إن ظاهرة العنف ضد النساء ظاهرة عالمية، تمارسها المجتمعات على امتدادها، وهي لا تتقيد بعوامل مرتبطة بالسن، أو الطبقة الاجتماعية، أو مستوى التعليم : بل إن غالبًا ما يتم التستر عليها في المستويات الاجتماعية الأعلى، باعتبارها من الموضوعات المسكوت عنها ومن المسائل المعيبة – أو التي ينبغي وضع ستار من الصمت حولها – كما أنه نادرًا ما تتوافر إحصائيات بشأنها. وقد أولى مركز دراسات المرأة الجديدة منذ بداية التسعينيات اهتمامًا خاصًا بقضية العنف ضد النساء، باعتبارها من القضايا المسكوت عنها مجتمعيًا، بل إن الاتجاهات الرئيسية في تلك الفترة كانت تنكر وجود الظاهرة أصلاً، ولذا واجهنا صعوبات كبيرة في محاولة إدراج هذا الموضوع على جدول أعمال المجتمع المدني بصفة عامة، والمنظمات غير الحكومية النسائية بصفة خاصة، وكان مفهوم العنف ضد النساء يقتصر عند البعض حينذاك، على ختان الإناث.
لقد قامت “المرأة الجديدة” بإثارة الموضوع من خلال أحد أعداد نشرتها في وقت مبكر. كما أجرينا في عام 1994، بالتعاون مع مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف، بحثًا ميدانيًا على عينة عشوائية تتكون من 400 امرأة ومائة رجل، في محاولة استطلاعية للتعرف على إدراك النساء والرجال لهذا الموضوع، وكانت النتائج قاطعة في تأكيد حدوث العنف ضد النساء، سواء في مكان العمل، أو الشارع، أو المنزل، أو المؤسسات المختلفة. كما أكد البحث نفسه تعدد أشكال ممارسة العنف ضد النساء ما بين جسدي، ونفسي، وجنسي، وهو الأمر الذي طمأننا لصواب اعتمادنا لتعريف الأمم المتحدة حول العنف ضد النساء كمرجعية لعملنا، وتوجهنا ونشاطنا. ويقول التعريف المذكور أن العنف ضد النساء هو أي فعل عنيف قائم على أساس النوع الاجتماعي، وينجم عنه أو يحتمل أن ينجم عنه أذى، أو معاناة جسدية وجنسية، أو نفسية للمرأة، بما في ذلك التهديد باقتراف مثل هذا الفعل أو الإكراه أو الحرمان العسفي من الحرية، سواء وقع ذلك في الحياة العامة أو الخاصة.
ويمكن القول إن المثابرة في طرح قضية العنف ضد النساء، قد ساهم– ضمن جهود أخرى – في صدور المسح الديمجرافي الصحي لعام 1995، متضمنًا لقسم يتناول العنف الأسرى تم تطبيقه على عينة من 14779 سيدة. وقد أفادت نتائج هذا المسح أو واحدة من كل ثلاث نساء مصريات متزوجات تعرضت للضرب على الأقل مرة واحدة في العام السابق على المسح، إلى جانب نتائج أخرى متعلقة بأشكال متعددة من العنف ضد النساء.
وإيمانًا منا بأن وسائل الإعلام تعد من الوسائط المهمة في تشكيل ثقافة المجتمع، وبلورة اتجاهاته الفكرية، فقد اضطلعنا منذ فترة مبكرة، ترجع أيضًا إلى بداية التسعينيات، إلى استكشاف الطرق التي تساهم في توصيل أصوات النساء المصريات المناهضة لتكريس صور نمطية عن المرأة، بل وفي أحيان كثيرة غير حقيقية. وفي سعينا هذا، اكتشفنا أن نساء أخريات على مستوى العالم قد قمن ببلورة أدوات تخدم هذا الهدف، وقد مثل الراصد الإعلامي إحدى الأدوات التي تم تطويرها في هذا الإطار.
