أنشأت معهد الموسيقى وأول أوركسترا بالإسكندرية
حوار: سمر نور
منذ أكثر من عامين، التقيت بها، كانت المعلومات المتوفرة عنها لا تزيد على مقال للكاتب أسامة أنور عكاشة يتحدث فيه عنها ذاكرًا أن أحد أصدقائه أخبره بمكانتها العملية، كأول أستاذة جامعية – تخترق أسوار الجامعة المصرية في ثلاثينيات القرن الماضي، لم يكن الوصول إلى دار المسنين الذي تقيم فيه في شارع أحمد عرابي المهندسين – صعبًا الآن، بعد مرور أكثر من عامين، لكني آنذاك توصلت إليه بصعوبة.. واخترقته بصعوبة أكبر، فالسيدة كانت تحيط نفسها بإطار من الوحدة والغموض… لم يكن مسموح إجراء أي حوارات صحفية معها، اضطررت آنذاك أن أتسلل حتى غرفتها يساعدني بعض النزلاء على التعرف عليها، ووافقت بعد على إجراء الحوار.
تعاطفت معي لصغر سني، وأصرت على أن ينصب الحوار على نشأة الجامعة المصرية باعتبارها موضوعًا أهم من سيرتها الذاتية، الآن.. وأنا اخترق الممر… تذكرت مرحها وهي تشير إلى لثغة في حرف الراء تشوب حديثها ورثتها عن أسرتها وساعدتها على اتقان الفرنسية… ابتسمت يومها ولكني اليوم أمنع نفسي من الانفعال، حين أخبرني العاملون بدار المسنين بوفاتها… في هدوء… دفنت د. درية فهمي في القاهرة، دون أي تكريم في حياتها أو تأبين بعد وفاتها.. لم يحاول أحد تلامذتها وما أكبر مناصبهم – ومنهم على سبيل المثال وزير التعليم العالي حاليًا – ولعلهم لم يعرفوا أنها رحلت عن دنيانا منذ عام ونصف.
والمؤسف أنها لم تكرم سوى من هيئات عالمية عديدة. منها الجمعية الدولية (Who is who) التي تبحث عن أهم الشخصيات في العالم، وأهدتها لوحة خشبية تحمل اسمها بخيوط ذهبية… بدأت معها الحديث من فكرة وجودها في دار للمسنين، فأجابت غاضبة،
– لا أحب تعبیر دار المسنين في فرنسا وإنجلترا يطلقون عليها أسماء جميلة كالورود والأشجار ولا يستخدمون هذا التعبير سيء السمعة، أنا هنا بإرادتي، فمنذ وفاة الخادم الذي كنت أثق به شعرت بغربة في بيتي: خاصة أن لي بنتين أستاذتين في الجامعة في الخارج، (ليلي) في واشنطن، و(مني) في فرانكفورت فدعتني السيدة ناجية الكاتب صديقتي للإقامة في هذه الدار وأنا سعيدة لوجودي بجوار جيرة وأصدقاء يقمن على رعايتي.
– تعلمت في البيت كأي فتاة مصرية من عائلة ميسورة وحصلت على البكالوريا من البيت، وفي بداية شبابي كتبت مقالات في جرائد فرنسية مثل (لاريفون). (لابوغس اجيبشيان)، وحين أعلن على ماهر، وزير التعليم، عن طلب بنات حاصلات على بكالوريا فرنسية ليستكملن تعليمهن بالخارج، عرض عليه الهلباوي (بيه) الجرائد التي نشرت مقالاتي فوافق على سفري إلى فرنسا، خاصة أنه لم تكن هناك فتاة مصرية حاصلة على بكالوريا آنذاك!.
من البيت المصري بتقاليده الشرقية إلى فرنسا دون محطات مدرسية داخل الوطن… كيف واجهت الحياة بمفردك؟
– کنت بمفردي تمامًا… الوزارة أرسلتني في بعثة وعشت في مدرسة داخلية بباريس: حيث قضيت سنة في البكالوريا بمدرسة الليسيه ثم حصلت على ليسانس المعلمات العليا، ثم لیسانس آداب فرنسي وليسانس تاريخ الموسيقى من السربون ثم ماجيستير في الأدب الفرنسي ثم دكتوراه الدولة.
