جدليات المقاومة والتمكين
تاريخ النشر:
2003
تأليف:
جدليات المقاومة والتمكين في مشروع
“قالت الراوية“
منى إبراهيم*
“قالت الراوية” هو أحد المشروعات التي يتبناها ملتقى المرأة والذاكرة الذي يهتم في المقام الأول بإعادة كتابة التاريخ من منظور النساء من أجل “ملأ الصفحات الفارغة وجعل الصمت يتكلم” (جرين وكان ١٩٨٥ : ١٣). ومن هنا يقوم المشروع على فرضية أنه قد تم إهمال دور النساء في كتابة التاريخ لصالح الرجل، ومن ثم تؤكد هذه الفرضية على أن هذه العملية تؤثر في تشكيل الذاكرة الجمعية والتأكيد على اعتقادات بتفوق الرجال على النساء(1). ولذا تأتى الحاجة إلى بذل الجهد في تحرى أصول هذه الاعتقادات حيث “إذا تمت معرفة أصول هذه الميول والاعتقادات، يمكن تبنيها أو رفضها أو تعديلها عن وعي… وهذا جانب هام من الصراع من أجل عالم أفضل” (مجموعة الذاكرة الشعبية ٧٩:١٩٩٨). وهذه المقولة تلخص أهداف ملتقى المرأة والذاكرة من إعادة كتابة التاريخ من وجهة نظر النساء.
ومشروع “قالت الرواية” هو أحد أشكال إعادة كتابة التاريخ الشعبي، الحكايات الشعبية وحكايات ألف ليلة وليلة، من وجهة نظر تتميز بالحساسية للنوع الاجتماعي gender – sensitive، وذلك لأنه بالرغم من أن رواية الحكايات كانت دائماً أحد مجالات المرأة، إلا أن نظرة سريعة على مجموعات الحواديت الشعبية وحكايات ألف ليلة وليلة سوف تكشف عن أن هذه الأعمال تقدم نفس الأنماط الشائعة عن النساء في المجتمعات والثقافات العربية. ويمكن إرجاع هذا إلى أن الحكاءات يقمن بتمثيل صور المرأة الشائعة في المجتمعات الذكورية التي ينتمين إليها. وفي محاولة لتعديل هذه الصور النمطية التي تساعد على إبقاء وضع المرأة في المجتمعات العربية كما هو عليه، تم البدء في هذا المشروع الذي يكتب ويعيد كتابة حكايات جديدة تتمتع بقدر من الحساسية للنوع الاجتماعي بهدف دفع الجمهور إلى إعادة التفكير في مدى صحة أنماط النساء في الذاكرة الجمعية للعرب (٢).
وقد أثبتت عملية إعادة الكتابة أنها ذات أثر عظيم ليس فقط على مستوى بطلات الحكايات ولكن على مستوى كاتبات الحكايات أيضاً. فقد كانت عملية إعادة كتابة الحكايات هي البداية لبعض الكاتبات في إعادة اكتشاف مناطق خفية في ذواتهن، سواء عن وعي أو بدون وعي منهن، كما عبرت عن ذلك نسمة إدريس في قولها:
إن إعادة كتابة الحكايات الشعبية من وجهة نظر المرأة هي في حقيقة الأمر تمثل لي عملية إبداعية لاكتشاف وصياغة الذات الأنثوية الدفينة في الأعماق التي ظننت أنها ضاعت في أو اندثرت وبهتت معالمها وسط زحام الذات الجماعية وبالنسبة لي فإن محاولة إعادة كتابة وصياغة “وجهة النظر الأخرى” هي في الواقع تجربة إبحار في دواخل النفس وأعماقها لاستنباط الوجه الآخر غير المرئي أو المعكوس لحقيقة التجربة الإنسانية الفريدة التي تسمى “المرأة“.
