نحو صياغة خطاب نسوي بديل: قراءة نقدية
هند مصطفى علي
مقدمة
تنطلق هذه الورقة من أن أحد انشغالات البحث النسوي من مرجعية إسلامية هو القيام بعملية مراجعة نقدية بناءة للنسوية الغربية 1، وتفترض الورقة هنا أهمية أن يكون هناك محاولات نظرية للتجسير بين الموقفين من النسوية الغربية والإسلامية، بما يدعم الخطاب النسوي الإسلامي البديل ويعطيه صفة الفعالية على أرض الواقع. ويقوم هذا الافتراض على الاقتناع بأهمية ما قدمته التيارات النسوية في الغرب من طروح وأفكار تتميز، رغم ما قد نتفق فيه معها أو نختلف، بأنها مخلصة للتجربة الإنسانية ولواقع الإنسان/المرأة ومشكلاته وحاجاته. وهو ربما ما يفرق بينها وبين طروح خطابنا البديل الذي – وفي إطار الدفاع عن هويته وذاته – ينطلق من كليات نظرية لا تستقر قدمها على الأرض ولا تقدم معالجات مباشرة لمشكلات المرأة اليومية في سياقاتها الاجتماعية المختلفة.
لقد استطاعت النسوية الغربية، عبر كثافة الإنتاج وعلو النبرة، وبشكل أهم، عبر الانطلاق من نظرة متفحصة دقيقة لمشكلات المرأة على أرض الواقع، أن تخلق تأثيرًا قويًا في ساحة الفعل على أعلى مستويات صنع القرار الدولي. إلا أن النسوية الغربية وبافتقارها إلى مرجعية ثابتة، تظل تتأرجح حول أزمات تحديد هوية المرأة ومن ثم تحديد دورها ومسئوليتها الاجتماعية وطريقة علاج مشكلاتها الاجتماعية.
النسوية الإسلامية تجتهد من ناحيتها في عمليات إعادة قراءة المرجعية الإسلامية، القرآن والسنة، من أجل إثبات أصالة مكانة وحقوق المرأة فيها، وسَبْقها، وحجم الهوة بين ما تقرره هذه المرجعية للمرأة وبين واقع المرأة، وهو جهد مهم لتأسيس المرجعية المطلوبة لفعل تغییر رصين ومستقر. لكنها في الوقت نفسه تقف عند ذلك دون التطرق جديًا إلى تنزيل هذه القراءات على مشكلات المرأة اليومية وصياغة خطاب قادر على التأثير في التوجهات الاجتماعية وفي خطاب وأجندة جهات صنع القرار في مجتمعاتها.
الفكر النسوي: لا شك أن مصطلح الفكر النسوي مصطلح فضفاض يشير إلى سديم من الأفكار والتيارات والرؤى، التي، كلما اطلعنا عليها أكثر شعرنا بصعوبة أو استحالة الاطمئنان إلى تعريف أو تصنيف ما على أنه التعريف أو التصنيف الجامع المانع. وتختلف محاور التصنيفات، فهناك محور الأيديولوجيات، فنقول نسوية ليبرالية واشتراكية وماركسية وراديكالية وبيئية.. إلخ، وهناك تصنيف عبر الزمن يصنف النسوية إلى مراحل أو موجات أولى وثانية وثالثة2، وهناك من يميز نقلة معرفية يدعوها ما بعد النسوية، أو من يصنف حسب الأنساق المعرفية فيميز التيارات التي تكتب في نطاق الحداثة عن التيارات التي تكتب انطلاقًا من ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية، ناهيك عن التصنيف حسب توجهات جهوية أو خبراتية أو هوية ما؛ كأن نقول النسوية ما بعد الكولونيالية أو النسوية الأفريقية أو النسوية السوداء. والحقيقة أن التصنيفات تتشرذم وتتقاطع تقاطعًا واسعًا بحسب منطلقات كثيرة، وبخاصة من داخل الحقول الدراسية المختلفة. فالمنطلق من حقل القانون يكون له رؤية وتصنيف يختلف عن المنطلق من حقل التاريخ أو السياسة أو حقل الأدب أو اللغة أو العلاقات الدولية أو الفلسفة أو علم النفس.. إلخ.
أولاً: ميزات الفكر النسوي:
1- الدينامية
تبدو جميع الأفكار والتيارات النسوية في حالة حوار أو جدل دائم، كل فكرة تتبلور تخرج منها الفكرة النقيض ثم فكرة ثالثة تصير بدورها محورًا لسلسلة أخرى من الأفكار. فقد تبلورت النسوية الراديكالية مثلاً رفضًا لما قدمته النسوية الليبرالية واعتبرته تناولاً مجزًأ وسطحيًا لقضية التفاوت بين الجنسين، حيث قدمت بدورها مفهوم البطريركية باعتباره النقطة المحور في تفسير الهيمنة المنهجية المتواترة للذكور على الإناث في المجتمع، وعندما تعرض مفهوم البطريركية نفسه لانتقادات تقول بعدم كفايته لتقديم تفسير شامل لقمع المرأة عبر الزمن والثقافات، ظهر من يطور المفهوم موضحًا أن البطريركية تتكون من ست أنساق تتفاعل معًا تتشكل من علاقات الإنتاج داخل الأسرة التي تتسم بالتمييز بين الرجل والمرأة، وكذا العمل المأجور الذي يشهد تمييزًا ضد المرأة أيضًا، والدولة البطريركية، والعنف الذكوري الذي يأخذ أنماطًا سلوكية روتينية، والعلاقة الجنسية التي تطبق فيها معايير مختلفة على الجنسين، والمؤسسات الاجتماعية البطريركية التي تتضمن وسائل الإعلام ومؤسسات التنشئة الاجتماعية والتي تقوم بإنتاج صورة المرأة وتعزيزها على النحو الذي يخدم البطريركية (جيدنز، ١٩٨–١٩٩). في مرحلة أخرى جرى التأكيد على أن التركيز على البطريركية وحدها حتى مع إثرائها بهذا الشكل، يغفل عوامل أخرى أساسية مثل العرق، والطبقة الاجتماعية، والاستعمار، وجاء من ينطلق من هذه النقطة على الأخص ليقول إن نظم السيطرة المختلفة ترتبط فيما يمكن أن نعتبره مصفوفة هيمنة تتضمن فيما تتضمن السن والدين والتوجه الجنسي، بالإضافة إلى العرق والطبقة والنوع (27-222, Collins)، والأفراد من رجال ونساء قد يكونون مقهورين في بعض المواقف وممتازين في مواقف أخرى، أي يمكن تسكين الرجال والنساء داخل نظم متعددة للسيطرة (31-321, Zinn and Dill).
مثل مفهوم البطريركية، يمكن الوقوف على مفهوم مثل مفهوم القوة ومتابعة الموقف منه وتحولاته بين تيارات الفكر النسوي، وذلك بين فهم القوة بوصفها مورد أو سلعة اجتماعية إيجابية مطلوب إعادة توزيعها بشكل عادل في المجتمع، كما في الفكر الليبرالي، أو فهمها بوصفها سيطرة طرف على آخر (power over)تتضمن إخضاعًا وقهرًا كما في النسوية الراديكالية والاشتراكية وغيرها، أو فهمها بوصفها إمكانًا أو قدرة كما في أدبيات التمكين التي تتحدث عن (power to) و (transformative power). وهكذا، يمكن عبر متابعة التحليل في نقاط محددة مثل هذه، وبشكل دقيق، أن نقف على عشرات الأفكار التي تتجادل وتتشعب ولا تنتهي، وذلك داخل التيار الواحد أو عبر التيارات المختلفة أو عبر المنظورات المختلفة.
هذه أفكار تقرأ بعضها البعض وتتحاور وتتصارع وتتجدد ولادتها باستمرار.. والحقيقة أن هذه سمة عامة للفكر الغربي عمومًا، وهو ما ينقلنا إلى مناقشة السمة التالية للفكر النسوي.
2- الاتساق المعرفي
ما أعنيه هنا ببساطة هو ذلك التداعي الكثيف للأفكار والنصوص السياقية التي تهاجم القارئ للنص النسوي أيًا كان انتماء هذا النص. بمعنى أن النسوية رغم أنها على مستوى معين تمثل تمردًا أو خروجًا على نظم معرفية قائمة، لكنها تظل مرتبطة بهذه النظم من حيث المسلمات المرجعية الكبرى مثل مسلمة الصراع أو الفردية، أو من حيث الأفكار والمفاهيم الحركية.
في علم الاجتماع الغربي مثلاً، ثمة مساجلة كبرى حول قضية الفعل البشري بين البنية والفعل بمعنى: إلى أي حد نكون، بوصفنا فاعلين بشريين ناشطين، متحكمين في الشروط والظروف التي تكتنف حياتنا الإنسانية؟ أم أن الجانب الأغلب مما نقوم به هو نتيجة القوى الاجتماعية العامة التي لا نمتلك السيطرة عليها؟ والموضوع محل سجال بين تيارات مثل التفاعلية الرمزية (symbolic interactionalism) التي تؤكد العنصر الابتكاري الخلاق للسلوك البشري، وبين من يقول بالطبيعة التقييدية للمؤثرات الاجتماعية على السلوك (الوظيفية والماركسية)، وبين من يقول بأن البشر ينشطون في صياغة البنية الاجتماعية وإعادة صياغتها من خلال التفكير والسلوك (جيدنز، ۷۰۲–۷۰۳). ويجد هذا الحديث عن البنية والفعل – بوصفه موضوعًا كبيرًا في الفكر الاجتماعي– تجلياته في النقاشات حول مفهوم الجندر الذي نظر إليه تارة على أنه مؤسسة وتارة على أنه ممارسة (performance) وتارة على أنه بناء. وترى مارجريت أندرسن في شهادتها عن وضع دراسات المرأة خلال الربع الأخير من القرن العشرين أن العلاقة بين البنية والفاعلية أحد ملفات الاهتمام الكبرى داخل النظرية النسوية (441,Andersen).
ومن داخل أدبيات التنمية، نجد أن مفهوم الفعالية الذي طرحه أمارتيا صن في نظريته حول“التنمية بوصفها حرية “Development as Freedom يُستخدم على نطاق واسع في النقاش حول تمكين المرأة، فدعم فعالية المرأة (عبر التعليم والعمل له آثار واضحة في تعزيز صوت المرأة ومكانتها (صن، ٢٨١–٢٨٤)، وتتحدث نائلة كبير مثلاً عن التمكين باعتباره محصلة تفاعل عناصر أهمها الفاعلية (agency) وهي قدرة المرء على صنع خياراته الحياتية وتنفيذها، والموارد (resources) وهي الوسط الذي تُمارس فيه الفعالية من مؤسسات وعلاقات مختلفة في المجتمع. ولا تقتصر الفعالية على ممارسة الاختيار الحر بل فعل ذلك – أي الاختيار– بطريقة تتحدى علاقات القوة السائدة. بمعنى استحضار الدافع والشعور بالفعالية. فعلى سبيل المثال، يعتبر توفر العمل مدفوع الأجر من منظور الأهداف الإنمائية للألفية دليل تقدم على سبيل تمكين المرأة، لكنه في الواقع سيعتبر كذلك فعلاً في حال إذا ما كان قبول العمل يجيء بوصفه استجابة لفرصة جديدة أو سعيًا إلى درجة أعلى من الاعتماد على النفس، ولن يعتبر تمكينًا إذا ما كان العمل ينطوي على عملية بيع لقوة العمل بثمن بخس، كذلك سيكون العمل دليلاً قويًا على التمكين لو أسهم في تعزيز شعور المرأة بالاستقلال أكثر من كونه مجرد إشباع لحاجات العيش (24-13, Kabeer).
وتعد أصداء هذه الأفكار والمفاهيم الأساسية التي تتردد بين الحقول العلمية المختلفة وداخل الفكر النسوي بمذاهبه المختلفة مثالاً على ما أعنيه بالاتساق.
ثمة مثال آخر: إذا أجرينا مقاربات أكثر اتساعًا بين طبيعة التغيير والتطور في الفكر الغربي بوجه عام والتطور داخل الفكر النسوي، سنشهد كيف انعكس التغير في الفكر بعامة، من منظورات معينة، على التغير في الفكر النسوي ومقارباته، وكيف أسهم الأخير في الوقت نفسه في إحداث التطور والتغيير في الأول.
والواقف على التطور المنهجي في العلوم الاجتماعية، من المقاربات القانونية والنظمية والسلوكية إلى المقاربات المائلة أكثر إلى الأنسنة، إن صح التعبير، يمكنه رصد مناطق تأثر خطابات الحركة النسائية الموازية لهذا التطور (فيما ظل مناط اهتمام الحركة النسوية لوقت طويل هو ما يتعلق بتمايز الوضع القانوني بين الرجال والنساء في البلدان الغربية الصناعية، حيث طالبت الحركة في هذا الإطار بمساواة النساء والرجال أمام القانون، ففي حقبة لاحقة، وتحديدًا في ستينيات القرن العشرين، اتجهت قضية المساواة لتأخذ عمقًا اجتماعيًا وثقافيًا مختلفًا، إذ ركزت النسويات على إظهار وأيضاح هياكل وممارسات عدم المساواة الموجودة في النظام الاجتماعي). من ناحية أخرى، يمكن في الوقت نفسه رصد إسهام الجهود النظرية للتيارات النسوية داخل الأكاديميا في تطوير المناهج والأطر النظرية. وعلى سبيل المثال، كانت الجهود النظرية النسوية أحد معاول هدم مفاهيم حداثية راسخة مثل الموضوعية والعقلانية، إذ دأبت الاتجاهات النسوية في فلسفة العلم على إعادة النظر في الإبستمولوجيا التقليدية والتشكيك في المضمون المعرفي للطبيعة والحدود التقليدية للمعرفة على أساس أن هذا المضمون قد تجاهل السياق الاجتماعي والسياسي للذات العارفة في إنتاج المعرفة العلمية ذاتها، أي ارتباط المعرفة العلمية بالمحيط الثقافي والاجتماعي الذي تنشأ فيه، وانطلقت الإبستمولوجيا النسوية من أن هناك تصورات ومفاهيم وممارسات معرفية سادت تاريخ العلم عملت على إعاقة المرأة –بوصفها ذاتًا عارفة ومتميزة ومختلفة – عن تقديم تصورات ومفاهيم وممارسات معرفية نسوية، من بين هذه التصورات والمفاهيم مفهومًا العقلانية والموضوعية، ولجأ الاتجاه النسوي إلى علم اجتماع العلوم لإعادة قراءة تاريخ العلم والكشف عن البنية الاجتماعية والتسلطية وراء هذا التاريخ، وبيان تهافت النظرة الوضعية التي ترى أن التصورات العلمية والمفاهيم المعرفية تنفصل عن تاريخ صانعيها ومجتمعاتهم، وأن العلم ينفصل عن كل عملية اجتماعية لأنه موضوعي (قطب، ٤٧٧-48٢ 100,Chafetz.).
ويجب أن أؤكد أني لا أقصد بخصيصة“الاتساق المعرفي” في هذا المقام معنى الخلو من التناقضات ونقط الضعف وهذا ما سنتطرق إليه تاليًا، إنما أقصد الألفة الداخلية بين مفردات الفكر ومحيطه الفكري، والرفد المتبادل فيما بينهما، بل أود أن أضيف الألفة بين الفكر ومحيطه المجتمعي، بمعنى أن الأدبيات النسوية تحيل دومًا على منتجات ثقافية شائعة مثل الأفلام السينمائية والإعلانات التجارية والأعمال الفنية.
3- النزعة التجريبية والدراسات الميدانية
كثير من الأفكار النسوية ترتكن إلى دراسات حالة وتجارب عملية على عينات من النساء في سياقات محددة. وفي إطار اهتمام شخصي بموضوع المرأة في ظل النزاعات المسلحة، أقابل عددًا كبيرًا من الدراسات التي تقارب النزاع من منظور النساء، أو التي ترصد أوضاع النساء في مختلف مناطق التوتر ومن مختلف الزوايا، سواء المرأة في البيئات المحلية المتعرضة للعنف والعدوان، أو التي تناضل من أجل البقاء وتقوم في هذا السبيل بأدوار متنوعة ومبتكرة، أو التي تشارك في الحرب أو المرأة بوصفها جزءًا من التنظيمات المحلية التي تشارك في صنع أو بناء السلام، وكذا المرأة في المفاوضات وفي بعثات حفظ السلام… وتشرح هذه الدراسات العلاقات القائمة والمحتملة بين بناءات النوع الاجتماعي والسلطة والعرق والإثنية والطبقة. وعادة ما تجذب الدراسات المبينة على أساس من وقائع الانتباه3 وتحوز الثقة (أنظر/ أنظري (Moser; Olsson and Tryggestad)), ويمكن القول إن هذه الدراسات الميدانية، كان لها ثقل كبير في التأثير في التشريع الدولي. لقد أصدر مجلس الأمن خلال سنوات قليلة عددًا من القرارات تخص المرأة في النزاعات المسلحة أشهرها: القرار رقم ١٣٢٥ لعام ٢٠٠٠، والقرارات ذات الصلة التالية له، وهي القرار رقم ۱۸۲۰ لعام ٢٠٠٨، والقرار رقم ١٨٨٨ لعام ٢٠٠٩، والقرار رقم ١٨٨٩ لعام ٢٠٠٩، والقرار رقم 1960 لعام ٢٠١٠، الأمر الذي دعا البعض إلى إطلاق مصطلح Governance Feminism لوصف الطريقة التي يتم عبرها إدماج الأفكار النسوية في مؤسسات السلطة القانونية وعلى الأخص في تطوير القانون الجنائي الدولي (79,Otto)
4- التمحور حول التجربة الإنسانية المتفردة
يعد هذا ملمحًا آخر لتلاقي الفكر النسوي مع العباءة الفكرية الأوسع التي تحتويه، وربما نذهب إلى القول إن الإسهامات النسوية شكلت أحد المصادر التي رفدت نهر الفكر الغربي نحو التمحور حول الإنسان وتجربته الخاصة. وهذا يبدو واضحًا في حقل دراسات التنمية، حيث الانتقال من التنمية الاقتصادية إلى التنمية البشرية بمعنى توسيع الخيارات المتاحة للبشر، إلى أطروحة أمارتيا صن عن التنمية باعتبارها عملية توسيع في الحريات الحقيقية المتاحة للبشر.
وفي حقل دراسات الأمن، نجد الانتقال من الأمن القومي إلى الأمن الإنساني الذي أصبح الآن عنوانًا للعمل الدولي من أجل المرأة، والذي يتقاطع بشكل كبير مع ما قدمه أمارتيا صن.
تتجاوز الآن مفاهيم التنمية والأمن معانيها القديمة المرتبطة بالأطر الاقتصادية والعسكرية القومية لتصير أكثر التصاقًا بالبشر أنفسهم، وجودهم وحالاتهم. والمتابع للأدبيات النظرية حول تمكين المرأة سيجد بوضوح هذه المعاني الجديدة للتنمية والأمن التي تتمحور حول توسيع الخيارات وتعزيز الحريات وتعزيز تحقيق الإنسان لذاته.
وعلى صعيد الأمثلة الأدق، فإن المعاني المؤنسنة للتنمية والأمن تجد تطبيقاتها فيما يطرحه فريق من النسويات من داخل حقل العلاقات الدولية اللائي يُعرفن بالـ(peace feminism)، وهن يعرّفن السلام بأنه ليس فقط غياب الحرب داخل الدولة أو فيما بين الدول، بل أيضًا إنجاز أهداف اجتماعية وثقافية إيجابية. وهن يميزن بين سلام سلبي يعني غياب العنف القائم على الاختلاف (الجنس، العرق، الدين..) ضد النساء والأطفال والرجال. وسلام إيجابي يعني غياب العنف الهيكلي (structural violence)، الذي هو موقف تتحكم فيه جماعة تمتلك القوة/ النفوذ في وسائل إشباع الحاجات الأساسية، وفي عملية التعبير عن هذه الحاجات، وفي الحصول عليها، مما يحرم المتحكم بهم من القوة، ومن الحق في تعريف الذات (Atack 51-39)
ثانيًا: إشكالات الفكر النسوي:
تنجح التحليلات النسوية في استخدام المفاهيم والأدوات التي أتاحتها لها بيئاتها الفكرية، وتنجح في الاقتراب من واقع المرأة في سياقات مختلفة، وهي ناجحة إلى حد كبير من منظور وصف المشكلات، لكن تبرز – من منظور تطوير حلول لمشكلات المرأة – بعض الإشكالات. وتتفاقم هذه الإشكالات عند التعرض لقضايا المرأة المنتمية لأطر وخلفيات اجتماعية / ثقافية متنوعة ومختلفة عن الأطر التي أنتجت هذا الفكر النظري.
من هذه الإشكالات الاختلاف النسوي الأولي حول قضية الجوهر الأنثوي، ومسألة الاختلاف وحدود الاختلاف، وهل للمرأة طبيعة خاصة؟ في الإجابة عن هذا السؤال تجد من يذهب في تأكيد ذلك إلى تمجيد هذه الطبيعة والحديث عن مميزاتها، فالتيار الذي يدعى النسوية الثقافية (cultural feminism) طور أيديولوجية عن الجوهر الأنثوي تثبت أن هناك خصائص أنثوية لم تلق حظها من التقدير، ويثمن هذا التيار اختلاف النساء عن الرجال، وهناك تيار الـ (standpoint feminism) الذي يتخذ من خبرات المرأة نقطة انطلاق ويعتبر أن للمرأة نسق معارف مختلفًا يجعلها ترى العالم بطرق تختلف عن رؤية الذكور التي هي في الوقت نفسه الرؤية السائدة (أنظر/أنظري Ring). وعلى غرار هؤلاء المؤمنين بطبيعة خاصة أو بخبرة خاصة للمرأة ظهرت تيارات النسوية البيئية ( eco feminism) التي تناظر بين المرأة والطبيعة في القهر الممارس على كل منهما من قبل الرجل (أنظر/ أنظري Somma)، والنسوية السلامية التي تُبرز ميل المرأة الطبيعي إلى الحرب واللاعنف، وأسهمت تيارات نسوية في حقل القانون في بلورة ما يسمى أخلاق الرعاية ((care ethics التي تتمحور في الأساس حول التضامن والجماعية والرعاية.
في الجانب المقابل، ستجد من ينكر أن هناك خبرة متمايزة متجانسة للنساء يمكن بناء معرفة عليها، ومن ينكر أصلاً الرؤية الحتمية البيولوجية في الاختلاف بين الرجل والمرأة، بل من يسخر من الاحتفاء بوجود طبيعة نفسية معينة للمرأة قائلين إن البعض يسمي سلبية المرأة نزعة إلى السلم وعاطفيتها نزعة إلى الرعاية ويعتبر ذاتيتها وعيًا ذاتيًا متطورًا (أنظر/ أنظري Alcoff).
ومقابل كل الجهد الذي بذلته تيارات النسوية منذ الستينيات في مناقشة مسألة الاختلاف الجوهرى بين الرجل والمرأة، تقول بعض النسويات المعاصرات إن الآراء التي تفرق بين الجنسين تمارس تمييزًا على أساس الجنس ولا توصف بالنسوية. وبالنسبة إلى نسويات ما بعد الحداثة فإن منهن من ترفض رفضًا قاطعًا منطق التنميط والقولبة الذي يجعل البعض يدعي أن المرأة مثلاً أقرب إلى الرعاية أو السلام ويعتبرونه منطقًا ذكوريًا (3-2,Mason)، ومنهن من يشكك في وجود فئة النساء من حيث المبدأ.
إن الإشكاليات النظرية في الفكر النسوي تجعله ملتبسًا في تحديد هوية المرأة، ومن ثم دورها، ومن ثم تحديد ماذا تريد هذه المرأة وتحديد الأنسب كعلاج لمشكلاتها إن كان هناك اتفاق على هذه المشكلات. إن الفكر النسوي الاشتراكي مثلاً الذي ينظر إلى قهر المرأة في سياق الأفكار الماركسية حول الاستغلال والقهر والعمل، يرى أن كلاً من الدعارة والعمل المنزلي ورعاية الأطفال والزواج، طرق لاستغلال المرأة داخل نظام بطريركي يقلل من شأن المرأة ومن شأن ما تقوم به من عمل.
إحدى الكاتبات النسويات التي تقول إنها تنتمي إلى الموجة الثالثة من النسوية (ناعومي وولف)، تنتقد الموجة الثانية، قائلة إنها تريد من المرأة أن“تتخلى عن ميزة الممارسة الجنسية الطبيعية الـ (heterosexual) بعدم الزواج بدلاً من العمل على توسيع الحقوق المدنية، وأن تتخلى عن الجمال بدلاً من أن توسع تعريفه…”، وتضيف أن الموجة الثانية من النسوية“تخشى من أن الاستمتاع قد يشكل خطرًا على الثورة“. وهو انتقاد يؤشر على قلق وعدم انسجام التيارات النسوية فيما يتعلق بتصور ما هو الأفضل للمرأة ((179,Snyder
وقد انعكست هذه الإشكالية المرتبطة بقلق الهوية الملتبسة للمرأة في قرارات مجلس الأمن المتعاقبة، مثلاً قرار ١٣٢٥ لعام ٢٠٠٠ الذي احتفت به تيارات واسعة من الفكر النسوي داخل حقول القانون الدولي والعلاقات الدولية وعلم السياسة لأنه من وجهة نظرهن يتجاوز منطق القولبة في النظر إلى المرأة بوصفها ضحية أو مستحقة للرعاية، ويركز أساسًا على مشاركة المرأة في الحرب والسلام، في هذا الإطار اعتبر القراران التاليان رقما ۱۸۲۰ لعام ۲۰۰۸ و ۱۸۸۰ لعام ٢٠٠٩ اللذان يتحدثان عن العنف الجنسي ضد المرأة في النزاعات المسلحة وأهمية إدراج أحكام محددة تتعلق بحماية النساء والأطفال، بمثابة ردة ونكوص عن النهج التقدمي الذي انتهجه القرار ١٣٢٥ في عودته إلى النظرة الحمائية للمرأة باعتبارها كائنًا خاصًا.
أرى أنه قد يحق لنا – دون حساسيات أو شعور بالدونية– أن ندعم ونحتفي بإطار قانوني يحمي المرأة المستضعفة على أرض الواقع، بدلاً من أطر قانونية تعلي قيمة المشاركة الكاملة دون أن ترتبط بحاجات مباشرة على الأرض، بل ربما ترتبط واقعيًا بحاجة مزيفة تخلقها اتجاهات التمويل الدولية. إن حاجة المرأة إلى الرعاية والحماية في ضوء الظرف الواقعي/التاريخي لا يصادر على قيمتها الإنسانية الأصلية ولا يقلل منها، ولربما كان هذا أحد ملامح مأزق الهوية الذي يسقط فيه الفكر النسوي الغربي، على عكس النسوية الإسلامية كما سنوضح لاحقًا.
يجيء التركيز على المثال المتعلق بالقرار ١٣٢٥ وما تلاه من قرارات ذات صلة، على وجه التحديد، لأنه يكشف بوضوح كيف أن باستطاعة فكر يبدو نظريًا جدًا، التأثير في أعلى دوائر صنع القرار العالمية التي تهيمن علينا جميعًا والتي من المفروض أن تعبر عن أصواتنا جميعًا. وفيما كنا نتحدث دائمًا عن أن الأمم المتحدة تتبنى الخطاب النسوي الليبرالي باعتباره أكثر الخطابات اعتدالاً، فإن المرجعيات التي يمكن أن نوصل فيها مقولات القرار ١٣٢٥ تنتمي بوضوح إلى نسوية ما بعد حداثية، ونحن لا مشكلة لدينا مع أي من تيارات النسوية، إنما ما يهم هو: هل الصوت الذي يقدم نفسه باعتباره يعبر عنا جميعًا يعبر فعلاً عن كل قطاعات النساء وشرائحهن من كل الثقافات والحضارات الإنسانية؟ وأين دورنا ومسئوليتنا بوصفنا نساء ينتمين إلى المرجعية الإسلامية في إظهار صوتنا؟
النسوية الإسلامية وإشكالات الفكر النسوي الغربي:
يمكن الادعاء بأن النسوية الإسلامية لديها حلول نظرية أولية لعدد من إشكالات النسوية الغربية، ذلك أن مرجعيتها تحسم لها بعض الأمور. فمسألة الجوهر الأنثوي – باعتبارها أحد أهم هذه الإشكالات– مستقر عليها تقريبًا لدى فريق معتبر من النسويات الإسلاميات. فضمن جهود التأصيل التي اضطلعت بها باحثات مسلمات، هناك إشارة إلى النظام المعرفي التوحيدي الذي يقوم على مقابلة بين الإله الواحد الأحد الذي ليس كمثله شيء الذي يوجد عند مستوى أنطولوجي متمايز، وبين البشر الذين يوجدون على قدم المساواة عند مستوى أنطولوجي مغاير، مستوى ليس فيه أحادية الله المطلق، لكنه مستوى يتسم بالزوجية دائمًا. وفي المرجعية القرآنية إشارات واضحة إلى وحدة الجوهر الإنساني أو وحدة النفس بين الرجل والمرأة، ومن ثم اتفاق المرجعية الأخلاقية والقيمية، مع اختلاف الأدوار العمرانية باختلاف السياق.
في بحث قيم للدكتورة أماني صالح (۲۰۰۲) تناقش هذه المسألة وتوضح أن المنظومة القرآنية جمعت في الوجود البشري بين الوحدة والتنوع على أساس التمييز بين مستويين لهذا الوجود هما:”الجوهر” و“العرض“.. وتقول إن القرآن قد عبّر عن الجوهر الإنساني في مستوى“النفس“، أما العرض فيظهر في“الجسد“، وبينما وسم القرآن“النفس” بالوحدة فقد وسم العرض“الجسد” بالتنوع والتجنس والتعدد. وترى أماني صالح أن المعالجة القرآنية تظهر أنه رغم وحدة النفس فإن انقسامها كان حتميًا، أولاً لكونها مخلوقًا ناقصًا محتومًا عليه التغير في أحوال الوجود، وثانيًا لتفعيل وجود النفس الواقعي وبدء تحقيق مهمتها في الابتلاء بالفعل والاختيار. وتضيف أن“الرؤية القرآنية تشير إلى أن انقسام النفس كان انقسامًا على أساس النوع من الأصل وليس مجرد تعدد وتكاثر متماثل، وقد جُعل لهذا الوجود الانقسامي النوعي وظيفة أساسية هي توفير آلية الاستمرار والتكاثر من خلال التزاوج بين النوعين وتحقيق التكاثر والإعمار المادي، وبهذا اكتسب كل من الجوهر والعرض وظيفته الوجودية؛ فالنفس هي التي تعرف وتعي، وتختار فتصيب وتخطئ، وتتزكى أو تفجر..إلخ، والجسد هو الكلمة الأولى في رحلتها هذه نحو الفعل؛ ففيه وبه تتقي النفس أو تفجر، وفي إطار التفاعل المادي بين النفوس والأجساد العديدة في الدنيا يكون الابتلاء والامتحان الإنساني الأكبر، بل إن طبيعة هذا الجسد (كونه ذكرًا أو أنثى) هو أول الابتلاءات لأنه يضع النفس في منظومات مختلفة للابتلاء من الميلاد وحتى الوفاة حسب المعايير البشرية التاريخية القائمة” (صالح،22-23)
وفي وصف الانقسام النوعي بين الرجل والمرأة يستخدم القرآن الكريم مصطلح الزوجية. وحين تطلق الزوجية في الفضاء القرآني تتعدد مستوياتها، فتبدأ من المستوى الكوني العام بنظامه الفيزيائي الدقيق وتنسحب إلى المخلوقات الحية من نبات وحيوان وبشر، ثم تجد صورتها“الفريدة” في العلاقة بين الذكر والأنثى البشريين. فعلى المستوى الكوني تجيء الآيات:
“ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون» (الذاريات، 49).
“أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم” (الشعراء، ۷)
“وهو الذي مدّ الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارًا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النّهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون” (الرعد، 3)
“خلق السموات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم” (لقمان، ۱۰)
“فيهما من كل فاكهة زوجان” (الرحمن، ٥٢)
“خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنی تصرفون” (الزمر، 6)
“وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى” (النجم، 45)
وداخل هذه الزوجية التي يتسم بها البناء الكوني تجيء زوجية الرجل والمرأة:
“ومن ءاياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون” (الروم، ۲۱)
“يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساًء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا” (النساء، 1)
“هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملاً خفيفًا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لين ءاتيتنا صالحًا لنكونن من الشاكرين» (الأعراف، ۱۸۹)
ويمكن القول مبدئيًا إن إثبات الزوجية لسائر مخلوقات الكون فضلاً عن النظام الفيزيائي المادي للكون ذاته، إنما يعبر عن نوع من الانسجام بين الحياة البشرية والطبيعة بشكل عام، بمعنى أنه يستبعد التصورات التي تضع الإنسان في مواجهة الطبيعة أو ضدها، بل تصير الحياة البشرية جزءًا ممتدًا ومتناغمًا لسنة كونية مثبتة تقع داخل نطاق أنطولوجي واحد سمته التعدد والاختلاف والنسبية، مقابل مستوى أنطولوجي مغاير هو مستوى الوجود الإلهي الواحد المطلق“ليس كمثله شيء” (الشورى، ۱۱). وفيما تسير أزواج الكون بدقة التسخير الإلهي، فإن الإنسان – ذكرًا وأنثى– كان له وضعه الخاص؛ وضع التكريم والتخيير:”ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا” (الإسراء، ۷۰)،“إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولا” (الأحزاب، ۷۲).
كذلك فعندما يقوم الكون بتعقيده ودقته في آنٍ على مبدأ الزوجية فإن أبعد ما يتبادر إلى الذهن من مدلولات المفهوم هو ما يتعلق بالتطابق من ناحية أو الإحلالية أو التضاد الصراعي من ناحية أخرى، بل الأقرب أن ينصب المدلول في معنى اختلاف الثراء الذي يؤدي إلى استمرار الحياة؛ وذلك بالمعنى الذي اشتملت عليه الآية الكريمة“يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير” (الحجرات، ۱۳) فاختلاف الذكر والأنثى (وهو أول مستوى من مستويات الاختلاف الذي تثبته الآية الكريمة) كان بغرض الجذب والتقارب، التكاثر و“العمران” أو ما تجمله الآية الكريمة في مفهوم“التعارف“، بالمنطق نفسه الذي جاء به اختلاف جميع الأشياء إلى زوجين يتكاملان لتستمر وتيرة الحياة وتستمر العجلة الكونية في الدوران إلى أجل مسمى. والزوجية بهذا المعنى لا تدع سبيلاً لفتح حديث عن طرف أدنى وآخر أعلى ولا ترتبط بدرجة الإيمان، بل هي لا تعدو أن تكون آلية لتسيير الحياة والعمران على أفضل تقويم” لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم” (التين، 4)”الذي خلق فسوى. والذي قدر فهدى” (الأعلى، 2-3) (مصطفى، ٥٩–٦٢).
وتطرح أماني صالح عدة ملاحظات في شأن منظومة الزوجية بوصفها تعبير عن العلاقة بين الرجل والمرأة في ضوء الخطاب القرآني. فتوضح أن“الزوجية” هي تنظيم ينبع من نظرة تاريخية شمولية تمتد عبر العصور والسياقات الاجتماعية التي تختلف فيما بينها فيما تمنحه للمرأة من حقوق أو تنكره عليها، وتعمل هذه المنظومة على حفظ مجموعة من الضمانات الأساسية للمرأة، أهمها مسألة الإعالة المادية (الإنفاق) وذلك في ضوء الوظيفة البيولوجية للمرأة في الإنجاب ومهمتها في رعاية الأطفال. فقد ألزم القرآن الرجل بالإنفاق والإعالة بحيث صار هذا التوزيع مبدًأ أساسيًا في التنظيم الاجتماعي الإسلامي لعلاقة الرجل والمرأة بغض النظر عن الخصوصيات والاستثناءات الفردية أو الاستثناءات الجماعية لأجيال وعصور بعينها. وإذا كانت الرؤية القرآنية قد أقرت هذا التوزيع للوظائف بوصفه مبدًأ عامًا لعموم الظروف البشرية، إلا أنها لم تفرضه بوصفه تقسيمًا جامدًا مغلقًا لا فكاك منه؛ لمعرفة الخالق بتغير الواقع الاجتماعي والتاريخي للبشر، ولاحتمالات التوفيق بين الأدوار والوظائف المختلفة أو العجز عن القيام بها. كذلك فإن القرآن لم يلحق بهذا التوزيع تراتبًا أو تمييزًا في القيمة بين مسئوليات المرأة ومسئوليات الرجل في أداء وظيفة العمران. بل جعل أداء كل منهما لدوره بشروطه التي دل عليها القرآن مناطًا لمنحه الصفة الإيجابية أو سلبها منه. (صالح، ٢٦–٢٧).
إشكالات النسوية الإسلامية وكيفية تجاوزها في ضوء قراءة نقدية للفكر النسوي الغربي/العالمي:
رغم أن الفكر النسوي من مرجعية إسلامية يمتلك ميزة نسبية إذ إن لديه منطلقات نظرية عقيدية أولية بالنسبة لقضايا إشكالية أساسية عند كثير من تيارات الفكر النسوي الغربي، لكنه يظل مع ذلك مقصرًا في مسائل أخرى كثيرة:
(أ) فمن ناحية، أزعم أن الطروحات الفكرية داخل هذا الفكر هي شتات لا يجمعه حوار ولا تراكم ولا يفيد من بعضه البعض ولا يكمل بعضه بعضًا بل يتسم في أحيان كثيرة بالتكرار وليس البناء على ما تم بحثه ودراسته، ولعلي أدعو إلى جهود تهدف إلى رصد وتجميع الإسهامات السابقة في نطاق النسوية الإسلامية وتصنيفها، وإتاحتها في صورة ببليوجرافيا ورقية أو إلكترونية والعمل إن أمكن على بناء قاعدة بيانات للناشطين في هذا الحقل، كي يكون هذا لبنة نحو خلق تيار يعرف بعضه بعضًا ويطلع أطرافه على إسهامات الأطراف الأخرى فنمهد لعملية التبادل والحوار وتوليد الأفكار ومراكمة العلم النافع.
(ب) هناك كذلك القصور المتعلق بعدم تجاوز التأصيل النظري إلى رصد واقع المرأة المسلمة على الأرض، والحقيقة أن هذه ترتبط بالأولى، فلو أن هناك قراءة واطلاعًا حقيقيًا على ما كتب فعلاً من أدبيات ربما لكان هذا توفيرًا في بعض الأحيان لجهد تأصيلي مكرر في قضايا بعينها وتوجيه الجهد لقضايا جديدة.
ولنا أن نستفيد من الدراسات النسوية العالمية التي جهدت في وصف حيوات النساء في سياقات مختلفة ووصف معاناتهن ومشكلاتهن، فالبداية من الواقع خطوة مهمة نحو كسب الثقة. وفي قضايا المرأة في بلادنا العربية بصفة خاصة ونظرًا لحساسيتها الثقافية الجمة، فإن البحث المستند إلى خبرات وتجارب فعلية ودراسات حالة واقعية يكون له في نفس المتلقي أثر أكبر بكثير من أثر الخطاب النظري الذي رغم صحته يعتبره البعض ترفًا فكريًا وانشغالاً لمن لا شغل له أو فكرًا مستوردًا ليس له أصل على الأرض.
إن كثيرًا من إشكالات المرأة مع الإسلام تكمن في الخطاب الإسلامي الشائع الذي يروج له بعض المشايخ أو مدعي المشيخة ويستهلكه العامة بارتياح، وهي إشكالات تحل نفسها بنفسها عند الرجوع إلى المصادر الشرعية من القرآن والسنة وحتى كتب الفقه التي يعترف واضعوها الأوائل أنفسهم باحترام الاختلاف والتعدد في الرأي ويقرون بأنه“لا إنكار في المختلف فيه“. وتصبح المشكلة حينئذ ليست مشكلة تأصيل نظري بقدر ما تتعلق بالعمل على الثقافة المجتمعية، تلك الثقافة التي درجت على الميل إلى قبول خطاب التشدد والانغلاق بل والقسوة واعتبارها من صحيح الدين ورفض كل ما يتعلق بالحرية والرحمة والتسامح واحترام الاختلاف واعتبار أنه من غير الدين، هذه الثقافة نفسها هي ما ينبغي العمل عليه، والعمل عليها يقتضي قربًا أكثر من الناس ومن واقعهم على الأرض.4 مثلاً، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عندما كانت الساحة الثقافية متأججة حول خطاب الحجاب الذكوري، كانت سيدات مثل ملك حفني ناصف وهدى شعراوي وأخريات ينشطن في إصلاح عملي على الأرض يشمل المرأة والقضايا الاجتماعية والوطنية معًا ومثلن نماذج إصلاحية غير مختلف عليها.
(ج) لماذا تبدو النسوية الإسلامية مشتبكة في الأغلب مع العلوم الشرعية فقط من فقه وتفسير، وكأنها تماثل الاتجاه الثقافي السائد الذي يناظر بين الإسلام وعلم الفقه على وجه التحديد ويقصره عليه، رغم أن الفقه أو التفسير هي علوم ضمن منظومة متكاملة ومتشعبة من الرؤية الإسلامية، فالإسلام حياة كاملة، ليس علمًا أو مجموعة علوم أو مجموعة عبادات أو مؤسسات، بل هو بالفعل منظومة حياة تبدأ من نوايا في النفس وتنتهي إلى أفعال عمرانية على الأرض في مختلف المجالات. إن المسلم يستحضر منظومة معرفية تحكم نظرته إلى الأمور وأفعاله كلها، فالديني في مفهومنا يتقاطع مع ما نشير إليه بمفاهيم“الاجتماعي” و“الأخلاقي” و“النفسي” و“الاقتصادي“..إلخ، فهذه كلها تبدو من وجهة نظر معينة كأنها أجزاء مترابطة، فالمسلم حين يشرع في غرس بذور نبات أو إماطة أذى عن طريق أو إصلاح بين متخاصمين، وعندما يتجه إلى عمله في الصباح سواء كان مكتبًا أو مصنعًا أو وكالة فضاء، وحتى عندما يعاشر زوجه وعندما يتطهر.. إلى آخر هذه الأفعال الشخصية والعامة، فهو يقوم بفعل تظلله مجموعة قيم أخلاقية واحدة (العدل – الإحسان – الإخلاص الصدق – التقوى – الإصلاح…) وله دوافعه العمرانية الاستخلافية، وله مالآته التي ينشدها الإنسان في حياته الدنيا وفي آخرته.
من هنا، فإنني أدعو إلى أن يوسع المنتمون إلى النسوية الإسلامية أفق رؤيتهم، وبخاصة أننا لا ننظر إلى مصطلح الإسلامية الذي يصف النسوية في قولنا“النسوية الإسلامية” بمعني مذهبي، فتكون النسوية الإسلامية مناظرة للنسوية المسيحية أو اليهودية، إنما ننظر إليه بوصفه منظومة معرفية.
بعبارة أخرى، فكما تقوم الباحثة النسوية ذات المرجعية الماركسية مثلاً بتقديم إسهامات في علم السياسة أو الاقتصاد أو القانون أو أي من العلوم، فنحن مدعوون ومدعوات أيضًا إلى تقديم إسهامات في تخصصاتنا المختلفة، تظهر فيها هويتنا ورؤيتنا بوصفنا نساء ومرجعيتنا بوصفنا مسلمات، لا أعني بالمرجعية الإسلامية بطبيعة الحال أن تكون كلمة إسلام أو أحد الألفاظ الشرعية الشهيرة ظاهرة في عنوان البحث أو متنه، لكن أن تكون حاضرة في وعي الكاتبة مُشَكلًة ما نسميه ما قبل المنهج، فتتحكم في الطريقة التي ترصد بها الظاهرة فتقدم عناصر وتؤخر أخرى، والطريقة التي ترى بها العلاقات بين العناصر، والطريقة التي تحدد بها الأولويات والطريقة التي تحدد بها الحلول.
بهذا المعنى، نسهم في تعزيز التيار النسوي العالمي من خلال تأكيد الوعي النسوي بوجود رؤى متنوعة للمرأة من واقع خبراتها الحياتية ومحيطها الحضاري وثقافتها المختلفة، ونضيف إلى النسوية الإسلامية لأننا نفعل الرؤية الإسلامية في مجالات حياتية وعلمية وفكرية أكثر اتساعًا. وبهذا تصبح الجهود التأصيلية التي تقوم بها النسويات الإسلاميات في مجال علوم الفقه والتفسير فرعًا من فروع نسوية إسلامية أوسع نطاقًا.
ختامًا أدعو إلى نسوية إسلامية، لا بالمعنى الضيق لاستخدام خطاب ديني سطحى مليء بالمصطلحات الإسلامية، لكن نسوية تنتمي إلى هذا الحوض الحضاري ومنشغلة بهمومه، نسوية تكتب عن مشكلات المرأة الفقيرة والمرأة العاملة والمرأة المثقفة، كما تكتب عن قضايا مجتمعية مختلفة، من مرجعية الإسلام، لا بمعناه الفقهي وقضايا الحلال والحرام، بل بمعناه الأشمل بوصفه منظومة معرفية قوامها إنسان مستخلف في الأرض كي يعمرها ويوحد الخالق.
الهوامش
1 رغم الإشارة إلى الفكر النسوي بكونه“غريبًا“، فإن هذا لا يصادر على حقيقة الإسهامات العالمية المتنوعة التي رفدت هذا الفكر وأسهمت فيه بشكل عضوي، لكن وصف الغربي لا يشير إلى انتماء جغرافي بل إلى سمات مرجعية ونموذج معرفي أظلّ هذا الفكر.
2 يرى باحثون أن المرحلة الأولى من النسوية تمتد منذ القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين، وذلك في كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة، وهي التي ركزت في الأساس على تعزيز حقوق متساوية للمرأة في الملكية والتعاقد، وكذا معارضة زواج المتعة وتملك الزوج لزوجته وأطفالها، ثم ركزت نشاطها فيما بعد على المشاركة السياسية لا سيما منح المرأة حق التصويت، أما الثانية فتشير إلى نشاط نسوي ممتد منذ بداية الستينيات إلى أواخر الثمانينيات وفيها تم صك شعار“الشخصي سياسي” “The Personal is Political” الذي أصبح مرادفًا لهذه الموجة التي اعتبرت أن كلاً من عدم المساواة الثقافية والسياسية مرتبطان ارتباطًا أساسيًا، وشجعت النساء على إدراك أن تفاصيل حياتهن الشخصية مسيسة بشكل عميق وتعكس هياكل السلطة المتحيزة ضد المرأة. أما الموجة الثالثة فبدأت في مطلع التسعينيات بوصفها ردَّ فعل على ما اعتبر أنه فشل للموجة الثانية حيث سعت النسويات فيها إلى تحدي أو تجنب ما رأت أن الموجة الثانية قدمته من تعريفات حول الأنوثة، التي (وفقًا لهن) تركز على التعبير عن خبرات المرأة البيضاء المنتمية إلى الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة.
3- في اجتماع ضمته جامعة الدول العربية في شهر مارس ۲۰۱۲ لمناقشة تفعيل الاستراتيجية العربية للحد من مخاطر الكوارث وهي تناظر الاستراتيجية الدولية للحد من الكوارث، تحدث المسئولون من الجهة الأممية المختصة عن ضرورة إدراج بعد النوع الاجتماعي لأن دراسات ميدانية عن بعض الكوارث الكبرى مثل تسونامي وغيره كشفت أن النساء أحيانًا يكن أكثر عرضة لعدم النجاة نتيجة لاعتبارات ثقافية، منها أن بعضهن قد يرفضن مغادرة المنزل بدون إذن أزواجهن وبعضهن تعوقهن ملابسهن التقليدية عن اتخاذ رد الفعل المناسب. عندما قالت المتحدثة هذا أظهر بعض الحضور، الذين كانوا يبتسمون كلما جاء ذكر“إدماج منظور النوع“، بعض الاهتمام.
4- في كثير من مناطق العالم الإسلامي وحين تحدث الأزمات الكبرى التي تستدعي التدخلات العسكرية أو الإغاثية الأجنبية، تبدأ الأصوات الداخلية في التحذير مما يحمله المتدخلون من ثقافة مغايرة يستعمرون بها نفوس من يتدخلون لإغاثتهم من أهالي المناطق المأزومة، وعلى الأخص النساء، مستغلين الأوضاع السيئة التي تعيشها هؤلاء النساء والتي تكون في الأغلب امتداد لأوضاعهن قبل الأزمات والتي ترتبط بالمنظومات القيمية السائدة والمشتبكة بطبيعة الحال مع الإسلام…. في المقابل لا أحد منا كان قد وجه اهتمامًا بهؤلاء النسوة من قبل وبحقيقة مشكلاتهن، وكان الأولى بدلاً من أن نقف عند حد انتقاد تدخلات الآخرين التي تجيء وفقًا لأطرهم الثقافية وأجنداتهم المسبقة، أن نطور نحن رؤية خاصة بنا للأوضاع وأطروحات للحل ربما ندفع بها إلى جهات إقليمية أو دولية فاعلة لتكون مطروحة على أجندة الحركة في تلك المناطق.
المراجع العربية
جامبل، سارة. النسوية وما بعد النسوية. ترجمة أحمد الشامي. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ۲۰۰۲.
جيدنز، أنتوني. علم الاجتماع. ترجمة فايز الصباغ. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ٢٠٠١.
صن، أمارتيا. التنمية حرية. ترجمة شوقي جلال. القاهرة: المركز القومي للترجمة، ٢٠١٠.
صالح، أماني.”قضية النوع في القرآن: منظومة الزوجية بين قطبي الجندر والقوامة“. دورية المرأة والحضارة 3 (شعبان ١٤٢٣ه أكتوبر ۲۰۰۲): ص ص ۱۷-53.
قطب، خالد.”الاتجاه النسوي في فلسفة العلم“. مجلة كلية الآداب (جامعة القاهرة)، مجلد 61، عدد4 (أكتوبر ۲۰۰۱): ص ص ٤٧٧–٤٨٢.
مصطفی، هند.”الفضاء المعنوي للزوجية في البيان القرآني:”العلاقة بين الزوجين” بين المنظور القرآني والقراءة الفقهية“. دورية المرأة والحضارة 3 (شعبان ١٤٢٣ه أكتوبر ۲۰۰۲): ص ص 54-83.
المراجع الإنجليزية
Alcoff, Linda. “Cultural Feminism Versue Post-Structuralism: The Identity Crisis in Feminist Theory.” Signs 13.3 91988): 405-36.
Allen, Amy. “Feminist Perspectives on Power. “ The Stanford Encyclopedia of Philosophy, Stanford U., 2005.
Atack, lain. “Peace Studies and Social Change:The Role of Ethics ans Human Agency. “ Policy & Practice: A Development Education Review 9 (2009): 39-51.
Andersen, Margaret L. “Thinking About Women: A Quarter Century’s View.” Gender and Society 19.4 (2005): 437-55.
Chafetz, Janet Saltzman. “Feminist Theory and Sociology: Underutilozed Contributions for Mainstream Theory.” Annual Review of Sociology 23 (1997): 97-120.
Coates, Patricia Hill. Black Feminist Thought: Knowledge, Consciousness and The Politics of Empowerment. Boston: Unwin Human, 1990.
“Feminism in Waves: A Brief Overview of the First, Second an Third Wave.” Yahoo Voices. June 25, 2012. Gamvle, Sarah, The Routledge Companion to Feminism and Postfeminism. Trans. Ahmed El Shami. Cairo: Supreme Council of Culture, 2002.
Giddens, Anthony. Sociology. Trans. Fayez El Sabbagh. Beirut: Arab Orbanization for Translation, 2001.
Kabeer, Naila. “Gender Equality and Women’s Empowerment: A Critical Analysis of the Third Millennium Development Goal.” Gender and Development 13.1 (2005).
King, Gary and Christopher J. L. Murray. “Rethinking Human Security, “ PoliticalScience Quarterly 116.4 (2002):585-610.
Olsson, Louise an Torunn L. Tryggestad, eds. Women an International Peacekeeping. London: Frank Cass, 2001.
Otto, Dianne. “Power and Danger: Feminist Engagement with international Law through the UN Security Council. “ The Australian Law Journal 32 (2010).
Mason, Christine, “guest Editor’s Introduction: Women with and without Guns: Gender, Conflict an Sexuality. “Social Alternatives 22.2 92003): 3-4.
Moser, Caroline O, N. and Flona C. Clark, eds. Victims, Perpetrators or Actors? Gender, Armed Conflict and Political Violence. London: Zed Books, 2001.
Mustafa, Hind. “Moral Space in the Qur’anic Statement ‘The Relationship Between Spouses’: Between the Qur’anic an Juristic Reading.” Journal of Women and Civilization 3 (oct.2002): 54-83.
Qutb, Khalid, “The Feminist Trend in the philosophy of Science.” Journal of the Faculty of Arts. Cairo University 61.4 (oct.2001): 477-82.
Ring, Jennifer, “Toward a Feminist Epistemology.” American Journal of Political Science 13.4 (1987): 753-72.
Saleh, Amani. “The issue of gender in the Koran: the marital System between Gender and Stewardship.” Journal of Women and Civilization 3 (oct. 2002) 17-53.
Sander-Staudt, Maureen. “Care Ethics. “Internet Encyclopedia fo Philosophy. March 18, 2011.
Sen, Amartya. Development as Freedom. Trans. Shawki Jalal. Cairo: National Center for Translation, 2010.
Somman Mard and Sue Tollesom-Rinehart, “ Tracking the Elusive Green Women: Sex, Enviromentalism, and Feminism in the United States and Europe, “ Political Research Quarterly 50 1 (1997): 153-69.,
Snyder, R. Claire, “ What is Third-Wave Feminism? A New Directions Essays. “ Signs 34.1 (2008):175-69.
Sylvester, Christine, “Feminist Theory and Gender Studies in International Relations. “ International Studies Notes 16/17.3/1 (1991/1992): 32-38.
Thomas, Caroline, “Global Governance, Development and Human Security: exploring the Links. “ Third World Quarterly 22.2 (201); 59-175.
Zinn, Maxine Baca an Bonnie Thornton Dill. “ Theorizing Deference from Multiracial Feminism.” Feminist Studies 22.2 (1996): 321-31.
مبادئ المساواة في الطلاق من المنظور القرآني
أسماء المرابط
مقدمة
يعتبر الطلاق في الإسلام أمرًا مشروعًا لكون الزواج عقدًا يجمع بين طرفين يمكن لأحدهما أو لكليهما حله، وليس أمرًا مقدسًا كما تنظر إليه المسيحية، ففي الوقت الذي تعتبر فيه المسيحية الزواج رباطًا غير قابل للفسخ، شرَّع الإسلام الطلاق وأرسى مبادءه منذ البداية الأولى لنزول الوحي، وصحح ما كان شائعًا عن الطلاق في المجتمع العربي، إذ كان معروفًا بصيغته الأحادية في الجاهلية، حيث كان الزوج وحده من يملك الحق في“تطليق” زوجته في أي وقت شاء وكيفما شاء.
رغم التوجه الجديد الذي أتت به الرسالة القرآنية، والذي شمل تغييرات جوهرية وثورية لصالح النساء، فقد استمر هذا العرف المتمثل في“التطليق” في البلاد الإسلامية وما يُلازمه من حقوق تقتصر على الزوج، ليمثل إلى يومنا هذا أحد أشكال التمييز الواضحة في حق النساء المسلمات.
ومن المثير للدهشة أن نرى حجم التفاوت بين الأحكام القرآنية التي تتعلق بالطلاق، والنصوص الفقهية التي سنَّت مجموعة من الأحكام، والتي تصُب في مصلحة الرجال على وجه الخصوص، وتُقلصُّ حقوق النساء التي منحها لهن القرآن بوضوح، لتصبح هذه الحقوق بذلك مقتصرة على مجموعة من الواجبات الأخلاقية الثانوية المرتبطة برغبة الزوج أو عدمها، فهي توصيات عامة وسلوك مندوب يترك تطبيقه لإرادة الزوج وضميره.
ماذا يقول القرآن في هذا الشأن؟
لابد من الإشارة أولاً إلى أن القرآن تحدث عن الطلاق وليس عن التطليق 1، عكس ما نجده في بعض الشروح الفقهية عند تفسيرها لمفهوم الطلاق في الإسلام. فمصطلح الطلاق يعني لغويًا“حل العقد“، الذي يحيل في هذا السياق على عقد الزواج، ويظهر هذا المصطلح في السياق القرآني للعلاقة الزوجية بمعنى حل ميثاق الزواج الذي يقرره أحد الطرفين، أو كلاهما، كما هو الأمر في الطلاق بالاتفاق بين الطرفين. ولا نجد في القرآن كله ما يفيد أن الطلاق يعني التطليق repudiation، ولاسيما في معناه القدحي الذي يحيل على طرد الزوجة دون وجه حق من لدُن الزوج الذي يملك وحده السلطة المطلقة في فسخ أواصر الزوجية. وبالرجوع إلى القرآن، نكتشف أن الطلاق حق يُخول للمرأة والرجل على حد سواء، على خلاف ما نجده في التأويلات الفقهية التي تلائم المعايير التي وضعتها الأعراف بدلاً من أن تكون امتثالاً للأوامر القرآنية والسنة النبوية الشريفة.2
وفي هذا السياق، نجد القرآن الكريم قد حدد ثلاثة أنواع من الطلاق سنتعرض إليها، وهي كالآتي:
1- الطلاق بطلب أحد الطرفين وهو ما يسمى بالشقاق3:
يصف القرآن الكريم الطلاق بالاتفاق بين الطرفين في الآيتين الكريمتين من سورة النساء، تتجلى الأولى في قوله عز وجل:”وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها إن يُريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما إن الله كان عليمًا خبيرًا” (النساء، 35)، أما الآية الثانية، فهي قوله عز وجل:”وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته وكان الله واسعًا حكيمًا” (النساء، 130)، ونلاحظ أن الخطاب القرآني ليس موجهًا إلى الزوج وحده ولكنه للطرفين معًا. إن هاتين الآيتين وحدهما كفيلتان بتلخيص أهم ما جاء في الرؤية القرآنية بخصوص العلاقة الزوجية التي تُعتبر، أولاً وقبل كل شيء، علاقة تنبني على الانسجام والتفاهم المتبادل والمعاملة الكريمة التي تراعي الكرامة الإنسانية الواحدة.
انطلاقًا من هذا الواقع وأمام أي خلاف عميق كفيل بأن يؤثر سلبًا في هذا التفاهم، يرى القرآن أنه سيكون من الأصلح للزوجين الانفصال، وكم من زواج تم في الواقع بالإكراه سواء كان ذلك على المستوى الاجتماعي أو الثقافي أو الديني، ليتحول إلى مرتع حقيقي للعنف وسوء المعاملة المتبادل، وإلى مصدر لمآسٍ نفسية عميقة خصوصًا لدى الأطفال الذين تترك لديهم هذه المشكلات جروحًا يصعب اندمالها.
لا شك أن الطلاق هو آخر حل يمكن اللجوء إليه في حال استعصاء حل الخلاف على الزوجين، إذ لا يجب أخذه بنوع من التساهل دون تفكير عميق. فالكثير من الخلافات الزوجية، رغم عمقها، لا تُحل دائمًا لحسن الحظ بالطلاق، يجب أن يكون الطلاق الملجأ والحل الأخير عند وقوع خلاف مستمر وغياب تفاهم كبير بين الشريكين. ويجب عليهما قبل أن يقررا الانفصال النهائي، أن يكونا قد بذلا الجهد الكافي لتقديم جميع التنازلات الضرورية، وسلكا جميع السبل من أجل الصلح بينهما بغية إنقاذ علاقتهما.
وفي هذا الصدد، نلاحظ أن القرآن حذَّر الرجال والنساء معًا من اتخاذ أي قرار متسرع من خلال آيتين تُظهران بوضوح الدعوة إلى العدول عن الطلاق، يقول الله عز وجل في سورة النساء:”يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا» (النساء، ۱۹)، بالإضافة إلى قوله عز وجل في السورة نفسها:”وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إغراضًا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشخ وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا (النساء، ۱۲۸)، فلابد أن يكون الطلاق الحل النهائي في حالة عدم التوافق بين الشريكين، كما يجب قبل اتخاذ القرار النهائي بذل كل الجهود لتحقيق الصلح بين الطرفين وإنقاذ الزواج، فالقرآن يؤكد على حماية العلاقة الزوجية من التفكك، بالدعوة إلى المعاشرة بالمعروف ومنع القرارات المبنية على التهور والتسرع.
ولهذا الغرض نجد الآية 35 من سورة النساء:”وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما إن الله كان عليمًا خبيرًا” تُدخل حَكمًا من أهل الزوج وحكمًا من أهل الزوجة في حال الشقاق أو الخوف من الوقوع في خلاف عميق بين الزوجين. فالقرآن يدعو إلى تفعيل دور الوسيط بغية إعطاء الطرفين، في مرحلة أولى، الوقت للتفكير جيدًا في أسباب خلافهما وعواقبه، وعلى الحكمين أن يعملا على إصلاح ذات البين وإيجاد حل سلمي للمشكلات المطروحة التي يواجهها الشريكان. فإذا نجحا في تهدئة الخلاف بين الزوجين، فإن ذلك سيسهل عليهما استعادة حياتهما المشتركة.
وقد استوعب بعض المفسرين الأوائل أمثال ابن كثير (۱۳۰۱–۱۳۷۳) هذا المفهوم القرآني للطلاق بالشقاق، فنجده ينقل لنا قول الفقهاء في حل أمر الشقاق:”فقال الفقهاء: إذا وقع الشقاق بين الزوجين أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة، ينظر في أمرهما، ويمنع الظالم منهما من الظلم، فإن تفاقم أمرهما وطالت خصومتهما بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة وثقة من قوم الرجل، ليجتمعا وينظرا في أمرهما، ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه من التفريق أو التوفيق” (ابن كثير 1: 607).
