جنسي مثلي تجاه أمها، فإن قاعدة النزوع نحو الجنس المغاير التي تسود السيناريو تجعل وضعها صعبًا إلى حد بعيد ولا يمكن الدفاع عنه. فالأم لا يحبها إلا شخص “له قضيب [بمعنى العضو الذكري البيولوجي]” (وبمعناه الرمزي)، ويمتد هذا لكل النساء. وحيث إن البنت لا تمتلك “قضيبًا [بالمعنى الرمزي]، فلا “يحق” لها أن تحب أمها أو أي امرأة أخرى، حيث إن مصيرها هي الأخرى أن تقترن برجل ما. إنها لا تمتلك المنحة الرمزية التي يمكن استبدال امرأة بها. […]
إنها تدير ظهرها للأم لأنها لا تمتلك القضيب [بالمعنى الرمزي] لتعطيه لها، وهي تدير ظهرها للأم أيضًا في غضب وخيبة أمل، لأن الأم لم تمنحها “قضيبًا [بمعنى العضو الذكري]” (وبالمعنى الرمزي). لكن الأم امرأة تعيش في ظل ثقافة قضيبية [بالمعنى الرمزي]، فهي لا تمتلك قضيبًا [رمزيًا] لتمنحه لابنتها (حيث إنها مرت هي نفسها بالأزمة الأوديبية منذ جيل مضى). عندئذ، تتجه البنت للأب، بلا لسبب إلا لأنه يمكنه أن يمنحها “القضيب [بالمعنى الرمزي]”، وأنها لا يمكنها أن تدخل في نظام التبادل الرمزي الذي يمرر فيه القضيب إلا من خلال الأب. لكن الأب لا يمنح البنت القضيب [بمعناه الرمزي] بنفس الطريقة التي يمنحه بها للصبي. أن القضيب [بمعناه الرمزي] يجري تأكيده في الصبي، الذي يمتلكه ليمنحه. البنت لا تحصل على القضيب [بمعناه الرمزي] أبدًا. إنه يمرر من خلالها، ومروره يتحول إلى طفل. وحين “تدرك البنت إخصاءها” تسمو إلى مرتبة امرأة موجودة في شبكة من شبكات تبادل القضيب [بمعناه الرمزي]. يمكنها أن “تحصل على” القضيب [بمعناه الرمزي] – في الجماع، أو في شكل طفل – لكنها لا تحصل عليه إلا كمنحة عن رجل، ولا يمكنها أن تصل لأن تمنحه لغيرها.
[…]
إن تصاعد السلبية في البنت ينتج عن إدراكها للاجدوى تحقيقها لمتعتها الإيجابية، وللشروط غير المتساوية للمعركة. يحد فرويد موضع الرغبة الإيجابية في البظر والرغبة السلبية في المهبل، وهكذا، يصف كبت الرغبة الإيجابية ككبت للشهوة الجنسية البظرية لحساب الشهوة الجنسية المهبلية. وقد حدد موقع الأنماط الثقافية في الأعضاء الجنسية وفقًا لهذا التخطيط. ومنذ أن صدر کتاب ماسترز وجونسون (Masters and Johnson)، اتضح أن هذا التقسيم وفقًا للأعضاء الجنسية تقسيم زائف. فأي عضو – القضيب، أو البظر، أو المهبل– يمكن أن يكون موضعًا الشهوة الجنسية بنوعيها، الإيجابي والسلبي، لكن المهم في مخطط فرويد ليس جغرافية الرغبة، لكن ثقة الرغبة في نفسها. إن ما يكبت ليس عضوًا، بل قسمًا من إحدى إمكانيات الشهوة الجنسية. يلاحظ فرويد أن “المزيد من القيود قد وضعت على الشبق حين استدعي لخدمة الوظيفة الأنثوية” (Freud 1965, 131)، لقد جردت البنت من ممتلكاتها.