وبالإضافة إلى بناء الذات الدفينة، تساعد الحكايات في بناء الهوية الاجتماعية أيضا، كما يقول كيفين مورای:
يتم بناء الهوية الذاتية والاجتماعية عن طريق إيجاد حكايات يمكن حكيها عن الذات….. ففهم الحكاية يحمل معه سياقاً مما يجعله أداة أفضل لتوصيل الخبرة الإنسانية وما يتضمنه هذا من تناقضات… فتلخيص الخبرة في شكل حكاية يمكنها من إدراك المجال بين الذوات المختلفة (1989 : 176- 8)
وتتمتع الحكايات أيضاً بخاصية أنها تعد “شكل بديل فعال للعمل السياسي” (ماتیس ۱۹۹۹ : ٦٩)، مما يجعل لها عظيم الأثر على جمهورها من حيث أنها تهز المعتقدات القديمة التي تمسك بها لأزمان طويلة:
فالحكاية محكمة الحبكة ذات قدرة على إضاءة رؤية للعالم تغير من طريقة الناس في رؤية العالم… حيث يمكن للحكاية أن تكون قوة أكثر تأثيراً من القوة المادية أو التحليل النظري، فالحكي المتقن يدعو المستمع إلى عالمه، وكذا يكون رابطة والتحاماً بين الاثنين. كما يمكن للحكاية أيضاً أن تزيل الغبار عن افتراضات مدفونة في مقولات تبدو محايدة وتتحدى هذه الافتراضات (ماتيس 1999: 79).
وكما يتضح من الاقتباس السابق، فإن الاتجاه السياسي للكاتب يجد أفضل طريقة للتعبير عنه على مستوى المكتوب، أي على مستوى الحكايات: فما لا تجده عضوات مجموعة الحكي في ملتقى المرأة والذاكرة في الحكايات القديمة – وهو أساساً صوت الشخصيات النسائية – تركزن عليه عن وعي في حكاياتهن الجديدة من خلال تقنيات مختلفة أهمها استخدام ضمير المتكلم من قبل الشخصيات النسائية في الحكايات الجديدة بينما يستخدم ضمير الغائب في الحكايات القديمة، واستخدام ضمير المتكلم في السرد يعني، كما يقول عبد الله الغذامي أن المرأة قد أصبحت ذاتا، بل وأصبحت ذاتاً متكلمة، مما يعني تأنيث ضمير المتكلم في اللغة(44).
هذا الجزء من الورقة هو محاولة لتحليل الحكايات الجديدة نفسها، ولأن هناك تنوعاً كبيراً في طرق حكي الحكايات وفي مضامينها فإنه قد تم اختيار منهج انتقائي يقوم على استخدام أكثر من منهج كي يناسب الاختلافات بين الحكايات، وهي اختلافات قد لا تسمح بتطبيق نفس النظرية عليها جميعاً. وأول هذه المناهج هو النسوية الثقافية والتي تدعو إلى أن “الأنوثة هي أكثر أشكال السلوك الإنساني قرباً إلى النفس” حسب تعريف أولينبرج ومور في كتابهما سوسيولوجيا النساء (١٩٩٨ : ٢٤) وذلك كرد فعل لوضع المرأة في موضع هامشي في التيار الثقافي السائد عن طريق إضفاء الكثير من الأهمية على الطبيعة كمقابل للثقافة في التيار السائد وإضفاء أهمية على قرب المرأة من الطبيعة كمقابل لأهمية الرجل في الثقافة. ولذا ينحى هذا المنهج منحى يعلي من شأن كل ما هو أنثوي بصفته الأقرب إلى الطبيعة وإلى فطرة الإنسان بصفة عامة (جامبل: 304 – 5). وحكاية “عين الحياة” هي حكاية جديدة كتبت من هذا المنظور، وفيها يقوم الوزير بحبك مؤامرة ضد ابن الملك وولي عهده حيث يستدرجه إلى الصحراء ويطلب منه أن يشرب من عين ماء، يحول ماؤها الرجل إلى امرأة. ولجهله بهذه المعلومة يشرب ابن الملك من العين وبعدها مباشرة يرى العالم حوله في ضوء جديد: فرمل الصحراء يصبح له جمال الذهب وماء العين يصبح فضة خالصة بل ويشعر بحب ورقة يملأن قلبه على غير سابق عهد بهما. وتفسر الحكاية كل هذا في سياقها على أنه نتيجة لتحوله إلى امرأة، بل وعندما يرجع – على غير رضاه – إلى ذاته الطبيعية كرجل إرضاءاً لوالده الذي يعول عليه ليرث ملكه، تتم مكافأته على كونه قد مر بتجربة أن يكون امرأة رقيقة وطيبة القلب بأن يتزوج الأميرة الجميلة التي رفضت كل الخطاب الآخرين لكونهم خشنين وقساة القلوب ” كما هي عادة الرجال“.