فهذه الآية تبين أن من المقبول جدًا الحديث في هذه الحالة عن الطلاق بالشقاق في حال وجود خلاف بين الزوجين، إذ يحق حينها لأحدهما أو كليهما طلب الطلاق عبر المرور من هذا الإجراء، ولابد من الإشارة إلى أن هذا الإجراء القانوني للطلاق ظل غائبًا لمدة قرون في أغلب قوانين الشريعة الإسلامية، ولم يتم اعتماد هذا الإجراء إلا مؤخرًا، خصوصًا في المغرب، وهو مأخوذ من هذا النص القرآني للآية المذكورة التي تشير من خلال لفظ“يريدا” المثنى إلى إرادة ثنائية وليست منفردة للزوج. وأقل ما يمكننا قوله عن هذا الإجراء هو أنه إجراء يتماشى مع القوانين الدولية المعمول بها في هذا الإطار،“ويمكن اعتبار هذا الإجراء في الواقع، من بين المستجدات النموذجية التي جاءت بها المدونة المغربية الجديدة، ومكتسبًا مهمًا فيما يتعلق بالمساواة بين الرجال والنساء أمام القانون، بما أنه يعطي المرأة نفسها القدرة التي سبق وأعطيت للرجل على فسخ العلاقة الزوجية لتعلن قطيعتها مع الوضع السابق الذي تضمنته المدونة القديمة، والتي يتوقف فيها في الغالب– قرار الانفصال الذي تطالب به الزوجة على رغبة الزوج التي يحتكم إليها” (الحجامي، 54).
إلى جانب هذه الآية التي تسمح بالطلاق بناء على طلب الزوجين، تضع الآية الآتية القواعد الأساسية للطلاق بالاتفاق حيث يقول فيها الله عز وجل:”وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته وكان الله واسعًا حكيمًا” (النساء، ۱۳۰). رغم إمكانية الاحتكام إلى وسيط وحصول التفاهم، أبان الإسلام عن كثير من الواقعية، فعندما تفشل جميع محاولات الحوار وتنفد جميع الحلول ويبقى حل الطلاق وحده قائمًا، يمكن أن يتم قرار الطلاق بناء على طلب الطرفين حسب إجراء تعرضه الآية القرآنية بكثير من البساطة والوضوح والتميز، إذ تصف بشكل حضاري جدًا الطلاق بالاتفاق باعتباره الوسيلة المثلى للانفصال حبيًا من الجانبين بنوع من الهدوء والسكينة.
ويأتي قوله تعالى:”يُغن الله كلاً من سعته” عقب اختيار اقتراح الانفصال، كما لو أن الله عز وجل يريد هنا أن يواسي من الناحية النفسية الزوجين اللذين قررا الانفصال، لأن الانفصال يبقى دائمًا أمرًا مؤلمًا وصعبًا، سواء شئنا ذلك أم أبينا، كما يترك في غالب الأحيان، إن لم يكن دائمًا، آثارًا عميقة في القلوب، فهذا التعويض الذي يتحدث عنه القرآن نفسي أكثر مما هو مادي، وهو ما أكَّدته كتب التفسير، حيث يقول ابن كثير:”وقد أخبر الله تعالى أنهما إذا تفرقا فإن الله يغنيه عنها ويغنيها عنه، بأن يعوضه بها من هو خير له منها، ويعوضها عنه بمن هو خير لها منه” (٤٣٢).
يُجبرنا الطلاق في الصورة التي تقدمت بها الآية على تصور عواقب الفراق باعتباره دون أدنى شك تجربة شاقة، إلا أن الحكمة تتمثل في قدرة الطرفين على القيام بتنازلات، لا تكون على حساب الحقوق، في تواضع وصمت واحترام متبادل محتفظين في القلب بذكريات لحياة مشتركة بكل جوانبها الإيجابية والسلبية، وبروابط ستبقى قائمة في حال وجود أبناء لهما يربطانهما، مع التركيز، كما جاء في الآية الكريمة، على الأمل في مستقبل أفضل، وهذه الرؤية القرآنية كانت غائبة في معظم التفاسير.
وينصحنا الله عز وجل بالتسامح المتبادل الذي تغمره الإنسانية والإحسان والذي يجب تذكره ومعرفة تطبيقه في واقعنا المعيش، وذلك في قوله تعالى:”ولا تنسوا الفضل بينكم” (البقرة، ۲۳۷)، فالرسالة الروحية للإسلام لا تتوقف عن دعوة بني البشر ليكونوا متسامحين فيما بينهم، مهما كانت الظروف. تأتي هذه الآية مُقتضبة وبسيطة، إلا أنها تحمل دون شك رسالة قوية وحكمة عالمية تتمثل في الدعوة إلى تنفيذ الانفصال بأدب وتواضع وبتذكر دائم للفضل المتبادل.
نصاب بدهشة عندما نقف أمام هذا النص القرآني الذي يصف بكثير من المرونة الخيار الذي يتخذه الزوجان من أجل الانفصال دون وضع معوقات، في الوقت الذي نجد فيه الأزواج في واقعهم اليومي المعيش، ولاسيما بالنسبة للنساء المسلمات، يعتبرون الطلاق في غالب الأحيان، إن لم يكن دائمًا، مرادفًا لصراع لا ينتهي، خصوصًا عندما يرفض الزوج الانفصال بشكل سلمي ويفضل طردها لمصير مجهول يفرض من خلاله سلطته الرجولية مهينًا كرامة زوجته المطلقة.
2- الطلاق بطلب من الزوج:
تتمثل الحالة الثانية في الطلاق الذي يتقدم بطلبه الزوج، وهو ما نصت عليه الآيات الأولى من سورة الطلاق التي يظهر فيها جليًا هذا الإجراء عند قوله عز وجل:”يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا. فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجًا. ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا. واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا. ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا. أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكن فأتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى. لينفق ذو سعة من ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسًا إلا ما أتاها سيجعل الله بعد عسرٍ يسرًا” (الطلاق، ۱–۷).
تبدأ الآية بنداء موجه للرسول (صلى الله عليه وسلم) على وجه الخصوص، ولجميع الرجال على وجه العموم لأن النبي إمام أُمته وقدوتهم، كما قال المفسر الألوسي (٤٣٢)، وبالتالي، لا يوجد فرق أو امتياز فيما يتعلق بهذه المبادئ. نجد في أغلب التفاسير روايات تبين أن الرجال في فترة الوحي كانوا يتساهلون في الطريقة التي يتم بها الطلاق، كما كانوا يعتبرون، عن غير وعي، الطلاق حقًا من الحقوق التي يتمتعون بها بشكل حصري، وبالتالي يطلقون نساءهم كيفما شاءوا، وأحيانًا لعدة مرات وبشكل شفهي بمجرد النطق بعبارة بسيطة مثل تلك العبارة التي بقيت متداولة إلى اليوم بشكل معروف وهي عبارة“أنت طالق“، هذه العبارة التي إذا نطقها الزوج ثلاث مرات متتابعة يكون الطلاق النهائي طبقًا للفقه الإسلامي، وهو أمر ما زال يُطبق في غالبية الدول الإسلامية.
من المهم أن نذكر هنا أن هذه الطريقة في الطلاق غير مذكورة بتاتًا في القرآن ولا في سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم)، كما تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن المفسرين نقلوا في التفاسير التي تشرح نفس الآية، كيف أن النبي (صلى الله عليه وسلم) غضب غضبًا شديدًا عندما سمع أن مسلمًا طلق زوجته بمجرد نطقه بهذه العبارة ثلاث مرات متتالية. ثم عقب صلى الله عليه وسلم بجواب تطبعه المرارة والأسف:”أيلعب بكتاب الله – عز وجل – وأنا بين أظهركم” (النسائي، 3401).
في الواقع، القرآن واضح في هذا الشأن والآية المذكورة دليل على ذلك، فهذا النوع من الطلاق يجب أن يحترم أربعة مراحل، وهي:
المرحلة الأولى: احترام العدة للتأكد من عدم حصول الحمل أولاً، وكمهلة للتفكير ثانيًا، يقول الله عز وجل:”إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم»، حيث تُعطى للزوج وهو صاحب طلب الطلاق إمكانية بدء مسطرة الطلاق مع ضرورة احترام الأجل المحدد شرعًا (وهو العدة)، والذي يُعرف في القوانين الدولية ب“فترة الانتظار“4. ويمتد هذا الأجل حسب أغلبية المفسرين على مدى ثلاثة أشهر، بعد انقضاء هذا الأجل الذي يسمح بتفادي مشكلات كثيرة من بينها مشكلة النسب، يصبح الطلاق نهائيًا ويحق للمرأة الزواج من جديد.
المرحلة الثانية: عدم إخراج الزوجة من بيتها إلا إذا أتت بفاحشة مبينة، وهو ما تؤكده الآية الكريمة في سورة الطلاق:”لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا»، إلا أننا نلاحظ للأسف في كثير من مجتمعاتنا عادة طرد الزوجة من بيت الزوجية عند وقوع أبسط خلاف، والادعاء بضرورة مغادرة الزوجة المنزل فورًا عندما يُقرر الزوج الطلاق. وما نزال نشهد للأسف هذا العنف الذي يمارس ضد النساء في بعض البلدان الإسلامية مدعمًا بالقوانين الوضعية المطبقة، إذ تعطي الزوج جميع الحقوق، ولاسيما خلال الطلاق الذي، كما سبق وذكرنا، يُتصور ويُنظر إليه بوصفه حق يقتصر على الرجل وحده.
أمام هذه المعطيات، نجد الآية القرآنية المذكورة تنص على النهي عن هذا السلوك المسيء للنساء، وتدعو الرجال المسلمين إلى عدم طرد زوجاتهم إلا إذا أتين بـ“فاحشة مبينة“، التي فسرها أغلب المفسرين بالزنا، وإذا استثنينا هذه الحالة الخاصة، التي وجب فيها إثبات الفاحشة انطلاقًا من مصطلح“مبينة“، لا يحق للزوج أن يطلب من زوجته مغادرة البيت الأسري مهما كانت الأسباب.
في الواقع، إذا درسنا هذه الآية دراسة متمعنة، سنلاحظ أن القرآن استعمل مصطلح“بيوتهن“، ولم يستعمل مصطلح بيت الزوجية الذي يجمع الزوجين، ولم يستخدم ما يدل على امتلاك الزوج له وحده مثل قول“بيوتهم“، لكنه استعمل مصطلحًا يجسد الرؤية القرآنية لبيت الزوجية باعتباره مسكنًا يحق للزوجة في المقام الأول، ويُقصد بمصطلح“بيوتهن” منزل الزوجية باعتباره مسكنًا يرجع في الواقع للمرأة (اللحام، ۳۳۸).
لم يكن هذا التوجه القرآني الذي اعتبر المرأة مالكة للمنزل ولو كان الزوج من يملكه بحُرِّ ماله، وليد الصدفة. في الواقع، وبعيدًا عن الحالات التي نشهد فيها حاليًا تشارك الزوجين في حق الملكية، فإن الزوج في الغالب هو الطرف الذي يتكلف بمصاريف السكن سواء كان ذلك بإيجاره أو شرائه، رغم هذا المعطى، يبدو أن الرؤية القرآنية في هذه الآية تعزز فكرة أن الزوجة رغم عدم إسهامها المادي في شراء المسكن أو إيجاره، فإن لها حقوقًا كإنسان وشريكة لها كرامة متساوية وليست أجيرة في مستوى أدنى، نظرًا لمشاركتها المعنوية والجسدية في بناء هذا الإطار الأسري. فكم من ساعات تقضيها الزوجة داخل الأسرة في القيام بالأشغال المنزلية، وإنجاز مهام مختلفة وإعداد الوجبات، والاهتمام المعنوي والجسدي بالأطفال، وتقديم الدعم المدرسي ورعايتهم وبذل مجهود جسدي وعاطفي؟ كيف يمكننا أن نُقِّيم هذه الأعمال أو نحسبها من حيث الكم؟
رغم التطور الذي عرفته حياتنا العصرية وعمل النساء خارج البيت، يبقى تقاسم المهام بين الأزواج غائبًا في غالبية المجتمعات، إذ تحمل النساء دائمًا على عاتقهن وحدهن مهمة إنجاز أغلب الأشغال المنزلية، إن لم نقل كلها 5، وهو ما يعرف حاليًا بأيام العمل المضاعفة للنساء اللائي يجدن صعوبة كبيرة في التوفيق بين نجاحهن المهني ومهمتهن الأسرية باعتبارهن زوجات وأمهات. في أغلب المجتمعات وفي الوقت الراهن الذي يعمل فيه الزوجان، نجد المرأة تتحمل أهم الأشغال المنزلية داخل بيت الزوجية. إن هذا العمل، الذي يُعتبر ضرورة يومية في حياة كل أسرة لتحقيق توازنها، لا يُؤخذ بعين الاعتبار في حياة المجتمعات الاقتصادية، كما يُعتبر دائمًا عملاً غير مثمر حتى في البلدان المتقدمة والصناعية.6
وفي ظل هذا السياق، يمكننا أن نعتبر هذا المسكن، منزل الزوجية، حقًا للنساء، نظرًا لهذه التضحيات التي تقدمها بشكل تلقائي وطبيعي أغلب النساء بهدف خلق جو أسري مريح ودافئ للجميع، رغم صعوبات الحياة والعوائق المطروحة. كيف يمكننا إذن أن نعتبر، بعد خلاف زوجي، أن كل هذا العمل والمجهود الذي تقوم به النساء، ومشاركتهن الجوهرية غير مثمرة ولا تساوي شيئًا، وأن عليهن مغادرة هذا البيت الذي أمضين فيه معظم وقتهن وحياتهن؟ نجد لذلك هذا التأكيد القرآني، الذي يبين ضرورة عدم طرد الزوجات من“بيوتهن“، ويشهد على اعتراف القرآن بالدور المحوري العالمي للزوجة داخل الأسرة، تجاه أبنائها، وفي تسيير بيت الزوجية الذي يبقى من الأولويات الضرورية حتى داخل البلدان الغربية.
ونلاحظ أيضًا، عقب هذه المرحلة الثانية، أن القرآن يحاول هنا تأجيل فكرة الطلاق من خلال فترة العدة التي تُعتبر ضرورية ليس فقط من أجل التأكد من وجود حمل، وإنما أيضًا من أجل التفكير والتريث الضروري قبل اتخاذ القرار النهائي. وتُعتبر العدة هنا مدة من أجل التفكير، تسمح لكلا الطرفين بالتفكير في النتائج المستقبلية المترتبة عن هذا القرار ومدى تأثيرها في حياة الزوجين.
وهذا هو المقصود من قوله عز وجل:”لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا»، إذ تسلط هذه الآية الضوء على أهمية الفارق الزمني الذي يفصل بين لحظة النزاع والقرار النهائي المُفضي إلى الطلاق، والذي يجب أن يكون دائمًا، كما سبق وذكرنا، الحل الأخير، ويتجلى الحل الجديد الذي يمكن أن يقدمه الله عز وجل للزوج في هذه الحالة في التصالح مع زوجته واستعادة الحياة المشتركة على أسس جديدة.
المرحلة الثالثة: وهي اتخاذ الزوج القرار النهائي (حل العقد أو العدول عنه)، وهو ما دلَّت عليه الآية الكريمة:”فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا“. فبعد انقضاء مدة العدة، يقرر الزوج ما إذا كان الصلح ممكنًا بعد تفكير يتسم بالنضج، وفي هذه الحالة، يدعوه القرآن إلى استئناف الحياة الزوجية بالمعروف، أما إذا تبين له استحالة العيش المشترك بينهما، فيدعوه القرآن إلى مفارقة زوجته بنفس الطريقة أيضًا، أي بالمعروف.
يؤكد القرآن على الطريقة التي يتم بها القرار، والتي يجب أن تتسم بالاحترام واللباقة والأدب، سواء عند إنهاء الحياة المشتركة بشكل نهائي عبر الطلاق أو عبر استعادتها من خلال الصلح، مع إعطاء الشريك الحق في اختيار قرار الإمساك أو الفراق“فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف“. هذا المعروف الذي ينص على سمو الأخلاق والتحلي بروح العدل والإنصاف في السلوك هو معيار أساسي يُذكرنا به القرآن مرة أخرى في هذه الآية باعتباره أهم ما يجب أن يطبع حياة الزوجين والعلاقة بينهما سواء داخل الزواج أو في الطلاق. ويمكننا أن نستخلص بسهولة أن الصلح يتم حسب معايير أخلاقية يجسدها المعروف، بتصالح القلوب التي تكون أكثر قابلية للتسامح والكرم والتعاطف العفوي.
إلا أن الأصعب يتمثل في إبقاء قيم التسامح والتعاطف عند الانفصال وخلال حل النزاعات التي تترتب عن هذا الوضع الذي يؤلم الجميع، ولهذا يدعو القرآن المؤمنين إلى احترام هذا المبدأ الأساسي المتمثل في المعروف سواء عند الصلح بين الطرفين أو عند انفصالهما، وهذا هو المعيار الذي يسمح بلمس قيمة روحية صادقة لا تشوبها شائبة تتمثل في الإيمان.
نعني أولاً وقبل كل شيء باحترام قواعد المعروف عند الانفصال، كما هو مُبين في الآية، عدم طرد الزوجات من منازلهن؛ وإعطاء النساء جميع حقوقهن بما في ذلك الحق في الكرامة والاحترام، وفي حياة كريمة وضمان نفقة كافية، والحق المشروع في حضانة الأطفال، فكل ما يرتبط بالصالح العام ومصلحة الأبناء والإبقاء على العلاقات الجيدة يدخل في إطار المعروف الذي يتحدث عنه القرآن في هذه الآية بالتحديد.
وفيما يتعلق بالنفقة، ذكر القرآن في آية أخرى هذا الحق الذي يعطى للمرأة المطلقة، إذ تحث الرجال على إعطاء هذا الحق للزوجة المطلقة. في هذا السياق، يقول الله عز وجل:”وللمطلقات متاع بالمعروف حقًا على المتقين. كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون” (البقرة، ٢٤١–٢٤٢). ومن المهم أن نشير هنا إلى أن هذه المساعدة،“المتاع” أو ما يسمى أيضًا“بالمتعة“، قد حُدد في القرآن باعتباره حقًا وجب إعطاؤه للزوجات المطلقات، ولاسيما في الحالات التي يكون فيها الزوج صاحب طلب الطلاق دون سبب واضح، فيتعلق الأمر بهبة يُعطيها الزوج للزوجة لتعويضها عن الأضرار التي تتعرض لها.
وصف القرآن منذ أربعة عشر قرنًا الطلاق بشكل عام والطلاق الذي يتقدم بطلبه الزوج بشكل خاص كطلاق سلمي، أو بالتعبير المعاصر، كطلاق“حضاري“، ونجد القرآن، في هذه الآية على وجه التحديد، يحث الرجال وهم المعنيون بهذا الخطاب بالدرجة الأولى، على التصرف الدائم بأخلاق وعدل تجاه زوجاتهم، وذلك سواء في حالة الصلح أو الطلاق، ولا شك أن ظروف الصلح ليست هي نفسها الظروف التي ترتبط بالانفصال الذي يبقى دائمًا تقبله أمرًا صعبًا جدًا.
إلا أن القرآن يحث على مفهوم المعروف الذي يُعتبر دون أدني شك إحدى ركائز الأخلاق الإسلامية، ويسمح، من خلال هذه الآيات التي تتحدث عن الطلاق، بتقليص أي إمكانية ظلم أو بغي على النساء في الانفصال، كما أنه القاعدة الضرورية في كل إجراء طلاق ولاسيما في الحالة التي يكون فيها الزوج صاحب الطلب، فلا يتصرف باستقواء وإساءة استخدام لنفوذه.
من غير المجدي أن نُذكر بالجو الذي يُرافق حالات كثيرة من الطلاق في الوقت المعاصر، إذ تطبعه معاناة النساء اللائي يُواجهنه بوصفه إهانه ويعتبرنه انفصالاً مؤلمًا، كما تسوده نزاعات لا تنتهي تمتد لسنوات لتؤثر سلبًا في الأطفال، ويفترق الطرفان غالبًا في جو محتقن من الكره والاحتقار والحقد على الآخر، كما يُنكران ماضيًا مشتركًا قريبًا جدًا كان يجمعهما. في حين تذكرنا القيم الأخلاقية الإسلامية هنا أن هذا العنف الذي يتصرف به الرجال والنساء على حد سواء عند الانفصال الزوجي يُضر بمستقبل الشريكين، كما أنه يتناقض مع قيمة المعروف الأخلاقية التي يدعو إليها القرآن، لهذا يحث القرآن الشريكين على إيجاد مساحة للتفاهم قوامُها المعاملة بالمعروف التي ستُمكنهما، عند تحلي كل منهما بها، من التخلص من مشاعر الحقد والمرارة.
المرحلة الرابعة والأخيرة: وهي الشهادة، يقول تعالى:”أشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله“، فالقرآن يبين بوضوح أهمية تسوية الخلافات الزوجية أمام شهود، كما تجسد هذه الشهادة التزام كل واحد منهما، ولاسيما الطرف الذي تقدم بطلب الطلاق وهو الزوج في هذه الحالة، أمام طرف ثالث يتصف بالعدالة والثقة والأهلية في هذا المجال.
هذه الآية تعالج مسألة في غاية الأهمية، لطالما أهملها الفقه وهي“إيقاع الطلاق أمام شهود ذوي عدل“، فللأسف في أغلب حالات الطلاق التي تتم في البلاد الإسلامية لا تأخذ في الحسبان هذا الشرط المهم الذي تحصل به“المصادقة” على الصلح أو الطلاق، ويمكن لهذا النوع من الشهادة أن يعادل في هذا العصر الطلاق القانوني، أي الطلاق الذي يتم في المحكمة وأمام القاضي حيث يعمل خبراء في المجال القانوني، ويكون حضور كلا الطرفين ضروري حيث يسمع القاضي للزوجة وللزوج، ويعطي مدة زمنية للطرفين بمثابة مهلة للتفكير قبل اتخاذ القرار النهائي وهو الانفصال، ويضع كل شريك أمام التزامه ومسؤوليته، وهذا النوع من الطلاق هو جديد ما نصت عليه مدونة الأسرة المغربية.
أعطى الفقه الإسلامي دائمًا للرجل المسلم الحق في تطليق أو بالأحرى طرد زوجته، وذلك دون أدنى تبرير أو أمام شهود، فكان الزوج الطرف الوحيد القادر على أن يقرر الاحتفاظ بزوجته أو طردها، وهو أمر كفيل بجعل المرأة تعيش حياة زوجية مضطربة. رغم ذلك تأتي هذه الآية معبرة جدًا لتعطي أهمية كبرى لهذه الشهادة، أي لتوثيق مثل هذا الحدث سواء عند استعادة الحياة الزوجية أو اتخاذ قرار الطلاق بشكل نهائي. وتُعتبر هذه الشهادة التي يتحدث عنها القرآن ذات أهمية بالغة إلى درجة يمكن معها تفادي أي استغلال يصدر عن الرجال خصوصًا وأيضًا عن بعض الزوجات في مجتمعاتنا المعاصرة.
لم تُعط لهذه الآية القرآنية الأهمية التي تستحقها في التفاسير التراثية ولا في الفقه، مع أن هذا الأمر كان كفيلاً لتجنيب المسلمين إحباطات لا حصر لها بسبب القوانين المعمول بها. وما نجده في كتاب المفسر ابن كثير يؤكد نوعًا ما على أهمية الشهادة مستدلاً بروايات بعض العلماء المسلمين الأوائل الذين يؤكدون على بطلان أي صلح أو طلاق دون وجود شهود وذلك تطبيقًا للتوجيهات القرآنية التي تؤكد على أهمية الشهادة العادلة والنزيهة (4: ٤٥٢).
بعد تقديم هذه الحالة عن الطلاق الذي يتقدم الزوج بطلبه، يمكننا أن نستنتج إذن أن الزوج لا يملك الحق في طلاق فردي، مطلق وتعسفي كما يبدو في الظاهر، وهو عكس ما نجده منتشرًا للأسف في البلاد الإسلامية، فحسب تحليلنا السابق تعرض الآية التي تتحدث عن الطلاق الذي يتقدم الزوج بطلبه، بشكل دقيق ومضبوط وتربوي مسألة احترام مدة التفكير (العدة) ومنع طرد الزوجة التي يجب أن تبقى في بيتها الزوجي، وكذا أهمية أخلاقيات السمو والعدالة في حالتي الصلح والطلاق، بالإضافة إلى أهمية إضفاء الشرعية على هذه الأفعال أمام شهود أكفاء، هذه هي العناصر المحورية للطلاق الذي يتقدم بطلبه الزوج كما عرضها القرآن منذ أربعة عشر قرنًا، والتي لم تُنزل في القوانين الجاري بها العمل في البلدان الإسلامية.7
3- الطلاق بطلب من الزوجة أو طلاق الخلع:
تتمثل الحالة الثالثة في طلاق الخلع أو الطلاق الذي تتقدم بطلبه الزوجة، ونجد هذا النوع من الطلاق في قوله عز وجل:”الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون” (البقرة، ٢٢٩). تبين لنا كتب التفسير أن هذه الآية نزلت بهدف وضع حد لممارسات المشركين الذين كانوا يمنحون لأنفسهم الحق في تطليق زوجاتهم أو إرجاعهن كيفما شاءوا دون قيد أو شرط.
ويبين المفسر ابن كثير أن سبب نزول الآية هو أن الزوج قبل الإسلام كان أحق برجعة امرأته حتى وإن طلقها مائة مرة (1: ۳۳۷). فنزلت هذه الآية لتقيد إمكانية الطلاق بحصره في ثلاث طلقات، ولتُحرم إرجاع الزوجة بعد الطلقة الثالثة حتى تنكح زوجًا غيره، وليضع القرآن حدًا لتجاوز امتد على مر قرون، اعتبر خلالها الرجال دائمًا النساء ملكًا خاصًا لهم وأن لهم جميع الحقوق على هذه الكائنات التي اعتبرت من الدرجة الثانية خُلقت فقط لخدمتهم والسهر على راحتهم.
وتنص الآية في ختامها على إمكانية طلب الزوجة الطلاق مقابل تعويض يُقدم للزوج وذلك في قوله عز وجل” فيما افتدت به“، دون تحديد أسباب الطلاق ولا أسباب التعويض. وطلاق الخلع هو أحد الإجراءات التي تُخول للزوجة، وهو مذكور في الفقه الإسلامي منذ القدم، إلا أنه يمارس بشكل أقل من قبل المجتمعات الإسلامية، ويعني مصطلح“خُلع” الذي اشتُق من فعل“خَلع“: الإلغاء والإبطال، وهو ما يصف هذا النوع من الطلاق باعتباره إجراء قانونيًا يسمح للزوجة بإبطال وإلغاء رابط الزواج.
لابد من الإشارة إلى أن المبادئ التي يعتمد عليها هذا الإجراء في الفقه الإسلامي لم تكن دائمًا منسجمة مع الأخلاقيات التي جاء بها القرآن، فلطالما استُعمل هذا الحق الذي تتمتع به الزوجة بوصفه وسيلة لممارسة الضغط عليها من أجل المزايدة على طلاقها، وهو ما يتعارض مع الآية المذكورة ومبادئ المساواة الأساسية في الطلاق طبقًا لما ينص عليه القرآن. في الواقع، نجد بالعودة إلى التفسير، خصوصًا في تفسير ابن كثير، شرحًا مقتضبًا، إلا أنه في المقابل يُلخص أهم ما جاء في هذا الإجراء الذي تبادر إليه الزوجة، إذ يقول ابن كثير:”وأما إذا تشاقق الزوجان، ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها (الصداق)، ولا حرج عليها في بذلها له، ولا حرج عليه في قبول ذلك منها” (۱: ۳۳۷).
ونؤكد هنا أن مصطلح“الخلع” لم يذكر في القرآن، أما الآية التي تتطرق إلى هذه الإمكانية التي خولت للمرأة هذا النوع من الطلاق، فتتحدث عن“فيما افتدت به” أي“فيما أمكنها أن تفتدي منه بما أعطاها“، ولا يحدد القرآن مرة أخرى قيمة هذا التعويض، إن كان ماديًا أو معنويًا، أو القواعد التي يجب إتباعها لمنحه أو طبيعته.
ونجد حديثًا مشهورًا للنبي (صلى الله عليه وسلم) رواه البخاري وعلماء آخرون يؤكد ما جاءت به هذه الآية ويعكس الفلسفة الإسلامية والهدف من هذا النوع من الطلاق، يروي هذا الحديث أن امرأة، وهي زوجة ثابت بن قيس، أتت النبي (صلى الله عليه وسلم) وأخبرته أنها لا تعيب على زوجها في شيء من خُلق أو دين، إلا أنها لم تعد ترغب في أن تستمر علاقتهما الزوجية مخافة أن ترتكب معصية، سألها النبي (صلى الله عليه وسلم) ما إن كانت تقبل أن ترُد له“حديقته” التي أخذت منه في صداقها، فقبلت وكانت بذلك أول حالة لطلاق الخلع.8
لا يسعنا إلا أن ننبهر أمام البساطة التي أبان عنها النبي (صلى الله عليه وسلم) محاولاً أن يجد حلاً لمشكلة هذه المرأة التي أتت إليه بكل عفوية لتُفصح له بكل صدق عما كان يخالجها، فحاول النبي (صلى الله عليه وسلم) بمرونته وطيبته المعهودة أن يرضي الطرفين ويسمح بحدوث الانفصال في هدوء وسلام.
على ضوء هذه الآية القرآنية والحديث الشريف المشار إليهما، نلاحظ أن الإسلام يُخول للنساء الطلاق دون ضرورة تقديم تفسير أو تعليل ما، وبما أن الزوج لم يُفصح عن رغبته في حل ميثاق الزواج في الوقت الذي لم تعد فيه الزوجة تحتمل العيش معه كما يبين ذلك الحديث الذي لم تُعاتب فيه الزوجة زوجها، وجب على الزوجة أن تحاول إصلاح الأضرار من خلال تقديم تعويض، ويهدف هذا التعويض إلى إصلاح الأضرار النفسية والمادية التي يُخلفها فسخ الزواج في حياة الطرف الذي لم يتقدم بطلب الطلاق.
من المهم أن نشير هنا إلى أن التعويض9 يتم برغبة واختيار الزوجة وليس الزوج. ولا يتعلق الأمر أبدًا بمقايضة حريتها كما يعكس ذلك واقع المجتمعات الإسلامية المعاصرة التي اعتبرت دائمًا أن هذا النوع من الطلاق هو ثمن حرية الزوجة التي تبقى في الغالب تحت رحمة مساومة غير أخلاقية من لدُن شريكها!