لقد قام مشروع الراصد الإعلامي للدراما التليفزيونية خلال شهر رمضان (۲۰۰۲ م – 1443 هـ )، برصد صورة العنف المقدمة على الشاشة التليفزيونية بصفة عامة، مع التركيز على العنف الواقع ضد النساء بصفة خاصة، وقد امتد هذا المشروع من شهر أكتوبر ۲۰۰۲، أي أنه استمر لمدة سنة شهور، شهدت العديد من الأنشطة، منها الإعداد. والتدريب، والرصد، وإدخال البيانات، والتحليل، وإعداد التقرير، ونشر النتائج.
ومن مخرجات هذا المشروع، فيلم تسجيلي قصير يرصد بعض صور العنف في المسلسلات التليفزيونية، ويقدم بعض ردود أفعال الجمهور تجاهها، وتقرير موجز لمركز دراسات المرأة الجديدة يتناول بالتحليل أهم النتائج، بالإضافة إلى التقرير الذي أعدته د. ليلي عبد المجيد، عميد كلية الإعلام لجامعة 6 أكتوبر، حول تحليل النتائج الإحصائية الواردة من مشروع الرصد الإعلامي لأشكال العنف ضد النساء في الدراما التليفزيونية خلال شهر رمضان ١٤٢٣ هـ ٢٠٠٢ م.
والذي رصد العنف على شاشة التليفزيون المصرى بقنواته المختلفة، وتم تحليل ١٨ عملاً دراميًا منهم ۱۲ مسلسلاً، وهذه المسلسلات هي: أسعد زوج في العالم، العطار والسبع بنات، الكومي، إمام الدعاة، أميرة في عابدين، أين قلبي، رجل طموح، زمن عماد الدين، فارس بلا جواد، قاسم أمين، وتجمع هذه المسلسلات بين الدراما الإجتماعية، والدينية، والتاريخية، والفانتازيا، والفارس. لقد تعددت أشكال العنف التي تم رصدها فكان العنف النفسي والمعنوي هو الغالب على صور العنف التي قدمتها الدراما التي تم تحليلها، سواء جاء هذا بمفرد ( 56.5% من إجمالي ما قدم من عنف). أم جاء مصاحبًا لعنف جنسی، أو عنف جسدي، أو الاثنين معًا (۳.۲۰% )، ومن أبرز نماذج ذلك العنف المتكرر تجاه “فاتن” – الشخصية المحورية في أين قلبي – من خلال محاولة فرض عزلة اجتماعية عليها كامرأة أرملة وتصويرها وكأنها نموذج الأخريات، كما ورد على لسان جارتها “زیزی“.
والشيء نفسه بالنسبة لشخصية “وصال” التي تأخرت في الزواج، وموقفها الذي يكشف عن رفضها للسلوك الاجتماعي الذي يكرس وضع المرأة في القوالب التقليدية.
وإن كان المسلسل – بشكل عام – قد قدم الشخصيات النسائية كشخصيات فاعلة، إيجابية، لديها القدرة على التصدي لكل المواقف.
وفي مسلسل “إمام الدعاة ” يظهر العنف النفسي والمعنوي ضد المرأة من خلال علاقة زغلول بزوجته صفية من خلال إهانتها المستمرة وتسفيه آرائها، مثلاً رده على رأی طرحته بقوله“.. سمعتي الرعد في ودانك،،، داهية تسم بدنك“.
وصور العنف المعنوي ضد بعض الشخصيات النسائية في مسلسل رجل طموح” مثلاً في حالة “كريمة” في البداية، حالة غادة، التي تزوجها ” صلاح” ثم خانها، كما عانت سهى عنفًا نفسيًا من المجتمع المحيط بها نتيجة أنها امرأة وحيدة بعد وفاة والدها ووصل الأمر إلى ضغط مدبولى عليها ليتزوجها رغمًا عنها بحجة أن الزواج ستر.
ثانيًا:
جاءت صور العنف الجسدي أو البدني ضد المرأة في الترتيب الثاني من حيث نسبة ظهورها قياسيًا لإجمالي ما ظهر في الدراما من العنف بنسبة (۱۹.3%) إلى جانب صور العنف الجسدي مع العنف النفسي والجنسي أو الاثنين معًا (24.5%)، ومن نماذج ذلك العنف الموجه ضد شخصية ” فايز ” في مسلسل ” أميرة في عابدين ” والعنف الذي استخدمه ” نعيم” ضد زوجته مديحة بالضرب والإيذاء.