وبهذا يبدو أن الحكاية تقدم أحد أشكال المقاومة لنمط المرأة التي تقدم دائماً في مرتبة أدنى من الرجل، وهو ما يتم التركيز عليه في كل من الحكاية القديمة والجديدة على حد سواء في خطة الوزير التي تحول ولى العهد إلى امرأة وما يصاحب هذا من بكاء وعويل في الحكاية القديمة وتأتي المقاومة في هذا السياق في شكل إضفاء نوع نادر من التوحد مع الطبيعة الأم على المرأة في محاولة لإثبات أن الأنوثة هي أصل الوجود، وتدعم هذه الفكرة باستخدام الفعل “يعود” بدلاً من “يتحول” في الرجوع إلى التغير الذي يحدث لولي العهد عند شربة من العين، فهذا الشاب “يعود امرأة” وليس يتحول إلى امرأة (قالت الراوية ١٩٩٩ : ٩٤). ولكن هذه الحكاية في محاولاتها لمقاومة النمط السائد للمرأة قد قدمت نمطاً آخر يتسم بالمثالية التي تبتعد بالمرأة تماما عن الصور الواقعية للإنسان بخيره وشره وتضعها في مصاف الملائكة حيث هي خير دائم وشامل، مما يؤدي أيضا إلى نوع آخر من تهميش المرأة، فهي تنتمي إلى عالم الطبيعة والكائنات الطبيعية بينما الرجل مازال مسيطرا على عالم الواقع الاجتماعي. كما أن هذا المنهج، بالإضافة إلى الحكاية التي تمثله، يحتوي على قدر كبير من الجوهرية essentialism، أي على ادعاء أن المرأة خير في جوهرها وأنها متفوقة بطبيعتها على الرجل دون إبداء أية أسباب لهذا التفوق، مما يعد نوع من التطرف في تمجيد الأنثوي يماثل التطرف في تمجيد الذكوري، كما أنه يقدم صورة للنساء كفئات متجانسة لا توجد بينها اختلافات مما يؤكد فكرة التنميط والجوهرية التي تنطوي عليها المصطلحات التقليدية السائدة مثل “أدب المرأة” و “مشاعر المرأة“. فالحكاية لا تقدم مبرراً كافياً للتحول المفاجئ في شخصية ابن الملك بمجرد تحوله إلى امرأة ولا إلى رؤيته الجديدة لجمال الطبيعة الذي لم يكن له أن يراه وهو رجل.
ومن الحكايات الأخرى التي تؤكد فكرة تفوق الأنوثة هي حكاية “المرأة والصورة“، وهي قصة من وحي حكايات ألف ليلة وليلة، وفيها تعيش مجموعة من النساء المثقفات في نوع من اليوتوبيا الأنثوية تسمى بقصر الفنون والعلوم، يثير فيها جمال القصر وساكناته غيرة أحد الصياغ الذي يقرر أن يترك بلده ويرحل إلى البلد الذي يوجد به قصر الفنون والعلوم لكي يتمتع بجمال القصر وساكناته: بناء على وصف صديقه العطار لهن، والذي يشارك الصائغ نفس المشاعر السلبية تجاه نساء القصر.
