مرت الحالة الاقتصادية في مصر بتحولاتٍ جذريةٍ خلال العشرين سنة الأخيرة نتيجةً للسياسات الحكومية التي استهدفت استبدال نظام السوق الحرة بالإعانة الاجتماعية التي دامت عشر سنوات فقط . وفي خلال الخمسة عشر سنة الأخيرة، كان تركيز السياسات التي سميت أولاً “بالانفتاح” ومؤخرًا “بالإصلاح الهيكلي” – أساساً، على تشجيع القطاع الخاص، ورفع الدعم عن السلع الأساسية، وتخفيض الإنفاق الحكومي في مجالات الصحة والتعليم والإسكان وعدم الالتزام بتأمين الوظائف للخريجين، وغيرها من سياسات, تسعى أساسًا إلى زيادة الميزانية العامة لتمكين الحكومة من سداد الديون الخارجية. أما المرحلة الثانية لبرامج الإصلاح الهيكلي التي بدأت منذ أوائل التسعينات، فقد تضمنت حل وخصخصة شركات القطاع العام، وتخفيض الرسوم الجمركية على الصادرات، وإصدار قوانين جديدة لإيجار الأراضي تسعى لإلغاء المكاسب القليلة التي حققها الإصلاح الزراعي. وتلك السياسات التي يجرى تنفيذها الآن، والتي لم تكشف آثارها الكاملة بعد تنبيء بدفع أعداد أكبر من المنتجين إلى دائرة البطالة وقوى الكسب الهامشية.
وقد كانت النتيجة المباشرة لهذه السياسات التي بلورها وتابعها عن قرب كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، انحدارًا حادًا وسريعًا في دخل ومستوى معيشة قطاعات عريضة من المجتمع المصري. سواء في الريف أو في الحضر. ومازال هذا الانحدار مستمرًا بالرغم من مزاعم الأطراف المذكورة والحكومة بتحسن صحة الاقتصاد المصرى.
وهذا الانحدار في مستوى معيشة مختلف القطاعات في المجتمع، انعكس في ارتفاع الأسعار مع ثبات الأجور والمرتبات وزيادة التضخم والبطالة التي كونت كلها عوامل دفع وجذب تؤثر على اختيارات الفئات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة في المجتمع.
إن تدهور أحوال الناس الاقتصادية الذي يتمثل – وفقًا للمؤشرات الاقتصادية – في انخفاض إيراد الفرد في علاقته بالتضخم، وارتفاع مؤشرات الأسعار، إلى جانب تزايد البطالة وتخفيض الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية، كالصحة والتعليم والإسكان، قد أدى إلى تغييرٍ واعٍ ومنطقى في مجال تحديد احتياجات الناس وطرق تلبيتها، وفي الأدوار المسندة لمختلف أفراد المجتمع، والنتائج المتوقعة من هذه الأدوار.
وغنيٌ عن الذكر أن اختيارات الناس لا يتم تحديدها بعيدًا عن الإطار القانوني والأيدولوجي والاجتماعي والاقتصادي الذي يعيش فيه البشر. واختيارات الناس هي الاختيارات الممكنة فقط في الأطر الأيدلوجية والقانونية السائدة، ولا تمثل أفضل الاختيارات من حيث تحققهم الإنساني. وهذه النقطة دائمًا ما يتجاهلها التيار الاقتصادي الليبرالي الذي يدافع عن نقاء النظرة الاقتصادية بعيدًا عن العوامل السياسية.
وقد أطلق على هذا التغير الذي طرأ على اختيارات الناس، كنتيجةٍ لتغير الظروف الاقتصادية، مصطلح “استراتيجيات الفقراء للبقاء والتكيف“. واتفقت المدارس الاقتصادية المختلفة على أن هذه الاختيارات التي تقوم بها الأسر كوحدةٍ، مبنيةٍ أساسًا على منطقٍ اقتصادی مؤداه – في رأى البعض – أن هذه الاختيارات تمثل أفضل المتاح بالنسبة للأفراد من زاوية “أقصى ما يمكن تحقيقه للبقاء“. وفي تقديري، فإن من الضروري تطبيق نفس هذا المنطق التحليلي على هذه المؤسسات الأخرى للكشف عن تأثير تفاعل علاقات القوى المختلفة على توزيع الموارد والحقوق، بين الفئات المهيمنة والتابعة في المجتمع.
وبالرغم من كونها مبنية على منطق اقتصادي، فإن تلك الاستراتيجيات تعكس أيضًا اختياراتٍ حددتها القيود المختلفة التي يفرضها المجتمع، سواء كانت قيودًا سياسية أو اجتماعية أو ثقافية لا تبررها سوى المصالح الاقتصادية للفئات المهيمنة التي تُمثلها. كما أن هذه الاختيارات التي تُشكلها القيود السائدة في المجتمع؛ لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تؤدى إلى سلامة ورفاهية الأفراد، ومن ثم فإن إزالة هذه القيود أصبح عنصرًا ضروريًا لتطوير نظامٍ ومنطقٍ اقتصادی جدید.
