إن القضية موضوعُ البحث، هي قيمةُ العمل لدى المرأة المصرية المعاصرة، أي المرأة المصرية التي تلقت قسطًا أوفر من التعليمِ المتوسط وفوق المتوسط، الذي أدى بالضرورة إلى مجموعة من التوقعات من قبل المجتمع تجاهها، ومن أهمِّ هذه التوقعات ضرورة مساهمة المرأة المتعلمة في تنمية المجتمع والنهوض به.
وبالفعل لقد اقتحمت المرأةُ مجالات العمل المختلفة، كما أثبتت نجاحات واسعة، إلا أننا وبعد مرور سنوات وسنوات على هذه التجربة، نجدُ تزايد الدعوة لعودة المرأة إلى البيت، إلى جانب ذلك، فإن ثمة ملاحظاتٌ تشيرُ إلى أن مجتمعنا المعاصر قد شهد العديد من نساء جامعيات وغير جامعيات من العاملات يتركنَ وظائفهنَّ ويكتفين في دورهم برعاية الأسرة.
وعديدٌ من العاملات تُخامرهنَّ الرغبة في العودة إلى البيت، إذا ما توفرت الإمكانيات الاقتصادية، والأهمُّ من ذلك أنَّ عددًا لابأس به من طالبات الجامعة لديهنَّ تصورٌ سلبيٌ للخروج إلى العمل، فنجدُ الكثيرات يُفضلنَ ألا يعملنَ بعد انتهاءِ دراستهم الجامعية، وخاصة بعد الزواج، انطلاقًا من اقتناعهنَّ بعدم أهمية عملِ المرأة وتأثيرها السلبي حيال دورها الأسرى.
وأيضًا هناك عددٌ لابأس به من الرجال، يُفضلون ألا تعملَ زوجاتهم انطلاقًا من أن خروج المرأة إلى العمل يُعرضها للمتاعب، والرجل بعد كل شئ هو المسؤول الأول عن الإنفاق على الأسرة.
ونجدُ أيضًا أن اقتراحًا مقدمًا إلى مجلس الشعب (في إبريل ١٩٧٧) مؤدَّاه أن تعود المرأة العاملةُ إلى البيت إجباريًا من الفترة: ثلاث إلى خمس سنوات لرعاية أطفالها بمجرد الإنجاب، على أن تحصل على نصف راتبها .
كما اهتمت أجهزةُ الإعلام بهذه القضية والاستعانة من المختصين من أساتذة الجامعة والمفكرين ورجال الدين في محاولة للوقوف على الجوانب المختلفة لدى مجموعة من النساء حول قيمة العمل.
فلقد حاولت هذه الدراسةُ إلقاءَ الضوءِ على عدة من جوانب هذه القضية على النحو التالي:
1 – إبراز الجذور التاريخية لعمل المرأة، وترجع أهمية ذلك إلى أنه من خلال معرفة التراث الإنساني الحضاري للمرأة، سوفَ يُمكننا من فهم وتفسير الوضع الراهن للمرأة، وعلاقتها من موقفها الحالي أي أنه نتيجة لهذا التراث أسندت للمرأة أدوارٌ بعينها، ورسمت هذه الأدوار بحيثُ أصبح خروجها إلى العمل دورًا دخيلاً على هذه الأدوار، مما أدى إلى صراع هذه الأدوارَ معًا، وكان من أحد نتائج هذا الصراع عودة بعض النساء إلى البيت.
۲ – توضيح كيفَ وصلت المرأة المصرية المعاصرة إلى ما هي عليه من خلال إسهاماتِ الجيل السابق، من المصلحينَ الاجتماعيين والمفكرين، وعلاقة ذلك بالتغيرات الاجتماعية التي شاهدها المجتمع المصري في هذه الفترة.
3 – توضيحُ أهمية دور المرأة في المجتمع.
٤ – عرضُ بعض الدراسات السابقة المحلية بهدف تتبع أهم نتائج هذه الدراسات، وما تعكسه من جوانب هذه القضية.