ولأن ساكنات القصر يجهلن ما يملأ قلب هذا الرجل من حقد عليهن، يخدعن بسهولة في عذر الرجل من زيارة القصر وهو التمتع برؤية ما فيه من صور جميلة. ولكن شر الرجل لا يمكنه من أن يستمر في كذبته طويلاً، حيث يهم سريعاً بالتحرش بالفنانة التي تبرعت بالتجول معه في القصر، في محاولة لاغتصابها. وفي غمرة غضبه من طرد ساكنات القصر له بعد تحرشه بصديقتهم، يذهب الرجل الشرير إلى الحاكم ليخبره عن الساحرات اللاتي تسكن القصر وشرهن الذي يهدد أمن البلاد.
وكما يبدو، تؤكد هذه الحكاية أحد مزاعم النسوية الثقافية وهو التفوق الأخلاقي للنساء على الرجال، فشر الرجال في الحكاية هو شر ذكوري دفين – حيث لم يتم تقديم سبب آخر في الحكاية يدفع إلى إيذاء النساء المسالمات اللائي يتمثل خطأهن الوحيد في طيبتهن وكرمهن اللذان يدفعاهن إلى السماح لهذين الرجلين الشريرين بدخول قصرهن.
وبذا تقدم حكاية “المرأة والصورة“، الجزء الثاني من ثنائية المرأة – القديسة / الرجل – الشيطان، وهو الجزء الخاص بالشر الكامن وغير المبرر في الذكوري، وهذا بالطبع نوع آخر من أنواع المقاومة التي تقوم على تحقير الآخر من أجل إعلاء الذات وبالتالي تقع التسوية الثقافية في نفس فح ثنائية الذكوري – الأنثوى بل وتتطرف في تطبيقها.
والنظرية الثانية التي يمكن تطبيقها على بعض حكايات مشروع “قالت الراوية” هي نظرية أدوار النوع وبمقتضاها تحدد أدوار اجتماعية وثقافية واقتصادية لكل من الرجل والمرأة، يجب على كل منهما الالتزام بها وعدم الخروج عن إطارها وتقوم الحكايات التي كتبت من منظور نظرية أدوار النوع في معظمها بتحدى النظرية والتمرد على الأدوار المحددة للمرأة (3)، ففي حكاية و“سكتت شهرزاد“، على سبيل المثال، والمأخوذة عن القصة الإطار لحكايات الف ليلة وليلة، يتم تقديم شهرزاد وشهريار في لحظة شديدة الحميمية تنتهى بتمكين شهرزاد وسيطرتها على الموقف بكامله. فالقصة تقدم شهريار وهو لا يقوى على فعل الحب مع شهر زاد وهو ما تفسيره هي على أنه طريقة يحاول بها الإبقاء على حياتها، إذا ما أخذنا في الاعتبار أنه عادة ما يقتل عرائسه بعد فعل الحب معهن. ولكن بعد أن تتأكد شهرزاد من حب شهريار لها، تحاول إغواءه وتنجح أخيرا في محاولتها، وعندها فقط تكتشف سر شهریار الحقيقي والذي دفعه لقتل كل هؤلاء النساء وهو العلة. ولكن رد فعل شهرزاد لاكتشاف السر لا يكون الاحتقار والاشمئزاز، كما توقع شهريار، بسبب تبنيه للدور المنوط به في المجتمع الأبوي والذي يؤكد بشدة على كفاءة الرجل الجنسية التي يصبح بدونها مثار سخرية واستهزاء، مما يثبت أن كلا من الرجل والمرأة “حبيس لنوعه، بالرغم من اختلاف الطرق ولكن اعتمادها كل على الأخرى في نفس الوقت فكون الرجال يظهرون (في كثير من الحالات) كحامين، أو على الأقل قائمين على الكل الاجتماعي، لا يجب أن يعمينا عن كونهم أيضاً محكومين بقواعد النوع” (فلاکس ۱۹۹۰: ٤٥).