فلذا سارت المرحلة الأوديبية في مسارها الطبيعي و“قبلت البنت خصاءها” لصار تركيبها الشبقي واختيارها لموضوع شبقها متناسبين مع دور نوعها كأنثى. لقد صارت امرأة صغيرة مؤنثة، سلبية، ذات نزوع نحو الجنس المغاير. وفرويد يلمح فعلاً إلى وجود ثلاثة مخارج متبادلة من الكارثة الأوديبية. فقد تصدم البنت ببساطة، وتكبت طبيعتها الجنسية تمامًا، وتفقد اهتمامها تمامًا بالجنس. وقد تحتج، وتتشبث بنرجسيتها ورغبتها، وإما أن تصير “مذكرة” أو “مثلية الجنسية“. أو قد تقبل الوضع، وتوقع العقد الاجتماعي، وتنجح بعد جهد في الوصول إلى “الحالة الطبيعية“. […]
يوجد عنصر إضافي في النقاشات الكلاسيكية لموضوع نجاح البنت في الوصول إلى النضج النسائي. تتجه البنت أولاً إلى الأب لأنه لا بد لها من ذلك، لأنها “مخصية” (لأنها امرأة، ولا حول لها ولا قوة، الخ). ثم تكتشف أن الخصاء شرط الحصول على حب الأب، وأنها يجب أن تصير امرأة كي يحبها الآب. ومن ثم تنتابها الرغبة في “الخصاء“، وما كان كارثة من قبل يصير أمنية. […]
إن نظرية التحليل النفسي للأنوثة ترى أن تطور الأنثى يقوم إلى حد بعيد على أساس الألم والإهانة، ويستلزم الأمر خطوات معقدة لتفسير لماذا يتعين على أي شخص الاستمتاع بكونه امرأة. عند هذه النقطة في المناقشات الكلاسيكية تحرز البيولوجيا عودة منتصرة. تتجلى الخطوات المعقدة من الجدل في أن وجود المتعة في الألم يتواءم مع دور النساء في الإنجاب، حيث إن الولادة وفض البكارة “مؤلمان“. ألا يبدو التشكك في الإجراء بأكمله أمرًا أكثر معقولية؟ فإذا كانت النساء يجردن من الشبق أثناء تلمسهن لمكانهن في نسق جنسي ما، ويفرض عليهن غصبًا شبقًا جنسيًا مازوخيا، فلماذا لا يجادل المحللون من أجل ترتيبات جديدة، بدلاً من تبرير الترتيبات القديمة؟
لقد أخضعت نظرية فرويد عن الأنوثة النقد النسوي منذ أن نشرت للمرة الأولى. وهذا النقد مبرر عند حد تبرير تلك النظرية لخضوع النساء. لكن هذا النقد خطأ عند الحد الذي تقدم فيه النظرية وصفًا لعملية يتم عن طريقها إخضاع النساء. ولا يوجد ما يوازي نظرية التحليل النفسي في وصف كيف تدجن الثقافة القضيبية النساء، وآثار هذا التدجين على النساء (انظري / انظر أيضًا: Mitchell 1971 and 1974; Lasch 1974). وحيث إن التحليل النفسي نظرية عن النوع، فإن تنحيتها جانبًا يعتبر انتحارًا لحركة سياسية مكرسة لإنهاء الترتيب الهرمي القائم على أساس النوع (أو النوع ذات نفسه). إننا لا يمكن أن نفكك شيئا ونحن نقدره بأقل من قدره أو لا نفهمه. أن لقهر النساء جذور عميقة، ولن تجتث المساواة في الأجر، ولا المساواة في العمل، ولا كل النساء السياسيات في العالم جذور التعصب ضد الناس على أساس جنسهن وجنسهم. إن ليفي – شتراوس وفرويد يوضحان ما كان – لولاهما – أجزاء يصعب فهمها من البنية العميقة للقهر القائم على أساس الجنس. إنهما يقومان بعمل ما يعد تذكرة لنا بصعوبة وجسامة ما نحاربه، كما تمنحنا تحليلاتهما خرائط أولية للنظام الاجتماعي الذي لابد أن نعيد ترتبيه.
إن التناسب الدقيق بين فرويد وليفي – شتراوس لافت للنظر. فنُسُق القرابة تتطلب تقسيم الجنسين. والمرحلة الأوديبية تقسم الجنسين. ونُسُق القرابة تتضمن مجموعات من القواعد التي تحكم الطبيعة الجنسية. والأزمة الأوديبية هي هضم الفرد لهذه القواعد والمحرمات. والنزوع الإجباري لإقامة علاقة جنسية مع الجنس المغاير نتاج للقرابة. والمرحلة الأوديبية تشكل الرغبة نحو الجنس المغاير. والقرابة تقوم على أساس فرق جذري بين حقوق الرجال والنساء. وعقدة أوديب تنعم على الصبي بحقوق الذكور، وترغم البنت على أن تتأقلم مع حقوقها الأقل من حقوق الصبي.
وهذا التناسب بين ليفي – شتراوس وفرويد يعني ضمنيًا حجة فحواها أن نسق الجنس / النوع لدينا ما زالت تنظمه المبادئ التي وصفها ليفي – شتراوس، رغم أن قاعدة بياناته ليست حديثة إطلاقًا. أما البيانات الأحدث التي يبني عليها فرويد نظرياته فتشهد بمتانة هذه الهياكل الجنسية. فإذا كانت قراءتي لفرويد وليفي – شتراوس دقيقة، فإنها تلمح إلى أن الحركة النسوية لابد أن تحاول حل الأزمة الأوديبية للثقافة بأن تعيد تنظيم مجال الجنس والنوع بطريقة من شأنها أن تجعل الخبرة الأوديبية لكل فرد أقل تدميرًا له. يصعب تخيل أبعاد هذه المهمة، لكن لابد من تلبية بعض الشروط على الأقل.