كما ظهرت حالات عنف عديدة في مسلسل ” زمن عماد الدين “، والتي تقع أحداثه في الفترة من عام 1917 حتى ١٩٢٣، وخاصة أنه يركز على مجتمع العوالم أو البلطجة.
وإن كان مسلسل “أین قلبی” قد قدم صورًا العنف الجسدي، مارسته امرأة ضد امرأة أخرى. مثلما ظهر من التصرفات العنيفة التي مارستها “خيرية” ضد “فاتن” و “فرح” ، وإن كان السياق العام يوضح مسئولية مرشدي عن هذا العنف، كما كان هو أيضًا السبب في صورة العنف بين “جمالات” ، “نعناعة “، إذ تم رصد خمس حالات عنف في محيط علاقاته بسبب تصرفاته غير المسئولة، وسلوكه، ومغامراته النسائية مع الفتيات اللاتي يعملن عنده في المصنع. والعنف الذي ظهر من والدة وصال ضدها، نظرًا لحالة التناقض بينهما والتوتر في العلاقة الذي أنتج حالة عنف في أحد المشاهد.
كما ظهر عنف المرأة ضد المرأة فيما فعلته آنورين في ابنتها والدة حافظ في مسلسل “فارس بلا جواد” ، وهناك أيضًا عنف عنتر وضربه لزوجته – مع وضع ذلك في سياق المرحلة التاريخية التي تصورها هذه المشاهد – والذي وصل درجة تسببه عن غير قصد، في إجهاض إحدى زوجاته.
ثالثاً :
جاء العنف الجنسي في الترتيب الثالث بفارق كبير مع صورتي العنف الأخرى (النفسي، والمعنوي، الجسدي، البدني)، إذ لم يتجاوز نسبة 3.6% وإن ظهر بعض صور العنف الجنسي في بعض الحالات مصاحبًا لعنف جسدی، أو معنوي أو الاثنين معًا.
وإن كانت تلك أهم النتائج التي توصل إليها تحليل الدكتورة ليلى عبد المجيد، فإن مركز دراسات المرأة الجديدة قد شعر بخطر خاص من بعض الظواهر التي برزت من خلال التحليل الكمي والكيفي لتلك الأعمال.
أولى هذه الظواهر تمثلت في تهميش الأدوار النسائية بطريقة ملحوظة. أما الظاهرة الثانية اللافتة للانتباه، فقد تمثلت في وجود مشاهد عنف – بغض النظر عن شخصية الضحية سواء كان رجلاً أو امرأة – فی کل المسلسلات التليفزيونية، وهو الأمر الذي يساهم بلا شك في تكريس العنف المجتمعي، ولا سيما عند النشء. وقد أكدت عديد من الدراسات الاجتماعية والنفسية خطورة هذا الأمر. أما الظاهرة الثالثة التي نرى أنها تستدعى تدخلاً، فقد تمثلت في شبه غیاب رد فعل للمجتمع المحيط تجاه ظاهرة ارتكاب العنف ضد النساء.
ولقد قام مركز دراسات المرأة الجديدة وشركة ميديا هاوس بإعلان نتائج الرصد الإعلامي في ندوة عقدت يوم ٨ مايو ٢٠٠٣ بمكتبة مبارك العامة كما تم إعداد تقرير تفصيلي عن نتائج الرصد وزع ضمن فاعليات هذه الندوة. وبالإضافة إلى ذلك، تم تقديم نتائج هذا المشروع يوم الأحد ٢٥ مايو ۲۰۰۳ خلال الدورة التدريبية التي عقدها مركز دراسات المرأة التابع لكلية الإعلام بجامعة القاهرة، والتي توجهت إلى الإعلاميين لسد الفجوة النوعية في مجال الإعلام. ويعتزم مركز دراسات المرأة الجديدة إجراء سلسلة من الندوات خلال الفترة القادمة، تتجه إلى المنظمات غير الحكومية المعنية بقضايا النساء في المحافظات المختلفة، وإلى الإعلاميين الموجودين بها، والجهات المعنية، كي نتباحث جميعًا كيفية قيام الإعلام بدور إيجابي وفعال في مناهضة هذه الظاهرة، فنحن نؤمن بأننا نستطيع معًا مناهضة ثقافة العنف ضد النساء.