فبكل قدرتها على الحب والتفهم، تظهر شهرزاد التعاطف مع أزمة شهريار وتحتضنه وتعده أن ” كل شئ سيكون على ما يرام ” (قالت الراوية: ١١٧). وهذا التعاطف والتفهم هو الذي يمنح شهرزاد اليد العليا في هذه العلاقة ومن ثم فإن تمكين شهرزاد، على عكس تمكين شهريار، لا ينبع من الطغيان والقوة الجسدية، مما يشير إلى أن التغير في علاقات القوى لا يعني بالضرورة أن تتبنى المرأة مفاهيم ذكورية عن القوة.
أما حكاية “راجل صنع مرة” فهي مثال جيد على ما تسمية هنريتا مور “احتلال مساحة الآخرين” (۸۳) حيث تقوم الزعيمة مايسة بدور عادة ما يكون منوطاً بالرجال وهو دور الفدائية المحاربة، بل وتقوم بدور الزعامة في هذا الدور حيث ترأس جماعة الفدائيين الذين يقومون بعمليات تصفية الجواسيس والخائنين، وعلى يديها يصبح محمد العريان بطلاً يتجاهل مشاكله الشخصية لصالح قضايا الوطن.
وكثيراً مايدين البعض انخراط المرأة في أعمال الحرب وغيرها من الأنشطة العنيفة المقصورة على الرجال باعتبار أن للمرأة قوة اجتماعية في أدوراها النمطية التي تتفق مع طبيعتها، وبالتالي لا يجب عليها اقتحام مجالات الرجل ويقوم انتقاد هذا الاعتقاد على أساسي ضرورة بذل الجهد من أجل “إعادة التفكير في كل التقسيمات التي يتم استخدامها في دراسة الأدوار القائمة على النوع من أجل أن نخلص أنفسنا من ثنائيات الماضي التي تقول بأن العلاقات بين الرجل والمرأة هي علاقات انفصال وتضاد، ودائماً، في التحليل الأخير، يقوم هذا الانفصال والتضاد على الطبيعة الخاصة بكل جنس (بانتل ١٩٨٤ : ٧٤).
وهكذا يمثل تحدى الدور النمطي في “راجل صنع مرة طريقة لكل من المقاومة والتمكين فتجاح الزعيمة مايسة في الأعمال الفدائية يقاوم فكرة المجتمع عن المرأة بعجزها عن القيام بأدوار بعينها، أما قيامها بزعامة الرجال والإصلاح من شأن محمد العريان، بطل الحكاية، فهما وسيلة لتمكين المرأة حيث تبين قدرتها على القيام بكل أعمال الرجال ومنها حماية الجماعة والدفاع عنها بل وتزعم الرجال في هذا الشأن أيضاً مما يجعل دورها في مثل أهمية دور الرجال إن لم يكن أهم.
أما النظرية الثالثة التي يتناولها هذا البحث فهي نظرية النص الخفي والنص المعلن الذي قدمها جميس سكوت في كتابه الهيمنة وفنون المقاومة (4) وفيه يقدم شرحاً وافياً لخطابات القوى بين التابع والمهيمن، وأول الحكايات التي يمكن تطبيق هذه النظرية عليها هي “هما سموها إيه؟” ففي هذه الحكاية، يتم عرض أكثر الأفكار شيوعاً حول جسد المرأة من أجل مقاومة وتغيير هذه الأفكار. فهيلانة، بطلة الحكاية، تتعرض لكل ما تتعرض له زميلاتها من الفتيات من عمليات طويلة ومعقدة من أجل إعدادها للزواج، رغم كونها أميرة وابنة وحيدة لأبويها، ويأتي دور أبيها في هذا الإعداد في شكل يؤكد على الأيدلوجيا التي تقول بأن “النساء” هدايا يتبادلها الرجال فيما بينهم… فليست لديهن قوة تذكر أو تأثير في نظام يسيطر عليه الرجال ويعمل لصالحهم، فالرجال، وهذا ما لا يتأتي للنساء، يمتلكون القدرة على تحديد قيمة النساء في التبادل وعلى تحديد المعاني الخاصة بهن. ” (جرين وكان ۱۹۹۸: ۷)، وطريقة الأب في الحكاية في رفع قيمة الهدية، أي ابنته، هي التأكد من أن جسدها مغطى تماماً “جنس الرجال ما يصحش يشوف لا كثير ولا قليل: لو تلبس ثوب طويل يكشفه ولو كشف توبها عن مفاتن جسمها غطى اللي انكشف بتوب ثاني” (قالت الراوية ١٩٩٩ : 49)، وهو بذلك يتبنى الأيدولوجية النمطية التي تنادي بأن “الجنسانية الأنثوية خطيرة وجبارة، مما يتطلب من الرجال عمل سيطرة شديدة عليها” (جرين وكان ١٩٩٨: 6).