وبناءً على ما سبق، يصبح الكلام عن “تكافؤ الفرص“، كمكونٍ أساسي لنظامٍ معين وسياساته؛ مغالطةً كُبرى. وبما أن هذه السياسات ترسخها العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية غير المتكافئة السائدة، وبما أنها تُمارس من خلال مؤسساتٍ مُعينة، فإن امتيازاتها سوف تميل بالطبع تجاه الفئات الأقوى سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، ومن ثم يتضح أن هذه القيود السابق ذكرها التي تفرضها التفرقة السائدة بين الفئات المختلفة في المجتمع في الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية، إلى جانب التفرقة على أساس النوع (أي بين الذكر والأنثى)، كلها تؤدى إلى الحقيقة التي مفادها أن أفراد هذا المجتمع لا يُوقعون عقدهم المدني في إطار نظام السوق الحرة، على أساسٍ من التكافؤ، مما يؤثر بدرجاتٍ مختلفةٍ على قدرة الفئات التي تتحمل عبء هذه التفرقة على التفاوض من أجل أفضل مستوى معيشةٍ ممكن.
وبعبارة أخرى، فإن السياسات الاقتصادية لكل مجتمعٍ هي استجابةٌ لمنظوماتٍ أخرى من علاقات القوى السائدة به، فلا يمكن الحكم عليها بمعزل عن المؤسسات التي تُرسخها، أو عن أثرها الإيجابي أو السلبي على علاقات القوى التي تُعتبر جزءًا لا يتجزأ من كل المؤسسات أو البنيات السياسية والاجتماعية.
ولهذا، فإن حالة الفقر لا يمكن تقييمها أو فهمها من خلال القياسات والمؤشرات العامة فحسب، بل لابد من رؤيتها من زاوية تأثير الفقر على اختيارات الناس المتعلقة بسلامتهم، سواءً على الصعيد العادي أو النفسي، وبقدرتهم على بلوغ مستوى معين من تلبية الاحتياجات الأساسية، مستوى يبقى على آدمية الناس وكرامتهم. وتخلص من كل هذا إلى أن هناك احتياجٌ إلى تطوير منطقٍ جديد في معالجة قضية الفقر، يتخذ من حقوق الأفراد وآدميتهم محورًا لتطوير بدائل في مجال التنمية الاقتصادية، ويعارض إخضاع حقوق وسلامة الأفراد والجماعات إلى ضرورات واحتياجات التنمية الاقتصادية. فالفقر يُعد من أهم العوامل المحددة لمدى تمتع الناس بالاختيارات والحقوق، وهو يتبادل التأثير في ذلك مع عوامل أخرى مهمة مثل النوع والعمر… إلخ، ومن ثم، فلا ينبغي رؤية مشكلة الفقر خارج إطار الحقوق، وانتهاك حقوق المجموعات البشرية المختلفة، بالرغم من قيام التنظيمات المهيمنة في الدول المتقدمة بإجهاض محاولات العالم الثالث المستمرة لتسييس مشكلة الفقر.
واستجابة الناس لتغير ظروفهم الاقتصادية على مستوى الطبقات الاجتماعية ومستوى الأسرة، تختلف باختلاف العمر والنوع. وخلال العشرين سنة الأخيرة، أثرت في المجتمع المصرى متغيراتٌ عديدة، في مقدمتها الهجرة والتحضر. وقد كان لها انعكاسٌ مباشرٌ في مستوى الطبقات الاجتماعية في مصر، حيث رتبت تأثيرات متنوعة الأشكال الاجتماعية التي كانت سائدة، وعلى اتجاهات القوى العاملة وأوضاعها واختياراتها. وأبرزها فيما يخص هذا التحليل، زيادة الأسر التي تعولها النساء، وتزايد الضغوط على الأسرة، كبناءٍ اجتماعي، مما استفز كل أفرادها لتفادي الفقر، فغيَّر ذلك طبيعة القوى العاملة، والأبنية والعلاقات الاجتماعية التي تُنظم الأدوار، الأمر الذي أثر على الحقوق الأساسية لمختلف المجموعات، وعلى علاقات السوق وطبيعتها، ونوعية العمالة التي تدخل إليها، ودفع بأعدادٍ متزايدةٍ من النساء خارج “مجالهن التقليدي“، حتى أخذت الأجور اتجاهًا نازلاً لا يتكافأ مع القيمة الفعلية للعمل، ويُعبر عن تمييز بين الرجل والمرأة عندما يؤديان نفس العمل، وأخيرًا، زيادة حجم العمل غير المدفوع الأجر لمواجهة التدهور المتزايد في الخدمات الاجتماعية. وهذا يعني أن السياسات الحكومية، في علاقتها بخفض الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية، تعتمد في جوهرها على القدرة غير المحدودة للبشر على التكيف، من غير أن تأخذ في حسابها التكلفة الإنسانية التي يدفعها البشر ثمنًا لآليات، التكيف هذه.