لابد من تغيير العديد من عناصر الأزمة الأوديبية حتى لا تكون لهذه المرحلة مثل هذا الأثر الكارثي على صورة الذات (الأنا) لدى الأنثى الصغيرة. أن المرحلة الأوديبية تؤسس تناقضًا داخل البنت بأن تضع على كاهلها متطلبات لا يمكن أن تتفق مع بعضها البعض. فمن جهة، تؤدي وظيفة الأم في رعاية الطفلة إلى استثارة حب البنت للأم. ثم ترغم البنت على التخلي عن هذا الحب لأن الدور الجنسي للأنثى يدفعها للانتماء إلى رجل. فلو كان تقسيم العمل بين الجنسين يحدث على نحو يجعل الراشدين من الجنسين يرعون الأطفال على قدم المساواة، سيكون موضوع الاختيار الأول للطفلة (أو الطفل) مزدوج الجنس. فلو لم يكن النزوع نحو الجنس المعاير إجباريًا، فلن يكبت هذا الحب المبكر، ولن تعزى للعضو الذكري قيمة مبالغ فيها. وإذا أعيد تنظيم نظام الملكية الجنسية بحيث لا تقدم حقوق الرجال على حقوق النساء (لو لم يوجد تبادل النساء) ولو لم يوجد النوع، لصارت الدراما الأوديبية برمتها أثرًا بعد عين. وباختصار، لابد أن تدعو النسوية إلى ثورة في نسق القرابة.
وقد حدث أن كان لتنظيم الجنس والنوع وظائف تتجاوز مجرد وجوده نفسه، فقد أدى إلى تنظيم المجتمع، الذي لا ينظم الآن إلا نفسه ويعيد إنتاج نفسه. إن أنواع العلاقات القائمة على الطبيعة الجنسية التي نشأت في الماضي البشري المظلم مازالت تسيطر على حياتنا الجنسية، وأفكارنا عن الرجال والنساء، وطرق تنشئتنا لأطفالنا، لكن ينقصها ما حُمِّلت به من وظائف يومًا ما. من أبرز سمات نسق القرابة أنه ظل يجرد من وظائفه السياسية، والاقتصادية، والتربوية والتنظيمية على نحو نظامي. وقد اختزل إلى هيكله المجرد: الجنس، والنوع.
ستظل الحياة الجنسية دائمًا خاضعة للأعراف وتدخل الناس. ولن تكون أبدًا “طبيعية” تمامًا، حتى لو كان السبب أن جنسنا البشري اجتماعي، وثقافي، وناطق. إن الفيض البري للطبيعة الجنسية الطفلية سيظل يخضع للترويض دائمًا. ويرجح أن المواجهة بين الأطفال غير الناضجين الذين لا حول لهم ولا قوة وبين الحياة الاجتماعية المتطورة لذويهم الأكبر سنًا ستظل تترك لديهم دائمًا بعض الرواسب المثيرة للاضطراب. لكن آليات هذه العملية وأهدافها لا يلزم أن تستقل كثيرًا عن الاختيار الواعي. إن الثورة الثقافية تعطينا فرصة للتحكم في وسائل الطبيعة الجنسية، والإنجاب، والتنشئة الاجتماعية، وأن نأخذ قرارات واعية لنحرر الحياة الجنسية للبشر من العلاقات العتيقة التي تشوهها. وأخيرًا، فإن حدوث ثورة نسوية تشق طريقها بثبات من شأنه أن يتجاوز تحرير النساء إلى تحرير غيرهن. فهذه الثورة ستحرر الشخصية الإنسانية من ثوب الأكتاف الذي يكبلها به النوع الاجتماعي.
حاولت في مسار هذا المقال أن أبني نظرية عن قهر النساء باستعارة مفاهيم من الأنثروبولوجيا والتحليل النفسي. لكن ليفي – شتراوس وفرويد يكتبان في إطار تقليد ثقافي أنتجته ثقافة فيها النساء مقهورات. إن مكمن الخطر في مسعاي أن التقليد الذي يشكل ليفي – شتراوس وفرويد جزءًا منه يكمن فيه نوع من التعصب الجنسي، وكلما استعارت منهما كاتبة (أو كاتب) مال هذا التعصب إلى الانتقال إلى ما تكتبه (أو يكتبه). “لا يمكننا أن ننطق بفكرة هدامة واحدة ما لم تكن قد انزلقت بالفعل داخلة إلى صيغة تسعي لمعارضته، ومنطقه، والحجج التي يسلم بها جدلا” (Derrida 1972, 250). وما ينزلق داخلا إلى الصيغة، والمنطق، والمسلمات هائل حقًا. فالتحليل النفسي والأنثروبولوجيا البنيوية كلاهما أشد أيدولوجيات التعصب الجنسي الموجودة حنكة بمعنى ما.