أما هيلانة، فهي تبدو وكأنها تتبنى النص المعلن عن طريق طاعة والدها بأن تلبس ما يريده وأن تتزوج الرجل الذي اختاره لها ( فلا يرد في الحكاية إشارة إلى سؤالها عما إذا كانت توافق على هذا الزواج أم لا )، ومع ذلك، نرى هيلانة في جولتها المنفردة في حديقة القصر تتساءل حول معنى اسمها وهويتها الحقيقية، وهو ما يمكن أن يمثل نص سكوت الخفي، ففي هذه الجولات، تردد هيلانة بينها وبين نفسها:
أنا هيلانة
هي لا أنا
أنا لا هي
في رفض لهويتها المعلنة، ولكن النص الخفى يتحول إلى نص معلن في ليلة الزفاف عندما تفاجئ هيلانة الجميع بعدم ارتداء الثوب الغالي أو عمل تسريحة الأميرات وبمواجهة عريسها بقولها : “أنا هيلانة / اسمى لست أنا” (قالت الراوية ١٩٩٩: ١٥٠). وفي هذه الحالة يتحول جسد هيلانة من مجرد سلعة إلى طريقة للتعرف على الذات وتميزها.
وحكاية ” صفية المخفية ” هي حكاية أخرى يتحول فيها النص الخفى إلى نص معلن، ومن المفارقات أن صفية، بطلة الحكاية، هي بطبعها شخصية ثانوية، فهي الشخصية التي تلعب الأدوار الثانوية مثل دور المربية أو الخادمة أو الوسيطة في الحكايات الشعبية وفي حكايات ألف ليلة وليلة وهي عادة ما تكون امرأة عجوز بدون اسم، لا يتم السماح لها على الإطلاق بفرصة للتعليق على دورها في الحكاية. ولهذا يمكن اعتبار أدائها الصامت لمهامها نصاً خفياً، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار تفجير مشاعرها في هذه الحكاية، ففي “صفية المخفية” تمتلك صفية اسماً وموقفاً محدداً يتمثل في غضبها وتمردها على صمتها السابق.
وتمثل كل من “هما سموها إيه؟” و“صفية المخفية” شكلين من أشكال المقاومة ضد التبعية الاجتماعية للمرأة في مجتمع أبوى، فالمقاومة في كلتا الحكايتين لا تتوقف عند وجود نص خفي للشخصيات النسائية تعبر فيه هذه الشخصيات عن عدم رضاها عن الوضع الحالي، بل أن التعبير عن المقاومة واضح ومعلن، ولكن لا يتم تصعيد هذه المقاومة لتصبح تمكيناً، وبالتالي لا يتأتى لنا أن نعرف ماذا يحدث كنتيجة لتحويل كل من الشخصيتين نصها الخفى إلى نص معلن.
