أنت منذ الآن غيرك
القاهرة، صباح ٢٥ يونيو ٢٠١٧،
وسط صراخ الأطفال وشجار المرضى المعتاد في أروقة هذا المستشفى المزدحم، أستعد للخروج من تلك الغرفة التي تكدس فيها المرضى من مختلف الأعمار، والذين جاءوا من أقصى الأماكن لتلقي العلاج السحري. ويؤمن المرضى بأن هذا المكان هو الأفضل في مصر لعلاج الحمى، ما يضع المزيد من العبء على الأطباء، ويعرّض ذويهم للإصابة بأشد الأمراض. فهذا المكان يجمع أشد الأمراض فتكا وأقلها خطورة.
أنظر إلى الساعة وهي تقترب من الحادية عشرة، وأفكر في الخيارات المتاحة لأخذ قسط من الراحة بعد قضاء طوال الليل في المستشفى. لكن للأسف لا يوجد وقت لذلك، إذ اتصل بي أحد العاملين في المكان الذي أعمل فيه، والمتخصص في فحوصات فيروس نقص المناعة البشري، وقال إنه سيتأخر قليلا لوجوب القيام ببعض الأعمال المكتبية، وإنني سأتولى مسؤولية فتح المكان اليوم.
لفتت نظري سيارة الإسعاف الواقفة على مدخل الرواق. ينتابني الفضول لمعرفة نوع الحالة، لكن أفكر في احتمالية أن يكون الطريق مزدحم وأن عليّ الخروج حالا للحاق بذلك المكان الآخر.
يبدأ المسعف في دفع التروللي أمامه، الذي ينام فوقه أحد المرضى؛ شاب في الثلاثينات من عمره، تبدو عليه علامات الضعف والمرض الشديد، هناك خطبٌ ما بقدمه، لكن لا أستطيع تحديده من تلك المسافة، ويحيط بالشاب ثلاثة أو أربعة أشخاص تبدو عليهم علامات القلق والتوتر. وضع المسعف التروللي أمام غرفة الكشف وغادر كالمعتاد، ففي الحالات الصعبة تميل بعض المستشفيات للتخلص من عبء المرضى. وبما أن المريض قد آل به المآل إلى هذا المكان، فمن المؤكد أنه لا يوجد مستشفى آخر يرحب بوجوده.
حاولت التغلب على هذا الحس الطبي مرة أخرى والتوجه لغرفة تغيير الملابس، لكن هناك شيء يمنعني. ربما وجه الشاب مألوف لي، أو هناك خطبٌ ما تشي به نظرات من حوله. تقدمت نحوهم ونظرت إلى داخل الغرفة، فوجدت رؤسائى مشغولين بالعديد من الحالات. اقتربت منه وألقيت نظرة على قدمه، فوجدتها في حالة سيئة.
نظرت إلى أحد الموجودين حوله، منهم امرأة فى أواخر الثلاثينات، يبدو عليها النشاط، وتطمْئن من حولها. سألتها :
خير يا ماما؟
ردت: “رجله فيها غرغرينا” .
في المعتاد، تحتاج هذه الحالات لمستشفى آخر. لكن طالما قد أتى إلى هنا، فلابد أن وراء الحالة ما هو أكثر من هذا العرض…
سألتها: “دي مضروب فيها مخدرات؟”
أجابت: ” اها، وعمل عملية بس كانت متأخرة”.
فسألتها: “عنده HIV؟”
طالما تخلص منه المستشفى الجراحي إلى هنا، فحتما أنه مصاب بـ HIV .
أجابت المرأة وقد بدت علامات التوتر على وجهها “اها”.
وجّه الجميع نظراتهم نحوي وأنا أفحص الشاب بكل هدوء بعد إدخاله إحدى غرف الكشف. لم يلاحظوا أي تغيير على وجهي. ربما هذا هو ما يشعرهم بالمزيد من القلق والحيرة. ففي معظم الأوقات، قد يواجهون بعض النظرات غير المريحة عند إعلان حالة المريض.
بدأت أتلفت حولي لأنادي أحد أفراد التمريض كي يساعدنى. لكنهم في الأغلب غادروا المكان تباعا فور ملاحظتهم دخولى بالحالة، ومعرفتهم أنها ستكون معقدة. وفي الأغلب يستطيعون التنبؤ بحالات الإيدز فور رؤيتها.
ناديت إحدى الممرضات لأخذ عينة من الدم، وبدأت المشقة المعتادة.
“مش لاقية وريد يا دكتورة”
أرد فورا: “حاولي شوية معلش”
تحاول مرة أخرى بلا أي مجهود يذكر حتى ترضيني، وترد مرة أخرى “مش لاقية”، قبل أن تشيح بوجهها عنا وتغادر المكان.
يزيد توتر أهل المريض، وتأخذني إحدى الممرضات وتحاول نصحي بما أنى بعمر ابنتها
“بصي، المريض HIV، ومعندوش أوردة، ومحدش هيحاول. ممكن تدخليه العنبر ويعملوله جوة، لكن احنا مش فاضيين”.
أنظر لها دون أي تعبير، فأنا أعلم أنه لا يمكن إقناعهم بالعمل. كما أنها ليست أول حالة يحدث فيها نفس السيناريو المعتاد “مش لاقيين وريد، متتحمليش مسؤولية”
مر من أمامي أحد أفراد التمريض ممن لي بهم علاقة طيبة، فاقتربت منه و سألته
” عايزة منك خدمة؟”
هو: “بس كده اؤمرى يا دكتورة “
أنا : “بما أن أنت أحسن واحد بيسحب عينات، عايزاك تسحبلي عينة”
هو : “HIV طبعا، ما انتي بتلاقيهم”
ابتسمت ابتسامة خفيفة وقلت له” معلش، اخدمني المرة دي وليك عزومة”
هو: “الجو حر عايز كنزاية”
“من عينيا، أول ما تشوف بتاع الكافيتريا اطلب منه ولا يهمك”
ابتسم لي، وهو يشعر أنه يقدم لي معروفا. وكنت ممتنة له حقا وأشعر فعلا أنه قدم معروفا.
في أقل من دقيقة كان قد سحب العينة وهو ينظر نحوي وعلى وجهه علامات الفخر. شكرته مرة أخرى وبدأت في إجراءات دخول المريض.
في الطبيعي، بعد الانتهاء من بعض الفحوصات الأولية والأعمال الورقية، ينتهي دوري عند هذا الحد. لكن قلق المحيطين به دفعني لسؤالهم عن حالته وأبعادها، وهل هو مواظب على أخذ العلاج أم لا. وعندما بدت علامات الارتياح على وجوههم، قلت لهم إنه من الممكن أن يتابعوا مع أحد المراكز المتخصصة في فحوصات HIV، وهناك يستطيع العاملون تقديم الدعم النفسي والاستشارة فيما يخص التعامل معه.
بدأت المرأة تنتبه لما أقول. كنت دائما أفضّل أن أفصل الوظيفتين عن بعضهما. فلا يعرف أحد في ذلك المركز أنني أعمل في المستشفى أو العكس، حتى لا يحدث سوء فهم.
قلت لها إن هناك مركز في إحدى المناطق يستطيعون اللجوء إليه. ابتسمت المرأة وذكرت اسم المركز.
رددتُ عليها: “اها. انتي عارفاه؟”
ردت: “اها، وأعرف “فلان”… وزادت ابتسامتها وتراجعت علامات القلق شيئا فشيئا من على وجهها”.