5 – عرض لبعض الدراسات السابقة الأجنبية، بهدف معرفة مدى التشابه والاختلاف بين مشكلات المرأة العاملة المصرية والمرأة العاملة التي تنتمى إلى ثقافات أخرى.
6 – ومن خلال الدراسة الميدانية، حاولت الباحثةُ الإجابة عن تساؤل أساسي: ما هو تصور المرأة المعاصرة عن قيمة العمل؟
وتفرع من هذا السؤال عدة تساؤلات تفصيلية:
– ما هو تصور عينة من نساء عاملات عن خروج المرأة للعمل؟
– ما هو تصور عينة من طالبات كلية الطب عن خروج المرأة للعمل؟
– هل هناك فروق لها دلالة إحصائية بين العينات المختارة، في التصور عن العمل؟
– ما هي الأسباب التي تكمن وراء تصورات كل عينة من عينات البحث عن خروج المرأة للعمل؟
الدراسة الاستطلاعية:
أجريت دراسةٌ استطلاعية بهدف معرفة الآراء المختلفة للنساء عن العمل، والأسباب المختلفة لهذه الآراء، حتى تكون نواةً لتصميم استمارة استطلاع الرأي التي تمَّ استخدامها في الدراسة الأساسية.
العينة:
تكونت عينة الدراسة الاستطلاعية من ۲۲ سيدة.
– 5 طالبات جامعيات.
– 11 سيدة عاملة ومتعلمة ومتوسط جامعي.
– 6 سيدات غير عاملات ومتعلمات تعليمًا جامعيًا ومتوسطًا.
تراوح سنُّ أفراد العينة ما بين20: 38 وكان من بينهنَّ 10 نساء غير متزوجات.
الأداة المستخدمة:
تم استخدام أسلوب المقابلة الشخصية الموجهة، فقد حددت الباحثةُ عددًا من الأسئلة، حاولت أن تكونَ محور المقابلة.
نتائج الدراسة الاستطلاعية:
1 – عينة النساء غير العاملات:
أظهرت نتائج المقابلة في السيدات غير العاملات أن الدافع وراءَ عدم خروجهنَّ إلى العمل، هو الاهتمام برعاية الأطفال وأنهنَّ لا يثقنَ أن يعهدنَ لأحد غيرهن برعاية أبنائهن، كذلك رأت سيدات العينة، صعوبة اتخاذ قرار العودة إلى العمل، وأن هذا القرار يزدادُ صعوبةً كلما طالت فترة بقائهنَّ في المنزل.
۲ – النساء العاملات:
رأت هذه العينة أن المجتمع يُلقى كل العبء على المرأة فيما يتعلقُ بشؤون المنزل، ولا يُقدمُ لها ما يُساعدها لتسهيل مُهمتها كأم وزوجة وعاملة.
3 – الطالبات:
رأت البعضُ منهنَّ أنه من الأفضل ألا تعمل المرأة بعد الزواج لعدة أسباب منها:
– أن تتيح لزوجها أن يحققَ نفسه أولاً.
– الاهتمام برعاية الأولاد .
– أن عمل المرأةَ غير مجز من الناحيةِ الاقتصادية، تنفقه المرأةُ على شراء أدوات الزينة والملابس… الخ.
– أن العمل يحقق للمرأة المساواة بزوجها مما يؤثرُ على الحياة الزوجية.
– أن المرأة تعملُ لأسباب اقتصادية، ولو استطاع الزوج توفير ذلك فلا داع إذًا لعملها.
كما رأت غالبيةُ الطالبات أنَّ العمل غير ضروري بالنسبة لخريجات الكليات النظرية، أما خريجات الكليات العملية كالطب والهندسة.. الخ فخروجها إلى العمل أمر ضروري.
(ونتيجة لذلك رأت الباحثة ضرورة أن تتضمن عينةُ البحث طالبات، مجموعة تمثل الكليات النظرية، ومجموعة أخرى تمثلُ الكليات العملية مثل (الطب).