ويبين العالم الشهير ابن رشد (١١٢٦م – ١١٩٨م) في الفصل الذي تطرق فيه لموضوع الخلع، أن أغلبية الفقهاء الأوائل يؤكدون على أنه يُمنع على الزوج أن يقبل من زوجته مبلغًا يتجاوز مبلغ الصداق الذي أعطاها، من جهة أخرى، ويبقى للزوجة أن تحدد مبلغ التعويض حسب قدراتها المادية، وأن تقوم بتقييمه، ويحدد ابن رشد على ضوء الحديث المذكور أن كل طلب تعويض مُبالغ فيه هو من باب سوء الاستغلال وقارنه بانتهاك غير عادل (۲: ۱۱۲). ويحيل هذا العالم أيضًا على رأي بعض العلماء المسلمين الذين كانوا يرفضون استعادة الصداق ولو تعلق الأمر بطلاق الخلع، معتبرين أن آيات قرآنية أخرى منعت استعادة ولو جزء يسير مما منحها الزوج من أجل الزواج بها. وفي ختام حديثه عن طلاق الخلع، يقول ابن رشد:”فإنه لما جعل الطلاق بيد الرجل إذا فرك المرأة، جعل الخلع بيد المرأة إذا فركت الرجل” (۷۱). يتبين من مقاصد الطلاق الذي تتقدم بطلبه الزوجة أو ما يسمى بطلاق الخلع أنه يتم بناء على طلب الزوجة التي لا تدين للزوج بتعويض إذا لم تتعرض لضرر مثلاً، ويجب أن يُقدم هذا التعويض في حدود قدرة الزوجة، وأن يعادل تقريبًا مبلغ الصداق تماشيًا مع الحديث الشريف مع الأخذ في الحسبان وضع الزوجة المادي.
بالعودة إلى المبادئ التي تتضمنها الآية القرآنية وحديث النبي (صلى الله عليه وسلم) بخصوص طلاق الخلع، يتبين أن للمرأة الحق في أن تُبادر بفسخ أواصر الزوجية انطلاقًا من اللحظة التي لم تُعد تحتمل فيها الاستمرار في تلك الحياة المشتركة، وذلك دون أن يرتكب الزوج أخطاء أو تقصيرًا في حق الزوجة أو يتهاون في واجباته بوصفه زوجًا، إنه إذن نفس الامتياز الذي مُنح للرجل بخصوص الطلاق.
يُعتبر التعويض في حالة“الخلع” أو الطلاق الذي تتقدم الزوجة بطلبه، مقابلاً للمتعة التي يُقدمها الزوج عندما يتقدم هو بطلب الطلاق، إذ تجب عليه المتعة، وتخضع هذه الهبة التي تقدم بغرض“المواساة” في كلتا الحالتين، لنفس المبدأ القرآني الذي يسعى إلى جبر الضرر الذي يتعرض له الطرف الذي لم يرغب في الطلاق ولم يرتكب أي خطأ والذي يرغب، على عكس ذلك، في الاستمرار في العيش مع شريكه.
للأسف، فإن هذا المبدأ الذي ينم عن المساواة لا نجد له مكانًا في الفقه الإسلامي ولم يترجم إلى أحكام محددة؛ نظرًا لأن أغلبية كتب الفقه تُرفق بالضرورة طلاق الخلع بتعويض مادي يجب دفعه للزوج، في حين أن تعويض الزوجة في حالة الطلاق الذي يتقدم بطلبه الزوج يبقى أمرًا اختياريًا وليس إجباريًا، أي أن قراءة الفقهاء المؤسسين للشروط والإجراءات القرآنية لم تمكنهم من تطبيقها تطبيقًا عادلاً في شكل أحكام وتشريعات.
نرى إذن فرقًا كبيرًا بين نموذج الطلاق هذا، وذلك الذي يُعتمد حاليًا على المستوى الاجتماعي والقانوني في أغلب الدول الإسلامية، حيث أفرغ طلاق الخلع من مبادئه، ليتحول إلى كابوس يؤرق حياة الزوجة، وتجبر الزوجة أحيانًا، أمام رفض الزوج قبول الطلاق، على دفع نفقة الأبناء كتعويض والتنازل عن جميع حقوقها مقابل حريتها، وهو أمر غير مقبول من الناحية الأخلاقية عندما نقرأ الآيات القرآنية التي تتحدث عن حقوق المرأة في حال حدوث الطلاق.
وخلاصة القول، نلاحظ أن القرآن يتوجه إلى الشريكين على قدم المساواة في مسألة الطلاق، سواء كان بطلب من الزوج أو الزوجة (الخلع).
ماذا يقول الفقه في هذا الشأن؟
لا شك أن الطلاق يقدم بمختلف أنواعه نموذجًا للتفاوت الحاصل بين المبادئ التي أقرَّتها النصوص الدينية ومختلف القوانين التي أعدَّها الفقهاء وضمَّنوها في المراجع الفقهية. في الواقع، على الرغم من تعدد النصوص المرجعية في القرآن والسنة النبوية التي تُقر، كما رأينا سلفًا، بمساواة الشريكين في موضوع الطلاق، إلا أن التفاسير الفقهية لخصت جميع أحكام الطلاق في مفهوم فقهي محدود يتمثل في التطليق الأحادي الجانب الذي يعتبر امتيازًا يقتصر على الرجل، وبذلك هُمشت بقية الأحكام القرآنية التي حققت تقدمًا قويًا وملحوظًا في حق المرأة ووُضعت في إطار ما هو اختياري وثانوي في الكتب الفقهية التراثية، بل نجدها أحيانًا أخرى قد وضُعت في خانة العرف.
حافظت القراءة التقليدية على المعايير القانونية القديمة التي عُرفت في الجاهلية بخصوص التطليق بتحويل الطلاق من الشكل الذي تناوله القرآن إلى طلاق أحادي الجانب يتحكم فيه الزوج بشكل تعسفي باعتباره حقًا من حقوقه المطلقة ولا مراعاة لإنسانية المرأة. ويُعرَف الطلاق في أغلب كتب الفقه باعتباره أولاً حقًا بيد الرجل، في حين يعتبر حق المرأة في الطلاق أمرًا استثنائيًا، يرجع هذا التأكيد، الذي نجده تقريبًا في جميع التفاسير الفقهية، سببين رئيسيين يبدو أنهما أغلقا النقاش وحددا التوجه النهائي لأحكام الطلاق لصالح الرجال.
يتمثل السبب الأول الذي نجده في جميع كتب الفقه في“الضعف” الفطري للمرأة التي توصف بأنها كائن ضعيف الشخصية له مزاج مضطرب، مشكوك في قدراته، مُندفع، سهل التأثر مهما بلغت درجة حكمته، وبالتالي فهي كائن غير قادر على حل الخلافات الزوجية بهدوء. وحسب هذه الرؤية، لا تملك المرأة القدرة على المقاومة والصبر اللذين يُعتبران صفتين ترتبطان بالرجل. ولهذا السبب لم يعطها الله – بحسب هذا النوع من الخطاب الفقهي – هذا الحق لتقرر مصيرها لأن ضعفها وعيوبها لا تمكنانها من حسن استخدام هذا الحق (الجازري، ٢٠٥؛ الحامدي، 350).
أما السبب الثاني الذي يبرر حق الزوج الحصري في الطلاق، فيتمثل حسب التفاسير الفقهية في سلطة الزوج المنفردة داخل بيت الأسرة، انطلاقًا دائمًا من هذه الرؤية، أعطى الله عز وجل الرجل صفة المعيل الأول للأسرة الذي يملك القدرة على المحافظة على البيت وعلى أن يكون مسئولاً عن زوجته وأسرته كاملة. انطلاقًا من هذا القول وحسب هذه القراءة، من المنطقي أن يملك الزوج وحده هذه السلطة في“التطليق” نظرًا لجميع هذه المسؤوليات التي تقع على عاتقه لأنه سيكون أكثر حكمة واعتدالاً في قراره المُتخذ، في حين أن المرأة، نظرًا لعدم إعطائها جميع هذه المسؤوليات ولحساسيتها وعاطفتها المفرطة، لا يمكنها أن تتحلى بالذكاء والحكمة أمام مثل هذه التجارب. يُشكل هذا النوع من التعليل بعدم قدرة النساء على التحكم في مشاعرهن واتخاذ قرارات حكيمة، الركيزة التي تنبني عليها الثقافة الأبوية العالمية. إنها ثقافة أبقت على فكرة مفادها أن رفض تمتيع النساء بحق الطلاق هو في مصلحتهن من أجل حمايتهن من أنفسهن ومن العواقب الوخيمة التي يمكن لهن أن يتعرضن لها باستخدام هذا الحق بشكل غير عقلاني، وهو ما يفسر بقاء حق الطلاق في يد الرجال فقط, وهم الأكثر قدرة على التحكم في مشاعرهم وتقرير مستقبل ومصير أسرهم.
لا بد أن نشير في هذا السياق إلى أن الفقه الإسلامي لم يستطع أن يُنكر بشكل كامل المبادئ التي جاء بها القرآن والسنة النبوية اللذان وضعا حدًا للتمييز الفاضح الذي كانت تعاني منه النساء في الجاهلية، وأرسيا مفهومًا جديدًا لدور المرأة والرجل داخل الأسرة بوجه خاص والمجتمع بشكل عام. فعلى الرغم من وجود تفسير يطبعه التمييز وبعيد كل البعد عن المبادئ المؤسسة للرسالة الروحية للإسلام، سنجد أحيانًا في نفس الفقه بعض الأحكام المجددة مقارنة بالتقاليد الأبوية الصرفة للجاهلية، فوقع الفقه في التناقض وعدم الاتساق في أحيان كثيرة.
تشكل الفقه التراثي آخذًا في مجمله بعين الاعتبار، إضافة إلى المعطيات الجديدة المرتبطة بالوحي، أعرافًا وتقاليد سادت في المجتمع العربي القبلي لم يستطع تجاهلها أو التخلص منها. وقد نجد المذهب الفقهي يتجاوز أحيانًا هذه الأعراف ليعطي للنساء بعض الحلول التي تخول لهن بعض الحقوق، خصوصًا في الشق المتعلق بالطلاق الذي يعرف نوعًا من التفصيل والتعقيد والوفرة، رغم أنه يصب في مجمله في مصلحة الرجال. فمثلاً: سمح الفقه للنساء منذ البداية بإدخال شرط في عقد الزواج يفوض لهن الحق في“تطليق أنفسهن” وهو ما يُصطلح عليه بطلاق التمليك، بالموازاة مع امتيازات أعطيت للرجال لا يستفدن منها. ونجد أيضًا أن النساء بإمكانهن وضع حد للعلاقة الزوجية بوجود أسباب تبرر هذا القرار مثل التقصير في الإعالة وغياب الزوج، أو بسبب ضرر يلحق بهن نتيجة إخلال الزوج بأحد الشروط المنصوص عليها في عقد الزواج، أو مرض مزمن، إلخ….
يبدو أن الفقهاء الأوائل لم يكونوا ليُقْدموا على هذا النوع من التفاسير، الذي يُمكن اعتباره متحررًا مقارنة بالعقلية السائدة في تلك الفترة، لو لم تكن الرسالة القرآنية والسيرة النبوية يسمحان بذلك، فلم يستطع الفقه أن يتحرر بشكل كامل من محيطه المعادي لتحرير النساء، وإن اضطر إلى الاعتراف بجزء كبير من هذه الرؤية الجديدة للمساواة التي جاءت بها النصوص الدينية مع تعزيز الأعراف.
لكن يبقى من الصعب تنزيل هذه الأحكام الفقهية“المعدة” خصيصًا من أجل المرأة على أرض الواقع. ففي ثقافة غالبية المجتمعات الإسلامية التي تنبني على الأعراف والتقاليد الأبوية لا تستساغ مسألة وضع مجموعة من الشروط في عقد الزواج عند بداية حياة مشتركة، مثل الحق الأحادي الجانب في الطلاق، ويصعب إثبات“تقصير” الزوج في واجباته بوصفه زوج؛ فكثيرة هي مطالب النساء التي تبقى معلقة دون حل لسنوات في محاكم الدول الإسلامية حيث تعاني النساء سعيًا لإسماع أصواتهن، في حين يمكن للرجال أن يحصلوا على الطلاق في وقت وجيز وبسهولة كبيرة! إن غياب التوازن الاجتماعي الذي نتج عن التعقيدات القانونية لفقه أغلق المجال أمام الحريات الفردية، ولاسيما أمام حرية الاختيار، كرَّس للفكرة القائمة والقائلة بأن الطلاق كان حقًا للرجال وأن النساء لم يكن لهن الحق في الحصول عليه إلا في حالات خاصة، بل وعلى حساب أبسط حقوقهن الأساسية.
كيف أمكننا أن نستمر بقبول هذا النوع من التأويلات التقليدية التمييزية، التي تقتصر على الحق الفردي للزوج في إيقاع الطلاق، في الوقت الذي تقدم لنا فيه المصادر المرجعية التي يفترض أن تكون منبع هذه التشريعات، أي القرآن والسنة النبوية، معايير شرعية تركز على المساواة في الطلاق بين الرجال والنساء بوصفه حقًا لهما؟ كيف نصر على قبول مثل هذه الأحكام الفقهية التي ترسخ صورة دونية للمرأة وتمنعها من الحق الشرعي الذي أعطاها إياه القرآن والسنة الشريفة؟ من الضروري إذن اليوم أن نعود إلى روح النص الديني ومبادئه التي تسمح بتحقيق المساواة في الحقوق بين الرجال والنساء داخل العلاقة الزوجية وإعادة إصلاح وتجديد النصوص الفقهية المتجاوزة لتكون منسجمة مع مقاصد الرسالة القرآنية ومنهج السنة النبوية ومسايرة التحديات المعاصرة.
الهوامش
1″التطليق” repudiation هو طلاق تعسفي، حيث يفسخ فيه عقد الزواج بناء على إرادة انفرادية يقع فيها التعسف على الطرف الآخر، ويحمل التطليق معنى قدحيًا: الرفض والتخلي والإهمال والتنكر للآخر الذي هو الزوجة.
2 يصف قانون الأسرة المغربي الجديد الذي بدأ العمل به اعتبارًا من سنة ٢٠٠٤، والذي يُعتبر ثمرة لعملية إصلاحية تجديدية للنصوص، أجمع عليها جل أطراف التيارات السياسية في المغرب، الطلاق بأنه“حل ميثاق الزواج يمارسه الزوج والزوجة، كل بحسب شروطه تحت مراقبة القضاء“. أنظر/ أنظري“قانون الأسرة” في موقع وزارة العدل:
www.justice.gov.ma/ar/droits/droits.aspx?_iddt=1
3 تعرف مدونة الأسرة الطلاق بالشقاق فتقول:”المادة 94: إذا طلب الزوجان أو أحدهما من المحكمة حل نزاع بينهما يخاف منه الشقاق، وجب عليها أن تقوم بكل المحاولات لإصلاح ذات البين“.
المادة 95: يقوم الحكمان أو من في حكمهما باستقصاء أسباب الخلاف بين الزوجين ببذل جهدهما لإنهاء النزاع.
إذا توصل الحكمان إلى الإصلاح بين الزوجين، حررا مضمونه في تقرير من ثلاث نسخ يوقعها الحكمان والزوجان ويرفعانها إلى المحكمة التي تسلم لكل واحد من الزوجين نسخة منه، وتحفظ الثالثة بالملف ويتم الإشهاد على ذلك من طرف المحكمة.
المادة 96: إذا اختلف الحكمان في مضمون التقرير أو في تحديد المسؤولية، أو لم يقدماه خلال الأجل المحدد لهما، أمكن للمحكمة أن تجري بحثًا إضافيًا بالوسيلة التي تراها ملائمة.
المادة 97: في حالة تعذر الإصلاح واستمرار الشقاق، تثبت المحكمة ذلك في محضر، وتحكم بالتطليق وبمستحقات الزوجة والأطفال، مراعية مسؤولية كل من الزوجين عن سبب الفراق في تقدير ما يمكن أن تحكم به على المسئول لفائدة الزوج الآخر.
يفصل في دعوى الشقاق في أجل لا يتجاوز ستة أشهر من تاريخ تقديم الطلب.
4 حسب السلطة القضائية الفرنسية، نص القانون على أجل مدته 300 يوم (لتفادي النزاعات المتعلقة بالنسب) لا يمكن للمرأة المطلقة خلاله أن تتزوج من جديد. وقد أعطى لهذا الأجل اسم“فترة الانتظار“. وألغي هذا الإجراء بموجب القانون رقم ٢٠٠٤– ٤٣٩ الصادر في ٢٦ مايو ٢٠٠٤، ويمكن للمرأة المطلقة أن تتزوج من جديد اعتبارًا من اللحظة التي يُصبح فيها الحكم نهائيًا.
5 بحسب“تشارك المهام: ورش قيد الإنجاز“،“تنجز النساء في فرنسا دائمًا ما يعادل 80 في المائة من الأعمال المنزلية” (لوموند، ۸ یونیو ۲۰۱۱).
6باستثناء الدول الإسكندنافية حيث تم إحداث سياسات اجتماعية حقيقية مثل أجازة الأبوة مدفوعة الأجر، وتأسيس روض داخل أماكن العمل وغيرها من الإجراءات من أجل تعزيز تشارك متوازن للمسؤوليات الأبوية.
7 نستثني هنا القوانين التونسية وقوانين الإصلاح الجديد بالمغرب الذي أحرز تقدمًا حقيقيًا رغم أنه لم يُطبق بعد بشكل فعلي على أرض الواقع.
8 رواه البخاري في كتاب الطلاق،“باب الخلع وكيف الطلاق فيه” رقم 4971، ورواه النسائي في“باب ما جاء في الخلع” رقم 3463، ورواه ابن ماجة في“باب المختلعة تأخذ ما أعطاها” رقم2056.
9 كانت طبيعة التعويض وقدره موضوع نقاش طويل بين العلماء المسلمين، مثلاً في المذهب المالكي، لم يحدد المبلغ الذي يجب على الزوجة أن تقدمه لزوجها، إلا أنه من المستحب أن يُعادل مبلغ الصداق، في حين أن آخرين لا يعتبرون التعويض مهمًا، كما أن الطلاق يمكن أن يتم دون مقابل.
10 لا نقدم هنا قراءة متفحصة عميقة وشاملة للنصوص الفقهية المتعددة التي تتطلب قراءة متخصصة، وإنما نسعى في هذا الجزء إلى أن نُظهر كيف أن التفاسير الفقهية للنصوص الدينية الإسلامية قد ابتعدت في مجملها عن الرؤية القرآنية الأصلية.
المراجع العربية
“قانون الأسرة“. موقع وزارة العدل.
.<www.justice.gov.ma/ar/droits/droits.aspx?_iddt=1>
ابن رشد، أبو الوليد. بداية المجتهد ونهاية المجتهد. بيروت: دار الجيل، ٢٠٠٤.
ابن كثير الدمشقي، اسماعيل بن عمر. تفسير القرآن العظيم. القاهرة: دار الحديث، ۲۰۰۳.
الألوسي، محمود شهاب الدين. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني. تحقيق سيد عمران. القاهرة: دار الحديث، ٢٠٠٥.
الجازري، عبد الرحمان بن عود. الفقه على المذاهب الأربعة. بيروت: دار الكتاب العربي، ٢٠٠٥.
الحامدي، عبد الكريم. مقاصد القرآن من تشريع الأحكام. بيروت: دار ابن حزم، ۲۰۰۸.
الحجامي، عائشة. مدونة الأسرة أمام امتحان التطبيق القانوني. خدمة التعاون والعمل الثقافي، سفارة فرنسا بالمغرب،۲۰۰۹
اللحام، حنان. مقاصد القرآن الكريم. دمشق: دار الحنان، ٢٠٠٤.
“تشارك المهام: ورش قيد الإنجاز“. لوموند. ۲۸ یونیو، ۲۰۱۱.
المرأة للرجل لأجل تفضيلي له عليها وذلك لثلاثة أشياء: الأول كمال العقل والتمييز، والثاني كمال الدّين، والثالث بذله المال في الصّداق والنفقة” (416). ولما كان الرجل أعلى درجة من المرأة حسب منطوق الآية حتى أصبحت القوامة حقًا مكتسبًا للرجل لا يمكن النزاع فيه أو تجريده من هذا الحق المقرر في كتاب الله.
لذلك ربط الفقهاء والمفسرون هذه الآية (وللرجال عليهن درجة) وآية القوامة بالطاعة الكاملة من المرأة لزوجها في غير معصية. ويعتبر القرطبي أن لفظ” قوّامون” من القيام على الشيء، والاستبداد بالنظر فيه وحفظه بالاجتهاد“وهو أن يقوم بتدبيرها وتأديبها وإمساكها في بيتها، ومنعها من البروز” (القرطبي، ۱۷۳).
المدرسة الحديثة في التفسير
هذه المدرسة يمثلها قطبان رئيسان هما محمد عبده في مصر والشيخ الطاهر بن عاشور في تونس. لقد انتبه المفسر المعاصر لقصور القراءات القديمة رغم كثرتها وتنوعها عن تقديم إجابة تلبيّ حاجات المجتمع في القرن العشرين حجتّه في ذلك ما غمرت به من مباحث لغوية وفقهية وكلامية ومرويات اسرائيلية، حتى أثمرت القولة المشهورة عن الشيخ مصطفى المراغي (ت ١٩٦٤)”من أن الكتاب الذي لايناجيك معناه لدى قراءة لفظه أولى لك ألا تضيّع وقتك في قراءته” (4). وهكذا يبرر المفسّر المعاصر أسباب خوضه غمار التفسير من وجهة نظر تخالف ما درج عليه المفسرون السابقون ومع هذا فإن التعاطي مع التفاسير السابقة نجده يتكرر تقريبًا في مقدمات أغلب التفاسير الحديثة.
لقد عمل مفسرو العصر الحديث ومنهم محمد عبده والطاهر ابن عاشور وغيرهما على الاهتمام بالقضايا التي لها علاقة كبيرة بحياة المجتمع الإسلامي، ومنها قضية المرأة التي تناولها هذان المفسّران من وجهة نظر ما عليه المجتمع الغربي من تقدم ونهضة شملت مختلف الميادين ومنها تحرير المرأة، وما عليه المجتمع العربي الإسلامي من تأخر في ميادين كثيرة وفي مقدمتها التأخر الاجتماعي الذي عليه المرأة والرجل على حد السواء.
فمحمد عبده مثلاً يرى أنّ آية” الرجال قوامون على النساء” جاءت مرتبطة بما قبلها من ذكر تفضيل الرجال على النساء في الميراث والجهاد فهي تبين سبب هذا التفضيل وهو اختصاص الرجال بالقوامة وهي شأن معروف عند المفسرين. ويعتقد محمد عبده أن هذا التفضيل الإلهي للرجال يعود إلى أصل الخلقة وهو سبب فطري فطر الله الرجال عليه.
كما أن التفضيل من ناحية أخرى يعود إلى ما كلّف به الرجال من الإنفاق على زوجاتهم ودفع المهور إليهن كتعويض لهن ومكافأة على دخولهن بعقد الزوجية تحت رئاسة الرجال (5: 67). وإذا كان القيام في الآية هو الرئاسة التي يتصرّف فيها المرء بإرادته واختياره. فليس معنى ذلك أن يكون المرؤوس مقهورًا مسلوب الإرادة. ويرى تلميذه رشيد رضا أن الآية تشير إلى أن التفضيل لجنس على الآخر وليس لجميع أفراد على جميع أفراد النساء (5: 60). بحيث أن محمدا عبده لم يخرج عما قررّه المفسرون السابقون في هذه المسألة من حيث الدرجة التي للرجال على النساء وتفضيل الله لهم عنهن.
أما الشيخ الطاهر ابن عاشور (ت ۱۹۷۳م) الذي ينتمي هو الآخر إلى المدرسة الإصلاحية فنجد طريقة محمد عبده التي توخاها في تفسير مثل هذه القضايا النسوية واضحة عند الطاهر ابن عاشور حيث اعتبر أن القوامة أصل تشريعي كلي يتفرّع عنه الأحكام التي في
التفسير المعاصر للقوامة
نصر الجويلي
يثير واقع المرأة العربية اليوم، إشكالات نظرية وعملية كبرى، وأسئلة ذات بعد سياسي واجتماعي واقتصادي. ذلك أن قضية المرأة من جميع وجوهها قضية إنسانية واجتماعية بالدرجة الأولى. والحقيقة أن قضية المرأة عمومًا تضج بالإشكالات وخصوصًا في هذا العصر الذي تزاحمت فيه التغيرات على جميع المستويات. وأصبحت قضية المرأة ينظر إليها من خلال قطبين متنافرين في غالب الأحيان وهما التفاسير القديمة وحتى الحديثة أحيانًا من ناحية، بما ترمز إليه من قراءة حرفية للنص القرآني دونما مراعاة أحيانًا إلى المقاصد التشريعيّة من نزول الحكم وظرفيته، والكتابات المعاصرة من ناحية أخرى بما ترمز إليه من توجه تحديثي وقراءة جديدة للنص القرآني على ضوء المعارف الحديثة والتماهي مع عديد من القضايا الثنائية والفردية التي طبعت الفكر العربي الحديث والمعاصر مثل التراث والحداثة، والنهضة والتقدم، والهوية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
ومن أهم المسائل التي ترتد في نصوصها الى القرآن الكريم والتي كثر الجدال حولها قديمًا وحديثًا مسألة القوامة ومدى شرعيتها، وإلى أي حد يمكن الإحتفاظ بها اليوم كحق ثابت للرجل، في الوقت الذي أصبحت فيه المرأة عنصر إنتاج فكري واقتصادي، إلى جانب القيام بالوظيفة الأسرية. كيف يمكن معالجة هذه المسألة دونما خروج عن الشرع؟ وأين يكمن الخلاف بين المفسرين والفقهاء من ناحية وبين أصحاب القراءات المعاصرة لهذه المسألة من ناحية أخرى؟ وماهي المنطلقات التي بدأ منها كل فريق، وما الأدوات المنهجية التي عولوا عليها في تقرير آرائهم وتفسيراتهم لهذه المسألة – مسألة القوامة – ثم لماذا اهتم أصحاب القراءة الجديدة لنصوص التراث ولماذا انبروا إلى الخوض في مسألة هي في العادة من اختصاص المفسرين؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة ذات العلاقة تتطلب أولاً وقبل كل شيء الوقوف عند المفسرين القدامي منهم والمعاصرين لتجلّي تفسيراتهم للقوامة، ثم الوقوف ثانيًا في المسألة عند بعض الكتاب المعاصرين الذين نظروا إلى آيات الأحكام المتعلقة بالمرأة نظرة تختلف تمامًا عمّا وجدناه عند المفسرين الذين سبقوهم منذ نزول الوحي إلى عصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر.
القوامة في المدونة التفسيرية
سأقتصر فقط على بعض المفسرين مثل، ابن كثير، والقرطبي من القدامى ومحمد عبده والشيخ محمد الطاهر ابن عاشور من المحدثين.
تحديد المصطلح
نجد في القرآن الكريم آيتين يستدل بهما الفقهاء والمفسّرون على مشروعية قوامة الرجل على المرأة هما: قوله تعالى” ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة” (البقرة، ٢٢٨) وقوله أيضًا” الرجال قوامون على النساء، بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم” (النساء، 34).
بالرجوع إلى المعاجم اللغوية نجد أغلبها تتفق حول المعنى اللغوي للقوامة. جاء في لسان العرب لأبن منظور:” قال ابن بريّ قد يجيء (القيام) بمعنى المحافظة والإصلاح، ومنه قوله تعالى” الرجّال قوامون على النساء” والقوّام العدل، ومن ذلك قوله تعالى” وكان بين ذلك قواما” (الفرقان، 67). وقيمّ القوم الذي يقومهم ويسوس أمرهم، وقيمّ المرأة زوجها لأنه يقوم بأمرها وما تحتاج إليه، وقوامِ الأمر (بالكسر) نظامه وعماده، وهو قوام أهل بيته، وقيام أهل بيته وهو الذي يقيم شأنهم” (ابن منظور، 499).
ومن خلال هذه المعاني اللفظيّة للقوامة يمكن أن نقول بأن القوامة هي: المحافظة والسياسة والنظام والقيام بشؤون الأسرة وإرشادها إلى أقوم السبل.
مشروعية القوامة
استند أغلب الفقهاء والمفسرين إلى أن القوامة حقّ للرجل أوّ لا على الآية الواردة في سورة البقرة وهي قوله تعالى“ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرّجال عليهن درجة” (البقرة، ۲۲۸). يقول أبو بكر ابن العربي (توفي 543ه) في أحكام القرآن:”هذا نص في أنه مفضل عليها مقدّم في حقوق النكاح فوقها، لكن الدرجة ههنا غير مبيّن ما المراد منها. وإنما أخذت من أدلة أخرى سوى هذه الواردة في سورة النساء” (734).
وهو ما ذهب إليه مثلاً ابن كثير (توفي 774 ه) في تفسيره لقوله تعالى“الرّجال قوامون على النساء” من أن“الرجل قيّم على المرأة وهو رئيسها وكبيرها، والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت لأن الرجال أفضل من النساء، والرجال خير من المرأة، ولهذا كانت النبوّة مختصة بالرجال، وكذلك الملك الأعظم وكذا منصب القضاء وغير ذلك” (٧٣٤). ويؤكد هذه الأفضلية للرجل على المرأة بالمهر والنفقة والمسؤولية التي أوجبها الله عليه لها في كتابه وسنته. لذلك ناسب أن يكون قيّما عليها مستشهدًا بقوله تعالى“وللرجال عليهن درجة“.
أما القرطبي (ت 671 ه) وهو من رجالات القرن السابع الهجري، القرن الثاني عشر ميلادي، فقد علل في الجامع لأحكام القرآن القوامة بيد الرجل بالفضيلة والنفقة والعقل والقوة في أمر الجهاد والميراث والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والقوامة عند القرطبي“تشمل الإنفاق والحماية، والتأديب في مقابل الطاعة. وأعلم الله تعالى النساء ها هنا أن الرجال فوقهن ثم بيّن على لسان رسوله ذلك” (۱۷۳).