ابتسمتُ لها وقلت: “أهو أنا بداله دلوقتى”
ردت: “مننا يعنى! أنا برضه حسيت من أول مادخلت وشفتك… مفيش حد بيتعامل زيك كدة في المستشفيات معانا” رددتُ: ” في ناس كويسة كتير، بس هي حظوظ. والحمد لله أنها جت فيا المرة دي.”
أعلم أن العديد من الأطباء يتعاملون بشيء من البرود – وأحيانا الإهمال المتعمد – وأعلم هنا أن موقفي صعب، فأنا أنتمي لهذه الفئة التي تقوم بوصم المرضى الذين أحارب الوصمة تجاههم. وكثيرا ما دخلت مناقشات عنيفة مع العديد من الأطباء دفاعا عن حق هؤلاء المرضى في معاملة عادلة. وكان الرد الأخير منهم “هو اللي جاب كدة لنفسه “. وهناك العديد من الأطباء ممن يقدمون الخدمات بشكل عادل، لكن الغالبية لا يتقبلون هذا الأمر من داخلهم، ويشعرون بعدم استحقاق هذا المريض لمجهود الطبيب. والبعض الآخر يقول إنه يتعامل لوجه الله.
بعد أن اطمأننت أن المريض سيودع فى العنبر المناسب له، غيّرت ملابسي واندفعت للخارج حتى أستطيع اللحاق بعملي الآخر .
قفزت داخل أول سيارة أجرة وجدتها على باب المستشفى لتقلني إلى مكان عملي الآخر. وكل ما يدور بذهني هي تلك الكلمة التي قالتها المرأة بابتهاج “مننا يعني!!” … هل أنا حقا منهم؟ ومن هُم؟ ومن الآخرين؟
حتما أعرف الإجابة. هُم هؤلاء المهمشون الذين اضطرتهم تجاربهم الشخصية إلى خوض معارك لا تنتهى وسط المجتمع. هؤلاء من كُتب عليهم أن يعيشوا منبوذين محملين بالوصمة والذنب طوال ما تبقى من حياتهم.
أما الآخرين، هم بقية المجتمع الذي أعطى لنفسه الحق في أن يحاكم ويعاقب وينبذ ويجلد من هم منه، وربما من يشاركونه بعض تلك السلوكيات. لكن يبقى HIV أو الإيدز هو الفيصل بين أن تكون الجلاد أو تكون المعاقَب.
لكن من أنا حقا! ولأي جانب أنتمي؟ وهل يجب عليّ أن أختار جانب معين أنتمى له؟ ألا يوجد مفهوم أوسع للانتماء سوى أن تكون من أحد الفريقين؟ ولماذا أخفي هويتي في كل مكان عن المكان الآخر؟ قليلون من يعرفون أنني أنتمي لكلا العالمين. في الليل والصباح أكون تلك الطبيبة التي تتابع المرضى وتقرأ التقارير الطبية المعقدة. وفي الظهيرة أتحرر من هذا كله وأكون العاملة وسط الفئات المهمشة. ولا ينفعنى من لقب طبيبة غير أنه قد يعطي بعض الثقة لهؤلاء الأشخاص الذين لا يعترفون بحقي في الوجود في هذا العالم، سواء لسني الصغيرة أو مظهري أو كوني أنثى!
قد تعطيك الدرجات العلمية المصداقية، لكنها لن تكون شفيعا لك في أن تعبر إلى هذا العالم المستقل بذاته. ولن تكون محل ترحيب في أي من المجموعات… فكل مجموعة مستقلة بذاتها، يستخدم أفرادها نفس الكلمات، ولهم نفس الإشارات.
من يستخدمون المخدرات لهم لغتهم الخاصة، ومن يمارسون الجنس مع الرجال كذلك، والعاملات بالجنس التجاري أيضا. قد تكون تلك المجموعات منفصلة، لكنها قد تتشابك في بعض الأوقات. وحتى في نفس المجموعة، تجد اختلافات تبعا للمنطقة السكنية والمستوى الاجتماعي والتعليمي. وهناك أيضا من استطاعوا ممارسة حقوقهم الجنسية دون الانتماء لأي من تلك المجموعات، أو النساء اللاتي انتقلت إليهن العدوى من أزواجهن، وقادتهن الظروف للتعرف على هذا العالم بكل تفاصيله.
لا أدري حقا إلى أي مجموعة أنتمي. لكن كل ما أتذكره أنه كان أمامى أحد الخيارين؛ إما أن أبقى بهذا المظهر الطبى الأنيق، وأحاول مساعدة من يتشجع للتعامل معي، أو أن أذهب أنا إليهم، وأنخرط وسط المجموعات المختلفة لأتعلم منهم، وأكتسب إشاراتهم ولغتهم الخاصة. لكن الأمر لا يقتصر على معرفة بعض الإشارات والألفاظ لكي تستطيع التواصل مع أحد الأشخاص. وهناك من العاملين فى هذا المجال من يستطيعون ترديد بعض تلك الكلمات لإعطاء الطمأنينة للشخص الآخر ولتجاذب أطراف الحديث بشكل سلس. وقد يكون هذا من علامات حرصهم على تقديم الخدمات بشكل أفضل.
لكن لم يكن الأمر بهذه السهولة يوما ما. فترديد بعض العبارات أو الكلمات ليس كافٍ لأن يفتح لك الشخص قلبه، ويُطلعك على مخاوفه، ويُدخلك إلى عالمه الشخصي، ويأتمنك على أسراره وعلى أن تقدم له المساعدة. يحتاج المريض أن يشعر أنك تعرف ما يمر به. ربما تكون كلمة عفوية أثناء الحديث هى ما تُشعره أنك تشبهه، أو في لحظة انفعاله وتوتره عندما ذكّرته بأنه يستطيع التدخين، لأنك في تلك اللحظة استشعرت رغبته في ذلك، لكنه محرج من أن يطلبه.
قد يبدو الأمر شيقا أو جزء من فيلم أرض الخوف لأحمد زكى، إذ يعيش البطل في عالمين مختلفين؛ أحدهما كونه ضابط والآخر كتاجر مخدرات، إلى أن يفقد هويته ولا يدري لأي عالم ينتمي. وحقا كنت أتمنى أن يكون الأمر بهذا التشويق السينمائى، لكنه لم يكن يوما كذلك. فحين تتعرف على أسرار هؤلاء الأشخاص، وما يتعرض له الكثيرون من الظلم والقهر وقلة الحيلة. و حين ترى ما يتعرض له البعض من عنف أو سوء استغلال، حينها سينكشف أمامك عالم آخر، ولا يمكنك من بعدها أن ترى العالم كما كان من قبل، بل لا يمكن أن ترجع أنت نفس ذات الشخص مرة أخرى.
ربما ودعت هذا الشخص منذ تسع سنوات مضت، تلك الفتاة ذات الثامنة عشر فى معمل الكيمياء الممل في كلية الطب.
في هذه الفترة، كنت أواجه إحباطاتي بعد التعرف بشكل مفصل على الكلية. ربما كانت هذه الرتابة المعتادة لسنوات الدراسة النظرية، والتى تشعر فيها أنك منفصل عن العالم الخارجي و تدرس ما ليس له أي صلة بالعلاج أو التشخيص.
لم أكن يوما من هؤلاء الأشخاص الذين يحلمون بدخول كلية الطب، أو من هؤلاء الذين إذا سألتهم لماذا دخلت هذه الكلية أو لماذا تتمنى أن تكون طبيبا، يبادرك بالرد “لأنقذ العالم و أساعد الناس وأصير مثل د/ مجدي يعقوب”… حسنا، فالكل يريد أن يصبح مثل مجدي يعقوب إلا أنا.
