آخر الحدود غير المُستكشفة
تاريخ النشر:
2010
بقلم:
مقدمة المحررة
آخر الحدود غير المُستكشفة: النوع الاجتماعي والعلوم السياسية
أود أن استهل هذه المقدمة ببعض التوضيح الذي يقدم إلى قراء العلوم السياسية العرب هذا الكتاب، الذي توليت مهمة تحريره، ويضم عددًا من المقالات المهمة في ميدان دراسة النوع الاجتماعي. ونظرًا لأن هذا الكتاب، بما يضمه من مقالات مختارة، يُعد من أطول الكتب التي صدرت باللغة العربية في هذا الميدان، فقد تعمدت عدم الإطالة في مقدمتي بالتركيز على أسباب اختياري لهذه المقالات المهمة. إن عملي كأستاذة علوم سياسية بالولايات المتحدة جعل تركيزي في ميدان النوع الاجتماعي و/أو دراسات المرأة ينصب بوجه خاص على الدراسات الأمريكية. على أنني لا أفترض أن المناهج والمناقشات الأمريكية حول الموضوع تُعد أكثر تطورًا أو أفضل من المناهج المستخدمة في مناطق أخرى بالعالم، لكن المشهد الأمريكي هو المشهد التحليلي المألوف بالنسبة لي، بالإضافة إلى تاريخه المثير للاهتمام. وبجانب السياق الأمريكي الذي تطرحه بعض المقالات الواردة في القسم الأول من الكتاب، فإن تاريخ وتطور ميادين دراسات النساء والنوع الاجتماعي في الولايات المتحدة كان متأثرًا بوجود حركة نسائية مزدهرة وكبيرة الحجم انتعشت في السبعينيات والثمانينيات وأتاحت سياقًا داعمًا لهذه الدراسات الأكاديمية التي أنتجت في نهاية المطاف أكثر من جيل جاد من الباحثات والباحثين.
ومن زاوية الميدان العلمي ذاته، يمكن القول إن السنوات الأربعين الماضية قد شهدت تحولاً فكريًا دالاً: من التركيز على دراسات المرأة (دراسة قضايا المرأة واهتماماتها) إلى دراسات النوع الاجتماعي (الأبنية الفلسفية والاجتماعية والثقافية والسياسية المعقدة للاختلافات الجنسية بين الرجال والنساء). وبينما من الإنصاف القول إن المجتمع الأكاديمي الأمريكي قد تأثر دون شك بهذا الاهتمام الجديد بالنوع الاجتماعي، فإن ذلك لا يمتد على قدم المساواة بالنسبة لكل الإنسانيات والعلوم الاجتماعية. وعلى سبيل المثال، أبدت العلوم السياسية – بوصفها أحد أكثر العلوم الاجتماعية محافظة – اهتمامًا محدودًا ومقاومة كبيرة للتصورات والنظريات الجديدة في بُناها للميادين المختلفة، مع استثناء النظرية السياسية والعلوم السياسية الأمريكية من هذه الملاحظة العامة. ونظرًا لأن العلوم السياسية تسعى إلى ترسيخ أسسها العلمية / الإمبيريقية بالاعتماد على أساليب التحليل الإحصائية، فقد تمكن مجال دراسة السياسات الأمريكية من إحراز النجاح في استخدام جمع البيانات لإدماج النوع الاجتماعي كمتغير آخر تجدر دراسته. وفي المقابل، فإن المجال الأكثر تهميشًا في علم السياسة – النظريات السياسية – والذي لم يكن جانبًا على الإطلاق من جوانب انشغال العلوم السياسية المتحمس بجمع البيانات، فقد وجد في دراسات النساء و/أو النوع الاجتماعي أداة تحليلية جديدة يمكن إدماجها في عمليات استكشافه المستمرة للفهم الفلسفي والتحليلي النفسي والنسوي للنظريات الكلاسيكية والحداثية وما بعد الحداثية. ومع الأسف، نجد أن كلاً من ميداني العلاقات الدولية والسياسات المقارنة قد قاوم بشدة، و/أو لا يزال متأرجحًا بقوة، في دراسات النوع الاجتماعي والمرأة، ولا يوجد سوى عدد محدود نسبيًا من الدراسات التي تتناول هذه الأجندة البحثية الجديدة.
لقد قمت بتقسيم الدراسات التي اخترتها لهذا الكتاب إلى قسمين رئيسيين: الأول، يتناول نظرة عامة للنقاشات الدائرة حول النساء والنوع الاجتماعي في العلوم السياسية الأمريكية، وميادينه الفرعية المختلفة. إن مقالات كلاً من سوزان كارول وليندا زيريللي، وجين فلاكس، وماري هوكسوورث، وجوليا جوردان – زاكري تقدم رؤى مهمة حول ما أدت إليه اهتمامات وأصوات النساء المختلفة، فضلاً عن دراسة النوع الاجتماعي، من تأثير على الأجندات البحثية للعلوم السياسية الأمريكية. كما توضح مقالاتهن أيضًا الطابع والمنهج متعدد الفروع العلمية اللذين أسهما في إلقاء الضوء على تقاطع العلوم السياسية مع دراسة الطبقة والعنصر عند تحليل السياسات بشكل عام والسياسات الأمريكية بوجه خاص.