فليفي – شتراوس مثلاً يرى أن النساء كائنات كالكلمات، يساء استخدامها حين لا يجري “توصيلها” ويبادلها.ويبدي ملاحظة في آخر صفحة من كتاب ضخم يقول فيها إن هذا يخلق نوعاً من التناقص في النساء، حيث إن النساء “متحدثات” و“موضوعات للحديث” في نفس الوقت. والتعليق الوحيد الذي قاله عن التناقض هو ما يلي:
لكن النساء لم يمكن أبدًا أن يتحولن مجرد علامة لا أكثر، حيث إن المرأة تظل إنسانة، حتى في عالم الرجل، وحيث إنه يجب الاعتراف بها كمولدة للعلامات طالما يجري تعريفها كعلامة. […] وعلى عكس الكلمات، التي صارت بأكملها علامات، ظلت المرأة علامة وقيمة في نفس الآن. يفسر هذا بقاء الثراء العاطفي، والوله، والغموض في العلاقات بين الجنسين، التي غزت أساسًا بلا شك عالم التواصل الإنساني بأكمله. (Levi- Strauss 1969, 496) تشديد المؤلفة)
هذا تصريح غير عادي. لماذا لم يندد ليفي – شتراوس عند هذه النقطة بما تفعله نظم القرابة بالنساء، بدلاً من أن يقدم إحدى أفدح السرقات في التاريخ على أنها أساس الحب؟
ويكشف عدم اتساق التحليل النفسي في تمثله للآثار الخطرة لنظرياته عن وجود شيء شبیه بما سبق ذكره انعدام حساسيته. […]
حين يوضح التحليل النفسي بنفس القدر من السهولة المكونات المعتادة للشخصية الأنثوية المازوخية، وكراهية النفس، والسلبية فإنه لا يصدر حكمًا مماثلاً، بل يستخدم معيارًا مزدوجًا للتفسير. فالمازوخية شيء سيئ بالنسبة للرجال، وأساسي بالنسبة للنساء. ووجود قدر كاف من النرجسية ضروري للرجال، ومستحيل على النساء. والسلبية مأساة في الرجل، أما انعدام السلبية في المرأة فهو مأساة.
إن هذا المعيار المزدوج هو الذي يمكن الإكلينيكيين من بذل المحاولات لجعل النساء يتأقلمن مع دور توضح نظرياتهم بالتفصيل كم هو مدمر. وهذا الاتجاه غير المتسق نفسه هو الذي يسمح للمعالجين بأن يعتبروا العلاقات المثلية بين النساء (lesbianism) مشكلة في حاجة علاج، بدلاً أن يعتبروها مقاومة لوضع سيئ أشارت نظرياتهم.
توجد في المناقشات التحليلية عن الأنوثة نقاط يمكن أن يقال عنها “هذا قهر للنساء“، أو “يمكننا أن نقدم بسهولة أمثلة توضح أن ما يسميه العالم أنوثة يتطلب تضحيات أكثر مما يستحق“. عند هذه النقاط بالتحديد تحظى آثار النظرية بالتجاهل، وتستبدل بها صياغات غرضها إبقاء هذه الآثار مستقرة في اللاوعي النظري. وعند هذه النقاط يُستبدَل تقدير نقدي لتكلفة الأنوثة بكل المواد الكيميائية الغامضة، وأنواع البهجة الكامنة في الألم، والأهداف البيولوجية. وعمليات الاستبدال تلك هي أعراض الكبت النظري، من حيث كونها لا تتسق مع القوانين لحجة التحليل النفسى. إن المدى الذي تذهب إليه هذه التبريرات للأنوثة بالمخالفة للمنطق المعتاد للتحليل النفسي لشاهد قوي على مدى الحاجة إلى كتم أنفاس الآثار الجذورية والنسوية لنظرية الأنوثة. […]
إن الحجة التي يجب أن تنسج لكي تتمكن النظرية النسوية من هضم تمثل ليفي – شتراوس وفرويد ملتوية بعض الشيء. وقد بدأت الصراع معها لعدة أسباب. أولاً؛ لا ليفي – شتراوس ولا فرويد تشككا في التعصب الجنسي الذي لا يتطرق إليه الشك والمتوطن في النظم التي وصفاها، رغم أن التساؤلات التي يجب طرحها عن هذا شديدة الوضوح. وثانيًا؛ تمكننا كتاباتهما من عزل الجنس والنوع عن “نظام الإنتاج“، وأن نفند اتجاهًا معينًا يميل إلى تفسير القهر الجنسي بأنه انعكاس للقوى الاقتصادية. إن كتاباتهما تقدم لنا إطارًا يمكننا من دمج الطبيعة الجنسية والزواج بكامل ثقلهما في تحليل للقهر الجنسي. وتشير إلى فهم للحركة النسائية على أنها معادلة لحركة الطبقة العاملة، لا مماثلة لها شكلاً، حيث إن كلاً منهما تتعامل مع مصدر مختلف من المصادر التي تسبب عدم الرضا للإنسان. إن حركة الطبقة العاملة في نظر ماركس من شأنها أن تفعل أكثر من مجرد التخلص من حمل الاستغلال الذي يثقل كاهلها. ففي مقدورها أيضًا أن تغير المجتمع، وأن تحرر الإنسانية، وأن تخلق مجتمعًا خاليًا من الطبقات. ربما كان على الحركة النسائية القيام بمهمة إحداث نفس النوع من المتغير الاجتماعي في نظام لم يشعر به ماركس ويدركه بشكل مضبوط. وفي كتبات ويتيج Monique Witting 1973)) شيء من هذا القبيل – فدكتاتورية المحاربات الأمازونيات وسيلة مؤقتة لإنجاز مجتمع خال من النوع.
إن نسق الجنس / النوع ليس مستحيل التغيير بما فيه من قهر، وقد فقد الكثير من وظائفه التقليدية. لكنه لن يذبل في غياب المعارضة. فما زال يحمل العبء الاجتماعي للجنس والنوع، وتنشئة الصغار اجتماعيًا، وتقديم أفضل الأفكار عن طبيعة البشر أنفسهم. كما أنه يخدم أهدافًا اقتصادية وسياسية غير التي صمم في الأصل ليساعد على إنجاحها (انظري /انظر : Scott 1965). فلابد – إذن – من إعادة تنظيم نسق الجنس / النوع عن طريق تحرك سياسي.