– ومن خلال تحليل الآراء المستخلصة من الدراسة الاستطلاعية، تمَّ تحديد عدد من الأبعاد التي يكونُ مجموعها التصورُ العام لدى المرأة عن العمل.
– تَكوَّنَ المقياس في صورته النهائية من شقين– :
1 – تكوَّن الشقُّ الأول من 41 عبارة تُمثل التصور العام عن خروج المرأة للعمل.
٢ – تكوَّن الشق الثاني من سؤال مفتوح يختلفُ باختلاف موقع كل عينة، بهدف قياس الموقع الفعلى المباشر من العمل وأسبابه.
فكان السؤال الموجه لعينة الطالبات هو:
س. هل ترغبين في العمل بعد تخرجك. أم لا؟ ولماذا؟
وكان السؤال الموجه لعينة النساء العاملات هو:
س. لو أتيحت لك فرصة عدم الخروج إلى العمل، فماذا تفعلين، تعملي، لا تعملى؟ ولماذا؟ وكان السؤال الموجه للنساء غير العاملات:
س. لو أتيحت لك فرصة الخروج إلى العمل. تعملى أم لا؟ ولماذا؟
۱ – عينات طالبات كلية الآداب، وعددهم 48 طالبة.
٢ – عينة طالبات كلية الطب، وعددهم 35 طالبة.
۳ – عينة من سيدات عاملات (بهيئة التأمين الصحى) وعددهن ٤٦ سيدة.
٤ – عينة من سيدات غير عاملات ومتعلمات، وعددهن ٢٨ سيدة.
أولاً. نتائج خاصة بالشق النظرى من الدراسة:
۱ – فيما يتعلق بالجذور التاريخية لعمل المرأة، يتضحُ أن المجتمعات الإنسانية قد شهدت على مرِّ تاريخها نوعًا من تقسيم العمل الذي نشأ تدريجيًا، وترتب عليه تقلص مهامِ المرأة الإنتاجية والاجتماعية، وانتهى أن تظلَّ المرأة داخل المنزل، ويتولى الرجل المهام الخارجية، واتضح أيضًا الارتباط الوثيق بين تقسيم العمل هذا ووضع المرأة مرتبةً أدنى من الرجل، بمعنى آخر ارتبطَ هذا الشكل من تقسيم العمل بعدم مساومة المرأة مع الرجل، ورغم التغيير التدريجي لشكل المجتمعات، وبعد ان اكتبست المرأةُ حق التعليم والعمل، لم يؤدِّ خروجها من العمل إلى إعادة توزيع الأدوار، بل أصبح عبئًا جديدًا يُضاف إلى أعبائها السابقة.
٢ – ما اتضح من خلال العمل الموجز لتاريخ النهضة النسائية المصرية الحديثة، أن ما شاهده المجتمعُ المصري في القرن الماضي وبدايات هذا القرن من أحداث اجتماعية واقتصادية، أدى إلى انتعاش الحياة الفكرية، مما أدى إلى ظهور العديد من المفكرينَ والمصلحينَ الاجتماعيين الذين نادوا بضرورةِ النهوض بالمرأة عن طريق تعليمها، وإتاحة الفرص أمامها للمساهمة في بناء المجتمع.
وأيضًا أدى إلى ظهور العديد من النماذج النسائية الرائدة، التي حملت على عاتقها النهوض بالمرأة، ومن أهمِّ نتائج هذه الحقبة أن أصبح التعليم والعمل من أهمِّ حقوق المرأة.
3 – وفيما يتعلقُ بدور المرأة في التنمية تتضحُ تلك العلاقة الوثيقة بين المرأة والتنمية، المرأة بصفتها نصف المجتمع، والتنمية التي يكون كلٌ من المرأة والرجل أدواتها، من حيثُ أدوارهم التي يقومون بها من أجل تحقيق أهداف هذه التنمية، وهم أيضًا أهدافها التي تسعى إلى رفاهيتهم.
4 – ولقد استخلصتُ من خلال عرض الدراسات السابقة العربية، أنَّ المرأة العاملة المصرية التي تعاني من الصراع بين دورها الأسرى ودورها الإنتاجي، مما يؤدى في كثير من الأحيان إلى خفض إنتاجيتها وارتفاع معدل تغيبها، بالإضافة إلى الإهمال في رعاية أطفالها.