وقد أشار ابن العربي إلى أن العلماء قد اختلفوا في المراد بهذه الدرجة على أقوال كثيرة فقال بعضهم بأن الاختلاف في الدرجة بين الرجل والمرأة مرده اختلافهم في الميراث، والجهاد وغيرها من الفوارق الخلقية والخلقية. ويضيف ابن العربي قوله“ولا يخفى على لبيب فضل الرجال على النساء ولو لم يكن إلاّ أنّ المرأة خلقت من الرجل فهو أصلها ولمّا كانت الآية لم تأت لبيان درجة مطلقة حتى يتصرف فيها بتعديد فضائل الرجال على النّساء، تعين أن يطلب ذلك بالحق في تقدمهن في النكاح” (734). ولكن الآية حسب رأينا لم تأت ببيان الدرجة المطلقة الذي يتفاضل فيها الرجال على النساء ماعدا الإنفاق. ولم تقع الإشارة في الآية الى الأوجه الأخرى للمفاضلة. إلا أن ابن العربي يوضح هذا التفاضل بقوله:” المعنى أني جعلت القوامة على المرأة للرجل لآجل تفضيلي له عليها وذلك لثلاثة أشياء الأول كمال العقل والتمييز. والثاني كمال الدين. والثالث بذله المال في الصداق والنفقة” (416). ويفّسر آية القوامة منسوبًا إلى الله تعالى في قوله“المعنى أنّي جعلت القوامة على الآيات بعده. فهو كالمقدمة للحكم بتقديم دليله للإهتمام بالدليل (35-36) وقيام الرجال على النساء هو قيام الحفظ والدفاع، وقيام الإكتساب والإنتاج المالي. وقد برّر ابن عاشور ذلك بالتفضيل والإنفاق لأن التفضيل“هو المزايا الجبليّة التي تقتضي حاجة المرأة إلى الرّجل في الذب عنها وحراستها لبقاء ذاتها، وهذا التفضيل ظهرت آثاره على مر العصور والأجيال فصار حقًا مكتسبًا للرجال” (بلعيد، ۱۱۸). ويحتج ابن عاشور على كون الرجال قوّامين على النساء. لأن النساء بحاجة دائمة إليهم من ناحية الحماية وإن كانت تلك الحاجة تقوى وتضعف بحسب الظروف والملابسات التي تحيط بالمرأة. ويستخلص من قوله تعالى“بما أنفقوا من أموالهم” أن أمر الإنفاق قد تقرر في المجتمعات الإنسانية منذ القديم. وعليه فإنّ الرجال هم العائلون لنساء العائلة لأن الاكتساب من شأنهم.
ويعقِّب الصادق بلعيد على رأي ابن عاشور في مسألة تفضيل الرجال على النساء ما مفاده أن ابن عاشور قد خلط بين الواقع الاجتماعي وبين الواقع الديني في شرحه لمسألة التفضيل هذه. وهذا الخلط وقع فيه الفقهاء المعاصرون مع نفس الالتباس والغموض والازدواجية في الكلام، وهذا الخلط عند ابن عاشور يظهر في قوله بأن تفضيل الرجال على النساء يعود إلى مشيئة الله حتى صار حقًا مكتسبًا للرجال وهذا ما يعطي للقوامة صفة الحكم الثابت الذي لا يمكن تغييره بحال من الأحوال” لأنه أصل تشريعي كلي تتفرع عنه الأحكام التي في الآيات بعده” (۱۱۹).
إن قراءة هذين النموذجين لمسألة القوامة قائمة على مقايضة الإنفاق مقابل الطاعة العمياء للرجل. هذه القراءة لا أساس لها من النص وإنما أساسها الوحيد التمييز ضد المرأة وتغييبها عن الوجود.
وقد تحّودت القراءتان حول:
1- إرجاع تعليل القوامة إلى سببين
1- سبب فطري
يتلخص في جملة من المميزات الخاصة بالرجل والمتعلقة بمزاجه الأقوى والأكمل والأتم والأجمل من مزاج المرأة. ولأن طبع الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة فيكوّن فيهم القوة والشدة وهو خلاف ما عليه طبع النساء من الرطوبة واللين والعطف وسرعة الانفعال والاستجابة العاجلة لمطالب الطفولة. إذن فتفوّق الرجل على المرأة ليس محاباة خصّ بها جنس على حساب جنس آخر، وإنما هي حاجة ضرورية تقتضيها طبيعة كل منهما. وعلى هذا الأساس علَل الفقهاء والمفسرون القدامي منهم والمحدثين سبب قيامة الرجل على المرأة لأنه أمر وهبي من الله ليس لأحد أن يعترض عليه لقوله تعالى“بما فضل الله بعضهم على بعض” (النساء، 34) وقوله“ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض” (النساء، ۳۲).
في حين أنه لا علاقة للتفضيل بالجنس لأن قوله تعالى” بما فضل الله بعضهم على بعض” يشمل الرجال والنساء على السواء إذ التفضيل” له علاقة بما اكتسب الإنسان ذكرًا كان أم أنثى من علم ودراية في أمور الدين والدنيا“وفي هذا السياق يعتبر سامر الإسلامبولي أن قوله تعالى“الرجال قوّامون على النساء” نص يفيد العموم ليست فيه قرينة تحدد دلالة كلمة” الرجال” بالذكورة وكلمة“النساء” بالأنوثة. وأنّ الناس [ذكورًا وإيناثًا] تحقق فيهم مقام الرجولة ومقام النساء على السواء، ومن المعلوم والثابت أنه لا فضل لذكر على أنثى في القرآن وإنما نظر القرآن لكليهما نظرة إنسانية واحدة وجعل درجة التكريم والتعظيم بين الناس أمرًا اكتسابي تحت متناول أيديهم. يظهر ذلك من خلال عديد الآيات القرآنية الواردة في الغرض منها قوله تعالى“إن أكرمكم عند الله أتقاكم” (الحجرات، ۱۳)،“فالأكرم من الناس هو الأتقى على صعيد التقوى التعبديّة، والتقوى الاجتماعية والتفضيل لا علاقة له بالجنس” (الإسلامبولي، ١١٩).
۲– سبب كسبي
يظهر جليًا فيما يقوم به الرجل للمرأة من جلب القوت والكسوة وسائر الضروريات المادية والمعنوية بصورة تكفل لها الشعور بالطمأنينة والحماية والرعاية والذّب عليها” كما يقوم الحكام و الأمراء بالذب عن الرعيّة” (الشوكاني، 415)، وفي هذا تأكيد على رئاسة الذكر على الأنثى. هذا بالرغم من إقرار أصحاب التفسيرين بأن المساواة بين المرأة والرجل مثبتة بما شرعه القرآن لكليهما من نفس الحقوق ونفس الواجبات فهما على حدّ تعبير محمد عبده“متماثلان في الذات والإحساس والشعور والعقل لأن كلا منهما بشر تام له عقل يتفكر في مصالحه وقلب يحب ما يلائمه ويسرّ به، ويكره ما لا يلائمه، وينفر منه، فليس من العدل أن يتحكّم أحد الصنفين بالآخر ويتخذه عبدًا يستذله ويستخدمه في مصالحه، ولا سيما بعد عقد الزوجية والدخول في الحياة المشتركة” (4: ٢٧٥). وقد حاول محمد عبده التخفيف من حدة الدلالات السلطوية لمصطلح القوامة بتأكيده على أن الرئاسة ليست قهرًا للمرؤوس لأن” المرأة من الرجل والرجل من المرأة بمنزلة الأعضاء من بين الشخص الواحد. فالرجل بمنزلة الرأس والمرأة بمنزلة البدن” (5: 69).
فإذا كان الأمر كذلك على ما ذهب إليه محمد عبده والطاهر بن عاشور من تقرير المساواة بين الجنسين فلماذا إذن الإصرار على القول بأفضلية الرجال على النساء وأن الأمر كله بيد الرجل، وما المرأة إلاّ منفذة ومطيعة؟ وهكذا توحدت القراءات منذ القرن السادس الهجري إلى عصر النهضة في معالجتها لمسألة القوامة من جانب تعليلها ومن جانب اعتبارها ثابتة مستمرة للرجال على النساء. إذن فالفارق الوحيد بين تفسير القدامى للقوامة، والتفسيرات المعاصرة هو اختفاء المصطلحات التي وسمت خطاب المرحلة الأولى كالإمساك والمنع والتأديب والراعي والرعية، والتلبس والرسوخ، واستبدالها بمصطلحات أخرى حرصت على التشبث المضمون الدّلالي للقوامة.
القراءات المعاصرة للقوامة
لماذا هذه القراءة؟
أصبح كان توزيع الاختصاصات الأسرية في مجتمع النزول – نزول القرآن– وبعده جعل الإنفاق على المرأة من مسؤولية الرجل سواء أكان أبًا أم زوجًا، أما اليوم فإن الظروف تغّيرت، عمل المرأة وإنفاقها على أسرتها جزئيًا أم كليًا حقيقة لا يمكن التغاضي عنها أمام تعقد الحياة. لذلك طرح سؤال وهو: هل القوامة اليوم قادرة على المحافظة على مفهومها، المتداول منذ عصر النزول إلى اليوم؟ أم أن هذا المفهوم بحاجة اليوم إلى أن يعاد النظر فيه من جديد حتى يكتمل وينضج في إطار علاقة جدلية بين الرجل والمرأة تجعل كليهما قوام على الآخر في ظل توزيع عادل للاختصاصات؟ هذا السؤال ما انفك يقلق الكثير من الدارسين للقرآن اليوم.
إن حل هذه الإشكالية عند هذا الفريق تتطلب إعادة قراءة جديدة لآيات الأحكام على ضوء العلوم الحديثة، لأن طبيعة النص القرآني خصبة ثرية، ناضجة، متكاملة على مستوى اللغة والدلالة من جانب الكلمة أو الآية (العلمي، 41). هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن” إعادة كل سيطرة على النص المقدس بالتفسير، هو مجرد زعم وظن لأنه يعز شد جموح اللغة التي نظم فيها النص كما يعسر حصر الدلالة في قوالب جامدة” (السليتي، ۸)، مما يجعل النص القرآني نصًا تأويليًا مفتوحًا بحكم اللغة وأحكامها. كذلك وجد أصحاب القراءات المعاصرة للنص القرآني تفاعلاً متدفقًا في معانيه مع كل الأوضاع الاجتماعية، والسياسية، والفكرية في كل عصر من العصور، حتى أصبح كل قارئ يطبع قراءاته للقرآن بما يتوافق ومذهبه ورأيه، على اعتبار أن النظر في آيات الأحكام الخاصة بالمرأة يجب أن ينطلق من مشاغل المجتمع وظروفه الاقتصادية والاجتماعية. فإلى أي حدّ طبق أصحاب القراءات المعاصرة هذا المنهج في قراءاتهم للآيات الأحكام ومنها آية القوامة؟
إن الإجابة عن هذا السؤال يحيلنا إلى الوقوف عند شخصيتين بارزتين في قراءة النص القرآني وهما: نصر حامد أبو زيد من مصر ومحمد شحرور من سوريا، وليس هما الوحيدان اللذان اشتهرا بالقراءة التأويلية لآيات الأحكام فغيرهما كثير في العالم العربي والإسلامي.
خصوصية قراءة أبي زيد للقوامة
ينطلق أبو زيد في القسم الأول من الكتاب دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة من جملة صدّر بها الفصل الأول منه مفادها أنً” الخطاب المنتج حول المرأة في العالم العربي المعاصر خطاب في مجمله طائفي عنصري” نتيجة الفشل والهزيمة (٢٩)، وعقدة الآخر المنتصر والمتفوق التي أصيب بها العالم العربي في القرن الواحد والعشرين وكانت المرأة كبش الفداء في هذه المرحلة،“ففي هذا السياق المتخم بالعنف والإرهاب، يزداد عنف الرجل ضد المرأة، ويقع الترويج لمفاهيم وثوابت لا علاقة لها بالدين ولا بالإسلام“(۳۹) بل هي آلية من آليات الخطاب العنصري والمتخلف ضد المرأة مما نتج عنه إخفاء المرأة والحكم عليها بالقعود. وتبنّي تفسير مغلوط وفهم ذكوري خاطئ لجزء“النساء ناقصات عقل ودين” من الحديث الشريف، وتكريس جزء مبتسر من السياق القرآني –” إن كيدهن عظيم” حتى أصبحت هذه الأوصاف والنعوت ملازمة للمرأة باعتبارها أنثى، لا ترتقي إلى مستوى الرجولة من حيث القدرة على الفعل والتفكير.
إنَّ خطاب السلف عن المرأة في نظره يساهم في تعميق أزمة المرأة عن طريق تثبيت الحالة بالقراءة الخاطئة. في حين أن النصوص الشرعية هي أرقى وأرفع من أن تعامل المرأة بذلك الأسلوب الحقير والمهين لذاتها ولكرامتها كإنسان، ولأن الخطاب القرآني لطالما وجه نحو المرأة المسلمة المستقِّلة عن الرجل، وذلك في سابقة فريدة هي بمثابة وعي جديد بذاتها كإنسان (دوائر الخوف، ۷۱). من هنا يرى أبو زيد أنَّ النظر في قضية المرأة يجب أن يتم ليس فقط من الناحية الدينية، إنما أيضًا من الناحية الاجتماعية، أي العودة إلى الواقع الاجتماعي الذي هو أساس هذه القضية المحورية، لأن الخطاب الدّيني في نظره قد حصر قضايا المرأة ومنها مسألة القوامة داخل أسوار الفهم الحرفي للنصوص الدينية الفرعية أو الاستثنائية وهو ما يفيد أن أبا زيد يرى:
1) أنّ الخطاب الدّيني يزّيف قضية المرأة حين يصرّ على مناقشتها من خلال مرجعية النصوص ناسيًا أنها قضية اجتماعية بالأساس، استنادًا إلى كون جنس الرجل هو المفضّل عند الله ومن ثم تصبح القوامة حكمًا إلهيًا لا يجوز مناقشته.
٢) أن هذا الخطاب قد تعامل ومازال يتعامل مع المرأة المسلمة تعامله مع الأقليات الدينية الأخرى باعتبارها“الآخر“.
إنّ التفضيل الإلهي الوارد في قوله تعالى“بما فضل الله بعضهم على بعض” (النساء، 34) يقاربه في مجمل السياق القرآني حول مسألة التفضيل الإلهي لبعض البشر على بعض، أو رفعه للبعض درجة فوق البعض الآخر ليقرر أن المقصود به“وصف التفاوت الاجتماعي والاقتصادي الملحوظ بين البشر” (دوائر الخوف، ۲۱۳). وهذا التفاوت بين البشر يراه أبو زيد تفاوتًا غير ثابت لإنه محكوم بقوانين الحراك الاجتماعي وذلك بمنطوق قوله تعالى (دفع الله الناس بعضهم ببعض) (البقرة، ٢٥١) ويستشهد بقوله تعالى“أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا” (الإسراء، ٢١). وبهذا تصبح مسألة التفضيل ليست قدرًا إلهيًا بقدر ماهي تقرير للواقع المطلوب تغييره تحقيقًا للمساواة الأصلية.
وكذلك بالمثل فإنه يضع قوله تعالى“ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة” (البقرة، ٢٢٨) في نفس السّياق الوصفي حيث يعتبرها تقريرًا ووصفًا لواقع من التقاليد والأعراف الاجتماعية لا علاقة لها بتقرير حكم شرعي ثابت” ولم يقل أحد أبدًا ولا يصح أن يقول أبدًا، إن التقاليد والأعراف أحكام إلهية أبدية مطلقة” (دوائر الخوف، ٢١٤). ومن هذا المنطلق فإن أبا زيد يرفض اعتبار القوامة تستند إلى تفضيل إلهي مطلق لجنس الرجال على النساء، وإن هذا التفضيل ليس قدرًا إلهيًا مطلقًا، وإنما هو كذلك تقرير لواقع مطلوب تغييره حتى تتحقق المساواة بين المرأة والرجل لأن“القوامة مسؤولية يتحملها من يستطيع من الطرفين، ويشاركان فيها بحسب ملابسات الأحوال والظروف، يستفاد هذا من القرآن الذي جعل علّة القوامة الأفضلية والقدرة على الإنفاق لكنه لم يحدد بشكل قاطع أفضلية من على من” (دوائر الخوف، ٢١٤). معنى ذلك أنه يمكن في رأيه أن تكون القوامة يومًا للمرأة ويومًا للرجل لأن السياق في الآية ليس سياقًا تشريعيًا إنما هو سياق وصفي سجالي.
وما نصل إليه من خلال قراءة أبي زيد للقوامة هو أن تناولها من جانب السياق الوصفي القرآني فيه إسقاط لها من قائمة التشريعات الخاصة بالمرأة، مما يهز عديد المفاهيم والتأويلات والأحكام التي أقيمت على أساسها عند المتقدمين.
قراءة محمد شحرور للقوامة
رسم محمد شحرور أساسيات منظومته الفكرية والدينية في كتابه نحو أصول جديدة للفقة (الإسلامي) وهو من العناوين الكفيلة بلفت الإنتباه خصوصًا في مجال الإسلاميات المعاصرة، وقد جمع هذا الكتاب بين إشكاليتين كانتا ومازالتا من مشاغل الباحثين في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر وهما: أصول الفقه، والمرأة من خلال القرآن الكريم.
إن الناظر في هذا الكتاب سوف يقف على طرح جديد للمسائل المتداولة في خصوص النص القرآني، ويتلخص هذا الطرح في“أن النص القرآني كينونة في ذاته مغلق ذاتيًا، ومكثف ذاتيًا تتحرك مضامينه ومحتوياته مع تحرك الصيرورة التاريخية والصيرورة المعرفية، فالتطور التاريخي غير قادر على إلغاء آية قرآنية، أو حكم قرآني تحت شعار تغير الأحكام بتغّير الزمان أي أنه – النص القرآني– لا يخضع لحتمية التاريخ على محور السيرورة، ولا لحتمية الغائية على محور الصيرورة” (شحرور، 94).
إنّ المعضلة في نظره تتمثل في فهم النص لا في النص ذاته، يتأكد هذا عنده بقوله“إن آيات ذات الكينونة المطلقة في الشريعة الإسلامية شيء والفقه الإسلامي الذي يمثل تفاعل الناس وفهمهم للتشريع في لحظة زمانية تاريخية معينة شيء آخر تمامًا، إذ أن الشريعة الإسلامية إلهية، بينما الفقه الإسلامي إنساني تاريخي، وبدون وعي هذا الفرق وأخذه بعين الاعتبار لا أمل لنا في الخروج من المأزق بأن الإسلام إلهي، والفقه الإسلامي والتفسير إنساني، وهذا هو الفرق بين الإسلام والمسلمين” (شحرور، ٩٥). وعلى هذا الأساس فهو يعتبر أن الفقه الإسلامي الذي بين أيدينا اليوم يمثل التشخيص الأول للنصوص والأحكام السماوية، تشخيص ساهمت فيه مجموعة من الآليات المعرفية التي أثرت على قراءة الفقيه والمفسر لتلك الأحكام. من هنا تبدو الضرورة إلى تشخيص آخر للأحكام التشريعية لأن” الإكتفاء بالقراءة الأولى للتنزيل الحكيم التي تمت في القرن السابع والثامن الميلاديين، والإصرار على أن التفاسير مطلقة مقدسة تمثل عين المقاصد الإلهية أمر بالغ الخطورة” (شحرور، ٩٦).
فكيف قرأ شحرور الأحكام الواردة في القرآن وخاصة الأحكام المتعلقة بالمرأة ومنها القوامة أساسًا؟ في هذه المسألة يقدم شحرور قراءة مختلفة عن كل القراءات التفسيرية والفقهية المتداولة قديمًا وحديثًا.
من ذلك أنه يرى أن التفسير الذي ذهب إليه المفسرون والفقهاء لقوله تعالى“بما فضل الله بعضهم على بعض“، وهو أن الله تعالى فضل الرجال على النساء بالعلم والدين والعقل والولاية، لا يستقيم عنده لأنه” لو عني الله ذلك لقال: الذكور قوّامون على الإناث، لكنه قال“الرجال قوامون على النساء“، والرجال جمع رجل والنساء جمع امرأة، ونحن نعلم أن كل رجل ذكر وكل امرأة أنثى لكن العكس غير صحيح” (شحرور، ۳۱۷) لذلك يتساءل قائلاً: فما بال الأقسام الباقية؟ وهل هي متساوية في الفضل؟ وأين هنَّ اللوّاتي يفضلن الرجال ولا يخلو منهن عصر، ومن هنا يرجح شحرور أن الآية” بعضهم على بعض” تشمل كل الرجال والنساء ليصبح المعنى حسب رأيه بما فضل الله بعض الرجال والنساء على بعض آخر من الرجال والنساء، يتجلى هذا بأكثر وضوح في قوله تعالى“أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض، وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا” (الإسراء، ٢١)، وهذه الآية عنده تنفي تمامًا الأفضلية بالخلق وتبقى الأفضلية بحسن الإدارة والحكمة، ودرجة الثقافة العالية، والوعي الذي يتفاوت فيه الناس رجالاً ونساًء. فمن الرجال من هو أفضل فيها من النساء والعكس صحيح.
والله تعالى لا يفرق في كتابه بين الذكر والأنثى، إذ المساواة بينهما واضحة وصريحة في أكثر من آية وفي أكثر من مجال. وما اقتران المؤمنين بالمؤمنات، والمسلمين بالمسلمات في الطرح القرآني العام إلا دليل على ما نراه. ومن هنا تصبح مسألة الدونية التي ألصقها الفقهاء والمفسرون بالمرأة ماهي في الواقع إلاّ رؤية مشوهة تجاه المرأة كانت انعكاسًا لما كان سائدًا في تلك المجتمعات ذات الطابع الذكوري، وهو ما انعكس على عديد من الأحكام الخاصة بالمرأة وفي مقدمتها القوامة، والإرث، والحجاب، وتعدد الزوجات.
أما بخصوص النفقة التي فضّل بها الرجل على المرأة في قوله تعالى“وبما أنفقوا من أموالهم” فيرى شحرور أن من كان له مال فهو أولى بالقوامة بغض النظر عن كفايته ودرجته ووعيه الثقافي. وبهذا التفسير فإنه يرى أن القوامة لا يمكن أن تنحصر بين المرأة والرجل في حدود الأسرة كما ذهب إلى ذلك الفقهاء والمفسرون الأوائل، بل تمتد لتشمل كافة مجالات العمل المتنوعة. والأسرة اليوم وغدًا في حاجة إلى من يقوم بشؤونها ويلبي حاجاتها المختلفة من مأكل وملبس ومشرب وعلاج وسكنى وغيرها من الكمالات التي لابد منها. وإن تكون بالقيادة في يد صاحب الفضل والقدرة المادية والمعنوية سواء أكان رجلاً أم امرأة. إذ ليس من الشرط عند شحرور أن يستقل الرجل سواء كان زوجًا أم أبًا بالقوامة. إذ يحق للمرأة التي توفرت فيها القدرة الجسدية والمالية أن تكون أهلاً لتحمل مسؤولية قيادة البيت فكم من نسوة لهن القدرة على إدارة شؤون الأسرة أكثر من الرجال (شحرور، ٣٢۳). إذن لابد في نظر شحرور من إعادة النظر في قراءة آيات الأحكام الخاصة بالمرأة طبقًا للسيرورة التاريخية (نهاية القرن العشرين) والصيرورة الاجتماعية، وانطلاقًا أيضًا من عالمية الرسالة المحمديّة وشمولها، ومراعاة تغيير الزمن والواقع الاجتماعي عن طريق أدوات معرفية جديدة للتخلص من التفسيرات القديمة لهذه الأحكام التي رسمها الفقهاء وكتاب الأدبيات الإسلامية في القرنين الثاني والثالث الهجريين أيام كانت العلاقات الأسرية تحكمها العادات والتقاليد والتفوق الذكوري في الحرب والسلم.
لأن النص القرآني حسب هذه القراءة تتداخل فيه جملة من العوامل التاريخية منها والاجتماعية حتى يكون نصًا مطروحًا للتأويل والقراءة، لأن التعامل مع النص وخاصة الدّيني منه باعتبار تعاليه وقدسيته فقط سينير منه الجانب التقديسي المتعالي، وهو ما يسحب منه إمكاناته الأخرى الكامنة فيه والتي يجب تجليها للقارئ، ومنها بالخصوص الجانب الإنساني. ذلك أن اللغة التي نزل بها القرآن لغة الإنسان، أما التعالي في حقيقة الأمر فهو عبارة عن مفارقة لكل الأنماط الإنسانية.
إن القراءة التي تقف عند الجانب التقديسي يعتبرها أصحاب القراءة المعاصرة للنص الديني في مختلف جوانبها قراءة قاصرة وعاجزة عن استخراج إمكانات النص وما تضمنّه من مقاصد تشريعيّة. من هنا كان التزام أصحاب القراءة المعاصرة محل الاستشهاد بهذه القراءة التي عملت على النبش في النص القرآني وقراءته قراءة تأويلية قد تتصادم أحيانًا مع الآيات الحكمية ذات العلاقة بالمرأة.
إن القراءة التي توخاها كل من نصر حامد أبو زيد ومحمد شحرور وغيرهما أوقعتهم في عدم التمييز المقصود بين النصوص الدينية الواضحة الدلالة في منطوقها ومفهومها وبين الانتاجات البشرية المستلهمة منه، نتيجة إخضاعهم قراءتها إلى نفس المناهج الفلسفية والنقدية المعاصرة، بما يمكّن من“الإجابة عن مشاكل الحاضر بطريقة معقولة تراعي التقدّم والتغيّر” (أركون، ٢٧٣)، فكأنّ الجماعة يسعون إلى أن تخضع النصوص الدينية ومنها القرآن بالخصوص إلى هذه المناهج حتى يكون هذا الفكر قادرًا على تشكيل أساس صحيح لأية نهضة ممكنة من خلال الولوج إلى الممنوعات والمحرمات التي يعتبرونها حجرة عثرة أمام العقل الذي يريد كشف الغطاء عن المسكوت عنه في النص القرآني.
لكن لا بد أن نلاحظ أن القراءة العلمية لأي نص سواء أكان دينيًا أم بشريًا ليس مستهجنًا. لكنَّ الاستهجان هو أن نحوّل النص القرآني نفسه إلى نص بشري والي منتج لغوي ثقافي. وهو ما يبدو واضحًا من خلال عمل كل من شحرور وأبي زيد، فيؤكد الأخير على إن البحث في مفهوم النص“ليس في حقيقته إلا بحثًا عن ماهية القرآن وطبيعته بوصفه نصًا لغويًا، فالقرآن كتاب الفن العربي الأقدس سواء نظر إليه الناظر على أنه كذلك في الدين أم لا. وهذا الدّرس الأدبي للقرآن في ذلك المستوى الفني، دون نظر إلى اعتبار ديني، هو ما نعتدّه” (مفهوم النص، ۱۰–۱۱).
في حين أن الدراسة الأدبية وحدها لا تفي بالالمام بجوانب النص القرآني المعلنة والخفية للفروق الواضحة بين النصوص الأدبية البشرية والنص القرآني المتصف بالكمال، لهذا فإن التعامل معه باعتباره نصًا أدبيًا“سيظل هذا التعامل قاصرًا ويحتاج إلى بنية الاعتقاد الإنساني من الناحية التاريخية، أو ذلك الجانب الأسطوري التخيلي الذي يصبغ كل العقائد الدينيّة بصيغة اليقين المطلق” (عبد الهادي، ٢٣). إذن فالاختلاف بين قراءة المدرسة التفسيرية القديمة والقراءة المعاصرة في مسألة الآيات الحكمية ومنها مسألة القوامة بالذات إنما يعود في نظرنا إلى اختلاف المناهج المستخدمة عند كل من المدرستين، مما جعل الآراء حول المسائل المتعلقة بالمرأة مختلفة إن لم نقل متباعدة“ولعل هذه الاختلافات تجد جذورها في المخيال الجماعي المحكوم بسلطة التقاليد والعرف والعادة أكثر مما تجدها في فعل قراءة نصوص المرأة وحدها. ذلك أن فعل القراءة لا ينفك عن ذاتية صاحبه. وكثيرًا ما امتزجت هذه الذاتية بموروثات اجتماعية نشأت عليها، وتعدّت بها. فكان إن ثبت لها وجود مصاحب للحظة القراءة” (العلمي، ٥٢٢).
وقد انعكس هذا الاختلاف على الفكر العربي من ناحية وعلى المجتمعات العربية الإسلامية من ناحية أخرى. وليس أدل على ذلك ما نشهده اليوم من تباين بين هذه الدول على مستوى الأوضاع التشريعية والثقافية للمرأة. لذلك لا بد من النظر في تجاوز هذه المشكلة التي اختلفت فيها الآراء وحارت فيها الأفهام.
النتائج التي توصلنا إليها:
تغاير نمط الإهتمام بمسائل المرأة في القرآن الكريم بين المدونة التفسيرية القديمة منها والحديثة من ناحية، وبين القراءات المعاصرة من ناحية أخرى، مما نتج عنه عدم التماثل في المنهجية المتوخاة من الأطراف الباحثة في الآيات الحكمية. وهذا راجع بالأساس إلى اختلاف الغاية من الطروحات محلّ الدرس.
التباين الكامل بين المدّونتين نتيجة المرجعية المعتمدة والمختلفة الواحدة عن الأخرى، فإذا كانت المدونة التفسيرية قد حافظ أصاحبها على السلطة الذكورية، فإن أصحاب القراءات المعاصرة قد عملوا قدر الإمكان على التشبث بمقومات الحداثة، والمنظومة العالمية لحقوق الإنسان.
ما لاحظناه من تجاوز للقراءات الحرفية للنص عند أصحاب القراءات المعاصرة التي لم تعد تتماشى ومتطلبات الواقع المعيش وهو ما أوقعهم في منزلقات خطيرة كالقول بتاريخية النص القرآني، وإلغاء العمل بالآيات الحكمية والتحرر كذلك من الأحكام القطعية الدّلالة نفسها.
انخراط أصحاب القراءات المعاصرة في فكر غير فكر المفسرين في نظرتهم للمرأة، فهم نظروا إليها كفرد كامل ذو مسؤولية مثلها مثل الرجل، والنظر إلى المجتمع لا بمفهوم الأسلمة بل بمفهوم الحداثة والتمدّن، ومن هنا اكتسبت المرأة عندهم قيمة مركزية.
المراجع
الإسلامبولي، سامر. المرأة: مفاهيم ينبغي أن تصحح. دمشق: الأوائل للنشر والتوزيع، ١٩٩٩. ابن عاشور، طاهر. التحرير والتنوير. جزء 5. تونس: الدار التونسية للنشر، ١٩٨٤.
ابن العربي، أبو بكر. أحكام القرآن. الجزء الأول. بيروت: دار الكتب العلمية، ۲۰۰۳.
ابن کثیر. تفسير القرآن العظيم. الجزء الأول. بيروت: دار ابن حزم، ۲۰۰۳.
ابن منظور، لسان العرب. جزء ۱۲، بیروت: دار صادر، ۱۹۹۰.
أركون، محمد. الفكر الإسلامي: قراءة علمية. بيروت والمغرب: المركز الثقافي العربي، 1996.
أبو زيد، نصر حامد. دوائر الخوف، قراءة في خطاب المرأة. بيروت والمغرب: المركز الثقافي العربي، ١٩٩٩.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مفهوم النص. بيروت والمغرب: المركز الثقافي العربي، ١٩٩٨.
بلعيد، الصادق. القرآن والتشريع. تونس: مركز النشر الجامعي تونس، ۲۰۰۰.
السليتي نائلة. تاريخية التفسير القرآني. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ۲۰۰۲.
شحرور، محمد. نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي. بيروت: الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، ۲۰۰۰.