لقد كنت أتمنى دخول كلية الإعلام، وأن أعمل في الصحافة الاستقصائية يوما ما. لكن بعد مساومات ومناورات من أهلي أصبحت فى كلية الطب، تبعا لهذا المجموع الخرافي في الثانوية العامة، والذي يجعل الاختيار أكثر صعوبة، كونه يتيح لك كل الاختيارات .
عذرا على كل هذه التفاصيل، فربما هذه هي الفرصة الأولى والأخيرة لأكتب كل ما بدر بذهني، وكل ما تسبب في أن أكون في مكان ما. وربما أنسى أو أتناسى بعد ذلك كل ما كتبته.
عودٌ لهذا المعمل الكيميائى الممل الذي كنت أبغضه، حيث رن هاتفي المحمول لاتصال من زميلة لي في نفس الكلية، لكنها تكبرني بعامين. كانت مشتركة في إحدى الكيانات الطلابية التى تقوم ببعض الأنشطة المتعلقة بالصحة.
وسألتني: “تحبي تيجي مؤتمر عن الإيدز؟”
تفاجئت قليلا، فلم أكن أعلم أن هناك مؤتمرات لها علاقة بالإيدز. كل ما كنت أعرفه في هذا الوقت عن هذا المرض هو بعض اللقطات من أفلام مصرية، تصوره على أنه كارثة وإنذار بالموت، مع بعض الإيحاءات للممارسات الجنسية. هذا بجانب بعض القراءات الطفيفية عن المرض بشكل علمي بحت. وكانت دائما تختلجني هذه الحيرة بين ما أقرأه وبين ما أراه. ولم أقدر على الربط بين هذا كله والغموض الذي يحيط ذكره في الأفلام، مع بعض المشاهد المتكررة للأميرة ديانا أو أي شخص ذو بشرة بيضاء وسط مجموعة من الأطفال الأفارقة، وهم مبتسمون ويقاومون المرض. لم يكن حينها كل هذا الانفتاح الإلكتروني متوفر، فاليوم أصبح كل شئ متاح ومسجل عن طريق الإنترنت. أو ربما لم أكن وقتها على خبرة كافية بالبحث الإلكتروني.
لا أنكر أن سؤال زميلتي أثار فضولي، وأجبتها دون تردد “تمام. عرفينى كل التفاصيل، بس ممكن تكتبي اسمي في الحضور دلوقتى”.
لا أعرف حتى الآن لماذا وافقت بهذه السرعة حتى دون الأخذ في الاعتبار الموافقات المنزلية. لكني سأذهب في أول مؤتمر لي وأنا طالبة بكلية قصرالعيني، ولم أعتقد أن أحدا سيعارض هذا الأمر… وقد كان.
حين دخلت يومها هذا البهو العريق بكلية قصر العيني، اكتشفت أن معظم الطلاب الحاضرين لم يكونوا مهتمين بالمرض أو الفيروس بشكل خاص، لكنها كانت فرصة لطيفة للتواصل مع الكليات الأخرى، وحضور مؤتمر تم الإعداد له بعناية، ولأن هذا يعد من أكبر المؤتمرات التي تنظمها هذه الجمعية الطلابية، وفرصة لقضاء وقت لطيف.
بدأ المؤتمر بأغنية لأحد الطلاب باللغة الإنجليزية. يبدو أنه بذل مجهودا، لكنها أصابتني بالقليل من الملل. وبدأ يساورني القلق أن المؤتمر سيكون على هذا النهج طوال اليوم… حتى عرض المنظمون أحد الفيديوهات.
رغم بساطة الفيديو إلا أنه أصابني بالذهول. ومقارنة بما رأيته لاحقا على أرض الواقع، يُعتبر هذا الفيديو الأكثر رقة. لكنه كان قادرا آنذاك على أن يحبسنى في مقعدي، وأن يُطلعني على عالم آخر لم أكن على دراية به من قبل.
لا أنكر أنه فى بعض الأوقات، حين يصعب عليّ مواصلة العمل، أو عندما أشعر بعدم جدوى ما أفعله، أشاهد هذا الفيديو مرة أخرى ليذكرني بأسباب وجودى في هذا المكان، وماذا أفعل، ولماذا. استغرق العثور على هذا الفيديو مرة أخرى بعض الوقت.
وللأسف أثناء عملية البحث، توقفت عند بعض الفيديوهات التى تتعمد الإشارة إلى هذا المرض أو الفيروس، مع الكلام عن الجنس و المخدرات، كمادة خصبة لإشعال فضول المشاهد ليس أكثر. وذلك دون تقديم أي محتوى هادف، بل تزيد الوصمة تجاه المرضى، رغم ذكر العكس في مقدمة هذه الفيديوهات أو البرامج.
في هذا اليوم تعرفت على مصطلحات جديدة لم أكن أعلمها من قبل، مثل التعايش، مجموعات الدعم، الوصمة، والتمييز. وكانت أصعب الفقرات تلك التى تكلم فيها أحد الأطباء عن معاناته مع زملائه في مختلف التخصصات لإقناعهم بالكشف على المتعايشين بفيروس نقص المناعة البشري، أو مرضى الإيدز.
لم أغادر مقعدي يومها غير وقت الغذاء، رغم إلحاح أصدقائي بالخروج بعض الوقت للتمشية أو الجلوس بالخارج. و ما زال أصدقائي حتى هذا اليوم يتندرون بهذا الموقف عندما جلست طول اليوم بداخل المؤتمر لا أغادره، و يذكرون كيف بعدها أصبحت أعمل بكل ما له علاقة بهذا الفيروس.
وهذا حقيقي، فمن بعدها بدأت أتوجه للعمل بمجال الصحة الإنجابية والجنسية بشكل تطوعي – خاصة ما يتعلق بـ الإيدز – وعلى نطاق العمل الطلابي. وبدأت من هذا اليوم مراحل تطور عملي في هذا المجال، من متدربة إلى مدربة إلى طبيبة بأحد مراكز الفحص والمشورة، ثم منسقة أحد المشروعات، وطبيبة تحت التدريب للأمراض المعدية.
سنوات طويلة، وذكريات عديدة، لم ينتشلني منها سوى صوت سائق الأجرة حينما أخذ رأيي بالانعطاف إلى إحدى الشوارع الجانبية لأن الشارع الرئيسى مزدحم. لفتت نظرى إحدى الصيدليات، يخرج منها شخصٌ مسرعا وهو ينظر حوله. وحينما لمح السائق اهتمامى، بادرنى بالقول
• “أصل الصيدلية دي بتبيع قطرة وبتضرب زي المخدرات في الحقن”
• أجبته: “اها، ما أنا عارفة”
• تعجب السائق ونظر إليّ وقال”اها بس حضرتك دكتورة في المستشفى اللي أخدتك منها صح؟”
• أجبته: “صح”
• “طب وإيه علاقتك بالمخدرات؟”
• أجبته: “أصلي بشتغل في حاجات تانية ساعات بيكون ليها علاقة بالمخدرات؟”
• تساءل: “إدمان؟”
• أجبته: لأ “إيدز” تسمع عنه؟
أعلم أنه ليس من الصحيح أن أقول إيدز. لكن معظم الأشخاص لا يعرفون مصطلح فيروس نقص المناعة البشري، وليس الوقت مناسب للتفرقة بين الاثنين، لكن الفضول الذي بدأ يظهر على ملامحه دفعنى لتبادل أطراف الحديث معه. ولأني أعلم أنه في نهاية اليوم، ستكون تلك الراكبة التي تعمل طبيبة في أحد مراكز الفحص والمشورة محور الحديث في القهوة الشعبية مع زملائه. وقد يصل الحديث إلى بعض الأشخاص الذين قد تثيرهم تلك المعلومات للقدوم إلى المركز وأخذ الخدمات، وهذا ما نسميه أحيانا الوصول العشوائي، وهو أن تطرح الفكرة والمعلومات أمام بعض الأشخاص، وتترك لهم باقي المهمة في ما يتعلق بنقل المعلومات أو الترويج للخدمات المختلفة.