وأخيرًا، تشير شروح ليفي – شتراوس وفرويد إلى رؤية معينة للسياسات النسوية واليوتوبيا النسوية. فهي تلمح إلى أننا يجب ألا نهدف إلى القضاء على الرجال، بل إلى القضاء على النظام الاجتماعي الذي خلق التعصب الجنسي والنوع. أنا نفسي لا أستسيغ النظام الأموي للأمازونيات الذي يختزل الرجال في الخدمة والاختفاء عن العيون (على حسب إمكانات حدوث التوالد العذري (parthenogenetic reproduction وأراه مفتقدًا للكفاءة. فمثل هذه الرؤية تحافظ على استمرار وجود النوع وتقسيم الجنسين، وهذه الرؤية ليست إلا مقلوب حجة من يؤسسون دفاعهم عن حتمية سيطرة الذكور على وجود فوارق بيولوجية ذات دلالة بين الجنسين يستحيل تغييرها. لكن القهر لا يقع علينا لأننا نساء فقط، بل يقع علينا بحكم اضطرارنا إلى أن نكون نساءً أو رجالاً، حسب حالة كل منا. بل إني أعتقد أن على الحركة النسوية أن تحلم بما يتجاوز مجرد القضاء على قهر النساء. إذ لابد أن تحلم بالقضاء على فرض الطبائع الجنسية والأدوار الجنسية إجباريًا. وأكثر الأحلام إلحاحًا في نظري الحلم بمجتمع مزدوج الجنس خال من النوع (وإن لم يخل من الجنس)، لا يكون فيه التشريح الجنسي للفرد ذا علاقة بمن هي (أو هو)، وما تفعله (أو يفعله)، ومع من تمارس (أو يمارس) الجنس.
كم يكون ظريفًا لو استطعنا أن ننهي هذا الكلام بذكر آثار التداخل بين فرويد وليفي – شتراوس على النسوية وتحرير المثليين الجنسيين. لكن لابد أن أشير، بشكل مؤقت، إلى نقطة تالية على جدول الأعمال، ألا وهي تحليل ماركسي لنظم الجنس / النوع. إن هذه النظم ليست من نواتج بنات أفكار العقل البشري خارج إطار التاريخ؛ بل هي نواتج النشاط البشري التاريخي.
نحتاج، مثلاً، تحليلاً لنشوء وتطور التبادل الجنسي متبعين الخطوط التي اتبعها ماركس في نقاشه في كتاب رأس المال لنشوء وتطور النقود والسلع. إن نُسُق الجنس / النوع لها اقتصاديات وسياسات يخفيها مفهوم “تبادل النساء“. فمثلاً، النسق الذي تعرض فيه النساء للتبادل امرأة مقابل امرأة له آثار على النساء تختلف عن مجتمع يوجد فيه للنساء معادل سلعي. […] وتوجد مجتمعات ليس فيها معادل للمرأة. فلكي يحصل الرجل على زوجة، لابد أن يكون لديه ابنة، أو أخت، أو قريبة أخرى له حق إعطائها لغيره. أي يجب أن يكون له حكم على لحم أنثى أو أخرى. […]
وفي مجتمعات أخرى، يوجد معادل للنساء. يمكن تحويل المرأة إلى مهر لعروس، ويمكن تحويل مهر العروس بدوره إلى امرأة. وتتنوع ديناميكيات مثل هذه النظم تبعًا لذلك، كما يتنوع الضغط النوعي الذي يقع على النساء. […]
في بعض المجتمعات، مثل النوير، المهر فقط هو الذي يمكن تحويله إلى عرائس. وفي مجتمعات أخرى، يمكن تحويل مهر العروس إلى شيء آخر، مثل المكانة السياسية. في هذه يدخل زواج المرأة ضمنًا في نظام سياسي. […]
باختصار، توجد أسئلة أخرى عن نظام الزواج غير سؤال ما إذا كان أو لم يكن فيه تبادل للنساء. هل تستبدل المرأة بامرأة، أم هل لها معادل آخر؟ وهل هذا المعادل معادل للنساء فقط، أم هل يمكن تحويله إلى شيء آخر؟ وإذا كان يمكن تحويله إلى شيء آخر، هل يتحول إلى قوة سياسية أم ثروة؟ من جهة أخرى، هل يمكن أن يقتصر الحصول على مهر العروس على تبادلات الزواج، أم هل يمكن الحصول عليه من مصدر آخر؟ هل يمكن أن يحدث تراكم للنساء من خلال تجميع الثروة؟ هل يمكن حدوث تراكم للثروة عن طريق التخلص من النساء الزائدات؟ هل نظام الزواج جزء من نظام للتقسيم الطبقي؟
هذا السؤال الأخير يشير إلى مهمة أخرى من مهام الاقتصاد السياسي للجنس. فالقرابة والزواج دومًا أجزاء من نُسُق اجتماعية كاملة. وهما دائمًا مرتبطان بالترتيبات الاقتصادية والسياسية.