5 – ويتضحُ من خلال عرض الدراسات السابقة الأجنبية هذا التشابه بين نتائج هذه الدراسات التي أُجريت على المستوى القومي، فعلى سبيل المثال، أثبتت العديد من تلك الدراسات أن المرأة العاملة الأمريكية تعاني من صراع في الأدوار، فهي مسؤولةٌ عن رعاية الأبناء والأعباء المنزلية. فخروجها إلى العمل بجانب الأعباء المنزلية يؤدى إلى خفض إنتاجيتها، وزيادة تغيبها عن العمل وتفاقم مشاكلها الزوجية.
نتائج الدراسة الميدانية:
أولاً. فيما يتعلق بالتصور العام عن العمل:
۱ – بلغت نسبة الموافقات على العمل ضمن عينة النساء العاملات 61.2% مع، 38.8 % ضد.
۲ – بلغت نسبة الموافقات على العمل ضمن عينة النساء غير العاملات 50% مع، 50% ضد.
۳ – بلغت نسبة الموافقات على العمل ضمن عينة طالبات كلية الطب 85.7% مع، 14.3% ضد
4 – بلغت نسبة الموافقات على العمل ضمن عينة طالبات كلية الآداب 45.8% مع، 54.61% ضد.
ثانيًا: فيما يتعلق بنتائج الشق الثاني من المقياس كانت كالتالي:
۱ – بلغت النسبة المئوية على الموافقات على العمل ضمن العاملات ٤٧.٤%، ٤٤.٤٤% ضد، 8.33% لم تجب.
۲ – بلغت النسبة المئوية ضمن الموافقات على العمل ضمن عينة غير العاملات 7.4 % مع العمل، 6.73% ضد، 32.4% تعمل.
۳ – بلغت النسبة المئوية للموافقات على العمل ضمن عينة طالبات كلية الطب 88.6% مع, 5.7% ضد 5.7% تعمل بشروط.
٤ – بلغت النسبة المئوية للموافقة على العمل ضمن عينة طالبات كلية الآداب 45.5% مع، 50% ضد، 4.5% لم تجب.
ثالثًا : أظهرت النتائج وجود فروق ذات دلالة إحصائية بين عينتي طالبات كلية الآداب وطالبات كلية الطب.
رابعًا: لم تظهر فروق ذات دلالة إحصائية بين باقي عينات الدراسة.
خامسًا: الأسباب التي تقف وراء التصورات المختلفة نحو خروج المرأة الى العمل:-
1 – عينة النساء العاملات:
رأت غير الموافقات على العمل، ضرورة أن مهمة المرأة أن تقوم برعاية الأبناء، وأنهن يشعرن بالتقصير في حق أبنائهن، كما أن العمل يحرم الأم من الإشراف على أبنائها، وعلى المرأة ألا تعمل إلا في حالات الضرورة القصوى، وأن المرأة العاملة تبذل جهدًا كبيرًا في العمل داخل المنزل وخارجه، مما يؤثر على صحتها.
٢ – الموافقات على الخروج إلى العمل:
رأت الموافقات على العمل أن العمل ينضج شخصية المرأة ويكسبها ثقة بالنفس، وقدرة على إثبات ذاتها، ويزيد على اعتمادها على نفسها، كما يساعدها على تقدير قيمة الوقت الى جانب أنه يمكنها من المساهمة في رفع المستوى الاقتصادي للأسرة.
3- عينة النساء غير العاملات:
رأت غير الموافقات على خروج المرأة للعمل ضرورة ألا تخرج المرأة الى العمل لرعاية أطفالها وزوجها وأن مكان المرأة هو البيت، وأن العمل خارج المنزل هو من اختصاصات الرجل، وعلى الزوج تحمل النفقات على الأسرة، كما أن الدولة لا تقدم الخدمات المناسبة التي من نشأتها أن تساعد المرأة العاملة الى جانب صعوبة المواصلات، وقلة الأجور.