الشوكاني، محمد. فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير. الجزء الأول. بيروت: دار الفكر، د. ت.
عبد الهادي، عبد الرحمن. سلطة النص. المغرب: سينا للنشر مؤسسة الانتشار العربي، د. ت.
عبدة، محمد. تفسير المنار. جزء 5. بيروت: دار المعرفة، د. ت.
العلمي، منية. آيات الأحكام المتعلقة بالمرأة. أطروحة دكتوراه. جامعة الزيتونة في تونس، ۲۰۱۰.
القرطبي. الجامع لأحكام القرآن. جزء 5. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٨٧.
المراغي، مصطفى. تفسير المراغي. الجزء الأول. بيروت: دار أحياء التراث العربي، د. ت.
ببليوجرافيا اتجاهات عامة وأساسية“لنسوية إسلامية” عربية المنشأ
حُسن عبود
مقدمة
قد يرى البعض ازدواجية في المعايير في مصطلحٍ يجمع بين النسوية والإسلام (عبود،“الخطابات المتباينة“، 357)، لكن هذه النسوية تشير اليوم إلى رافد من روافد البحث في قضايا المرأة في الثقافة العربية – الإسلامية. والمصطلح لم يُستعمل في أدبيات التفكير الديني التجديدي – بالإطار المعرفي والإيديولوجي– بين الأكاديميات العربيات والناشطات لحقوق المرأة في الإسلام قبل تسعينيات القرن الماضي المنصرم، بل هناك الكثيرات من الحداثيات والإسلاميات اللواتي يرفضن المصطلح من أساسه، إما لأنه“مستنسخ” كما تقول آمال قرامي، أم كراهية للنسوية التي يظنها البعض بضاعة أجنبية كما ترى هبة رؤوف.
لغويًا“النسوية” – نسبة إلى“نسوة“- تعني“تجمع نساء لأمر ما“. وقد استخدمت“نسوة” بهذا المعنى في القرآن الكريم:”وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه” (يوسف، 30). وقد أقر مجمع اللغة العربية النسبة إلى الجمع، لذلك يمكن استخدام“النِسوية” (بكسر النون) نسبة إلى“نِسوة“. وكان المصطلح الشائع في بداية القرن العشرين – كما ظهر في مقالات الرائدة ملك حفني ناصف (باحثة البادية)- هو“النسائيات“. كانت“النسائيات” تعالج قضايا اجتماعية تتعلق بالحجاب والسفور، وتربية وتعليم البنات، والزواج وتعدد الزوجات، والعلاقة بين الرجل والمرأة، والمقارنة بين المرأة المصرية والمرأة الغربية. آنذاك، كان هذا الوعي بـ“النسائيات” يمزج قضايا المرأة المصرية بالإصلاح الديني وبمصير الأمة والاستقلال الوطني.
أما“النسوية” المتداولة اليوم والمتطورة عن سابقتها“النسائيات” فهي“عقيدة” تدعو إلى المساواة في الحقوق السياسية والاجتماعية بين الرجال والنساء، وهي“حركة” منظمة لإحراز هذه الحقوق. وهناك التأكيد على مطالب النساء لكونهن نصف المجتمع (لا طبقة أو فئة منه) والإيمان بضرورة التغيير الاجتماعي الذي أصبح من صميم إشكالية التغييرات الديمقراطية التي تتطلع إليها الشعوب العربية.
تسعى اليوم فئة من النسويات العربيات إلى تنشيط خطاب إصلاحي وحقوقي وتأويلي للنصوص الدينية ينطوي تحت تصنيف“النسوية الإسلامية.” وهذه النسوية الجديدة حمّالة أوجه كما يقول فهمي جدعان في دراسته لـ” النسوية الإسلامية الرافضة” في المدينة الكونية. ويرى محورها ممتدًا على ثلاثة أشكال: إلى يمين هذا المحور تقع نسوية أسماها“النسوية الإصلاحية“، وإلى يسار هذا المحور تقع نسوية أسماها“النسوية الرافضة“، وعند وسط المحور اختار تسمية“النسوية التأويلية“. أما المنظور“السلفي” الاتباعي فهو يقع خارج الأشكال التي تحمل مفهوم النسوية (35). ويعرّف جدعان“النسوية الإسلامية” من جهة ما هي منهج في إعادة قراءة التاريخ الإسلامي والنصوص الدينية وتأويلها، وتأسيس حقوق النساء والمساواة، فضلاً عن تحديد معالم“رؤية تحررية نسوية للقرآن لا تُخرج أصحابها أو صاحباتها من حدود الدين والإيمان” (٤٢).
كانت قد أثارت أميمة أبو بكر موضوع“البحث النسوي الإسلامي” (أو إسلاميات في حقل المعرفة النسوية) في العقد الأول من هذا القرن. وجمعت بين خطاب المسلمات الباحثات المحلي العربي والعالمي. (“النسوية، قضايا الجندر والرؤية الإسلامية“، ٦٢). ومع بداية العقد الثاني من القرن الحالي، عادت أبو بكر إلى هذا المفهوم، كما نقرأ في المقدمة للكتاب المحرّر في موضوع النسوية والدراسات الدينية، حصرًا الكتابية منها (المسيحية والإسلام). في هذه المقدمة، ترى أبو بكر أن مفهوم“النسوية الإسلامية” هو نوع من أنواع المقاومة الفكرية (وأضيف الحركية): مقاومة التفسير الأبوي والاستشراقي للإسلام الذي يعضد بعضه بعضًا، ومقاومة الاحتكار الذكوري للمعرفة الدينية. ومقاومة تهميش صوت النساء المسلمات وإقصائهن عن الحق في الاجتهاد والإفتاء والقيادة، ومقاومة احتكار المؤسسات الغربية للتنظير والبحث في مجال المرأة والإسلام، ومعارضة التطرف النسوي العلماني الذي يقصي المرجعية الدينية تمامًا من رحلة البحث عن العدالة والمساواة، وثم التضامن مع الحركات النسوية الدينية الأخرى ومساندتها، وأخيرًا مقاومة كل أشكال السلطوية والظلم وإهدار العدالة والكرامة الإنسانية.
بدأت المرأة العربية فعلاً تخترق جدار المعرفة الدينية، وتثبت جدارتها في العلوم الدينية، وتميّز بين النظم المعرفية العلمية والمفاهيم الدينية الإيمانية. وبدأت تطالب بحقوقها في“الدين“، لا بمنّة من الرجل، كما تقول د. عائشة عبد الرحمن، بل لأنه من صميم المفهوم الإسلامي لحرية المرأة بمقتضى أهليتها شرعًا للتكليف والمسئولية (“المفهوم الإسلامي“، ۹). والمطالبة بالحقوق في ديننا واجب كما هو مسؤولية، وبخاصة أن“الدين” في مجتمعاتنا العربية الإسلامية،“لا يزال يمثل مرجعية شرعية وقانونية إلى جانب مرجعيته الأخلاقية والروحية” (المرأة في خطاب الأزمة، 43).
نجد في هذه الببليوجرافيا اتجاهات عامة وأساسية لأدبيات معرفية في الإسلام قام بها وبأكثرها أكاديميات حداثيات وإسلاميات، لم يرفعن شعار“النسوية الإسلامية“، أو أدّعين أنهن يمثلن تيارًا يسمى“النسوية الإسلامية“، إلا أن إنتاجهن العلمي الموضوعي في المرأة والمنطلق الإسلامي انصب – في النهاية – في هذه النسوية التي لا تدخل في التقليد أو الإصلاحية، وهي لیست براديكالية، وهي بالطبع تأويلية علمية استفادت من تطور العلوم الدينية وتعليم المرأة الجامعي العالي. هناك مراجعات نقدية لست عشرة كتابًا ومقالة جاءت من المغرب وتونس ومصر ولبنان؛ ولستة مراجع مؤسسة لهذه المعرفة مترجمة عن الإنجليزية، قد أسهمت بها أكاديميات مسلمات تعيش في الاغتراب الأميركي، استطاعت بها أن تقدم خرقًا معرفيًا جديرًا بالاهتمام؛ ولخمس دوريات عربية خصصت عددًا لموضوع المرأة والقرآن أو المرأة وصياغة المعرفة بين الذكورة والأنوثة، إلخ….
وفي ظروف التحولات الطبيعية والتراكمية للثورات العربية، ومع اعتلاء الإسلام السياسي زمام الحكم في أكثر من بلد عربي، بات الأمر ملحًا علينا بوصفنا نساء– للحفاظ على مكتسباتنا– أن نسهم بنشر هذا الوعي النسوي ومنظوره الإسلامي العلمي الجديد.
أولا: المراجع العربية
– بناني، فريدة وزينب معادي. مختارات من النصوص المقدسة المرسخة للحقوق الإنسانية للمرأة في الإسلام. وثيقة عمل أولية لورش كتابة من تنشيط فاطمة المرنيسي. الرباط: مؤسسة فريدريش إيبرت، 1995.
هذا الكتاب العملي بتصوره، والإيجابي بمنطلقه، يؤكد على المصادر الأصلية الإسلامية (القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة) المرسخة للحقوق الإنسانية للمرأة في الإسلام. هذه المختارات من النصوص الصريحة توفر توعية للعلاقة بين مكانة النساء في المجتمع، مدى تمتعهن بالحقوق الأساسية التي تتضمنها المواثيق الدولية، وبين الشريعة الإسلامية.
هذه العودة إلى المصادر الأصلية التي تضع أسس التصور الإسلامي لمكانة المرأة في المجتمع الإسلامي ولحقوقها، قد تم تغييب بعضها، وتحويل مسار البعض الآخر عن البدايات. من هنا تقع أهمية هذه المختارات من النصوص، التي نشرت باللغتين العربية والفرنسية، للتأكيد على الأحكام المعروفة والحاضرة في ثقافتنا المساواتية (وغير المساواتية) والمتجزأة (والشاملة) لحقوق الرجل والمرأة.
يتوجّه الكتاب – كما تذكر المؤلفتان في المقدمة“لكل من يطرح ويناقش سواء في إطار النفي أو الإثبات الحقوق الإنسانية للمرأة“. لكن الكتاب موجه – على الأخص– إلى كل مهتم بحقوق الإنسان في إطار التأكيد على مبدأ شمولية هذه الحقوق للنساء والرجال معًا. يخدم هذا الكتاب – بمحاوره المنظمة، وبنصوصه المختارة، بوصفه كتيبًا وجيزًا وعمليًا– الباحثة في الحقوق الإنسانية للمرأة المسلمة في مصادرها الأصلية.
عزت، هبة رؤوف. المرأة والعمل السياسي: رؤية إسلامية. فرجينيا (الولايات المتحدة): المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ١٩٩٥.
هذا الكتاب هو رسالة هبة رؤوف التي تقدمت بها إلى جامعة القاهرة للحصول على درحة الماجستير. صدّر له طه جابر العلواني، رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي في فيرجينيا (الولايات المتحدة الأميركية) الذي رأى أن منهج الباحثة“قائم على قراءة معرفية إسلامية في المصادر الإسلامية والغربية معًا، ومستند إلى المنظور الحضاري الإسلامي” الذي تسعى“أسلمة المعرفة لإبرازهما وإشاعة الوعي بهما بين الباحثين” (۱۱).
قدّم للكتاب مستشار الباحثة، طارق البشري، الذي عرف الرسالة بأنها” نوع من الخطاب الإسلامي الذاتي أو الحوار الداخلي، وهي معدة ومكتوبة ليقرأها وليتفاعل معها في الأساس من يعتبرون الإسلام وطنهم الفكري” (١٦). وقد تفاعل البشري فعلاً في المقدمة مع الرسالة وناقش الباحثة في مسألة“تنصيف شهادة المرأة” في المعاملات والحدود، فعلق على“معنی القراءة المعرفية وكيفية ممارستها، سواء في دائرة ما ورد في المسألة من نصوص، أو فيما بني عليها من فهم تراثي أو معاصر“.
أما في مسألة“النسوية” فتتصدى لها هبة رؤوف في هذه الرسالة كأنها بضاعة أجنبية وحركة متطرفة متميزة عن سابقتها“حركة تحرير المرأة“. فهذه النسوية في رأيها“تدرك المرأة خارج السياق الاجتماعي، كأنها كائن قائم بذاته متمركز حول ذاته منفصل عن الرجل وفي حالة صراع كوني مع الرجل، لذا فهي تسعى لتغيير اللغة الإنسانية ومسار التاريخ والطبيعة البشرية” (50). ورؤوف– بالطبع – تخاطب“النسوية الغربية” (بنسختها الأميركية المتطرفة)، وترى أنها قد أعلنت عن نفسها بوصفها رؤية للعالم. وهذا قابل للنقاش بسبب المنطلقات المتعددة للنسوية الغربية، فبعض منطلقات النسوية الفرنسية مثلاً إستراتيجية لا رؤيوية.
بعد أن قدمت رؤوف أبعاد النموذج المعرفي النظري للنسوية الغربية الجديرة بالنظر فيها (٥١–٥٢)، عادت فأبرزت تناقضاتها على المستوى المعرفي والمقولات والحركة، وبخاصة-“بسبب نظريتها المادية“- وتناقضاتها مع نموذج التوحيد وأهله؛“مما يسقط الفكر النسوي في التمركز حول ذاته وينفي زعم عالميته“، لكن رؤوف هنا تلغي كل النسويات اليهوديات والمسيحيات اللواتي يشاركنها هذا المنطلق، ومنهن أستاذات في اللاهوت كبار (53).
المهم أن الحلقة السياسية للنموذج المعرفي الإسلامي تقدمه رؤوف لتسد – من وجهة نظرها – الثغرة عن الباحثين الذين وقعوا في رؤية الذات من خلال الآخر، وجعلوا“عربية” الحركة والتنظير ضربًا من المستحيل في ظل“غربية” المنطلق والمفاهيم، التي رأت أنها تتأسس على الصراع والنسبية والوضعية، مما يجعل تأكيد المفاهيم الكلية والمنطلقات المعرفية أمرًا بالغ الأهمية عند دراسة المرأة في الرؤية الإسلامية (55).
توجهت رؤوف إلى قضية المرأة في حلقة“الحقوق السياسية” في دائرة الأمة (المجالات كالبيعة والولايات العامة والشورى والجهاد)، وفي دائرة الأسرة ودورها في التنشئة السياسية. وذهبت في خاتمة دراستها حول المرأة والعمل السياسي إلى“اعتبار العمل السياسي للمرأة واجبًا شرعيًا يدخل إما في فروض العين أو فروض الكفاية فلا تنفك عنه المرأة بحال، فشأنها في ذلك شأن الرجل لاشتراكهما في التوحيد والعبودية والاستخلاف وخضوعهما للسنن” (٢٤٧).
يكتسب الكتاب ثقة بالنفس، لأنه يمثل خطابًا إسلاميًا ذاتيًا، يهدف إلى تنشيط المعرفة الإسلامية الكلية، مرتكزًا إلى الأصول الشرعية الإسلامية الثابتة، دون انقطاع عن الفكر الغربي، وعلى وجه التحديد الأميركي الذي يشكل القوة الفكرية الضاغطة على العالم الإسلامي وفكره. وهذا مما يمثل بروز الحالة الإسلامية الإحيائية في مصر والعالم الإسلامي.
– نصيف، فاطمة عمر. حقوق المرأة وواجباتها في ضوء الكتاب والسنة. جدة: مكتبة دار جدة، ۱۹۹۷.
Naseef, Fatima Umar. Women in Islam: A Discourse in Rights and Obligations. Trans.Saleha Mahmood Abedin. Cairo: International Islamic Committee for Woman and Child, 1999.
هذا الكتاب القادم من الجزيرة العربية، وبسبب تناوله لموضوع حقوق المرأة وواجباتها في القرآن والسنة، بعلم ودراية، لا يحتاج إلى أخذ موقف الدفاع عن الإسلام أو تخصيص فصول عن المرأة قبل الإسلام في الحضارات الشرقية القديمة أو في الديانات السماوية ليرينا حسنة الإسلام. فهذه الفصول خارجة عن الموضوع.
تنبع أهمية الكتاب من أن المؤلفة تعرف الخطاب القرآني جيدًا، وتناقش– ككثيرات مثلها شرقًا وغربًا– الآيات التي تحمل أكثر من قراءة، كآية“خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها“، فلا تأخذ بالرواية التوراتية بل تأخذ بالرواية التي تنسجم مع الآيات القرآنية التي تساوي في الخلق بين الزوجين، الذكر والأنثى، في الإنسانية والكرامة والأهلية. إلا أنها، من وجه آخر، تؤمن بالفروقات البيولوجية التي تحدد الأدوار – من وجهة نظرها– بين الرجل والمرأة لا الفروقات الثقافية والاجتماعية، أي ما نسميه اليوم المقاربة“الجندرية” للاختلاف بين الجنسين. تقول:”الحكمة في الاختلاف البيّن في التركيب التشريحي والوظيفي (الفسيولوجي) بين المرأة والرجل، هو أن هيكل الرجل قد بني ليخرج إلى العمل ليكدح ويكافح وتبقى المرأة في المنزل تؤدي وظيفتها الأولى العظيمة التي أناطها الله بها، وهي الحمل والولادة وتربية الأطفال وتهيئة عش الزوجية” (۷۳).
بالنسبة إلى حق المرأة في التعليم، وبعد أن تؤكد أن طلب العلم هو فرض لازم على كل مسلم ومسلمة، تقول:”لأن المرأة تشكل نصف المجتمع فعليها إذن نصف العباء الواجب للعمران ولا ريب المسؤولية الشخصية والمسؤولية الاجتماعية تقتضيان العلم للنهوض بواجب هاتين المسؤوليتين“. وبالفعل نرى في المملكة العربية السعودية الطبيبة ومديرة البنك (فرع النساء) والأستاذة الجامعية (جامعة البنات) وسيدات الأعمال في العمل الحر، وحتى في الشركات المالية، إلخ.. لكن المؤلفة تعود فتأخذ موقفًا غريبًا ضد تعليم المرأة المسلمة الفنون من رقص وموسيقى ونحت وتمثيل.
وتقع بموقف يتعارض مع هذه الدعوة الكاملة إلى التعليم التي دعا إليها الإسلام، في فصل الحجاب. حيث نرى موقفًا رافضًا للسفور والاختلاط بين الجنسين، الذي يقتضيه التعليم والعمل في الحياة المعاصرة. وهذه القضية أثيرت، قبل مئة عام، في مصر وحسم أمرها في معظم البلاد العربية الإسلامية، لأنها ارتبطت بتردي وضع المرأة وبتأخر الإسلام والاستعمار من الخارج. لكن المؤلفة تؤمن أن صيانة المرأة المسلمة وحمايتها تأتي من فرض الله عز وجل الحجاب، وأنه“ثبت بما لا يدع مجالاً للشك مساوئ التبرج والاختلاط والمضار المترتبة على ذلك والعواقب الوخيمة التي تجنيها المرأة من تركها لهذا الأمر الإلهي“.(١٢٦)
الكتاب مهم لثلاثة أسباب: سبب يتعلق بالقراءة العلمية والمنفتحة التي تقدمها المؤلفة للآيات التي تتدارسها النساء المسلمات، والمقررة لحقوق المرأة الدينية والسياسية والمالية. والسبب الثاني يتعلق بالمؤلفة التي أعتبرها نموذجًا للمرأة المسلمة الواعية بحقوقها وواجباتها، لكنها الخائفة من الحداثة ومن موضوع (المرأة) تراه خطيرًا وتقف أمامه بموقف الدفاع عن النفس. والسبب الأخير أن الكتاب يأتي من المملكة العربية السعودية حيث لا تزال تحتاج فيها المرأة إلى بيان الرؤية والإصرار على الموقف.
أبو زيد، نصر حامد. دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة. بيروت: المركز الثقافي العربي، ۱۹۹۹.
يُعد هذا الكتاب من أهم ما أصدره المفكرون العرب، في أواخر منتصف القرن الماضي، في نقد الخطاب الديني الذكوري المنتج حول المرأة في العالم العربي. الأفكار ثاقبة ونيّرة لا تهادن وإن كانت مقاربات الفصول لا تتبع منظومة بحثية واحدة. يرى أبو زيد الخطاب الديني، إضافة إلى الخطاب العربي السائد والمسيطر شعبيًا وإعلاميًا، منتجًا لخطاب طائفي وعنصري ضد المرأة، ولا يرى فاعلية المرأة إلا هامشية لا تكتسب دلالتها إلا من خلال فاعلية الرجل.
يقدم أبو زيد في فصل“البُعد المفقود في الخطاب الديني المصري” قراءة الخطاب الديني لقضية المرأة، ثم يصل إلى بعض النتائج التي نرى أنها قابلة للنقاش:
أولاً: إن الخطاب الديني يزيف قضية المرأة حين يصرّ على مناقشتها من خلال مرجعية النصوص متجاهلاً أنها قضية اجتماعية في الأساس. ولأنه خطاب مأزوم فهو يسهم في تعقيد الإشكالية، على حين يزعم أنه يسهم في حلها، ونعني بالإشكالية أزمة الواقع العربي والإسلامي المعاصر.
ثانياً: ولأن الخطاب مأزوم فهو يعتمد على النصوص الشاذة والاستثنائية، ويلجأ إلى أضعف الحلقات الاجتماعية سعيًا إلى نفي الإنسان. وهو من هذه الوجهة يتعامل مع المرأة تعامله مع الأقليات الدينية الأخرى، المسيحية خصوصًا. فهو إذ يسعى إلى حبس المرأة داخل أسوار البيت، وداخل زي الحجاب، يهدف إلى إخفائها وتغطيتها، بالقدر نفسه الذي يسعى فيه إلى إلغاء وجود الأقليات المسيحية بحبسها في سجن مفهوم“أهل الذمة“.
ثالثًا: إن هذا الخطاب – رغم سلفيته – يستند إلى جانب مرجعية النصوص الدينية إلى مرجعية أخرى من خارجه، هي مرجعية أوروبا المزدوجة: أوروبا العلم والنهضة والإنجاز من جهة، وأوروبا العري والشذوذ والتفكك من ناحية أخرى، ولأنه لا يستطيع مناهضة الجانب الأول فإنه يلجأ إلى إسقاط الجانب الثاني على خطاب النهضة العربي من أجل إدانته وتشويهه، ويتصور أنه بذلك يشوّه الإنجاز الأوروبي بطريقة غير مباشرة، إنها آلية الانتقام غير الواعي للإنجاز الذي يكشف له عجزه وتهافته وضعف منطقه.
بالحاج صالح – العايب، سلوى.”دثّريني… يا خديجة“: دراسة تحليلية لشخصية خديجة بنت خویلد. بيروت: دار الطليعة، ۱۹۹۹.
هذا الكتاب الصغير الحجم ليس مهمًا فقط، كما يقول مقدم الكتاب المفكر هشام جعيط، للمشاكل التي يثيرها“من حال مكة قبيل الإسلام إلى التجارة ووضعية المرأة الشريفة والوضع الديني،” بل مهم برأي (كاتبة المقال) لاستحضار السيدة خديجة – زوجة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)- بوصفها نموذجًا للمرأة ذات النفود المالي والاجتماعي والروحي.
وقد تواري دور السيدة خديجة بشكل ملحوظ في التراث الإسلامي، ولكن لم تغب رمزية المرأة صاحبة النفوذ المالي، وبخاصة في بيئة كبيئة المملكة العربية السعودية، حيث تتمتع النساء باستقلال مالي مع الفصل الحاد بين العام والخاص وبين عالمي الرجال والنساء. لذلك، ليس من المستغرب أن تتبنى صاحبات الأعمال السعوديات اسم السيدة خديجة لمركز خديجة بنت خويلد لسيدات الأعمال في وزارة العمل في جدة. أي استطاعت السيدة خديجة العودة لتؤكد دور المرأة في القطاع المالي قبل غيره من القطاعات.
من السهل معرفة الدفع المعنوي والمادي، الذي أمدت به السيدة خديحة زوجها محمد في بداية الدعوة إلى الإسلام، منذ بدء الآيات القرآنية المكية الكريمة. لكن من الصعب جدًا رسم ملامح شخصيتها من المراجع الإسلامية اللاحقة، التي اجتهدت في العمل عليها المؤلفة مشكورة. وهذا التواطؤ ضد الشخصيات النسائية القريبة من النبي، اللواتي شاركن في نصرة الإسلام في المرحلة المكية المبكرة، معروف وغير معترف به ومسيء لنا بوصفنا نساء مسلمات شاركن في الدعوة إلى التغيير. لذلك نفتقد حضور السيدة خديجة بنت خويلد، بكل معنى الكلمة، وهذا ليس حصرًا في التاريخ الإسلامي، فدور النساء الفعال في بدايات التحولات الثورية الكبرى (كالمسيحية والإسلام) كثيرًا ما تغيب.
احتوى الكتاب ثلاثة فصول: الفصل الأول في التعريف بالسيدة خديجة بنت خويلد“خديجة من تكون؟“، والفصل الثاني في العلاقة بين“خديجة ومحمد،” والفصل الأخير“ظلال خديجة على حياة محمد بعد موتها“.
أبو بكر، أميمة وهدى السعدي. النساء ومهنة الطب في المجتمعات الإسلامية (ق7م– ق۱۷م). القاهرة: ملتقى المرأة والذاكرة، ١٩٩٩.
أبو بكر، أميمة وهدى السعدي. المرأة والحياة الدينية في العصور الوسطى بين الإسلام والغرب. القاهرة: مؤسسة المرأة والذاكرة، ۲۰۰۱.
أبو بكر، أميمة وهدى السعدي. النشاط الاقتصادي الحضري للنساء في مصر الإسلامية. القاهرة: مؤسسة المرأة والذاكرة، ۲۰۰۷.
هذه الأوراق البحثية الثلاث لأميمة أبو بكر وهدى السعدي ترصد مشاركة المرأة المسلمة وفاعليتها في النشاط الاقتصادي والحياة الدينية والامتهان الطبي في حاضرة المدن العربية – الإسلامية الكلاسيكية. فهي محاولة لتوضيح أن الصورة المتكاملة للنساء في المجتمعات الإسلامية الماضية أعقد بكثير مما نظن. فالنسق القيمي الخاص بالإسلام وعرفه لم يمنع من اشتغال النساء بالتدريس كمحدّثات، أو بالعلوم الدينية كعالمات ومفتيات وصوفيات، أو بالإدارة والعمل الاجتماعي (كشيخة للأربطة) أو بالعلاج كطبيبات أو بالمشاركة الفاعلة في السوق كتاجرات ومستثمرات للأموال.
إضافًة إلى أن توثيق تاريخ المرأة الثقافي والحضاري يقوي من عزيمتها على الانخراط والتفاعل في الحاضر الإسلامي المهني اليوم. هذه الدراسات تغطي مساحة جغرافية واسعة لمجتمعات ذات ثقافات متعددة من خريطة العالم الإسلامي، وتقفز فوق الحقبات الزمنية مما يبسط الطروحات العلمية. إلا أنها غنية بثبت مصادرها التراثية العلمية، المحررة تحريرًا عصريًا، والمتشابكة بأنواع أدبياتها الكلاسيكية.
– الميلاد، زكي. تجديد التفكير الديني في مسألة المرأة. بيروت: المركز الثقافي العربي، ۲۰۰۱
أهمية هذا العمل أنه قادم من المملكة العربية السعودية حيث لا يزال رجالها ونساؤها يعانون من الحدود القائمة ضد الاختلاط بين الرجال والنساء في القطاع العام، بينما أزال الحدود بينهما العالم الافتراضي الذي خلقته ثورة التواصل الإلكترونية بين الشعوب والمجتمعات.
وهذا الكتاب جيّد للأدبيات الإسلامية الصادرة حول المرأة بأقلام رجال الدين المجتهدين كأمثال الشيخين مهدي شمس الدين وحسين فضل الله والشيخ يوسف القرضاوي. وقد أحسن الكاتب حين ذكر المؤتمرات العالمية والإقليمية والنشاطات الجماعية التي أُقيمت حول موضوع المرأة في المجالات المتنوعة والعواصم العربية المختلفة. لكن في مؤتمر“مئة عام على تحرير المرأة” الذي عقده المجلس الأعلى للثقافة في مصر (۱۹۹۹) فوجئت بالفهم الذي توصل إليه الكاتب عن نتائج المؤتمر السلبية التي برأيه توصلت إليها المشاركات. ونسي الميلاد أن مجرّد عقد مؤتمر من هذا النوع له رمزيته، فقد أعطى زخمًا قويًا للنقاشات الدائرة، وأقام شبكة من العلاقات بين النساء الناشطات لا تزال حيّة إلى اليوم.
مهم جدًا الدخول بالنقاش مع زكي الميلاد، وبخاصة لتغييبه المشاركة النسائية المعرفية الفعّالة ليس عن سوء نية لكن لعدم معرفته بما يكتب بين الأكاديميات والباحثات العربيات، ويناقش في أروقة الجامعات منذ عقدين في موضوع“تجديد التفكير الديني في موضوع المرأة” (أنظر/أنظري ثبت المصادر والمراجع، ١٥٧–١٥٨).
– أبو بكر، أميمة وشيرين شكري. المرأة والجندر: إلغاء التمييز الثقافي والاجتماعي بين الجنسين. بيروت: دار الفكر المعاصر، ۲۰۰۰.
هذا الكتاب يدل على الحوار الحضاري الدائر بين النساء العربيات حول المستجدات في المفاهيم والنظريات الحديثة في دراسات المرأة و“الجندر“. فهو واحد من إصدارات سلسلة حوارات لقرن جديد يعتمد الحوار بين المتخصصات. فجاء الحوار في القسم الأول من الكتاب بين مقال لأميمة أبو بكر في موضوع“النسوية، قضايا الجندر والرؤية الإسلامية” ومقال لشيرين شكري في موضوع“المرأة والجندر في الوطن العربي“. أما القسم الثاني من الكتاب– التعقيبات على المقالتين– فقامت كلا الباحثتين بالتعقيب على ورقة زميلتها مما يتيح لنا فرصة المشاركة في الحوار الأكاديمي الدائر حول معيار“الجندر” للتحليل. هذا المعيار يساء فهمه ليس بين العامة فحسب بل بين المتخصصات في الميادين العلمية المختلفة. لذلك جاء تعريف الجندر لأميمة أبو بكر من الميدان الإسلامي، بينما جاء تعريف شكري من الميدان التنموي كما يعرّف في أروقة الأمم المتحدة بـ“النوع الاجتماعي“. وهنا، نورد تعريف أميمة أبو بكر لـ“الجندر” في الدين الإسلامي على النحو الآتي: أن منظور“الجندر“- أي الوعي بالهوية النسائية وإقرار الحقوق والوعي بأدوار الجنسين والتنميط الخاطئ لشخصية المرأة والرجل– كلها أفكار ليست غريبة تمامًا أو مناقضة في حد ذاتها للنهج الإسلامي في التفكير، ليس فيها ما يخرق المبادئ الإسلامية. فمن الممكن إذن دراسة الخلفية الثقافية والاجتماعية للتعصب ضد النساء ماضيًا وحاضرًا من وجهة نظر المرأة المسلمة العارفة بتاريخ دينها وثقافتها التحررية (٢٤).