ويتناول القسم الثاني من هذا الكتاب دراسات العلوم السياسية في الشرق الأوسط والنقاشات الإقليمية والدولية لقضايا واهتمامات النوع الاجتماعي ذات الخصوصية. ونظرًا لأنني مصرية، ولدت في مصر، شكلت مصر أحد اهتماماتي البحثية في دراسة النوع الاجتماعي والسياسة في الشرق الأوسط، حيث تركزت معظم أعمالي المنشورة. إنه أيضًا المجال الذي شهدت تطوره وشاركت فيه منذ الثمانينيات، المؤلفات والمؤلفون الذي ضم القسم الثاني مقالاتهم (زهرة أرات، لوري براند، ميرفت حاتم، أماني جمال، فيكي لانجور، جوزيف مسعد، جنیفر أولمستد، دیان سینجرمان) هم جميعًا من الباحثات والباحثين في مجال العلوم السياسية، باستثناء جنيفر أولمستد التي تنتمي إلى فرع الاقتصاد الشقيق. إنهم بعض من أفضل الباحثين المعروفين في دراسات النوع الاجتماعي في العلوم السياسية الشرق أوسطية بالولايات المتحدة، ويقدمون إسهامات مهمة في هذا الميدان. إنهم يتمتعون برؤى مختلفة حول الدور المهم الذي لعبه النوع الاجتماعي في دراسة التحديث، والديمقراطية، والليبرالية، والعولمة، والتحرر الوطني، والليبرالية الجديدة في المنطقة. كما يطرحون أيضًا تقييمات تغطي دولاً مهمة في المنطقة – بما فيها تركيا، والأردن، وشمال أفريقيا، ومصر، وفلسطين. ويضيف مقال أماني جمال مناقشات المسلمين في الولايات المتحدة إلى هذا القسم.
وعلى حين تتناول الأغلبية تجارب النساء في مجال النوع الاجتماعي، يركز مقال جوزيف مسعد على الذكورة. يستخدم هؤلاء الكتاب أساليب بحثية مختلفة، تتراوح بين المناهج الكمية إلى الكيفية، التي أتمنى أن تروق لمختلف الاهتمامات الفكرية لدى القراء وتحثهم على إدخال النوع الاجتماعي في مناقشة المشكلات الوطنية والإقليمية والدولية المهمة، والانخراط في ذلك المشروع البحثي أنفسهم. وأخيرًا، تجدر الإشارة إلى أن مساهمة لوري براند في هذا الكتاب هي مقدمة كتابها عن “النساء والدولة والتحول الليبرالي السياسي” (Women, the State and Political Liberalization) الذي يناقش الآثار النظرية لإدخال الشرق الأوسط في المقارنات عبر الإقليمية مع أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية.
دعوني في النهاية أضيف ملحوظة بشأن تواريخ نشر بعض المقالات والدراسات التي يتضمنها هذا الكتاب. لقد قمت بجهد واع لتضمين أحدث الدراسات الموجودة في الساحة الأكاديمية الأمريكية، والمناقشات النظرية الدائرة، والعلوم السياسية في منطقة الشرق الأوسط، كلما أمكن لي ذلك. ولكنه من الخطأ للقارئة والقارئ الافتراض بأن المقالات المنشورة في التسعينيات من القرن العشرين هي مقالات قد عفا عليها الزمن ولم تعد مفيدة، وإن مثل هذا المنطق يمثل مقاربة مغلوطة للأعمال الفكرية. فعلى النقيض من بعض أشكال الكتابة الصحفية والعلمية التي يرتكز العمل فيها على أحدث التغطيات للأحداث الجارية، وأحدث الصيحات في الأفكار و/أو الخطابات الرائجة، فإن نقطة الاهتمام التي يرتكز عليها هذا الكتاب تتمثل في السياقات التاريخية/ الثقافية والمنهجيات التي تؤثر على فهمنا لمفهوم “النوع“. وبالتالي فإن العديد من الدراسات الصادرة في التسعينيات والتي يتضمنها هذا الكتاب تمثل نصوصًا أساسية ومؤسسة لدراسة النوع في العلوم السياسية، كما أنها تثير قضايا نظرية مهمة ما زالت تتعلق بالمناقشات الفكرية الدائرة حاليًا. وأخيرًا، فإن بعض تلك المقالات، وتحديدًا دراسات جين فلاكس، وجوليا جوردون– زاكاري، وزهرة آرات، اختارتها الباحثات لهذا الكتاب باعتبارها من أفضل النماذج المعبرة عن الاهتمامات والأجندات البحثية الخاصة بهم. وفي ضوء ما سبق ذكره، أدعو القراء إلى تقييم المساهمات القيمة للمقالات المختلفة، لا بناء على تاريخ نشرها، وإنما على أساس قيمتها النظرية والمنهجية.