4 – عينة الموافقات على مبدأ الخروج الى العمل:
إن العمل يكسب المرأة الثقة بالنفس، والقدرة على التعامل مع الآخرين ويصقل شخصيتها .
5 – أما عن الموافقات على مبدأ الخروج الى العمل بشروط، فكانت شروطهم كالتالي :-
– أن يصل الأبناء إلى سن يستطيعون فيه الاعتماد على النفس.
– وجود عمل قريب من المنزل.
– سهولة المواصلات.
– توافر الحضانات، والحصول على عمل في مجال التخصص، أن يكون عملاً مجزيًا من الناحية المادية.
ثالثًا: عينة طالبات كلية الطب:
رأت الموافقات على مبدأ الخروج إلى العمل:
– أن أهمية دراسة الطب تحتم على الخريجات، العمل بعد التخرج.
– زيادة الأعباء المادية والعمل لتحقيق الاستقلال الاقتصادي.
– أن العمل كطبيبة يتفق وتعاليم الدين الإسلامي، وحاجة المجتمع إلى طبيبات مسلمات ماهرات.
– كما أن العمل كطبيبة لا يتطلب احتكاكًا بالرجال ويمكن المرأة من الحفاظ على نفسها.
– إن العمل كطبيبة يضع المرأة في موضع محترم بين الناس.
ورأت غير الموافقات: أهمية أن تقوم المرأة برعاية أبنائها، وأن العمل الخارجي من صميم اختصاصات الرجال.
أما عن الموافقات على العمل بشروط: فكان الشرط الأساسي أن يصل الأبناء إلى سن يستطعيون فيه الاعتماد على أنفسهم، وأن يكون المجتمع في احتياج على تخصصها.
رابعًا: عينة طالبات كلية الآداب:
رأت الموافقات على العمل:
ضرورة العمل بهدف تحقيق الاستقلال الاقتصادي والاعتماد على النفس ومساعدة الزوج في حالة عدم قدرته على تحمل مسئولية الإنفاق على الأسرة بمفرده.
ورأت غير الموافقات:
– إن مكان المرأة هو المنزل لرعاية الأبناء.
– الالتزام بتعاليم الدين الإسلامي الذي يأمر النساء بأن يقرن في بيوتهن.
– أن العمل هو أهم اختصاصات الرجل وهو المسئول عن الإنفاق على الأسرة.
– أن خروج المرأة إلى العمل يعرضها إلى كثير من المتاعب.
– ثقل الأعباء الموكلة على المرأة من جراء عملها داخل المنزل وخارجه.
ولعلنا من خلال الإطلاع على النتائج السابق عَرضها والخاصة بهذه الدراسة، نجدُ أن عينة طالبات كلية الطب قد سجلن أعلى نسبة مئوية في التصور الإيجابي نحو خروج المرأة إلى العمل، وبالتالي أقل نسبة مئوية في التصور السلبي نحو خروج المرأة إلى العمل.
ويرجعُ تفسيرُ ذلك إلى أن القيمة الإيجابية لدى نساء هذه العينة تجاه خروج المرأة إلى العمل، تنتجُ من عملهنَّ المستقبلي كطبيبات، فمهنةُ الطبَّ لا زالت تحتفظُ بقيمتها الاجتماعية المرتفعة، فهناك احترامٌ اجتماعي لعمل الطبيبة، وهناك عائدٌ ماديٌ متوقع، فالطبيبُ يحصل على أجر يفوقُ أجور الوظائف الأخرى (الحكومية)، ويُمكنه أن ينشئ عيادةً خاصة، وأن يعمل (في إطار تخصصه)، في أماكن عدة (في المستوصفات والمستشفيات الخاصة… إلخ) أي أنه لا يُمكن الاستغناء عن دور الطبيب، ما دام المرض موجود. كذلك يجنى الطبيب من وراء عمله رضاءً شخصيًا وثقةً في النفس، فقدرتُه على أن ينقل إنسانًا من حالة المرض إلى حالة الشفاء، ترفعُ من قيمة عمله، وتُشعره بأهميته وأهمية الدور الذي يقوم به .