صالح، أماني وزينب أبو المجد وهند مصطفى. المرأة العربية والمجتمع في قرن: تحليل وببليوجرافيا الخطاب العربي حول المرأة في القرن العشرين. إشراف وتقديم مني أبو الفضل. دمشق: دار الفكر، ۲۰۰۲.
هذا الثبت الببليوجرافي يعد جزءًا من مشروع فكري أكبر نذرت له جمعية دراسات المرأة والحضارة ضمن جماعة كرسي زهيرة عابدين للدراسات النسوية بجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية (الولايات المتحدة) منذ عام ١٩٩٨. وكانت أستاذ الكرسي ورئيسة جمعية دراسات المرأة والحضارة في القاهرة آنذاك الراحلة د. منى أبو الفضل المشرفة على الكتاب.
المهم في هذا الثبت الببليوجرافي هو استراتيجية البحث الذي جاء تحت محددات اجتماعية– جغرافية (مصر) وتاريخية (القرن العشرين) وتوضيحات إجرائية للمفاهيم والأطر والمصادر التي تم اعتمادها. ما يهمنا في الكتاب هو الجزءان السادس والسابع من الفترة المعاصرة (١٩٧٥–۲۰۰۰)؛ حيث قدّم الثبت قائمة بـ ٣٩٨ مرجعًا لببليوجرافيًا“الإسلام وقضايا المرأة: كتابات من داخل الاتجاه الإسلامي وخارجه“، وقائمة بــ ٢٢٤ لــ“البعد التشريعي لقضية المرأة (قانون الأحوال الشخصية وخلافه). وقد تندهش الباحثة من تنوع الخطاب والنتائج الذي كشف عنه الثبت الببليوجرافي، وقدّمت للكتاب أماني صالح مع تحليل وملحق برسوم بيانية.
يطرح الثبت الببليوجرافي رؤية كلية لموقع قضية المرأة في المجتمع من خلال خطاباتها. والمشروع الأكبر لجمعية دراسات المرأة والحضارة هو“إعادة قراءة واقع وتاريخ المرأة المسلمة، بعد إعادة اكتشافه، كي نعمل من خلاله على ترشيد وعي وتقويم حقل“.
الحكيم، سعاد. محاضرة“المرأة في رؤية إسلامية متنوّرة من القرن السابع الهجري: صاحب الرؤية محيي الدين بن عربي.” مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة. البحرين. ۲۷ نوفمبر، ٢٠٠٦.
تنبع أهمية هذا المحاضرة (غير المنشورة)، في سياق النسوية والتصوف الإسلامي الذي زاد الاهتمام به مؤخرًا في أكثر من جهة بسبب أبعاده الروحية والإنسانية. وصاحبة المقال هي أستاذة علم التصوف، حققت كثيرًا من أعمال الشيخ محيّ الدين بن عربي (ت 638 ه). تقدّم الحكيم رؤية ابن عربي للمرأة في الوجود وفي التاريخ عبر ستة مبادئ:”المرأة مبدأ كوني“،“المرأة الكاملة“،“قطبية المرأة” (أي خلافتها في الدولة الروحية)،“مَشيخة المرأة“،“المرأة.. الآخر“،“شهادة المرأة،“”إمامة المرأة في الصلاة،” والحديث الشريف“النساء ناقصات عقل ودين“.
تجد الحكيم أن جذور رؤية ابن عربي للمرأة في قرائته لقصة الخلق القرآنية، حيث ربط قصور المرأة عن درجة الرجل – على خلفية آية“وللرجال عليهن درجة“- بقصة خلق حواء من ضلع آدم. والغريب هنا (الكلام لصاحبة المقال) أن رواية الخلق قصصية توراتية، بينما آية“الدرجة” قرآنية تشريعية. وإن استند ابن عربي إلى تفسير“الدرجة” هذه، فقد حرص على التوازن بين مبدأي الوجود، بين الرجل والمرأة بإعطائه المرأة درجة إسمية معنوية (فقال في الرجل: المرء وقال في الأنثى المرأة، فزادها هاًء في الوقف تاء في الوصل على اسم المرء للرجل) تزيد بها على الرجل، بينما يزيد الرجل عليها في العرفانية الوجودية، يقول:”فالسبق الذي أحرزه الرجل على المرأة هو سبق معرفي ولا يمكن ردمه لأنه وجودي“.
في قطبية المرأة، أي الخلافة في الدولة الروحية،“يشتركان النساء والرجال في جميع مراتب الولاية حتى في القطبية“، برأي ابن عربي. وفي مشيخة المرأة قال ابن عربي عمليًا بمشيخة المرأة وإرشادها الروحي، وجواز أن يكون بين مريديها رجال. وهذا انفتاح على قدرة المرأة العارفة عالٍ جدًا، خبره ابن عربي بوصفه مريدًا خدم امرأة من العارفات بإشبيلية اسمها فاطمة بنت بن المثنى القرطبي.
تختم الأستاذة سعاد الحكيم المحاضرة بمقولة:
“لقد تعامل ابن عربي مع المرأة على أنها مساوية للرجل في الإنسانية، مفارقة له بالعرَض.. والأهم من ذلك لقد أرسى نهجًا يجمع بين العقل والقلب في استنباط الرؤى والأحكام، فإن كان العقل ينحو إلى تجريد الوقائع وتحويلها إلى مفاهيم يجمعها نَسَق، فإن القلب مفتوح على الصيرورة يتسع لفهم الوجود ومعرفة المرأة ويتعالى عن الحصر والتقييد، القلب ديمومة ومحبة” (د. ص.).
عبّود، حُسن.”السجن للنساء أيضًا: زينب الغزالي وأيام من حياتي“. باحثات ١١ (٢٠٠٥ –٢٠٠٦): ص ص ٢٦٨–٢٨٩.
هذه دراسة نقدية لشهادة الداعية الإسلامية زينب الغزالي (١٩١٧–٢٠٠٥) في سجنها، أيام من حياتي (۱۹۷۲). فقد صدرت هذه الشهادة الأدبية للغزالي حول تجربة السجن بعد خروجها منه (١٩٦٥–١٩٧١). تكشف الدراسة عن عدة أمور تتصل بفكر الغزالي الإيديولوجي (علاقتها بقيادة الإخوان المسلمين على أعلى مستوى) وموقفها النسوي (موقفها المزدوج المعايير من نشاط المرأة السياسي) وعلاقتها بــ“الآخر” (زوجها أو السجينة).
لكن تفردت تجربة الداعية زينب الغزالي في السجن عن تجربة السجينات السياسيات المصريات، لكونها سُجنت في سجن الرجال (السجن الحربي)، ثم نقلت إلى سجن النساء(سجن القناطر)، ولكونها عذبت في السجن الحربي تعذيب الرجال مع أن القوانين الدولية تحرم التعذيب وتحرم سجن النساء في سجن الرجال.
ثانياً، وظّفت الغزالي شهادتها هذه لأجل تسجيل ما مرّت به وعاشته الدعوة الإسلامية، أي لم يأتِ قرراها بكتابة“أيام من حياتي” عن تجربة السجن من منطلق مواجهة الذات أو إعادة قراءة نشاطها السياسي. ثالثًا، إن قضية الغزالي هي قضية إسلامية سياسية بالدرجة الأولى؛ فقد دعت بصراحة إلى“أن قيام الدولة الإسلامية واجب على المسلمين وعِدّتهم في ذلك الدعوة إلى الله تعالى كما دعا رسوله (صلعم) وصحبه الكرام. وهذه رسالة كل مسلم سواء كان من الإخوان أو غيرهم“. رابعًا، لم تعرف الغزالي بأن استقلالها السياسي ونشاطها الدعوي على مستوى قيادة الإخوان المسلمين كان مكسبًا من الحركة النسائية المصرية التي دمجت مطالب تحرر المرأة بمطالب تحرير مصر بالإصلاحية الإسلامية، فنظرت إلى قضايا المرأة والوطن والدين بطريقة مجزّأة. وأخيرًا، أطّرت الغزالي علاقتها مع الآخر، سواء كان ذلك زوجها، الذي دفع ثمن نشاطها السياسي غاليًا، أم السجينة التي شاركتها عنابر السجن ووحشته.
جوهري، عايدة. رمزية الحجاب: مفاهيم ودلالات. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ۲۰۰۷
هذا الكتاب هو قراءة جدية ونقدية لكتاب السفور والحجاب تأليف الآنسة نظيرة زين الدين (بيروت، ۱۹۲۸). فقد توارت نظيرة زين الدين عن أنظار المهتمين والمهتمات بقضية“السفور والحجاب“، كما أثيرت في سوريا ولبنان (عشرينيات القرن المنصرم) من قبل تياري السفوريين والحجابيين. وسبب هذا التواري (من وجهة نظر صاحبة المقال) هو كتاب السفور والحجاب نفسه الذي شكّل يوم صدوره سجالاً حادًا وردود فعل إيجابية وسلبية. وهذا السجال يعود إلى المقولات المطروحة الصعبة، واللغة الفقهية المتخصصة، والحجج المنطقية التي تصعب على غير الدارس والمتفقه فكيف بــ” آنسة” في عمر نظيرة زين الدين، أنهت دراستها الثانوية في دير راهبات الناصرة ١٩٢٦ (أي قبل سنتين من إصدار الكتاب) ولم تنه أيّ دراسات جامعية في العلوم الدينية والإسلامية، كما ارتكبت نظيرة خطأ فكريًا جسيمًا عندما اتجهت إلى سلطة الانتداب الفرنسي وقتها تطلب منها الحلول وتحرير المرأة المسلمة في زمن قامت النساء والرجال بالإضرابات العامة ضد ممارسات سلطات الاستعمار الفرنسي في دمشق وبيروت. فطلبت – بسذاجة – العدالة من سلطة المستعمر مستغيثة به ضد النقاب. ومع ذلك، ترى عايدة الجوهري نظيرة زين الدين رائدة في مجال المطالبة بحقوق المرأة في الإسلام، وتقوم بإعادة قراءة كتاب“السفور والحجاب” من منظور دور النساء في صنع التاريخ والمشاركة الإيجابية في الواقع الثقافي والاجتماعي، من أجل إحداث تغيير نحو حياة أكثر عدلاً“. إذ لم تعر الجوهري مسألة مصداقية الكتابة لدى زين الدين انتباهًا، بل انشغلت بدراسة رمزية الحجاب من عدة وجوه: وجه“حجاب المعرفة والحركة“، وجه“المرأة كائن إيروتيكي“، وجه“الاستبداد الديني والسياسي“، وأخيرًا وجه“الأصداء” من ردود الفعل الإيجابية والسلبية إلى تأويل“ظاهرة النكوص“.
قدمت الجوهري مشكورة الخلفية التاريخية للمرأة اللبنانية من الحقبة التركية إلى العقد الأول من الانتداب، وهي الحقبة التي تعبر عن مناخ هذه الفترة السياسي والثقافي والتنويري لصدور الكتاب. وخصصت سيرة ذاتية لنظيرة زين الدين، وراجعت محتويات كتابيها: السفور والحجاب (بيروت، ۱۹۲۸) والفتاة والشيوخ (بيروت، ۱۹۲۹). وقدمت تحليلاً نقديًا لمنهجية زين الدين التوفيقية التي أوقعتها في التناقض:”فعلى رغم تسليمها بضرورة الفصل بين العالمين: عالم الروحانيات، وعالم العلم، وهذا الأخير يقوم على المنطق والسببية والتجريب وإعادة النظر والتحول والنسبي، تستخدم هي نفسها ما ينتمي إليهما معًا، وكأنها تنفي على العقل الذي كرمه الدين، وظيفته المعيارية الجوهرية، السابقة على النص” (٢٥٨).
قرامي، آمال. الاختلاف في الثقافة العربية الإسلامية: دراسة جندرية. بيروت: دار المدار الإسلامي، ۲۰۰۷.
هذا العمل الضخم في حجمه هو الأطروحة الثانية التي نالت بها الأستاذة آمال قرامي دكتوراه الدولة تحت إشراف الدكتور عبد المجيد الشرفي، جامعة منّوبة.
ارتأت المؤلفة أن تعالج ظاهرة الاختلاف في الحضارة العربية – الإسلامية من زاوية الاختلاف بين الجنسين: الذكور والإناث، محاولة تفكيك بنيته للتوصل إلى فهم المنطق الذي خضعت له ظاهرة الاختلاف في أبرز تجلياتها. وهذه المقاربة“الجندرية” القائمة على الاختلاف تعقد صلة متينة بينها وبين الاختلاف الطبقي والعرقي واللوني والديني والجنساني. وقد حرصت الدارسة على الانشغال بهذه المباحث أكثر من غيرها في استقصاء مظاهر الاختلاف في المراحل العمرية للفرد: بدءًا بالطفولة ووصولاً إلى الشيخوخة محافظًة على التقسيم الذي ضبطه القدامى لدورات الحياة، مبررة ذلك بأن تشكيل ثقافة الفرد ينطلق منذ لحظة خروجه إلى الدنيا ويتواصل حتى الشيخوخة. وتلاحظ قرامي كيف أن المجتمع يعد السن والجنس مبدأين لتنظيم الحياة الاجتماعية وأداتين لتوزيع السلطة وتحديد مراتب الأفراد وأدوارهم ووظائفهم، ووسيلتين لضبط العلاقات بين مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية (٢٢).
عرّفت قرامي دراسة“الجندر” في واقع الرجال والنساء معًا وتحليل نمط العلاقات التبادلية بينهما. وأظهرت كيف أدرجت“دراسات الجندر” في الميادين العلمية المتنوعة، كعلم الاجتماع وعلم النفس التحليلي والأنثروبولوجيا والتاريخ واللغة والأدب والأديان وغيرها من الحقول المعرفية. وعزت الفضل إلى الباحثات العربيات المستقرات في أميركا وبريطانيا وغيرها من البلدان الغربية في الاهتمام بالثقافة العربية الإسلامية من منظور جندري، وإلى المجموعة البحثية النسوية المصرية“ملتقى المرأة والذاكرة” اللواتي اهتممن بتحليل التاريخ الثقافي العربي، والإسهام في تشكيل خطاب ثقافي بديل، وإلى اهتمام“تجمع الباحثات اللبنانيات” بالدراسات الجندرية.
لا تروم قرامي، كما تقول، تأسيس نظرية حول موقف الثقافة العربية الإسلامية من الاختلاف بين الجنسين بقدر ما تسعى إلى تقديم قراءة نشيطة لهذا الاختلاف من زاوية خاصة، وأن تنبّه إلى أن كتب التراث في حاجة إلى قراءة تفكيكية نظرًا إلى أنها تحدد المنظومة القيمية والاجتماعية والدينية للمجتمعات القديمة من جهة، وما زالت تمثل مرجعية المفكرين المحافظين اليوم الذين ينافحون عن نظام اجتماعي إسلامي بطريركي، من جهة ثانية (٢٢).
البنا، جمال. إمامة المرأة. دمشق: دار بترا، ۲۰۰۸.
هذا الكتاب يوثّق فعلاً استجابة المسلمين لحدث أثار سجالاً لدى العلماء والفقهاء والمشايخ في مصر والولايات المتحدة حين أمّت السيدة آمنة ودود مجموعة من الرجال والنساء لصلاة الجمعة في إحدى الكنائس الأنجيليكانية في نيويورك (يوم ۱۸ آذار، ٢٠٠٥)، بعد أن رفضت ثلاثة مساجد في نيويورك قبول الصلاة فيها. فعرض البنا استجابة مفتي الجمهورية المصري آنذاك الدكتور علي جمعة، وفتـوى المفتي العام للمملكة العربية السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، وعرض بيانًا من مجمع فقهاء الشريعة بأميركا، وفتـوى الشيخ القرضاوي (موقع إسلام أون لاين)، وفتـوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (موقع نداء الإيمـان)، وفتـوى فضيلة الشيخ الدكتـور خـالـد بـن محـمـد الماجد (موقع المسلم)، وفتـوى للشيخ سامي بن عبد العزيز الماجد (موقع الإسلام اليـوم)، وقدّم حـوار فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمد سيد طنطاوي (جريدة نهضـة مصـر، ٢٤ آذار، ٢٠٠٥) لأنـه أكثر أهميـة مـن الفتـاوى، إذ يتضمن قدرًا من الحيوية وينم عن“الطبيعة” وراء رفض إمامـة المـرأة، وهـي فكرة دونيـة المـرأة المؤصلة، كمـا يقـول البنـا:
“وكذلك الفكرة التي لا تقل عنهـا قـدمًـا وتأصيلاً في نفس الفقهاء، وهي أن الأمر يجب أن يكون كما كان منذ ظهور الإسلام. وتضافر هاتين الفكرتيـن همـا مـا جـعـل الشيخ يقول بقـوة وتأكيد لا مجـال مـعـه لمناقشة وأخذ ورد: إن صلاتها باطلة… باطلة… باطلة… وأن صلاة من صلى خلفهـا باطلة… وأن من أغلقـوا فـي وجهها المساجد كانوا شجعانًا، وأنه ليس هناك إسلام مصري وإسلام أميركاني– الإسلام واحد” (75).
هـا يـحـاور البنّـا فضيلة الشيخ، ونسمع نـحـن القـرّاء الحجـة الصحيحة؛ وهي أن فضيلة الشيخ يعلم بالطبع أن الأمر هنـا هـو أمـر فـقـه وليس أمـر إسـلام. يظهر تفنيـد البـنـا لحجـج العلماء وفتاوى المعاصرين في مسألة“إمـامـة المـرأة“، وينقـد الخلفية الثقافية الإسلامية غير المنفتحة اليوم والمغلقة في دوائر الماضـي وعقدة الذكورية في نفوس الرجال.
جدعان، فهمي خارج السرب: بحـث فـي النسوية الإسلامية الرافضـة وإغراءات الحرية. بيروت الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ۲۰۱۰.
يهتم فهمي جدعـان فـي كتـابـه خـارج السرب بأدبيات ونشاطات“عُصبة” من النساء المسلمات المهاجرات قصـرًا مـن البـلاد الآسيوية والإفريقيـة إلـى الحـضـن الأوروبي أو الكندي. وتحمل هذه“العصبة“، بتعبير جدعان، وجهًا بارزًا محدثًا من وجـوه فـهـم الإسلام وتمثله، هو الوجه الارتدادي أو الارتكاسي عن الصيغة الأكثر شيوعًا ورسوخًا لـه فـي الحيـاة المعاصرة. ويلوم هذا الوجـه النسوي المعولم– الجائح عن التقليد الإسلامي– الإسلام على كل المصـائـب التـي ألمت به في وطنه الأصلي، إما من ناحية الاستبداد“الذكوري” أو من ناحية“المجموع الفقهي النساني” الإسلامي“المضاد للعقل والحرية“.
هذا كتـاب قيم ذو فائدة جمّة. فالتوليفة الذكية التي درس بها فكر وأدب ونشاط نسويات مسلمات رافضات وراديكاليات بوصفه مدخلاً إلى الإسلام المعولم والمخيف وبخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتفكير الفلسفي في موضوع بـات يلحّ علينا وهو“إصلاح الإسلام” و“تحرير المرأة المسلمة” مما يجعل هذا العمل في عالمنا العربي والإسلامي على السواء، كتابًا مرجعيًا في“النسوية الإسلامية الرافضة” في العالم الكوني.
– السعدي، هدي“النسوية الإسلامية في مصر بين القبول والرفض” النسوية العربية: الرؤية نقدية تحرير جين سعيد المقدسي ورفيف رضا صيداوي ونهى بيومي بيروت: مرکز دراسات الوحدة العربية وتجمع الباحثات اللبنانيات، ۲۰۱۲ ص ص ٤١٧–٤٢٨.
هذا البحث هو رصد لخصائص النسوية الإسلامية وملامحها في مصر، مع عرض للإشكاليات التي تواجه الباحثات في هذا المجال. منها رفض الفكرة بتاتًا عند باحثات مسلمات واعتبارها مناقضة للدين (مثال هبة رؤوف)، ورفضها أيضًا عند باحثات ذات توجه علماني. فالأديان السماوية بالنسبة إلى الفريق الثاني تعتبر أصلاً أبوية ولا مجال للحديث عن وعي نسوي (مثال نوال السعداوي). يبدو أن الباحثة ركزت في مقالها على أعمال أميمة أبو بكر من مؤسسة ملتقى المرأة والذاكرة وأعمال أماني صالح من مجموعة المرأة والحضارة. لكن بالنظر إلى وسع الساحة في مصر الآن، هناك أعمال جيدة واجتهادات لشابات في مصر حول الموضوع كان من الممكن أن تتطرّق إليها الباحثة.
– عبود، حُسن.”وجوه المنهج النسوي التجديدي للتفسير القرآني: عائشة عبد الرحمن وآمنة ودود محسن“. النسوية العربية رؤية نقدية. تحرير جين سعيد المقدسي ورفيف رضا صيداوي ونهى بيومي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية وتجمع الباحثات اللبنانيات، ۲۰۱۲. ص ص 387-400.
تقدّم هذه الدارسة منهجية الدكتورة عائشة عبد الرحمن في التفسير الموضوعي“الفيلولوجي” في عملها الرائد في التفسير البياني للقرآن الكريم (١٩٦٧) ومنهجية الدكتورة آمنة ودود في التفسير الموضوعي“التأويلي” في عملها الرائد القرآن والمرأة (الأصل الإنجليزي ١٩٩٢، الترجمة العربية ٢٠٠٦)، على أنهما منهجيتان تجديديتان في علم التفسير القرآني.”يعتمد منهج التفسير الموضوعي في فهمه للنص القرآني على وحدة (الموضوع) التي هي أحد أهم أركانه، والتي تخضع له كل الأركان الثانوية الأخرى، ويقوم على تجميع الآيات المتعلقة بموضوع معين إجابًة على تساؤلات محددة أو ضرورات اجتماعية أو أخلاقية أو كونية معينة، ويوفر نظرة دقيقة وواضحة عن قضية بعينها من خلال النص” (رحماني، ١٤).
هذا الإنجاز للعالمتين يموضع مشاركة المرأة المسلمة في علم من العلوم الإسلامية له هيبته وسلطته المعرفية، هو علم التفسير. والطريف أن الدارسة وضعت آمنة ودود مع سابقتها عائشة عبد الرحمن للتأكيد على ريادة أستاذة الدراسات القرآنية والأدب العربي، عائشة عبد الرحمن، في هذا المضمار، وإن كانت الدارسة ممن يؤيد رفع الحواجز العازلة بين سيطرة“الثقافة العربية” المزعومة وبين فضاءات“الإسلام المعولم” الذي جاءت منه آمنة ودود.
وقد أدلت بدلوها د. آمنة ودود من منطلق التفسير الموضوعي“التأويلي” في دراسة مفهوم المرأة في القرآن، الذي تعطيه المكانة الأعظم بوصفه مصدر المعرفة الدينية في الإسلام. فالقرآن من وجهة نظرها لا يقيم أي تمييز أو اختلاف أنطولوجي بين الرجل والمرأة. فجاء التحليل الذي قامت به آمنة ودود على جملة القضايا والمواضيع المتصلة بالمرأة وعلاقتها بالرجل، أيّ مسألة المساواة الأنطولوجية بين الجنسين في مجمل المواضيع، وفهم ذلك كله بمعيار العدالة والرؤية القرآنية الشاملة للعالم. ويعد تحليل ودود إحدى المبادرات الأولى في التأويل الهرمنيوطيقي لمفهوم المرأة في القرآن.
ثانيًا: دوريات
– الجنوسة والمعرفة: صياغة المعارف بين التأنيث والتذكير. ألف: مجلة البلاغة المقارنة ۱۹. القاهرة: دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ١٩٩٩.
أهمية هذا العدد من مجلة البلاغة المقارنة أنه اهتم بمفهوم“الجندر” – الذي ترجم إلى“الجنوسة“- بوصفه صياغة للمعرفة بين التأنيث والتذكير في الدراسات الأدبية النسوية. بالنسبة إلى موضوع النسوية الإسلامية، هناك دراستان في القسم العربي مثيرتان للانتباه: دراسة محمد محمود،” قصة الخلق والعصيان في القرآن: غياب حواء ومركزية إبليس“، ودراسة هبة رؤوف عزت،“المرأة والاجتهاد: نحو خطاب إسلامي جديد” عالجت فيها سمات خطاب الإسلاميين حول المرأة وقابلته بخطاب العلمانيين حولها. وهناك أيضًا مقابلة مع الأستاذة هدى الصدة حول“المرأة والذاكرة” نجد فيها عرضًا مهمًا لنشأة مصطلح“الجندر“، واستخدامه في الدراسات النسوية، واستخدام مفهومه في الكتابات النسائية العربية في مصر، القرن التاسع عشر. هناك أيضًا ترجمة لمقالة للدكتورة عائشة عبد الرحمن“الإسلام والمرأة الجديدة“، ودراستان للراحل صاحب كتاب“مفهوم النص“، نصر حامد أبو زيد في القسمين العربي والإنجليزي.
– المرأة في القرآن. نشرة المرأة والحضارة 3. رئيسة التحرير منى أبو الفضل. القاهرة: جمعية دراسات المرأة والحضارة، 3 أكتوبر ۲۰۰۲.
هذا العدد الثالث (۲۰۰۲) للدورية الصادرة عن جمعية دراسات المرأة والحضارة، وهي نشرة متخصصة في دراسات المرأة المسلمة، توقفت للأسف عن الإصدار بعد ذلك. اختص هذا العدد الثالث من الدورية بموضوع“المرأة في القرآن“. وقد اهتمت الدارسات بتقديم قراءة“كلية استقرائية تفاعلية للخطاب القرآني، تتوازي مع عمليات نقد متواصلة للخطابات التي تقع خارج الكتاب الكريم“. والمشروع“إصلاحي في مجال المرأة من منظور إسلامي“، ويساعد على إعادة قراءة حقل دراسات المرأة، كما يساعد على مراجعة التراث الإسلامي وتراث الآخرين.
تنطلق الباحثات كما تقول محرّرة العدد طيبة شريف من عدة فرضيات: أولها، إن الوحي مصدر معرفي وليس فقط توجيهًا أخلاقيًا، وإنه في مجال التأصيل العلمي هناك فرق في مصادر التنظير الإسلامي بين مصادر أصلية وأخرى مشتقة (الأصلية هي القرآن والسنة المبيّنة له، أما المشتقة فهي سائر أبواب التراث وعلومه). ثانيها، إن هناك فارقًا أساسيًا بين النص وتأويله.
انقسم الملف إلى ثلاث محاور: المفاهيم هي المحور الأساسي في مجمل الموضوعات، وقد عُني القسم الأول من المقالات بقضية المفاهيم. فناقشت أماني صالح“قضية (الجندر) النوع في القرآن” من مفهوم“الزوجيّة بين قطبي الجندر والقوامة“؛ وانتقدت أمينة محمود مفاهيم ثلاثة – الكيد والرياء والغواية– ألصقتها الثقافة الشائعة بالمرأة، فتلج إلى القرآن في محاولة لعقد مقارنة بين النظرة الثقافية السائدة حول منظومة الأخلاق الخاصة بالمرأة كما يتمثلها مفكر كالعقاد في كتابه“المرأة في القرآن” من جانب، والنظرية القرآنية للأخلاق من جانب آخر.
المحور الثاني هو محور قصص الأنبياء التي أوصلت الدارسات بعد قرائتها وتأويلها إلى استنتاجات يدور بعضها حول“خصائص النظام المعرفي الإسلامي، وبعضها حول المفاهيم، وبعضها حول الدور الإسلامي“. وشاركت في هذا المحور كل من أسماء عبد الرازق ومنال يحيى وعزة جلال (من جمعية دراسات المرأة والحضارة في القاهرة) وطيبة شريف (من جامعة أمستردام قسم التاريخ الشفهي). تناولت أسماء عبد الرازق قصة الخلق تناولاً مقارنًا بين الرواية القرآنية والتوراتية. فأظهرت كيف تحررت القصة القرآنية من المفاهيم السائدة حول“الخطيئة” و“الغواية” و“الانتقام“. وركزت ورقتان على قضية النساء والنبوة وقد أدلتا بدلوهما في هذا الباب الشائك. فحللت طيبة شريف“سيدة المحراب: مريم بنت عمران“، وعزة جلال“المرأة والنبوة في القرآن– النساء في قصة موسى عليه السلام: أمومة الدعوة“.
يعالج المحور الأخير موضوع“المرأة العالمة” المجتهدة، حيث قدمت زينب العلواني دراسة حول“دلالات منهجية في قراءات السيدة عائشة القرآنية: الاستدراكات نموذجًا“؛ وقدّمت زينب أبو المجد دراسة عن“أسباب النزول وأحكام النساء في الفقه الشافعي“.
واحتوى العدد حوارًا مع أ. د. طه جابر العلواني، العالم الفقيه البارز والمشارك في تأسيس المعهد العالي للفكر الإسلامي في الولايات المتحدة، في موضوع“القرآن والمرأة“. وقدّمت زينب أبو المجد دور أمهات المؤمنين في جمع القرآن كما ورد في كتاب المصاحف الشهير للسجستاني. ثم هناك مراجعات لكتب مهمة في موضوع القرآن والمرأة: كتاب السفور والحجاب لنظيرة زين الدين (۱۹۲۸) وكتاب محمد دروزة المرأة في القرآن والسنة (١٩٦٧).
الفريد في هذه الدراسات هو المنطلق العلمي الرصين الذي عالجت به الدارسات مواضيع كانت تنتظر طويلاً الإفراج عنها من قبل النساء المسلمات العالمات، وقد أفرجن عنها دون الانحياز إلى قضاياهن، انطلاقًا من:”المنظومة الإسلامية الحضارية المتماسكة لحقوق الإنسان وما ينبثق عنها من حقوق المرأة والطفل والأقليات وحريات اجتماعية وسياسية أساسية للفرد والجماعة“.
– مشكلة المرأة: مأزق فكر أم مفكر؟ مقاربات للنهوض بواقع المرأة المسلمة. مجلة الحياة الطيبة ١٨. بيروت: المؤسسة العالمية للمعاهد الإسلامية العالية، ٢٠٠٥.