أما “ست العقل والكمال” فهي حكاية يظهر فيها النص الخفى فقط، فست العقل والكمال – الشخصية الرئيسية في الحكاية الجديدة – لا تحيد عن الدور المنوط بها في الحكاية القديمة، فهي تقبل الزواج من ابن الملك رغم علمها بأنه يريدها لجمالها فقط، وبذلك لا تتمرد على الخط الرئيسي في الحكايات الشعبية الشائعة كما تصفه غراء مهنا في كتابها أدب الحكاية الشعبية: “في هذه الزيجات الناتجة عن حب – فإن دور المرأة يكون سلبياً إذا ما قارناه بالدور الإيجابي أو الديناميكي للبطل، فهو يقع في حب البطلة – لأنها جميلة، وهي رمز الكمال، فعليه إذا أن يثبت بأفعاله أنه جدير بها، وهو تصرف مختلف تماماً عن البطلة التي تقبل – بسلبية – حبه لها” (66).
ويقدم النص الخفي في هذه الحكاية عن طريق إعطاء البطلة صوتاً يمكنها به التعبير عن وجهة نظرها في الرجال، فالحكاية مروية بضمير المتكلم الذي تستخدمه البطلة نفسها، وفي هذا تمكين للمرأة كما يقول عبدالله الغذامي: “كتابة المرأة عن الرجل معناه إنهاء تاريخ مديد من الوصاية والأبوة والسلطوية، وهي قضاء على الفحولة وسلطان الفحل، لأنها تقتضي تحويل الفاعل إلى مفعول به لكي يكون الكاتب مكتوباً ويكون سيد اللغة مجرد مجاز لغوي في خطاب مؤنث” (١٩٩٦ : ۱۸۹).
وبالإضافة إلى إعطاء البطلة صوت من خلال استخدام ضمير المتكلم، تستخدم الكاتبة المفارقة والسخرية كوسائل لكل من المقاومة والتمكين في إطار الخطاب المهيمن:
إذا لم يستطع الإنسان أن يقاوم عن طريق وضع نفسه خارج الهياكل والخطابات المهيمنة، يمكنه مع ذلك أن يضع نفسه في مكان ليس مكانه داخلها. فيمكن للأفراد أن يرفضوا تشكيل النوع كما هو موجود، فيتناولوا هذا التشكيل بطريقة ساخرة وملتوية، ويمكنهم الرجوع لهذا التشكيل بلا نهاية ولكن لتحقيق هدف عكسى ومناوئ (مور ١٩٩٤ : ۸۲).
فهنا تقاوم ست العقل والكمال تشييأها من قبل عريسها ومن قبل المجتمع ككل عن طريق السخرية من حماقة ابن الملك سراً، كما تضع أيضا خطة طويلة الأمد لاستغلال هذه الحماقة لصالحها، فنص ست العقل والكمال المعلن والذي يتمثل في الخضوع للقواعد الاجتماعية المتمثلة في الزواج من زوج غنى، ذی مرکز اجتماعی مرموق بصرف النظر عن العواطف، يخفى وراءه – حسب النص المخفى – طريقة لاستغلال “حب” زوج المستقبل لها للحصول على السلطة بصفة عامة، والسلطة السياسية بصفة خاصة: فنية ست العقل والكمال أن تصبح ملكة قوية لن يمكنها هي فقط ولكنه سيمكن غيرها من النساء عن طريق تعيينهن في مناصب هامة في المملكة (صفحة 1٤٤ – ٧).
وإن كنا نلمح في هذا العرض تبني بعض القصص لبعض النظريات النسوية التي قد تتسم بالتطرف وخاصة في بداية مشروع “قالت الراوية” مما يمكن إرجاعه إلى تعرض الكاتبات للاستفزاز نتيجة لقرائتهن لعدد ضخم من النصوص القديمة التي تقدم صورا ظالمة ونمطية للمرأة ربما للمرة الأولى في حياة بعضهن، وحماسهن الشديد لتغيير هذه الصور النمطية والقضاء عليها، ولكن بقية القصص تمثل تطورا ملحوظا في كتابات الجماعة يتمثل في الوعي بنقاط الضعف في بعض اتجاهات النسوية التي تبرز في بعض الحكايات الجديدة، رغم عدم تعمد الكاتبات تبني هذه الاتجاهات في بعض الأحيان. يتضح من هذا التحليل لبعض الحكايات الجديدة في كتاب قالت الراوية أن الحكايات التي كتبتها المجموعة في ملتقى المرأة والذاكرة تتناول سياسات المقاومة التي يمكن بها للنساء أن يفككن الأنماط السائدة للمرأة في مجتمع ذكوري كخطوة هامة على طريق تمكين المرأة وتوليها الأدوار التي طالما استحقتها ولم يمكنها توليها.