وجملةُ القول، نجدُ أن طالبات الطب ربما يشعرن أن مهنة المستقبل مهنة واعدة، تحملُ الكثير من الآمال، وتعدُ بتحقيق المزيد من الطموحات على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والشخصي.
مع ذلك فلو استطلعنا رأي عدد من طبيبات عاملات بالفعل، فربما نجدُ أن موقفهم من العمل يختلفُ بعض الشئ عن تصور الطالبات نحو خروج المرأة إلى العمل، فالعلاقةُ المباشرة بالواقع من موقع العمل، ربما تؤدي إلى تحجيم هذه التوقعات، فمن غير الممكن أن يكون لدى كل الأطباء والطبيبات عياداتٌ خاصة، وإن مهنة الطبيب شأنها شأن بقية المهن؛ تتأثرُ بظروف المجتمع.
فهناك العديدُ من الأطباء والطبيبات ذوي الدخل المرتفع، وأيضًا هناك آخرون يعانون ما يعاني منه باقي أفراد المجتمع ممن يعملون في مهن أخرى. بل لعلنا نجدُ العديد من الطبيبات قد انسحبن بالفعل من مجال العمل، وآثرن الاكتفاء برعاية الأبناء.
كذلك أشارت النتائجُ إلى أن عينةَ النساء العاملات كانت المجموعة التالية من حيثُ ارتفاع التصور الإيجابي نحو العمل.
وترى الباحثةُ أنه رغم ضغوط العمل، ورغم ازدواجية دور المرأة العاملة بين البيت والعمل، إلا أن الخروج إلى العمل يدفعُ النساء إلى تکوین تصور ایجابي نحو العمل، فهن يحصلن من خلال عملهن على دخل، واحتكاك بالعالم الخارجي، وأيضًا ما يُتيحه العملُ من توظيف طاقاتهن الإنسانية، ولأجل ذلك يرتفع تصورهن الإيجابي نحو خروج المرأة إلى العمل، فالخبرة الفعلية تقفُ وراء هذا التصور الإيجابي إلا أنه حين تمت مقارنةُ الجزء الأول من المقياس الخاص بالتصور العام نحو العمل بالجزء الثاني من المقياس (والمتضمنُ سؤالاً مباشرًا خاصًا بالموقف الشخصي الخاص بالمرأة العاملة تجاه العمل وإذا ما أتيحت لها فرصة الرجوع إلى البيت) أشارت النتائجُ إلى وجود تعارض بين نتائج الجزء الأول والجزء الثاني، أي أن الكثير من النساء العاملات آثرن أن يعدن إلى المنزل لو توفرت الظروفُ الاقتصاديةُ لذلك.
وترى الباحثةُ أنه في ضوء الدراسات السابقة، يمكننا أن نلمس ما تعانيه المرأةُ العاملة من صعوبات بسبب دورهنَّ المزدوج، فهن عاملاتٌ وأمهاتٌ مسؤولاتٌ عن رعاية أولادهن وأسرهن، مما يؤثر على أداء المرأة لدورها الوظيفي، فنجدها كثيرة التغيب، ومنخفضة الإنتاج من ناحية، وهي مقصرةٌ في واجباتها تجاه أبنائها من جهة أخرى، ولهذا فإن المرأة العاملة تود أن تعود إلى المنزل وأن تكتفى برعاية الأبناء والقيام بالمهام الأسرية.
إن نساء هذه العينة قد آثرن ألا يعملن لظروف مختلفة، واكتفين بالدور الأسرى، إلا أنهنَّ غالبًا غير راضيات عن أنفسهن. فالعملُ المنزلي روتيني، وليس له قيمةٌ ملموسةٌ في نظر الآخرين، وبالتالي لا تجنى المرأةُ عائدًا من وراء أفراد الأسرة (أسرتها). ويلي ذلك عينة من النساء غير العاملات، وهي ثالثُ المجموعات من حيث تصورها الإيجابي نحو العمل، فنجدُ تصورهنَّ عن العمل أقل إيجابيةً عن تصور كل من مجموعتي الطب والعاملات، إلا أنهُ مرتفعٌ عن تصور عينة طالبات كلية الآداب.