يذهب ليفي – شتراوس – عن حق – إلى أن ملابسات بنية الزواج لا يمكن أن تفهم إلا لو فكرنا فيها كحلقة من سلسلة كاملة من المعاملات المتبادلة بين جماعات الأقرباء. الأمر جيد حتى الآن. لكنه لا يذهب بهذا المبدأ إلى بعد كاف في أي من الأمثلة التي يضربها في كتابه. إن عمليات التبادل في واجبات القرابة ليست مجرد رموز للتحالف، بل هي أيضًا معاملات اقتصادية, وسياسية، وعهود توثق حقوق استخدام المسكن والأرض. لا يمكن تقديم أي صورة تفيد “كيف يعمل نسق القرابة” ما لم نضع في اعتبارنا كل هذه النواحي أو الملابسات المتعددة لنسق القرابة على نحو متزامن. Leach 1971, 90)).
إن علاقة المستأجر بصاحب الملك في جماعة الكاشين هي أيضًا علاقة بين زوج الابنة وحميه. “فإجراءات الحصول على الحق في تملك أرض من أي نوع تكاد تعادل في كل الحالات الزواج من امرأة من نسل صاحب الأرض“. (Leach 1971, 88). وفي نسق جماعة الكاشين، ينتقل مهر العروس من العامة إلى الأرستقراطيين، أما النساء فينتقلن في الاتجاه العكسي.
إن آثار التزاوج بين أبناء وبنات الخئولة (الأقرباء من ناحية الأم) من الناحية الاقتصادية، أن نسل القائد المحلي يدفع دائمًا ثروات إلى نسل زعيم الجماعة في شكل مهور للعرائس لتحقيق التوازن بين القائد والزعيم. ويمكن اعتبار هذا الدفع للثروات أيضًا – من وجهة نظر تحليلية – إيجارًا يدفعه المستأجر لصاحب الأرض الأكبر سنًا ومقامًا. ويدفع أهم جزء من هذه المدفوعات في شكل سلع استهلاكية، وبالتحديد في شكل ماشية. ويحول الزعيم هذه الثروة القابلة للفناء إلى مكانة غير قابلة للفناء من خلال وسيط، هو إقامة ولائم هائلة يحضرها الجميع. بهذه الطريقة، فإن من يستهلك هذه السلع أخيرًا هم منتجوها الأصليون، وبالتحديد العامة الذين يحضرون الوليمة. Lench 1971, 89)).
في مثال آخر، تقضي تقاليد التروبرياند أن يرسل الرجل هدية عند حصاد محصوله من نبات اليام إلى بيت أخته، وتسمى هذه الهدية بلغتهم يوريجوبو. ترقى هذه الهدية لدى العامة إلى مرتبة مجرد تمرير اليام بين الجماعة. لكن الزعيم متعدد الزوجات، وهو يتزوج امرأة من كل حي من الأحياء التي توجد في زمامه. من ثم، يرسل كل حي من هذه الأحياء يوريجوبو إلى الزعيم، فتتضخم مخازنه بالمؤن بحيث يمكنه أن يمول الولائم، وإنتاج الحرف، وتجريدات الكولا. إن “تمويل القوة” هذا يتكفل بالنظام السياسي ويشكل أساس قوة الزعامة Malinowski 1970)).
وفي بعض النظم، يرتبط موقع الفرد في التراتب الهرمي السياسي ارتباطًا وثيقًا بموقعه في نَسَق الزواج. في جماعة التونجا التقليدية، تزوج النساء حسب المرتبة. وهكذا، يرسل ذوو النسب المنخفض الرتبة النساء إلى ذوى النسب الرفيع الرتبة. أما نساء ذوي النسب الرفيع الرتبة فيزوجن لرجال من “بيت فيجي“، وهو سلسال نسب يعرف بأنه خارج إطار النظام السياسي. فإذا أعطى الزعيم المنحدر من سلسال نسب رفيع أخته إلى رجل من سلسال نسب غير هذا الذي ليس له دور في نظام التراتب، لن يعود بعدها الزعيم الأرفع مرتبة. وبدلاً من ذلك، سيعلو سلسال نسب ابن أخته على سلسال نسبه. وفي أزمنة إعادة ترتيب الأوضاع السياسية، يحدث الانتقال إلى الرتبة الرفيعة السابقة رسميًا حين تعطى زوجة لرجل من سلسال نسب كانت قد سبقته في المرتبة فيما قبل. وفي الجماعات التقليدية في هاواي، كان الوضع عكس ذلك. فالنساء يتزوجن الأدنى منهن، وسلسال النسب السائد يعطي زوجات إلى سلسال نسب أقل مرتبة. والشخص ذو المرتبة السامية إما أن يتزوج أخت رجل من التونجا أو يتخذ لنفسه زوجة من بنات هذه الجماعة. وحين يغتصب رجل من سلسال نسب متدن رتبة أعلى، يضفي الصبغة الرسمية على منصبه بإعطائه زوجة من سلسال نسبه لرجل من سلسال النسب الذي كان يعلوه فيما سبق. […]
هذه الأمثلة، مثل أمثلة الكاشين والتروبرياند، تشير إلى استحالة فهم النظم الجنسية، في التحليل الأخير، في عزلة تامة عن ظروفها فالتحليل القوي للنساء في مجتمع واحد، أو عبر التاريخ، لابد أن يأخذ في اعتباره كل شيء: نشأة وتطور التعامل مع النساء كشكل السلع، ونظم حيازة الأرض والترتيبات السياسية، وتقنيات الحصول على الكفاف، الخ. يضارع هذا أهمية أن التحليلات الاقتصادية والسياسية لا تكتمل ما لم تأخذ النساء، والزواج، والطبيعة الجنسية بعين الاعتبار. لابد من تنقيح الاهتمامات التقليدية للأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية – مثل نشأة وتطور التراتب الاجتماعي وأصل الدولة – لتشمل ملابسات الزواج بين أبناء وبنات الخئولة (سلسال النسب المنحدر عن الأم)، والفائض المستخلص في شكل بنات يولدن من هذا الزواج، وتحويل عمل الإناث إلى ثروة للذكور، وتحويل حياة النساء إلى تحالفات من خلال الزواج، وإسهام الزواج في القوة السياسية، والتحولات التي مرت بها كل هذه النواحي من حياة المجتمع على مر الزمن.