انزعج السائق، لكنه اعتدل في جلسته وبدا عليه اهتمام أكثر. وسألني: “هو ممكن يتنقل بالمخدرات؟”
أجبته “اها. لو حد خد سرنجة من حد مصاب واستخدمها”
تنهد الرجل في ارتياح وقال: “طيب الحمد لله سرنجات بس. أصلي يعني ساعات من فترة للتانية باخد سيجارة حشيش”
أجبته: “لا دى مبتنقلش”
بدا عليه التردد، لكننى كنت أعلم ما سيقوله. حتما تساؤلا له علاقة بالممارسات الجنسية
قال: “حضرتك دكتورة، يعنى أتكلم عادي مفيش حرج؟”
أجبته: “قول اللي نفسك فيه من غير حرج”
قال: “هو اللامؤاخذة يعنى الإيدز ده بيتنقل من الجنس برضه، صح؟”
قلت: “اها لو حد منهم مصاب ومفيش وسايل حماية، زي الكوندوم أو الواقي لو تعرفهم”
قال: “أيوة بس من الستات اللي ليهم علاقات برجالة كتيرة، اللي دي شغلتهم يعني”
قلت: “لا مش شرط. هو وارد يتنقل من أى علاقة بين اتنين لو حد فيهم مصاب ومش بيلتزموا بوسايل حماية ومعملوش تحليل، وليهم شركاء تانيين حتى لو واحد.”
بدأت علامات الفزع تظهر على وجهه وقال: “أصلي يعني كذا مرة مارست علاقة مع واحدة. بس هي كانت متجوزة وجوزها مات”
سألته: ” بتستخدموا الواقي؟”
أجاب: ” لا، بس هي كانت متجوزة؟”
قلت: ” أيوة هي حللت؟ جوزها كان حلل قبل ما يموت؟”
قال: “لا معتقدش”
قلت له: “طيب يبقى لازم تحللوا وتلتزموا بالواقي طالما فيه احتمالية يكون فيه شركاء تانيين، وعلشان أى عدوى تانية”
قال: “أنا مكنتش أعرف كدة، أنا كنت فاكر بييجى من الستات التانيين بس”
كنا قد اقتربنا من مكان عملي، فأخرجت له البطاقة الخاصة بالمركز وقلت له “تقدر تيجي في أي وقت، نقعد نتكلم بهدوء وتتعرف على المكان وتعرف كل حاجة، ونشوف ممكن نقدر نعمل ايه”
قال: “لا ده أنا كدة هاجي، بس مش هتاخدوا اسمي أو بياناتي؟”
قلت له: “لا اسم مستعار متخافش. مفيش أي معلومات هتتاخد منك ممكن تتربط بيك “
ظهرت علامات الارتياح على وجهه وقال “تمام هخلص وآجي”
لم يكن المكان والوقت مناسبين لإعطاء جلسة مشورة كاملة. لكن يكفي أن تضع بعض النقاط التي قد تثير قلق الشخص وفضوله ليستطيع بعدها الوصول إليك أو البحث بنفسه عن معلومات أكثر.
اندفعت على عجالة للخروج من السيارة، فالوقت قد بدأ ينفد. وحين اقتربت من البوابة وأخرجت مفاتيحي، اقترب مني شخص وهو متردد، لكن من الواضح أنه منتظر هنا منذ فترة.
سألني: “حضرتك المكان ده شغال؟”
نظرت له: “اها مظبوط”
بدت علامات الارتياح على وجهه، ثم سألنى “وفي تحاليل؟”
قلت له: “أيوة في فحص ومشورة. وممكن نتكلم جوة لو حابب”
تتبعني وأنا أقوم بفتح الأبواب، وبدت عليه علامات التردد من دخول المكان خلفي حتى لا يثير شكوكي. لكني بعد فترة من العمل، بدأت أعرف من طريقة مرتادي المكان من يفضَل أخذ الحذر منه ومن يحتاج إلى أن يطمئن إليك.
بدا عليه الاستعجال، فبادرته بالسؤال فور دخولنا عمّا يريده، وهل باستطاعتي مساعدته، فقال لي إنه يريد إجراء التحليل الخاص بفيروس نقص المناعة البشري. قلت له إن المكان لن يبدأ بتقديم الخدمات قبل ساعة، حين يصل كل فريق العمل. لكن من الممكن أن أجلس معه ونتحدث، إذا أراد أن يتعرف على خدمات المكان بشكل مفصل. ألح في طلبه أن يجري بالتحليل لأنه على عجلة، ولابد أن يلحق بالقطار، إذ يسكن في إحدى المحافظات البعيدة. كما أنه انتظر بالخارج أكثر من ساعتين، إذ لم يكن على دراية بمواعيد العمل.
توقفت أمام إلحاحه وسنه الصغيرة. في العموم، لا يُفضّل أن يقوم أحد العاملين بكل الخطوات وحده. لكن توتره وساعات انتظاره ورغبته في أن يلحق بالقطار دفعاني لتقديم استثناء. كما كنت أعلم أن ما هي إلا دقائق ويبدأ العاملون في التوافد على المكان. كذلك لم تكن هذه هي الحالة الأولى التي أُضطر فيها لتولي إحدى الحالات من البداية.
قمت بتحضير القهوة لكلٍ منا، وجلسنا في غرفة المشورة، وعلمت منه أن حفل زفافه بعد أقل من شهر، وأنه أحس برغبة في إجراء التحاليل لما سمعه من أحد أصدقائه. كانت له بعض الممارسات في الماضي، التى من الممكن أن تنقل إليه العدوى، فأحس أنه حان الوقت للاطمئنان – على حد قوله – قبل موعد زفافه.
بعد فترة من الكلام بدت علامات الارتياح تظهر عليه. وحين ودعته لإجراء التحاليل – لأن في هذا الوقت كان قد وصل باقي الفريق وبدأوا في الاستعداد – قال لي إنه في الأغلب لن يكون مصابا، وهو واثق من ذلك، لكنه أراد فقط الاطمئنان. أجبته بأنه من الأفضل أن ننتظر النتيجة، وبعدها نتحدث. وأيا كانت النتيجة، سنتعامل معها سويا ونرى ما يمكن أن نفعله.
بعد دقائق، ظهرت نتيجة التحليل وكانت إيجابية. ورغم أنه بعد فترة من ممارسة المهنة يجب أن أكون اعتدت على هذا الأمر، إلا أنني في كل مرة أحس بخيبة الأمل، خاصة مع السن الصغيرة.