وتواجهُ المرأةُ غير العاملة محنةً حين ينتهى الاحتياجُ إلى دورها كأم وربة أسرة، فحين يصلُ الأبناءُ إلى سن يقلُّ معه درجهُ إحتياجهن لها ويتولدُ عنه شعورٌ بعدم الرضا، ورغم ذلك فحينما نتوجهُ بالسؤال إلى نساء هذه العينة (لو أتيحت لك فرصةُ إلى العمل، ماذا تفعلين)، نجدها تترددُ كثيرًا في اتخاذ مثل هذا القرار، ويرجعُ ذلك إلى أن طولَ فترة بقائها داخل المنزل، وقلة احتكاكها بالعالم الخارجي، قد أثر بالضرورة على قدراتها واستعداداتها.
كذلك ترى المرأةُ غير العاملة أنها كي تخرج مرةً أخرى إلى مجال العمل، لابد من توفر البديل لرعاية أطفالها، وهذا بالفعل ما يفتقدهُ مجتمعنا مما يعكسُ عدم تقديره لأهمية عمل المرأة الإنتاجي.
وسجلت عيناتُ طالبات كلية الآداب تصورًا سلبيًا تجاه العمل يفوقُ تصورات المجموعات الثلاثة الأخرى.
وتُرجعُ الباحثةُ ذلك إلى عدة نقاط:
– أن الغالبية العظمى من طلبة وطالبات الكليات النظرية، لا يختارون كلياتهم.
– غالبًا ما تتوقع الطالبات ألا يعملن في تخصصاتهنَّ.
– إذن هناك انفصالٌ بين ما يُدرَّس وبين أعمالهنَّ في المستقبل.
– على الغالبية منهنَّ انتظار القوى العاملة بضعة سنوات، مع الأخذ في الاعتبار المشكلات التي تواجهُ القوى العاملة، والتي تعجزُ كثيرًا عن إيجاد أعمال للخريجين.
– أن الدخل المنتظر من وراء الوظيفة لا يفي توقعاتهن، ولا يتناسبُ مع طموحاتهن المادية.
– العواملُ السابقة مجتمعةً تعكسُ غياب خطة تنمية ذات أهداف محددة، تضعُ كل فرد في مكانه في موقع الإنتاج، الذي يتناسبُ وقدراته وتأهيله العلمي، ومن هنا تنخفضُ القيمة الاجتماعية لأعمال بعينها.
فيواجهُ خريجي هذه الكليات محنةً، حيثُ يشعرُ كل فرد منهم أن عليه أن يشق طريقه بمفرده، دون أن يتوقع العون من المجتمع، فعليه أن يبحث عن عمل يجنى من ورائه عائدًا ماديًا يفي بالتزاماته، منفصلاً عن تعليمه وتأهيله، وبالنسبة للطالبات، فهناك حلٌ جاهزٌ يكمنُ في تراثهن، ففي حين لا يتوقعُ المجتمعُ من الرجل إلا العمل، تجدُ الإناث من الطالبات تراثًا مختلفًا، فتاريخ خروج المرأة إلى العمل حديثٌ نسبيًا، ومن ثم لا يُعارض المجتمع ألا تعمل النساء، وبهذا لا تمانعُ الطالباتُ من إيجاد حل لهذه المحنة في الزواج من شخص يوفر لهن الأمان المادي. ترى الباحثة في النهاية أن المجتمع هو المسؤول عن حدوث هذه الظاهرة، فحين يفرغُ العملُ من مضمونه الإنساني الاقتصادي، حين يصبح العائد من وراء العمل غير مضمون ولا يتناسبُ مع توقعات الأفراد، وحين تنخفضُ قيمة العمل في المجتمع بأسره، تنخفضُ بالتالي قيمته لدى النساء، وحتى لو كُنَّ متعلمات.