*أستاذة مساعدة بقسم اللغة الإنجليزية فى كلية الآداب، جامعة القاهرة، وعضو بفريق “قالت الراوية” فى ملتقى المرأة والذاكرة.
1 – يوجد تحليل لهذه الظاهرة في مقال سيلفيا فاند كاستيل – سويتزر ودانييل فالندمير، المصادر الشفوية لتاريخ النساء (٤٥ – ٤٦).
٢ – من أجل شرح واف لأهداف مشروع الحكي وإعادة الحكي، انظر مقدمة هالة كمال. كتاب قالت الراوية، ص 7- 10.
3 – من أجل تحليل وافي للأنواع المختلفة لسيسولوجيا أدوار النوع، انظر جين أولينج وهيلين مور ص 11- 12.
4 – يوجد عرض كامل لكتاب سكوت في هذا العدد من طيبة.
سارة جاميل (تحریر) (۲۰۰۰). النسوية وما بعد النسوية، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة.
عبد الله الغذامي (١٩٩٦، طبعة ثانية ١٩٩٧). المراة واللغة. بيروت : المركز الثقافي العربي.
هالة كمال (تحرير) (۱۹۹۹). قالت الراوية: حكايات من وجهة نظر المراة من وحي نصوص شعبية عربية. القاهرة: ملتقى المرأة والذاكرة.
غراء حسين مهنا، ادب الحكاية الشعبية. القاهرة : الشركة المصرية العالمية للنشر – لونجمان.
مجموعة قراءة وكتابة حكايات ملتقى المرأة والذاكرة (١٩٩٩). قالت الراوية: حكايات من وجهة من وحي نصوص شعبية عربية نظر المرأة، القاهرة : ملتقى المرأة والذاكرة.
Flax. Jan (1990) “Postmodernism and Gender Relations in Feminist Theory,” in Linda J. Nicholson (ed.) Feminism/ Postmodernism. London and New York: Routledge.
Greene. Gayle and Coppelia Kahn (1985)”Feminist Scholarship and the Social Construction of Women, “in Gayle Greene and Coppelia Kahn (eds) Making a Difference: Feminist Literary Criticism. London and New York: Routeledge.
Matthes, Melissa (1999) “Shahrazad’s Sisters: Storytelling and Politics in the Memoirs of Mernissi, El Saadawi and Ashrawi.”Alif19:68-96.
Moore, Henrietta L. (1994) A Passion for Difference: Essays in Anthropology and Gender. Cambridge and Oxford: Polity Press.
Murray, Kevin (1898) “The Construction of identity in the Narratives of Romance and Comedy, “in John Shotter and Kenneth J. Gergen (eds.) Texts of Identity. London and New York: SAGE Publications.
Ollenburger, Jane C. and Helen A. Moore (1998) A Sociology of Women: The Intersection of Patriarchy, Capitalism, and Colonization. New Jersey: Prentice Hall.
Popular Memory Group (1998) “Popular Memory: Theory, Politics, Method,” in Robert Perks and Alistair Thomson (eds.) The History Reader. London and New York: Routledge.
Scott, James C. (1990) “Behind the Official Story,” in James C. Scott, Domination and the Arts of Resistance. Yale University Press.
Vandecasteele-Shweitzer, Sylvie and Daniele Voldman (1984; rpt. 1992) “The Oral Sources for Women’s History,” in Michelle Perrot(ed.)Writing Women’s History. Oxford and Cambridge: Blackwell.