قمت بتوصيل النتيجة له. ودون الدخول في الكثير من التفاصيل حول ما دار، فإن ما أبهرني هو ثباته وتقبله للأمر رغم علامات الصدمة التي ظهرت على وجهه. وكان كل ما يفكر فيه هو كيفية إبلاغ شريكته، وإذا كانت تتقبل هذا الأمر أم لا. عرضت عليه إذا أراد أن يأتى بها إلينا، ليشرح لها أحد العاملين كل ما يختص بهذا الأمر. طلب بعض الوقت لكي يقوم بهذا الأمر، فطمأنته بأنه سوف يتلقى مساعدتنا في جميع الأحوال، وأنه من الأفضل أن يتردد على المركز أكثر من مرة حتى يستطيع أن يستفيد بكل ما نقدمه من خدمات، ولنقدم له كل سبل الدعم التي قد يحتاجها في هذه المرحلة. كذلك حتى نتأكد بشكل قاطع من الإصابة حين الإنتهاء من باقي التحاليل التأكيدية، رغم أن نسبة أن يأتى التحليل التأكيدى بغير هذه النتيجة لا تتعدى واحد في المئة.
كنت قد قطعت عهدا على نفسي قبلها بفترة بأن أتوقف عن إعطاء جلسات مشورة لبعض من الوقت، فهي عملية مرهقة وتستنزف الكثير من الطاقة. و بعد فترة من التراكمات والاعترافات والبوح والمساندة وتقديم الدعم ، يصير الأمر عبئا فتحتاج حينها للتوقف لفترة من الوقت حتى لا يؤدي بك هذا الأمر إلى الاحتراق. و هو أمر يعتاده مقدمو الخدمات فى مثل هذا النوع من العمل، خصوصا حين نتعامل مع فئات مهمشة أو معنفة أو موصومة.
كما أن دورى الأساسى ليس تقديم المشورة، لكن في بعض الأحيان يتطلب الأمر التدخل، مثل عدم وجود مقدم المشورة لظرف ما، أو نتيجة لبعض الظروف أو بعض الحالات المعقدة التي يحيلها مقدم المشورة حتى أتعامل معها في عدة خطوط متوازية، وأراجع بشكل دقيق ما يمكن أن يتم تقديمه لها.
لم يكن الأمر سهلا أبدا، فأحيانا قد تقف عاجزا عما يمكن أن تقدمه لإحدى الحالات. وأحيان أخرى قد لا يوجد ما يمكن أن تقدمه على الإطلاق، خاصة ما يتعلق بالنساء وصغار السن ممن يتعرضون للعنف والإيذاء. ففي هذا الوقت، لا يكون الدعم النفسي وحده كافيا، و قد يحتاج هذا الشخص إلى دعم مادي أو وسائل يستطيع بها الاستقلال بحياته عمّن يؤذونه. لكن كان هذا الأمر صعب تقديمه من خلال خدمات المركز، وتلك هي الأوقات التي كانت تشعرني بخيبة الأمل و بعدم جدوى مساعدتى لهؤلاء الأشخاص لأن الوضع سيبقى كما هو عليه. فكم من سيدة جلست معها تتعرض للاغتصاب الزوجي، أو الإيذاء الجسدي كل يوم، لكنها لا تملك أي خيار إلا أن تتحمل لعدم وجود مأوى أو مكان تذهب إليه. كثيرا ما توقفت أمام هؤلاء السيدات وهن يحكين تفاصيل معاناتهن مع أزواجهن، ويكون ختام حديثهن “طب أروح فين أنا وعيالي؟”. كانت هذه الجملة كفيلة بإنهاء الحديث. أغلبية من قابلتهن نساء لم يكملن تعليمهن. وحتى إن أكملنه، فهن لا يحترفن أي حرفة تعود عليهن بدخل ما، فتضطر أن تتحمل الضرب أو الاغتصاب الزوجي. وفي بعض الحالات يكون الزوج مصاب بعدوى جنسية أو فيروس نقص المناعة البشري، لكنها لا تملك رفاهية الاختيار، وتحاول قدر المستطاع النجاة بأطفالها، وفصلهم عما يجرى حولهم، حتى إن كان الأب يتعاطى المخدرات في الغرفة المجاورة. فحينها فقط تفكر في حلول لإبعاد أولادها عن تلك اللحظات، مثل إرسالهم لأحد الأقارب أو دفعهم للنوم مبكرا. وحده المأوى يتحكم في كل شئ في هذا العالم، فالكثير من الأطفال الذين لم يتجاوزوا السادسة عشرة أو الثامنة عشرة على أكبر تقدير يضطرون لتحمل أي شئ مقابل أن يجدوا مأوى في ساعات الليل. فالكثيرون ممن دفعتهم الظروف للهروب من منازلهم – لما يتعرضون له من عنف أسري – يقدمون أي شيء للحصول على مكان آمن للنوم خلال الليل. حتى إن تم استغلالهم جنسيا أو جسديا، مثل إرغامهم على بعض أعمال السرقة أو الترويع، فهم أفضل حالا ممن ينامون في الشارع ويتعرضون لكافة أشكال العنف والإيذاء. وليس غريبا أن من يعرضونهم للإيذاء هم أيضا ضحايا حادث ما، فكل شخص ضحية في قصته، وجاني في قصة أخرى. والكل يبحث عن المأوى والطعام في نهاية اليوم، فتصبح حرب للبقاء، المنتصر فيها هو من له القدرة على التكيّف والتقبل وتحويل العنف الموجه إليه إلى عنف ضد الآخرين.
جلست بعض الوقت لإنجاز أعمالا ورقية، وإذا بأحد العاملين يستأذنني في الدخول. وقال إن إحدى من يرتدن المكان ترغب في لقائي، لكنها مترددة. استغربت من ترددها، فهي تعرفني حق المعرفة، وأنا أول من استقبلها في المكان حينما أتى بها الشخص الذي يستأذن نيابة عنها. وكان قد قابلها في إحدى المستشفيات أثناء متابعته إحدى الحالات، ووجدها مع رضيعها ذو الأشهر المعدودة، الذي انتقلت له عدوى الفيروس عن طريقها. وكانت هذه من أغرب الحالات التي تعاملت معها في حياتى، فالطفل كانت له أخت توأم غير مصابة، وأخوه الذي يكبره بعدة سنوات والأخت الكبرى مصابان. كانت هذه من الحالات المستعصية بالنسبة لي، نظرا لضعف الحالة الصحية للأم بسبب الفقر الشديد، وعدم قدرتها على تحمل مصاريف ومشقة السفر لمتابعة حالة أطفالها وصرف الدواء لهم ولها، و لإصابتها أيضا بفيروس التهاب الكبدي الوبائي سى.
سألته عن سبب غيابها الفترة السابقة، ولماذا هى مترددة في الجلوس معي، فقال “أصلها حامل!”
وقع الخبر عليّ كالصاعقة. لم أعلم ماذا أفعل أو أقول لها. طلبت منه أن يدخلها، فدخلت وهي مترددة، لكنها تقاوم ابتسامة وفرحة. ونظرتُ إلى بطنها التى تشير بأن موعد ولادتها قد اقترب. وبادرت بالكلام فقالت:
“أنا عارفة انك هتتضايقى مني علشان حامل وصحتى على قدي وعلشان المرض. بس أنا عايزة أتكلم معاكي في كذا حاجة وأوريكي تحاليل الأولاد.”
كنت ما زلت صامتة، لم تسعفني الكلمات. أتذكر حينما وصفت لي المكان الذي يعيشون فيه، وكيف أنه غير آمن على الأطفال لأنه يسمح بدخول القوارض والثعابين، وتذكرت حالتها الصحية وزوجها الذي لا يعمل، وما يكسبه يقوم بإنفاقه على المخدرات. تذكرت هذا كله وأنا أنظر لابنها الصغير الذي لم يتجاوز العامين وبدأ في المشى، ولا أعلم كيف ستكون صحته بعد عدة أشهر في ظل عدم الانتظام في العلاج والحالة الاقتصادية لوالديه.