والاختيارات الفردية وإدارة وتوزيع الموارد داخل الأسرة تحكمها، أولاً وأخيرًا، أغراض البقاء وتأمين الحراك الاجتماعي للأسرة كوحدةٍ مترابطة، بينما تتم الاختيارات الاقتصادية بناءً على نظامٍ محددٍ من القيم والأعراف التي تحكم تقسيم العمل وما يترتب عليه من أدوار متوقعة. وفي هذا الإطار، يستمر التفاوض بين الجماعات المهيمنة والجماعات التابعة على حقوق كلٍ منها وحصتها من الأصول والموارد، وتقوم المجموعات التابعة بخلق آليات تعاضد جماعي وغير رسمي ليدعم قوتها التفاوضية. ولذلك فإن التحول في اختيارات الأسر واستراتيجياتها للبقاء يعكس آليةً مزدوجة، فهو يعكس أولاً طبيعة القرارات التي تتخذ داخل الأسرة، وتوزيع الأدوار التي يتم بين مختلف أفرادها في أثناء عملية اتخاذ القرار هذه، ومن ناحيةٍ أخرى، يعكس أثر هذه الاختيارات على مختلف أفراد الأسرة في علاقتهم بتوزيع الحقوق والموارد في المجتمع المحيط بهم، خاصةً أثرها على سلامة مختلف أفراد الأسرة.
إن التقسيم التقليدي للأدوار و الأدوار المتوقعة من مختلف أفراد الأسرة، بالإضافة إلى كل آليات التعاضد الاجتماعي، كلها تنهار في أثناء فترات الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تقلقل البنية الاجتماعية. مما يُبرز الاحتياج إلى تغييرٍ في المجتمع ككل. وقد كان لهذه القلقلة أثرٌ عميقٌ على البنيان الاجتماعي وشبكاته التي كانت تحفظ حقوق مختلف أفراد المجتمع، في ارتباطٍ دقيق، خلقته عمليةٌ طويلةٌ من التفاوض بين المجموعات المهيمنة والمجموعات التابعة المكونة لهذا المجتمع.
وعادةً ما تتواكب القلقلة في التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية مع انهيار آليات الدعم والتضامن التي كانت قائمة، ولهذا، فإن المجموعات التابعة تحرم لفترةٍ من الزمن من القوة التفاوضية التي كانت تمدها بهذه الآليات، التي كانت تعمل على تحسين أوضاعهم بعض الشيء في الإطار القائم.
وفي مثل هذه الفترات يشتد الاحتياج إلى تطوير أو تغيير في المنظومة الحقوقية السائدة في آليات التعاضد الجماعي، لتفادي السقوط في الفقر المدقع وانتهاك الحقوق الأساسية لمختلف المجموعات من الناس في المجتمع. فضلاً عن ذلك، فإن أشكال التعاضد الاجتماعي تساعد – في المدى الطويل – على خلق ديناميكيةٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ جديدةٍ تقوم بتجديد علاقات التفاوض حول العلاقات الاجتماعية القائمة على أساس مزيدٍ من المساواة في تقسيم العمل والموارد والحقوق، وفي توفير امتيازات المجتمع المختلفة لكل مجموعاته.
وإذا ما أردنا البحث في الكيفية التي يؤثر بها المناخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي العام على اختيارات وحقوق وكينونة الأفراد في اللحظات المختلفة من التطور التاريخي، فإن تحليل وحدة الأسرة تكون له دلالته البالغة. ولقد أدى التدهور الحاد في الظروف الاقتصادية إلى انتشار العديد من الظواهر الاجتماعية التي أثرت بدورها على المؤسسات الاجتماعية والبنى المنظمة للعلاقات الإنسانية. وهكذا كانت الهجرة، والانتقال إلى الحضر، والتغيرات في أنماط المشاركة في العمل، بعضًا من أهم ردود الأفعال التي اتخذها أعضاء الأسرة في مواجهة التحدى الاقتصادي من أجل البقاء، بينما أسهمت هذه الظواهر في نفس الوقت – كلٌ بطريقتها الخاصة، في تغيير تقسيم العمل التقليدي، فضلاً عما صاحبها من إعادة ترتيب أولويات إنفاق الأسرة، وهو الأمر الذي أدى بدوره إلى إهدار صحة وحقوق وسلامة مختلف أفرادها.
وفي هذا الصدد كانت التغذية والتعليم هي أكثر أوجه الإنفاق تأثرًا بتغير الظروف الاقتصادية. أما فيما يختص بتقسيم العمل وتعديل الأدوار، فإن هجرة العمالة الذكورية عُدت من أكثر الظواهر شدةً في تأثيرها على تشكيل الأسرة.
والواضح أن فشل المؤسسات الرسمية في إدراك التصدعات في البنية الاجتماعية جراء هذه العوامل، وتصاعد الأزمة التي تواجه مختلف المجموعات باستمرار، قد جعل الحلول غير الرسمية تأخذ طابع إجراء التعديل على تحديد الاحتياجات والأولويات، وتكوين شبكات التضامن الرسمية وغير الرسمية. وإعادة صياغة الحقوق والأدوار.