إن المسعى، في التحليل الأخير، هو ما حاول إنجلز أن يفعله في الجهد الذي بذله لينسج تحليلاً مترابطًا للعديد الجم من الأوجه المختلفة للحياة الاجتماعية، يربط فيه بينها وبين شرح نظامي للتاريخ، ونذكر من بينها: الرجال والنساء، والمدينة والريف، والقرابة والدولة، والملكية المختلفة، ونظم حيازة الأرض، وقابلية الثروة للتحول من نوع إلى آخر، وأشكال التبادل، وتقنية إنتاج الغذاء، وأشكال التجارة، وهذا بعض من كل. وختامًا، لابد أن يكتب شخص ما نسخة جديدة من كتاب أصل العائلة، والملكية الخاصة، والدولة، فيها إدراك للاعتماد المتبادل بين الطبيعة الجنسية، والاقتصاد، والسياسة دون أن يقلل من تقديره للأهمية التامة لكل منها للمجتمع البشري.
* Gayle Rubin. “The Traffic in Women: Notes on the “Political Economy” of Sex”¸ Feminist Anthropology: A Reader, ed., Ellen Lewin (Blackwell Publishing, 2005), pp.87- 106.
** الآديرونداك سلسلة جبال بولاية نيويورك الأمريكية ينبع منها نهر هدسون، وهي منطقة سياحية. (المترجمة)
1 يؤدي الانتقال بين الماركسية، والبنيوية، والتحليل النفسي إلى مصادمات فكرية معينة. فالبنيوية علبة تزحف الديدان خارجة منها على طول الخريطة المعرفية وعرضها. وبدلاً من أن أحاول التعامل هذه المشكلة، تجاهلت تقريبًا أن لاكان وليفي – شتراوس من بين أهم أسلاف الثورة الفرنسية المعاصرين الأحياء (انظري / انظر: Foucault 1970). من المبهج، والمدهش – ولو كنا في فرنسا لقلنا إنه من الجوهري– أن أبدأ جدلي من مركز المتاهة البنيوية، وأحاول الخروج منها بدءًا من هناك، سائرة على طول خطوط “نظرية جدلية من ممارسات استخراج الدلالات” (انظري /انظر: Hefner 1974)
2 تمحور الكثير من الجدال حول النساء والأعمال المنزلية حول مسألة ما إذا كانت الأعمال المنزلية عملاً “منتجًا” أم لا. إذا أردنا الدقة، فالأعمال المنزلية ليست “منتجة” على النحو العادي بالمعنى الفني للكلمة (I. Gough 1972; Marx 1969, 287- 413) لكن هذا الفرق ليس له علاقة بالخط الرئيسي للحجة. فالأعمال المنزلية قد لا تكون “منتجة“، بمعنى الإنتاج المباشر لفائض القيمة ورأس المال، ومع ذلك تظل عنصرًا مهمًا من عوامل إنتاج فائض القيمة ورأس المال.
3 إن نظرتنا لبعض هذه الأعراف على أنها شديدة الغرابة لإيضاح لفكرة أن التعبير عن الطبيعة الجنسية يحدث من خلال تدخل الثقافة (انظري/ انظر:(Ford and Beach 1972)) […].
4 اعتقد إنجلز أن الرجال قد حازوا الثروة في شكل قطعان الماشية، ولرغبتهم في نقل هذه الثروة إلى أطفالهم، انقلبوا على “حق الأم” لحساب الإرث عن طريق النسب من جانب الأب. كان الانقلاب على حق الأم الهزيمة التاريخية العالمية لجنس الإناث . فقد سيطر الرجل على البيت أيضًا؛ وجردت المرأة من كل شيء واختزلت إلى الخدمة المنزلية؛ فصارت عبدة لشهوات الرجل ومجرد أداة لإنجاب الأطفال” (Engels 1972, 120- 121 والتشديد في الأصل). وكما أشير كثيرًا، فالنساء لا يمتلكن بالضرورة سلطة اجتماعية ذات بال في المجتمعات التي تأخذ بنظام التوريث عبر النسب من جهة الأم. (Schneider and Gough 1961)
Althusser, Louis, and Étienne Baliban. 1978, Reading Capital. London: New Left Book. Berndt, Ronald. 1962. Excess and Restraint. Chicago: University of Chicago Press.