معظم دراسات هذه الدورية، الصادرة في بيروت، هي لرجال وشيوخ وعلماء من إيران، مترجمة من الفارسية إلى العربية، دون ذكر اسم المترجم. دراسات مهمة مثل“الحركة النسوية الإسلامية حقائق وتحديات” لرضا مستمسك أو“الإسلام في مواجهة النسوية، تقابل في الرؤية والأهداف” لمحمد لغنهاوزن. هناك أربع دراسات تخص فقه المرأة:”فقه المرأة وإشكالياته” لمحمد مهريزي،“العدالة ودورها في مسار فقه المرأة” لحمد سروش،“ولاية المرأة في الفقه: الولاية العامة والقضاء” لآية لاله محمد مهدي آصفي، و“المرأة ومرجعية الإفتاء، دراسة فقهية استدلالية حول شرعية تقليد المرأة” لحيدر حبّ الله. وخصصت ثلاث دراسات تخص المرأة في دستور الجمهورية الإيرانية. وسأذكر من الدراسات العربية الجيدة التي قام بها دارسون من لبنان وسوريا والجزائر دراسة فاجأتني بعنوانها، وهي:”السياق الاجتماعي للتجديد الإسلامي في قضايا المرأة: الشيخ مهدي شمس الدين نموذجًا” لحسين رحّال. فقد عرض رحّال تطور آراء الفقيه الراحل الشيخ مهدي شمس الدين من السبعينيات إلى الثمانينيات فالتسعينيات، حيث“اضطر الفقيه المنخرط في مجتمع متنوع إلى نفض الغبار عن آراء فقهية تساعده في التكيف الفكري والسياسي مع المجال الاجتماعي– الثقافي السائد، قبل أن يكتشف لاحقًا الهوة بينهما وضرورات القيام بثورة منهجية في الاجتهاد” (٤٢٩)، يؤكد الدارس أن التجربة اللبنانية ساعدت الفقيه الشيعي العربي في إيلاء قضايا المرأة معالجة جديدة للخروج من الفهم التراثي الذكوري للتعاليم الإسلامية وتفسيرها بهذا الاتجاه (430).
هذه الدورية وإن كان دارسوها رجالاً، والمقالات المترجمة تنوبها هفوات، إلا أنها تدّل على انفتاح من جانب رجال الدين والعلماء الإيرانيين وبعض الكتاب من الشيعة اللبنانيين نحو قضايا تخص المرأة والحركة النسوية والنسويات. يبقى السؤال: لماذا يصدر هذا العدد باللغة العربية في لبنان، والخطاب إيراني بالدرجة الأولى؟ وهل أصدر رجال الدين وفقهاء السنة العرب عددًا يتدارسون فيه قضية فكرية، تشكل تحديًا اليوم أكبر من الأمس، من أجل تجديد المنظومة والمؤسسة الفقهية الإسلامية والنهوض بالمستجدات الاجتماعية المعاصرة؟
– النسوية الإسلامية: الجهاد من أجل العدالة. كتاب المسبار 47. تحرير أحمد الزعبي وحُسن عبود. دبي: مركز المسبار للدراسات والبحوث، نوفمبر ۲۰۱۰.
هذه العدد للمسبار مهم لأمرين: أمر يتعلق بمشاركة دارسات متخصصات من دول عربية متعددة وميادين علمية متنوعة. الأمر الثاني، إحتوى العدد أسماء أصبحت مألوفة في حقل الدراسات الإسلامية والمنظور النسوي، كآمال قرامي (تونس) وأميمة أبو بكر (مصر) وحسن عبود (لبنان). إلا أن الجديد في هذا العدد هو التركيز على دراسة الحركة النسائية في الحركات الإسلامية السياسية، كـــ” الإخوان المسلمين” في مصر، و“جبهة العمل الإسلامي” في الأردن، و“حزب الله” في لبنان.
سأذكر دراسة“لأخوات: تجارب الحركيات الإسلاميات في مصر والأردن ولبنان” لأميمة عبد اللطيف التي رصدت ما تقوم به الناشطات الإسلاميات في حركات الإسلام السياسي، مما يمكن اعتباره نموذجًا جديدًا للفاعلية السياسية للمرأة في إطار إسلامي. وقد وجدت مع من تم إجراء مقابلات معهن أنهن حين يطالبن بتوسيع دور المرأة في المشاركة السياسية، لا يفعلن ذلك من منطلق تبنيهن لأجندة نسوية بحسب النموذج الغربي. إضافًة إلى أنهن لا يسعين إلى تحقيق المساواة بل يسعين إلى تحقيق العدالة. ثانيًا، أثبتت ناشطات الحركات الإسلامية في مصر قدرتهن على حشد مناصرين من كافة الطبقات الاجتماعية؛ مما يعني أنهن غير نخبويات. ثالثًا، تراوحت أدوار الناشطات السياسيات خلال العقدين المنصرمين ما بين حشد المناصرين وتنظيم الحملات الدعائية والإسهام في قبول عضوات جدد وتوعيتهن سياسيًا، وبخاصة الدور الذي يقمن به خلال العملية الانتخابية.
حددت عبد اللطيف ثلاث نقاط أساسية تشكل مرتكزات وجود الحركة النسوية الإسلامية: أولاً، هناك ما يشبه القناعة التامة بأن الإسلام منح النساء حقوقهن كاملة، وأن دفاعهن لاسترجاع هذه الحقوق ليس إلا“نضالاً لإعادة الإسلام إلى شكله الأصلي“. وبالتالي هن لسن بصدد تبني أجندة نسوية ضيقة. ثانيًا، كشفت المقابلات أيضًا عن رفض يلامس الازدراء لمفهوم النسوية الغربية، التي اعتبرنها محاولة لتحرير النساء من الواجبات تجاه الأسرة والمجتمع. ثالثًا، رفض هؤلاء النساء فكرة أنهن يسعين إلى عمل نموذج“نسوية إسلامية“.”فالنسوية – بالنسبة لهن– هي بالأساس فكرة غربية، والقول بالنسوية الإسلامية ليس سوى تلبيس تلك الفكرة بلَبوس إسلامي.
ما يلفت النظر في هذه الدراسة، التي ارتكزت على مقابلات عينية، هو اختلاف تجربة الحركة النسائية في المقاومة الإسلامية في لبنان، أي في“حزب الله“، عن الحركة النسائية في جماعة الإخوان المسلمين، وتمتعها بــ“هامش أوسع للحرية“.
الطريف في هذا العدد من المسبار أن الكتاب احتوى قائمة بالتواريخ المتصلة بالحركات النسائية الإسلامية في مصر ودبي ولبنان والأردن، وفاعلية المرأة الناشطة في مشروع الجماعات الإسلامية السياسيّ، لا بمعنى فاعلية المرأة الناشطة لتحرير المرأة من تاريخ طويل من المغالطات في التفسير والتأويل والتطبيق للإسلام وباسم الإسلام.
-“قانون الأسرة في البلاد العربية الإسلامية. قراءة للضوابط الدينية والقانونية“. أعمال ندوة ملتقى الآراء 1. تونس: كرسي اليونسكو للدراسات المقارنة في الأديان وجامعة منوبة، ۲۰۱۰
تأتي أهمية نشر أعمال ندوة“قانون الأسرة في البلاد العربية الإسلامية: قراءة للضوابط الدينية والقانونية” من أنها تتزامن مع الانتفاضات الشعبية والتغييرات السياسية على سبيل استشراف الأمل في“الربيع العربي“، وأنها جاءت من تونس العاصمة الرائدة في استحداث القوانين للمساواة بين الرجل والمرأة، والعاصمة التي أضاءت شعلة الثورات على يد أبسط الناس، البائع على الرصيف، الشهيد البوعزيزي.
خصصت الندوة ثلاث محاور للنقاش بين أساتذة وأستاذات متخصصين من البلاد العربية: فجاء المحور الأول“نظام الأسرة في العصر الوسيط، قراءة في التراث الفقهي“، والمحور الثاني“نظام الأسرة بين الفقه والقانون الحديث“، والمحور الثالث“قوانين الأسرة في العالم العربي الإسلامي: التجارب والحالات“، والمحور الرابع“صورة المرأة العربية في وسائل الإعلام: الواقع والآفاق“. بعض عناوين الأوراق جديرة بالذكر، على سبيل المثال لا الحصر، قدّمت فاطنة سرحان في محاضرتها سؤال“المرجعية الإسلامية: هل تكون عائقًا أمام النهوض بأوضاع المرأة في الأسرة؟” (٩٨–١٠٤). وتصدت سلوى الشرفي لــ“المجتمع الإسلامي إزاء عدم المساواة بين الجنسين” (۹۲–۹۷)، وعالجت ليلى عبد الوهاب“تأثير التيارات الدينية في الوعي الاجتماعي للمرأة العربية” (١٦٣–١٧٩). وانتقد محمد الحداد التأويل الذكوري للأنوثة في مقالته“المرأة في معترك التأويل” (٦٣–٧٠).
سأورد بعض آراء د. عبد المجيد الشرفي في مقالته“قانون الأسرة تحديًا للفقه” (۷۲–۸۱) لإعطائنا فكرة عن أهمية هذه النقاشات الدائرة.
يحدد الشرفي طبيعة الفقه والقانون
“فالفقه بطبيعته لا يعترف بالحدود الجغرافية والسياسية واللغوية والإثنية وغيرها، هو منظومة صالحة للمسلمين مهما اختلفت أوضاعهم ما داموا يعيشون في“دار الإسلام“. أما القانون فنشأته مختلفة كل الاختلاف، وإن التقى مع الفقه على صعيد تنظيم كليهما للحياة الاجتماعية، فهو بطبيعته وضعي، أي ثمرة الإرادة الشعبية أو السياسية! وكلما تغيرت هذه الإرادة تغيّر تبعًا لها. وإذن، فالاعتراف به اعتراف ضمني بأن أحكامه قابلة للتطور ولا تتسم بالثبات المنسوب إلى أحكام إلهية لا تاريخية. والقانون مرتبط عضويًا بمجال الدولة وبحدودها الجغرافية الثابتة، فلا أحد يطمع في أن تكون صلاحيته شاملة شمول أحكام المذهب الفقهي” (٧٣–٧٤).
ويذكر الشرفي بحقيقة تاريخية وراء المطالب الأخيرة – في أكثر من بلد عربي – بقانون ذي صبغة دينية (تطبيق الشريعة)، الذي يعد امتدادًا من بعض وجوهه لمحاولة رجال الدين الإبقاء على سلطتهم على المجتمع أو استرجاعها. وهي فعلاً مهددة!… بحكم تطور الأوضاع العام، ولا سيما تطور القيم وأنماط الإنتاج وشيوع التعليم وتقدم المعرفة الإنسانية في ميدان العلوم التجريبية والتكنولوجيا، وما نتج عنها من تاريخ وإناسة وعلم اجتماع وعلم نفس وغيرها، وما ترتب عليها من تخلص الإنسان عمومًا من كثير من الأوهام ومن الاستلاب الذي كان واقعًا فيه طيلة قرون.
الأوراق جميعها بلا استثناء مهمة للغاية في هذا الوقت الذي أصبحت فيه قضية المرأة وحقوقها في الأسرة، وخوفها على المكتسبات القانونية القليلة من المنادين بتطبيق الشريعة الذين يقصدون وينوون تقديم وتطبيق فهم حرفي مغلوط لها.
ثالثًا: ترجمات
– مرنيسي، فاطمة. الحريم السياسي: النبي والنساء. ترجمة عبد الهادي عباس. دمشق: دار الحصاد، ۱۹۹۳
Mernissi, Fatima. Le Harem Politique: Le Prophet et Les Femmes. Paris: Albin Michel, 1978.
The Veil and the Male Elite: A Feminist Interpretation of Women”s Rights in Islam Trans. Mary Jo Lakeland. California: Addison-Wesley Publishing Company, 1991.
– يعتبر كتاب المرنيسي رائدًا في جرأة استخدامه منهجية نقد الأحاديث النبوية المسيئة لكرامة المرأة وقدراتها العقلية والدينية والنفسية. فعلى طريقة“علم الجرح والتعديل” الإسلامي، الذي يطلق عليه أيضًا“علم الرجال” (لارتباطه برجال رواة الأحاديث النبوية ومصداقية رواياتهم) يقوم التحرّي للتأكد من تاريخ وولادة المحدّث، وعلاقاته العائلية وتعليمه ومعلميه وتلاميذه ورحلاته العلمية وأشغاله التجارية والاجتماعية، وما قيل عن نزاهته الأخلاقية والتزامه الديني، ودقته العلمية وأعماله الأدبية وتاريخ وفاته. هذا التحري عن راوي الحديث أو أهل السند (جهاز رواة الحديث من الرجال) كان المعيار الذي استخدمه علماء الحديث للتأكد من صحة الخبر، وذلك لكثرة ما وضع على لسان الرسول من الأحاديث غير الصحيحة.
وهكذا، قامت المرنيسي بنقد الحديث المشهور“لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة” بتجريح راويه الأول أبو بكرة، على طريقة“علم الجرح والتعديل“. والحديث عمل على مدى عقود في التاريخ الإسلامي ضد مشاركة المرأة في الحياة السياسية على صعيد الولاية العامة. والمهم فيما قامت به المرنيسي أنها استخدمت طريقة المسلمين في نقد الرجال الرواة على طريقتهم، لكن لمصلحة المرأة المسلمة لأول مرة. وعلى الطريقة نفسها نقدت وجرحت رواية الصحابي أبا هريرة لروايته حديثًا عن النبي أنه ذكر عن عائشة:”ما يقطع الصلاة؟ فقالوا: يقطعها الكلب والحمار والمرأة.”
– أحمد، ليلى. المرأة والجنوسة في الإسلام: الجذور التاريخية لقضية جدلية حديثة. ترجمة مني إبراهيم وهالة كمال. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ١٩٩٩.
– Ahmed, Leila. Women and Gender in Islam: Historical Roots of a Modern Debate. New Haven and London: Yale UP, 1992.
هناك ملاحظة حول ترجمة مصطلح“الجندر” إلى“الجنوسة” – والمفهوم في الأساس يشكل لغطًا للمتلقي العربي– فهذه الترجمة من وجهة نظري“تزيد الطين بلة“، كما نقول في المثل العامي. فالشائع في ترجمة أي مفهوم جديد، هو تعريب مصطلحه، كما هو، حتى يتبلور المفهوم أكثر وأكثر في رسالته العلمية ومحيطه الثقافي الجديد. إضافًة إلى ذلك، نلاحظ أن استخدام تعبير“الشرق الأوسط” باستمرار، وهو دخيل على اللغة العربية السياسية، في ترجمة منطقة تخصّ المجتمعات القديمة في بلاد الرافدين وبلاد الإغريق ومصر وفارس، يعدّ إسقاطًا.
الدراسة هي الأولى في مقاربتها التاريخية وفي تشكل الخطابات الأساسية في الفكر الإسلامي حول دراسات المرأة و“الجندر“. وليلي أحمد تفصح منذ العنوان عن أن الدراسة تخص الجذور التاريخية لقضية“الجندر” الحديثة والجدلية. اعتمدت الباحثة على تقصي الخطابات حول المرأة والجنوسة في المجتمعات العربية الإسلامية الكلاسيكية والمعاصرة مما يتضمن دراسة المجتمعات التي تتأصل فيها هذه الخطابات.”من خلال البحث تحديدًا في الطريقة التي يتم بها التعبير عن“الجندر” تعبيرًا اجتماعيًا ومؤسسيًا ولفظيًا” (6). وقد أثار حفيظة بعض القراء موضعة الباحثة الممارسات الشائعة في بعض الثقافات السابقة على الإسلام والمعاصرة له وتأثيرها في صياغة الأعراف التي أصبحت إسلامية الأصل في الاعتبار. وقدمت مثلاً جيدًا على السهولة والتلقائية التي تم بها الاستيعاب العقائدي، فأعطت مثلاً من قصة الخلق الإنساني في القرآن، حيث لا ترد أية إشارة إلى الترتيب الذي خلق على أساسه أول زوج إنساني (آدم وحواء). كما أن القرآن لا يشير الى أن حواء قد خُلقت من ضلع آدم. أما كتب التراث الإسلامي (كتب الأحاديث النبوية والتفاسير وغيرها)، التي دُوّنت في فترة لاحقة على نشأة الإسلام، فهي تؤكد أن حوّاء خلقت من ضلعه.
في دراستها لخطاب المستعمر الغربي، الذي ربط تأخر المرأة العربية بالثقافة العربية الإسلامية (ربط التأخر بالثقافة)، قامت ليلي أحمد بخطاب نقدي تحليلي من داخل الحركة النسائية الغربية نفسها، حيث أكدت أنه ليس هناك علاقة عضوية أو ضرورية بين موضوع المرأة وموضوع الثقافة. فالتراث الغربي صبغ بالانحياز للرجل وكراهية المرأة، ورغم اختلافه في التفاصيل، فهو ليس أفضل حالاً من غيره من الثقافات الأخرى، بما فيها الثقافة الإسلامية. وقدمت ليلى أحمد مثالاً على ذلك من الواقع التاريخي، وفي إطار أحداث مثل القضاء على آلاف النساء أثناء مطاردة الساحرات في أوروبا. وتبرز ليلي أحمد معادلة فاطمة مرنيسي التي تصف الطريقة التي نظر بها النظام الإسلامي إلى أعدائه وهم الكافر في الخارج والمرأة في الداخل بأنها مناسبة بنفس القدر على الأقل لوصف الماضي الأوروبي. ومع ذلك – كما تحلل– لا تنادي ناشطة الحركة النسوية في الغرب بالتخلي عن التراث الغربي في مجمله (۱۳۸).
وقد انتقدت ليلي أحمد على نفس المستوى المقولة الساذجة – من وجهة نظرها– التي ترى أن الإسلام على عكس الأديان السماوية الأخرى أعطى المرأة المسلمة حقوقها مما لا تدعو الحاجة إلى المطالبة بها بتاتًا.
– بدران، مارغو. رائدات الحركة النسوية المصرية والإسلام والوطن. ترجمة علي بدران. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ٢٠٠٠.
-Badran, Margot. Feminists, Islam, and Nation: Gender and the Making of Modern Egypt. Princeton: Princeton UP, 1995.
هذا الكتاب المؤرخ لرائدات الحركة النسوية المصرية، وعلاقة هذا الحراك بالإصلاح الديني واستقلال مصر من أواخر القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، أصله أطروحة دكتوراة نشرت بالإنجليزية عام ١٩٩٤. من أهم النتائج التي وصلت إليها بدران وهي جديرة بالنقاش: أولاً، أن الوعي النسوي بقضية المرأة المصرية بدأ في المحيط العائلي قبل عقدين من زمن معالجة قاسم أمين لها في كتابه“تحرير المرأة” (۱۸۹۹). وقد نشأ هذا الوعي خصوصًا في المدن في مجتمع الطبقات الوسطى والأرستقراطية، على يد نساء اختبرن مساوئ حرمان المرأة من التعليم والتربية والقوالب الجنسية التي وجهت طاقة الرجل وأهملت طاقة المرأة إلى حد أصبحت المرأة معه عالة على الرجل وعبئًا على نفسها ومجتمعها وأمتها. وتذكرنا هذه المرحلة على الأخص بكتابات عائشة التيمورية وزينب فواز وملك حفني ناصف.
ثانياً، لم تكن الحركة النسوية بتاتًا خارج التصور الإسلامي والقضية الوطنية المصرية. فالحركة الإصلاحية الإسلامية ودعاتها كالشيخ محمد عبده، والحركة التحررية المصرية بقيادة سعد زغلول، والاتحاد النسائي المصري بقيادة هدى شعراوي، كانت متداخلة ومستندة على بعضها بعضًا. ثالثًا، الحركة النسائية المصريَة، نتيجة نشأتها في بيئتها المصرية وارتباطها بمسألة التجديد الإسلامي واستقلال مصر من الاستعمار (الإنجليزي)، لا تعتبر بضاعة أجنبية مستوردة. والحجة على ذلك هو الدرس الغالي الذي أخذته النساء الناشطات، عند لقاء مثيلاتهن الأوروبيات في المؤتمرات النسائية العالمية، وهو أن نساء الإنجليز مثلاً لم يقفن يومًا ضد الاحتلال البريطاني لمصر.
من الملاحظ أن الاتحاد النسائي المصري احتل لب الكتاب دون الحركات النسائية الأخرى. فلم تظهر وجهة نظر الحركة النسائية المضادة لطروحات الاتحاد النسائي المصري، مثلاً تلك التي رأت إثارة قضايا المرأة جزءًا من برنامج المستعمر؛ ولو فعلت ذلك لاكتملت لنا صورة الحركة النسائية المصرية. إلا أن قراءة وثائق الحركة النسائية المصرية والعربية والأوروبية التاريخية بحجمها الهائل جعلت من عمل بدران المؤرخة للاتحاد النسائي المصري عملاً تاريخيًا مرجعيًا.
– عبود، حُسْن. السيدة مريم في القرآن الكريم: قراءة أدبية. تعريب حُسن عبود. بيروت: دار الساقي، ۲۰۱۰.
Abboud, Hosn. Mary Mother of Jesus and the Qur’anic Text: A Literary Reading Ed. Andrew Rippon. London: Routledge, Forthcoming.
الكتاب قراءة في أدبية السور والآيات الكريمة في قصة مريم القرآنية. تستند الدراسة على علوم القرآن الكلاسيكية ونظريات النقد الأدبية الحديثة من الأسلوب وفن السرد إلى مورفولوجيا الحكاية والنقد النسوي والتحليل من معيار“الجندر“، ونظرية التلقي أو استقبال النص، إلخ…. يهدف الكتاب إلى موضعة مكانة السيدة مريم في سياق الخطابات القرآنية السردية والحجاجية.
قدمت المؤلفة تقسيمًا جديدًا للوحدات الأدبية المحيطة بقصة مريم المكية (مريم، ۱۹) والمدينية (آل عمران، ١–٦٣)، حيث يسهل قرائتها وفهمها وشرح آياتها والاقتراب من أسلوبها وإعادة تأويلها تأويلاً جديدًا ينبه إلى أي تسييس في النصوص واللغة. وقد كشفت عبود أمرًا مهمًا، وهو أن هذا الاهتمام بمريم في الخطاب القرآني كان لذات السيدة مريم، كما لأمومتها للسيد المسيح. وتابعت قصتها من الخطاب المكي شبه – الشعري إلى الخطاب المديني السردي المغلف بغلاف كلامي حجاجي.
صحيح أن اهتمام المؤلفة من البداية كان لفهم المعطى الأنثوي والأمومي القرآني في صورة أكثر الشخصيات القرآنية النسائية هيبًة، إلا أن الدارسة لم تقدم هذا المعطى في الكتاب. وربما تقدمه في المستقبل. لكنها قامت بتطبيق منهجي، ولأول مرة في الدراسات القرآنية، لمنظور“الجندر” بعد أن عرّفته بطريقة مبسطة وإيجابية. فظهر لها مثلاً أن قبول دخول مريم المحراب، يتجانس مع قبول دخول المرأة المسلمة الكعبة (في مكة)، وأن التماهي بين الرمز الأبوي والأمومي في شعيرة الحج – وهي الشعيرة التي يقوم بها المسلم والمسلمة سويًا بين الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة– قاعدته المساواة بين الرجل والمرأة في الطقوس الدينية التي تتعلق بالسفر والخروج من المكان الضيق إلى المكان المقدس الرحب. وقدّمت أيضًا نقدًا نسويًا لحجج المفسرين الكلاسيكيين المشارقة من الطبري إلى الطب الطباطبائي في قرائتهم لمسألة تتصل بالعقائد، وهي مسألة“نبوة مريم“. وقد أضافت الباحثة إلى حجج علماء الأندلس في التأكيد على نبوة مريم حججًا أخرى استقتها من منطق النص في سرده لحكاية مريم وعلاقتها بصاحب البلاغ الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم).
– ودود، آمنة. القرآن والمرأة: إعادة قراءة النص القرآني من منظور نسائي. ترجمة سامية عدنان. القاهرة: مكتبة مدبولي، ٢٠٠٦.
Wadud-Muhsin, Amina. Qur’an and Woman. Kuala Lumpur: Penerbit Fajar Bakti. 1992.
هذا الكتاب المترجم عن الإنجليزية يعدّ حدثًا في الدراسات القرآنية في موضوع المرأة، وذلك لسببين: أولاً، كون الدارسة أميركية من أصول إفريقية، قادمة من خارج الثقافة العربية الإسلامية ولغة القرآن الكريم العربية، ومع ذلك اجتهدت. وثانيًا، قدمت ودود تفسيرًا هرمنيوطيقيًا، يوافق، من وجهة نظرها، سياق المرأة الحديثة. فاعتمدت منهجية التفسير الموضوعي التأويلي، الذي اقترحت تسميته“هرمنيوطيقا التوحيد” التي تستند – وفق كلام مؤرخ الحركة النسوية الإسلامية الرافضة فهمي جدعان– إلى:
العلاقات الدينامية بين المبادئ العامة أو الكليات وبين الجزئيات أو المفردات، في إطار القواعد الشاملة للهدي الأخلاقي للقرآن، آخذة في الاعتبار السياق الذي نزل فيه الوحي وجاءت فيها الألفاظ“القرآنية“. وأن يكون المبدأ العام للمنهج“المنظور الكلي” لمجمل الوحي، أي“المنهج الهولستي على قاعدة مبدأ المساواة المطلقة بين الجنسين. هذه القراءة تؤكد، في إطار الجنوسة (الجندر)، مبدأ المساواة المطلقة بين الجنسين (۳۸).
تعلن آمنة ودود في مقدمة الكتاب عن منهجيتها التفسيرية التي تتقيد بها – المنهج التقليدي – لتفسير القرآن بالقرآن. وقد قامت بتوسيع القواعد المعيّنة لهذا المنهج، حيث تم تحليل كل آية: في سياقها، وفي سياق مناقشات متعلقة بموضوعات متشابهة في القرآن، وفي ضوء تراكيب الجمل واللغة المشابهة المستخدمة في أماكن أخرى في القرآن، وفي ضوء تجاوز مبادئ القرآن، وفي نطاق نظرة القرآن العالمية.
– النسوية والدراسات الدينية. تحرير أميمة أبو بكر. ترجمة رندة أبو بكر. القاهرة: مؤسسة المرأة والذاكرة، ۲۰۱۲.
يترجم هذا الكتاب وهو من تحرير أميمة أبو بكر– اثنتا عشر دراسة من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية، في سياق مشروع سلسلة“ترجمات نسوية“، تقوم بها مؤسسة المرأة والذاكرة. يهدف المشروع إلى“نقل معرفة متخصصة إلى العربية في مجال التقاطع بين النسوية بوصفه منهجًا بحثيًا ونظرية نقدية من ناحية والدراسات الدينية من ناحية أخرى“.
يعرّف الكتاب بحقل“الدراسات النسوية الدينية” في نشأته وتطوره وحصاده البحثي والمعرفي في مجالي“النسوية المسيحية” و“النسوية الإسلامية” منذ بدايتها. الكتاب جزآن: يتضمن الجزء الأول دراسات مؤسسة لهذا الحقل المعرفي، وصاحباتها معروفات جدًا بإسهاماتهن العلمية الرصينة في حقل الدراسات الأكاديمية للمسيحية والمنظور النسوي. أذكر على سبيل المثال، إليزابث شوزلير فيورنزا، روز ماري ردفورد روثر، جين أوكونور وميكا بال، والجزء الثاني في حقل الدراسات الأكاديمية للإسلام، أذكر على سبيل المثال دراسات لعزيزة الهبري، وأسما برلس وآمنة ودود.
تأخرت الأكاديميات العربيات المسلمات في تحصيل معرفة مماثلة كالتي قامت بها الأكاديميات المسلمات الآسيويات في المهجر الأميركي. الخطاب إذن أميركي النشأة، ولا يمكننا أن نزعم أن“هذه بضاعتنا ردّت إلينا“، فلا يوجد في البلاد العربية دراسات بهذا المستوى من الطرح العلمي في المجال المسيحي أو الإسلامي النسوي إلا قليلاً. ولا تزال المعاهد الدينية وكليات الأزهر متحفظة ضد مشاركة المرأة في تقديم معرفة دينية من هذا القبيل تجديدية وناقدة للتراث. فهناك بين الراحلة الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) – التي ألفت عملاً رائدًا في علم التفسير القرآني (١٩٦٧)، وآمنة ودود محسن في الولايات المتحدة – التي اجتهدت في دراسة القرآن ومفهوم المرأة (النسخة الإنجليزية، ١٩٩٢،الترجمة ٢٠٠٦) بنظرة شمولية – ثغرة زمنية علينا سدها.
يعاني الكتاب من أمرين يمكن تفاديهما في الطبعة القادمة: أمر يتعلق بالترجمة التي اجتهدت رندة أبو بكر في نقلها من لغتها الحاملة مستويات متراكمة من المعارف الدينية – إلى اللغة العربية. فالعلوم اللاهوتية والقرآنية وعلم الكلام الإسلامي وغيرها من العلوم المتقاطعة بعضها مع بعض لها لغتها المتخصصة. لذلك يجد القارئ صعوبة في استيعاب المصطلح المترجم بسبب صعوبة الثبات على ترجمته بين دراسة وأخرى، وهذا أمر يصعب التقيد به فعلاً. والأمر الثاني، يتعلق بإخراج الكتاب الذي جاء حجم حروفه صغيرة وإخراجه مزدحم. فدراسات من هذا النوع العلمي الرصين، والثقيل على القارئ غير المتخصص، يحتمل بعض المخارج الفنية لإراحة القارئ. تعرض المقدمة المستفيضة للمحررة أصحاب المعرفة النسوية الدينية القادمة من الأكاديمية الأميركية، إضافة إلى أصحاب معرفة مماثلة قادمة من الأكاديمية العربية، ولو لم تحمل هذا المسمى بعد.
المراجع العربية
أبو بكر، أميمة“النسوية، قضايا الجندر والرؤية الإسلامية“. المرأة والجندر: إلغاء التمييز الثقافي والاجتماعي بين الجنسين. تحرير أميمة أبو بكر وشيرين شكري. بيروت: دار الفكر المعاصر، ۲۰۰۰. ص ص ۱۱–۷۷.
أبو بكر، أميمة. مقدمة. النسوية والدراسات الدينية. تحرير أميمة أبو بكر. ترجمة رندة أبو بكر. القاهرة: مؤسسة المرأة والذاكرة، ۲۰۱۲. ص ص ۹–۳۷.
أبو زيد، نصر حامد. المرأة في خطاب الأزمة. القاهرة: دار نصوص، ١٩٩٤.
الحداد، محمد.”المرأة في العقد السياسي: حدود الخطاب الفقهي حول المرأة“. حفريات تأويلية. بيروت: دار الطليعة، ۲۰۰۲. ص ص 141-155.
رحماني، أحمد. التفسير الموضوعي: نظريًة وتطبيقًا. الجزائر: منشورات جامعة باتنة، ۱۹۹۸.
عبد الرحمن، عائشة. محاضرة“المفهوم الإسلامي لتحرير المرأة“. جامعة أم درمان الإسلامية. افتتاح الموسم الثقافي للجامعة، الأربعاء 1 فبراير، ١٩٦٧.
عبّود، حُسن.”الخطابات المتباينة“للنسوية” والإسلام والخوف من“الازدواجية، في المعايير“. باحثات: حفريات وتحريات: حيوات نساء عربيات ۹ (٢٠٠۳–٢٠٠٤): ص ص 357- 381.
ناصف، ملك حفني (باحثة البادية). النسائيات. القاهرة: ملتقى المرأة والذاكرة، ١٩٩٨.
المراجع الإنجليزية
Badran, Margot. Feminism in Islam: Secualr and Religious Convergences. Oxford: Oneworld, 2009.