شهد تاریخ مصر فترة طويلة من انقطاع العمل الأهلي في مجالاتٍ كثيرة، من بينها العمل في القضايا المتعلقة بالمرأة، وقد ساند هذا الانقطاع أن تلازم مع حل الأحزاب والمنظمات الأهلية مع مشروع النهوض القومي في الخمسينات والستينات .. ومع انحسار موجة النهوض القومي وما مُنيت به البلاد من انتكاساتٍ متعددة، وجدت المرأة المصرية نفسها في مقدمة الفئات التي تأثرت بشكلٍ واضح بكل تلك الأحداث. وكان عودةُ النشاط الأهلى ممثلاً في عديدٍ من الجمعيات الغير حكومية، تعبيرًا عن رغبةٍ حقيقية في تجاوز المحنة بالعمل المشترك.
والجمعيات الغير حكومية متعددة.. منها المسجل بوزارة الشؤون الاجتماعية، ومنها من فشل في الحصول على هذا التسجيل، فتشكل على هيئة مراكز أبحاث أو شركات مدنية غير رابحة. وأنشطته أيضًا متعددة تتراوح بين التركيز على محورٍ واحد للنهوض بالمرأة، مثل محو الأمية أو توفير فرص العمل للنساء في المناطق المحرومة، أو تقديم خدماتٍ أو استشارات .. ومنها من يهتم ببحث قضية المرأة وتحديد مواقف نظرية من قضاياها.. ومنها من يكافح لتغيير أوضاع المرأة الاجتماعية والاقتصادية والقانونية.. الخ.
وفي ظل الهامش الضئيل للديمقراطية المتاح في بلادنا، يظل تعبير هذه الجماعات عن نفسها قاصرًا ولا يصل لجمهور النساء، بل قد لا تعرف المنظمات بعضها البعض إلا في مناسباتٍ موسميةٍ مرتبطة بعملٍ يُنشطُ همة هذه المنظمات للتجمع والتعارف.
وقد كان التحضير لمؤتمر السكان أحد هذه المناسبات، حيث وجدت الحكومة نفسها في موقفٍ حرجٍ بعد أن أصبح من تقاليد عقد هذه المؤتمرات أن تعقد بالتوازي معها مؤتمرات المنظمات غير الحكومية، تستهدف إبراز وجهات نظر هذه المنظمات في كل القضايا المطروحة.. وقد استدعى هذا أن تسمح الحكومةُ بشيءٍ من الحركة لهذه الجماعات، حتى لا يكون صوتُ المنظمات الأهلية المصرية غائبًا عن المؤتمر الأهلي في البلد المضيف.
ولعله من الظلم أن نتخيل أن حركة الجمعيات بدأت بعد أن سمعت صفارة الانطلاق من وزارة السكان، فالحقيقة أيضًا أن هناك جدلٌ في الحركة.. حيث أن بعض المنظمات المصرية والشخصيات العامة وجه لها دعواتٍ لحضور المؤتمرات التحضيرية لمؤتمر السكان.. وكان أحدها في عمان في إبريل.. 1993 وفي هذا المؤتمر، كما في كل المؤتمرات الشبيهة، أدارت تلك الجمعيات ورشات عملٍ وحلقات بحثٍ في الساعات التي تلت انتهاء الجلسات اليومية.. حيثُ قررت المنظمات العربية الغير حكومية الحاضرة إنشاء لجنة تنسيقٍ تستمر في العمل حتى مؤتمر القاهرة، واختيرت لرئاستها السيدة عزيزة حسين.
وكان جزءٌ من دور المنظمات المصرية التي حضرت والسيدة عزيزة حسين يشتمل على دعوة المنظمات المصرية النسائية للتجمع، حتى تكون للجنة التنسيق العربية مصداقيةُ التعبير عن أكبر عددٍ من المنظمات المصرية.. وهكذا أثمر هذا الجدل خلال اجتماعاتٍ طويلة على مدى سنةٍ عن أبحاثٍ مشتركةٍ وورش عملٍ انعقدت في القاهرة والمنيا والإسكندرية.. بدعوة ومشاركة مُنظماتٍ محلية متباينة.. كما أثمر عن وثيقة الجمعيات الأهلية المصرية التي ضمت خلاصة هذا الجهد، مضافًا إلى جهد جمعياتٍ أخرى تهتم بالبيئة والصحة والسياسات السكانية والتنمية.. ومن خلال هذا المجهود تأكدت للمشاركين حقائق كثيرة مُعظمها سارٌ للغاية.
أولاً: أنه رغم ما يُهيمن على الساحة الثقافية المصرية من سُحب داكنة تهب علينا من بلاد النفط لتغيب دور المرأة المصرية، إلا أن الرموز المصرية لم تغب.. وكم كان ملهمًا أن نرى تواصل الأجيال، وأن تشارك رائداتٌ في العمل النسائي من ثلاثة أجيال لإنجاح هذا الجهد.
ثانيًا: أن التنسيق بين المنظمات المصرية مطلبٌ حيوى للعمل الأهلي، بما يتيحه من إمكانيات الفهم وتحديد نقاط الاتفاق والاختلاف في القضايا النظرية والعملية، وأيضًا لبناء الثقة في النفس وفي الآخرين، وفي تحديد المناطق التي يُمكن فيها التكامل في العمل بين المنظمات المختلفة والاستفادة من الجهود المبعثرة لكل منها.
ثالثًا: أن آليات العمل المشترك هي أحدُ التحديات التي يجبُ على هذه المنظمات خوضها: كيف نعملُ معًا بدون أن تضيع هوية كل منا ويذوب تَمَيُّزه؟ كيف يُعبر كل منا بحرية عن وجهة نظره دون أن يتعرض للمصادرة من المختلفين؟ كيف لا نخشى الخلاف ونمارسه بدون أن يُفسد للتنسيق قضية؟ كيف نبني الجسور قويةً بحيث لا نخشى العبور عليها؟
.. ونعتقدُ أن التحضير لمؤتمر السكان قد قدمَ الإجابةَ على بعض من هذه الأسئلة ..