Chasseguet-Smirgel, J. 1970. Female Sexuality. Ann Arbor: University of Michigan Press.
Derrida, Jacques. 1972. Structure, Sign, and Play in the Discourse of the Human Sciences.
In The Structuralist Controversy, edited by R. Macksey and E. Donato. Baltimore: Johns Hopkins University Press.
Engels, Frederick. 1972. The Origin of the Family, Private Property, and the State, Edited by Eleanor Leacock. New York: International Publishers.
Ford, Clellan, and Frank Beach. 1972. Patterns of Sexual Behavior, New York: Harper.
Foucault, Michael. 1970. The Order of Things. New York: Pantheon.
Freud, Sigmund. 1965. Femininity. In New Introductory Lectures in Psychoanalysis, edited by J. Strachey. New York: W.W. Norton.
Glasse, R.M. 1971. The Mask of Venery, Paper read at the 70th Annual Meeting of the American Anthropological Association, New York City, December 1971.
Gough, Ian. 1972. Marx and Productive Labour. New Left Review, 76: 47-72.
Hefner, Robert. 1974. The Tel Quel Ideology: Material Practice upon Material Practice. Substance, 8: 127-38.
Jakobson, Roman, and Morris Halle. 1971. Fundamentals of Language. The Hague:
Mouton.
Jones, Ernest. 1933. The Phallic Phase. International journal of Psychoanalysis, 14: 1-33.
Lacan, Jacques. 1970. The Insistence of the Letter in the Unconscious. In Structuralism, edited by J. Ethrmann. Garden City, N.Y.: Doubleday Anchor.
Langness, L.L. 1967. Sexual Antagonism in the New Guinea Highlands: A Bena Bena
Example. Oceania, 37/3: 161-77.
Lasch, Christopher. 1974. Frued and Women. New York Review of Books, 21/15: 12-17.
Leach, Edmund. 1971. Rethinking Anthropology. New York: Humanities Press.
Levi-Strauss, Claude. 1969. The Elementary Structures of Kinship. Boston: Beacon Press.
—–. 1971, ‘The Family’. In Man, Culture and Society, edited by H. Shapiro, London:
Oxford University Press.
Lindenbaum, Shirley. 1973. A Wife Is the Hand of Man. Paper read at the 72nd Annual Meeting of the American Anthropological Association.
Livingstone, Frank. 1969. Genetics, Ecology, and the Origins of Incest and Exogamy.
Current Anthropology, 10/1: 45-9.
Malinowski, Bronislaw. 1929. The Sexual Life of Savages. London: Routledge and Kegan Paul.
—–. 1970. The Primitive Economics of the Trobriand Islanders. In Cultures of the Pacific, edited by T. Harding and B. Wallace. New York: Free Press.
Marx. Karl. 1969. Theories of Surplus Value, Part I. Moscow: Progress Publishers.
—–. 1971. Wage-Labor and Capital. New York: International Publishers.
Mauss, Marcel. 1967. The Gift. New York: W.W. Norton.
Meggitt, M.J. 1964. Male-Female Relationships in the Highlands of Australian New Guinea.
American Anthropologist, 66/4, pt. 2: 204-24.
Mitchell, Juliet. 1971. Women’s Estate. New York: Vintage.
—–. 1974. Psychoanalysis and Feminism. New York: Pantheon.
Murphy, Robert. 1959. Social Structure and Sex Antagonism, South-western Journal of Anthropology, 15/1: 81-96.
Rappaport, Roy, and Buchbinder, Georgeda. 1976. Fertility and Death among the Maring. In Sex Roles in the New Guinea Highlands, edited by Paula Brown and G. Buchbinder.
Washington, DC: American Anthropological Association, Special Publication, No. 8.
Read, Kenneth. 1952. The Nama Cult of the Central Highlands, New Guinea, Oceania, 23/1: 1-25.
Reay, Marie. 1959. The Kuma. London: Cambridge University Press.
Sahlins, Marshall. 1960. The Origin of Society. Scientific American, 203/3: 76-86.
—–. 1972. Stone Age Economics. Chicago: Aldine-Atherton.
Schneider, David, and Kathleen Gough, eds. 1961. Matrilineal Kinship. Berkeley:
University of California Press.
Scott, John Finley. 1965. The Role of Collegiate Sororities in Maintaining Class and Ethnic Endogamy. American Sociological Review, 30/4: 415-26.
Strathyern, Marilyn. 1972. Women in Between. New York: Seminar.
Thompson, E.P. 1963. The Making of the English Working Class. New York: Vintage.
Van Baal, J. 1966. Dema. The Hague: Nijhoff.
Wilden, Anthony. 1968. The Language of the Self. Baltimore: Johns Hopkins University press.
Witting, Monique. 1973. Les Guérillères. New York: Avon.