نظرت لها وهي على وشك التلاشي لا يميزها غير حملها. قالت إن المستشفى أحالها إلى إحدى المستشفيات المتخصصة لمتابعة حملها و التعامل مع حالتها. وإنها تعلم أنه ليس أفضل شئ فعلته، لكنها بررت بأن زوجها لا يفضّل استخدام الواقي الذكري. كما أنها تتمنى أن يكون هذا الطفل غير مصاب حتى يعين إخوته في حالة وفاتها. لم أملك أى كلمات… كنت في حالة صدمة. كانت سعادتها بالحديث عن هذا الحمل تثير بداخلي العديد من المشاعر. كانت المرأة تتكلم بأمل وسعادة. ورغم ما تمر به من الألم فقد كان لديها أمل. إنه الأمل الممزوج بالموت. لكنها كانت سعيدة. في لحظات كنت أفرح لسعادتها وتلك اللمعة التي تظهر في عينيها وهى تتحدث عن الحمل المرتقب وتريني تطور صغيرها الآخر في الكلام والمشي. وفى لحظة أخرى أفكر في كل هؤلاء الأطفال، وفي حالتها الصحية وعدم وجود متابعة دقيقة لحالتها، إما لتخلفها عن الحضور بانتظام، أو لعدم وجود كافة الخدمات التي تحتاجها في مستشفى واحد، فتضطر أن تتحرك من مستشفى لآخر؛ من الحميات إلى الكبد؛ من أبو الريش إلى أم المصريين. أشفق عليها و أسألها عن طفلتها الكبيرة، فتظهر علامات الحزن على وجهها وتقول إن حالتها في سوء، وتسألني “تفتكرى هعرف أجوزها لما تكبر؟”… يفاجئنى السؤال مرة أخرى.
بعد الإجابة على تساؤلاتها والتأكيد عليها أن تأتي وقتما تشاء، تغادر وهى تحس بالراحة. كانت متخيلة أني سأنهرها أو أوبخها مثل بعض الأطباء الذين قابلتهم، لكنها اطمأنت عندما تعاملت معها بتفهم.
وكل ما علق بذهني بعد مغادرتها هو شكلها المتعب والمرهق، وشكل طفلها وقد بدأ فى النمو وتبدو عليه علامات الصحة. وفى نفس الوقت حالة ابنتها التي تسوء من وقت لآخر. كل ما كنت أشعر به هو إحساس بالذنب تجاه هؤلاء الأطفال بأني لا أملك ما أقدمه لهم. وحالتهم الصحية تحتاج إلى متابعة مكثفة. قد يتخيل البعض أنني أستنكر على المرأة حملها، بالعكس، فى المعتاد أقوم بطمأنة الأشخاص بخصوص قدرتهم على إنجاب أطفال أصحاء و دون إصابة. لكن هذه الحالة كانت مختلفة لظروفها الاقتصادية والصحية، والوضع العام غير الآمن لها أو لأى من الأطفال، وبالتالى للطفل القادم.
حاولت أن أهدأ قليلا بعد مغادرتها، وأن آخذ قسطا من الراحة. فهذا هو المعتاد يوميا حينما تقرر أن تهدأ من وتيرة العمل، فينهال عليك من كل جانب. على الأقل الفريق مكتمل، يستطيعون هم تولي كل شيء من الآن. لكن الأصوات القادمة من الدور الأول لا تبشر بيوم هادئ على الإطلاق، فهذه أصوات لا تقل عن 12 رجل بالإضافة لفريق العمل. أنظر للساعة، وأنظر إلى غرف مقدمي الخدمات. حتما لن يستطيعوا الانتهاء من هذا العمل بمفردهم خلال ساعات العمل. وقد يطلب مني أحدهم المعاونة في حالة أو أكثر، إذا فمن الأفضل أن أستريح الآن. أسمع خطوات أحد العاملين قادمة تجاه الغرفة التي أجلس فيها. أتمنى بداخلي ألا يطلب مني شئ آخر لمدة عشر دقائق فقط. لكنه باغتني بالطلب فور دخوله الغرفة وقال “عايزينك تحت “.
أنا: “خير، حصل حاجة؟”
هو: “فصل قوات “
أنا: “كام من هنا وكام من هنا”
هو: ” 6 و 7″ – ألم أقل لكم أنهم اثنى عشر فردا على الأقل، هذا ما أتحدث عنه
أنا: “وفين الناس؟”
هو: “الدنيا زحمة، وفي حالتين قاعدين معاهم و تحويلات، غير كمان 3 جايين لوحدهم”.
أنا “حاضر”.
قد تعتقد أن هناك شجار ما يحدث والمطلوب منى أن أفضه، لكن هذا ليس شجارا بالمعنى المعتاد، لكنه يحدث عندما تجتمع فئتان في مكان واحد، وكلاهما تصم الأخرى. فهؤلاء يستخدمون المخدرات، وهؤلاء يمارسون الجنس، فتبدأ النظرات و المناورات التى يمكن أن تندلع في أي لحظة لإحتقان حقيقي بين الطرفين . وحينما يزدحم المكان و يبدأ العاملون فى تنظيم الفحوصات و الانشغال بأعمالهم، يصبح الاحتكاك وارد. وحينها لن ينفع تدخل أي طرف، لأن كل طرف يتهم الآخر ومن يمثله من العاملين بالتحيز. وحينها لن يكون تدخلي لفض الاحتكاك كافٍ أو في الوقت الصحيح. حتما سيكون تضرر أحد ما، وما أقصده بالضرر هنا هو أن يتلفظ أي شخص بكلمة قد تؤذى من أمامه أو تشعره بالتمييز، أو يشعر أحد الأشخاص بأن المكان لا يعطيه المساحة الكافية من الأمان.
ألملم أوراقي وأنزل إلى غرفة الاستقبال الكبيرة. ينتبه الجميع عند دخولي الغرفة. البعض منهم يعرفني والبعض الآخر لا. أبحث عن مكان شاغر، فأجد هذا المكان بجوار مجموعة من الأشخاص، فأجلس بجوارهم وهم ينظرون لي بدهشة، فمن أين تأتي امرأة بهذه الثقة لتدخل تلك القاعة المليئة بالرجال وتجلس بكل هذا الهدوء! ينظر إليّ أحدهم وهو يحاول أن يتبيّن ماذا أفعل هنا، فيميل أحدهم على أذنه ويهمس “دي الدكتورة المديرة”. تعلو نظرات الدهشة أكثر على وجهه، فهو غير مصدّق لما يراه أو يسمعه. لكنه يعاود الانشغال بالحديث مع أصدقائه. ألمح بعض الأشخاص يبدأون في تغيير أماكن جلوسهم. تهدأ الأصوات تباعا، فكل مجموعة جلست على حدى. وانشغل الجميع بشيء ما، لأنهم بطريقة ما عرفوا أن وجودي سيقيّد أي محاولة للتنمر على الطرف الآخر، فلم يعد هناك داعٍ للتربص.
إذا أردت أن تعرف ما هو عملي؛ هذا هو عملي. فأنا موجودة لفض الاشتباكات والنزاعات، أحافظ على توازن المكان حتى وإن كان عدد الزائرات من النساء قليل جدا مقارنة بالرجال، فوجودي يعطيهن مساحة من الطمأنينة عند دخولهم المكان. ولم يرحب الرجال بوجودي في بداية عملي، كونى امرأة صغيرة السن، فهناك من رفض أن ترأسه امرأة لم تتجاوز السابعة والعشرين عاما. وهناك من رأف بي وقال إننى لن أتحمل مدة طويلة. خلال عملي هذا، قمت بجميع المهام، بداية من الكشف الطبي، ومرورا بجلسات المشورة وتنظيم مجموعات الدعم، وحضور اجتماعات متخصصة، وتدريب فريق العمل، والقيام بمهام أي شخص بالفريق حال تعرضه لأي ظرف أو تقديم المساعدة في أي وقت، وانتهاءا بإعداد الشاي والقهوة وقطف ثمار شجرة التوت التي تغطي المكان وتقديمها للفريق كنوع من كسر الملل. فالحالة المزاجية السيئة التي قد يمرون بها من وقت لآخر تحتاج لابتكار نشاط يدفعهم للمواصلة.
أسمع من الكل، وأعرف عن كل شخص كل شيء. أستمع لأفراحهم ومشاكلهم، وأعرف عدد الأقساط المتبقية في سيارة أحدهم، وأعرف عدد المواد التي يذاكرها الطبيب للحصول على درجة الماجستير في امتحانه الشهر القادم، وبالتالي أعرف جدول امتحاناته وأنظم الخدمات بناءا على ذلك. أعرف عن كل شخص نوع سجائره المفضل، وعدد ملاعق السكر في الشاي، وطريقة صنع قهوته.
أعرف أسماء المتعايشين في مجموعات الدعم، وأخصص جدولي لأنضم لهم بين الحين والآخر عند تنظيم إفطار جماعي أو جلسة احتفالية بقصة نجاح أحدهم. أعرف شهور الحمل المتبقية للنساء من زائرات المكان، وعدد الواقي الذكري الذي يأتى أحد المنتفعين أو المنتفعات لأخذه بين الحين والآخر.
هذا ما يجب أن تعرفه وأن تفعله إذا أردت أن يقدم المكان خدمة جيدة. يجب أن يبقى كل شخص محاط بالرعاية والاهتمام. يجب أن يشعر كل شخص أنه مهم، لكن ليس أهم من الجميع. يجب أن تعرف متى تتدخل ومتى تنسحب. وهذا هو ما وعدت به نفسي عندما بدأت العمل فى هذا المكان، حتى لا يصير نسخة من تلك الأماكن التي قد يضطر الشخص فيها الانتظار لعدة ساعات للحصول على الخدمة بسبب تأخر العاملين. أو أن يأخذ خدمة غير لائقة، أو أن يشعر بأن هذا المكان لا يقدم له الدعم الكافي أو المساحة الآمنة لمشاركة أدق تفاصيل حياته.
بعد أن هدأ الوضع وانشغل الجميع بأعمالهم، صعدت مرة أخري للدور العلوى لمراجعة بعض الأمور الحسابية.
وما هي إلا دقائق معدودة حتى سمعت صراخ وحالة من الهرج الشديد لا أعرف مصدرها. نزلت مسرعة، لأجد أحدهم قادم لمناداتي. وجدت الجميع متسمرون في أماكنهم، وأعينهم موجهة تجاه آخر الغرفة، لكن يجب أن أدخل حتى أرى ما جعلهم ينتفضون هكذا. دخلت مسرعة لأرى ما يحدث، فإذا بطفلة لا يتعدى عمرها ثماني أعوام، تحتمى بكرسي وتقف أمامها امرأة يخيل إليّ أنها أمها تحاول تهدأتها. تحتمى الطفلة بأحد الكراسي في ركن الغرفة ولا تكف عن الصراخ والعويل وهي تقول “مش هحلل، أنا معنديش حاجة”. أصبنى الشلل لبضع لحظات، فأنا لم أتعامل مع هذا الموقف من قبل. أستطيع أن أتفهم البالغين والتعامل معهم. لكن الأطفال دائما ما يصيبونني بالرعب، وأتحاشى قدر الإمكان التعامل معهم. لا أستطيع تحمل مسؤولية أن أقوم بشيء خطأ فيؤثر عليهم باقى حياتهم. لن يتركني الذنب طوال حياتي إن شعرت بأنه كان من الممكن أن أقدم أفضل مما قدمته ولم أفعل. لذلك، كنت دائما أتفادى أي شيء له علاقة بالأطفال. لكن ها هي جاءت من أرادت أن تضعنى في هذا الاختبار المؤلم. نظرت حولي فوجدت حوالي عشرة رجال يحدقون بالطفلة، والطفلة تحدق بنا جميعا، وأمها تتقدم عنا هي وشخص آخر يبدو أنه مألوف للطفلة. لكن كلما اقتربوا، تلتصق الطفلة أكثر بالحائط، على وشك أن تخترقه، ويختفي معظم جسمها وراء الكرسي، ولا يظهر منها غير وجهها وهو محتقن من كثرة البكاء. أخرجت الجميع من الغرفة، بطريقة أقرب إلى أن أكون طردتهم، فحتما وجود كل هؤلاء الغرباء حولها يشعرها بمزيد من الرعب.
طلبت منها أن تهدأ، لكنها لم تستمع لي. طلبت من أمها الانفراد لمعرفة ما حدث، وعرفت أن الطفلة لأب مصاب، لكنه توفى منذ بضعة شهور. وتقول الأم إن أقارب الأب جعلوا الطفلة تغيّر له بعض الضمادات قبل وفاته، أثناء زيارتها له بين الحين والآخر.
لم أعرف ما يمكن أن أفعله لهذه الطفلة. لم أستوعب أن بعض الأشخاص البالغين قد يجبرون طفلة على تغيير ضمادة لشخص مصاب بفيروس معدٍ. لكن ما الذي يمكن أن يجعل الأم أن تقول هذا الكلام وتأتى بالطفلة إلى هنا، و تعرضها لمثل هذا الموقف، وتبدو عليها علامات القلق فعلا. أنا أُفضّل احتمال ألا تكون العدوى انتقلت إليها، لكن هل سأترك احتمال واحد في المئة أن تكون العدوى قد انتقلت لها بطريقة ما؟! عرضت الأم أن تكبّل الفتاة بمساعدة قريبها حتى أتمكن من إجراء التحاليل. جن جنوني في تلك اللحظة، ولم أتخيل من قبل أنه قد يصيبنى كل هذا الغضب، ووجدتني أقول للأم إنها إن حاولت أن تقترب من الطفلة دون رضاها و حتى تمام هدوئها، فسأمنعها بنفسي، ولن أسمح لأحد أن يقترب منها فيثير شعورها بالقلق أو الرعب.
دخلت مرة أخرى للطفلة ودعوتها للكلام فلم تستجب. إن اقتربت أمها خطوة واحدة، تعاود الصراخ مرة أخري. ورغم أن الرعب كان يغطي وجهها، إلا أنها كانت تنظر لنا جميعا بتحدٍ. كلما حاولت أن أتخيل ما يمكن أن تشعر به في هذه اللحظة، أشعر أننى أريد الصراخ والوقوع بجانبها والبكاء معها، والصراخ في وجه كل من وضعها ووضعني في مثل هذا الموقف، فربما تتوقف حينها عجلة الاحتراق الذاتي التي تشتعل بداخلي يوما بعد يوم.
ربما أكون امرأة بالغة، لكن بداخلي طفلة عنيدة أيضا لم تتجاوز الستة أعوام. وجهت الطفلة نظرات العند والتحدي إليّ، رغم أن كل ما أردده هو أنى لن أسمح لأحد بالاقتراب منها، وأني أريد فقط التحدث معها، وأن تهدأ حتى تتمكن من الانصراف مع والدتها، لكنها لم تستمع ولم تسمح لوالدتها بالاقتراب منها، فهي من خدعتها وأتت بها إلى هنا.
إياك أن تخدع طفل، فهو لن يسامحك طوال العمر. وإياك أن تعاند طفل، فليس لعنده حدود، وهي من استحضرت تلك الطفلة العنيدة بداخلي.
جلبت أوراق عملي و جلست في آخر الطاولة التي تحول بيني و بينها، وقلت لها إنني لن أسمح لأحد بأن يقترب منها، لكنها يجب أن تهدأ حتى نستطيع الحديث أو أن تنصرف مع والدتها، وإني سأنتظر حتى تهدأ ولو لآخر الليل.
لم أشعر كم مر من الوقت. لكن أعتقد مر أكثر من ساعة، حتى بدأت بتوجيه الكلام إليّ مباشرة، فلديها من الذكاء أن تلاحظ كم الاقتراحات التي جاءت من نظرات أمها بتكبيلها أو أخذها عنوة، والتي أقابلها بالرفض والغضب. يبدو أن الطفلة تيقنت أنيّ من يجب أن تتفاوض معها. كذلك بدأت تظهر عليها علامات التعب بسبب الوقوف ورفضها تناول ما أقدمه من طعام أو شراب.
اقتربت مني ونظرت لي بتحدٍ وقالت إنها ليست خائفة من التحليل، وليست خائفة مني. لم أعترض على كلامها. تركتها تتحدث. لكنها لم تعرف أني أنا من أخاف منها. أخاف من أن تجعلنى أقوم بفعل ما، قد يشعرني بالذنب تجاهها طوال حياتي. وأخاف من قوتها وعنادها حتى وإن كان ناتج عن الخوف والرعب. لكنني كنت أتمنى في مواقف كثيرة من حياتى أن تكون لديّ مثل هذه القوة.
تحدثت الطفلة معي في الكثير من الأشياء، منها ما له علاقة بالفيروس والتحليل، ومنها العديد من الأمور المختلفة. وكانت تشعر بفرحة المنتصر الذي أرغمنا جميعا على تنفيذ مطالبه. لكنها لم تكن تعلم أن المنتصر هو أنا، عندما استطعت إقناعها بتنفيذ ما أريده وحدها، ودون إرغام من أى أحد.
حتى أنها طلبت منيّ أن تقوم بالتحليل لتثبت أنها ليست خائفة. هي فقط غاضبة من خداع أمها لها. طلبت منها التمهل، وإن أرادت أن تؤجل هذه الخطوة ليوم آخر، فأنا اضمن لها أنه لن يستطيع أى أحد إرغامها. لكنها أصرت مرة أخرى، فلم يكن لدي خيار سوى تنفيذ رغبتها.
غادرت الطفلة، وكنت أتمنى أن أحظى بفرصة لمقابلتها مرة أخرى. وعندما خرجت، رأيت الجميع يحدق بي وكأنهم غير قادرين على استيعاب قضائي كل هذه المدة بالداخل دون أن أغضب أو يعلو أي صوت، وكيف جلست كل هذا الوقت أنتظر فقط أن تتحدث معي.
لم أشعر بنفسي إلا وأنا أدخل إحدى الغرف، وأغلقها على نفسي، وأجلس على الأرض وأجهش في البكاء. لا يمكن أن ألوم موقف معين خلال اليوم على هذا الأمر، لكن هذا هو المعتاد بين الحين والآخر. تلك الغرف شهدت بكاء من يفرح أو يحزن لنتيجة تحليل، كما شهدت بكاء العديد من العاملين. لا أعتقد أن أحدا هنا لم يغلق على نفسه بابا في يوم ودخل في نوبة بكاء. قد لا يكون بعضها متصل بالعمل، لكن العمل في مكان كهذا يعرضك لكافة أنواع المشاعر التي يمكن أن يختبرها شخص ما، ويمكن أن تشعر بها كلها في يوم واحد، بل في ساعة واحدة. أو ربما كنت أعرف كل شخص بكى داخل حجرة ما، وسبب هذا البكاء لأنه حتما سيجدنى بعدها أدعوه بعفوية لشرب فنجان من القهوة، أو أعبر عن رغبتي في الوقوف معه بالخارج لحين الانتهاء من سيجارته، فيخبرني حينها بكل ما كان يجول بخاطره حتى أساعده إن احتاج مساعدتي، أو حتى لمجرد الشعور بأن له صديق قادر على سماعه. فنحن نسمع الغرباء كل يوم، ويصيرون من بعدها أصدقاءنا، ونصبح محل ثقتهم وملجأهم طوال حياتهم، فما بالك بواحد منا. ألم تخبرني المرأة في الصباح بأني منهم!
أسمع طرقات على الباب، فيدخل أحد العاملين ليخبرنى بانتهاء تقديم كافة الخدمات. أجمع أشيائي وأركب في سيارة أحد العاملين معنا، فهذا هو المتعارف عليه؛ من لديه سيارة يصطحب أكبر عدد ممكن من العاملين معنا لتوصيلهم لأقرب مكان.
ينخرط الجميع في الحديث والضحك والشجار في وقت واحد… نظرت للشارع المزدحم وأنا أتذكر كلمة المرأة: “مننا يعني”. أتذكر اضطراب الفتى حين أخبرته النتيجة، و لمعة عين المرأة وهي تخبرنى بحملها، ونظرات الترقب حين جلست وسط الجموع، ونظرات التحدي في عيون الطفلة ثم ابتسامتها وهي تلوح لي عند الخروج.
أغمضت عيني وبدأت أردد مع نفسي بعض الأبيات:
“هل كان علينا أن نسقط من عُلُوّ شاهق، ونرى دمنا على أيدينا… لنُدْرك أننا لسنا ملائكة.. كما كنا نظن؟
وهل كان علينا أيضا أن نكشف عن عوراتنا أمام الملأ، كي لا تبقى حقيقتنا عذراء؟
كم كَذَبنا حين قلنا: نحن استثناء!
أن تصدِّق نفسك أسوأُ من أن تكذب على غيرك!
أن نكون ودودين مع مَنْ يكرهوننا، وقساةً مع مَنْ يحبّونَنا – تلك هي دُونيّة المُتعالي، وغطرسة الوضيع!
أيها الماضي! لا تغيِّرنا… كلما ابتعدنا عنك!
أيها المستقبل: لا تسألنا: مَنْ أنتم؟
وماذا تريدون مني؟ فنحن أيضا لا نعرف.
أَيها الحاضر! تحمَّلنا قليلاً، فلسنا سوى عابري سبيلٍ ثقلاءِ الظل!”
(محمود درويش، أنت منذ الآن غيرك)
إنسانة تحمل العديد من الخلفيات المهنية، فهي تمتهن الطب وتعمل بمجال الأبحاث والحقوق والحريات، لا تهوى الالقاب والتصنيفات بكافة أنواعها الاجتماعية والشخصية والمهنية (إلا في موضعها المهنى المحدود)، لذلك تعمل جاهدة ضد كافة أشكال التمييز و الوصمة، تهوى الشعر واللغة والموسيقى العربية