كيف ارتبط تاريخ الجامعة المصرية بمسيرتك الذاتية؟
– لن أتحدث عن نفسي أفضل الحديث عن تاريخ الجامعة المصرية.. افتتحت عام ١٩٢٥ حين كنت في فرنسا وكان أسلوب العمل بها فرنسيًا، وكذلك الإدارة والأساتذة، عندما عدت عام ١٩٣٥ كان د. منصور فهمي قد أصبح عميدًا بكلية الآداب، وهو مصري كما كانت الإدارة مصرية حيث كان أحمد لطفي السيد أول مدير للجامعة المصرية وهناك أساتذة أمثال مصطفى عبد الرازق وأحمد أمين الخولي.
كيف تقلدتي منصبك الجامعي؟
– ظللت شهورًا طويلة بلا عمل، فقد احتاروا في وضعي.. فلم تكن بالجامعة المصرية آنذاك أساتذة سيدات، ولكن كانت هناك فتيات طالبات أمثال أمينة السعيد وسهير القلماوي، حتى ألقاني لطفي السيد من فوق قبة الجامعة على حد تعبيره.
ماذا يعني ذلك؟
– يعني أنني حصلت على حقي في التدريس داخل الجامعة المصرية دون قانون أو لائحة أو أوراق معتمدة. فقد قدر لطفي السيد قيمتي العلمية، وفرضني على القسم الفرنسي حيث كان يدرس بالقسم (۱۲) أستاذًا فرنسيًا، وكانت على علاقة طيبة بهم أثناء وجودي في فرنسا، فقال لي لطفي السيد اقتحمي باب القسم ومارسي حقك… فلم تتقدم سيدة للعمل الأكاديمي قبلي، لذلك حين دخلت مكتب القسم الفرنسي، سخر مني الأساتذة الفرنسيون فلم تكن أوراقي قد عرضت على مجالس القسم… العميد نفسه لم يكن يعرف شيئًا عني فكنت أعمل بشكل غير رسمي وأعتبرني أساتذة القسم غير المصريين دخيلة وتساءلوا :- (أنتي جاية تعملي إيه عندنا) وكأنهم أصحاب البلد وأنا السيدة المصرية لست صاحبة الحق.. وبذلك فرضني على الجامعة وعلى الأجانب، ويعد أول من أدخل المرأة إلى الجامعة كأستاذة، ونزلت من الإدارة إلى التدريس.
بالتأكيد العلاقة بينك وبين الطلبة والطالبات كانت من نوع خاص، وقد اعتادوا شكل الأستاذ الجامعي التقليدي؟
عندما دخلت الجامعة كان هناك ۲۰ طالبًا وطالبة واحدة وكنت أدرس لطلبة السنة الرابعة، ووضعني لطفي باشا تحت التجربة: فقد كان متخوفًا من استهانة الطلبة بي لعدم تعودهم وجود أستاذة جامعية، ولكنه لمس بنفسه الاحترام والود المتبادل بيني وبين الطلبة، فأيقن أن مغامرته نجحت، وحين تولى د. طه حسين عمادة الكلية ثبتني واعتمد أوراقي، ثم أصبحت أول رئيسة لقسم الآداب الفرنسية عام 1950.
عشت في القاهرة خلال فترة تضج بالحياة الثقافية والسياسية.. فما مدی مشاركتك فيها؟
– مكثت في القاهرة منذ عام 1935 حتى عام 1945: حيث تأثرت بأعلام الثقافة في مصر مثل طه حسين وأحمد أمين ولطفي السيد وأمين منصور والعقاد ومحمد حسين هيكل، كان الجو جامعيًا ثقافيًا سياسيًا، وكنت صديقة للشيخ على عبد الرازق وطه حسين وزوجته سوزان.
هل شاركتِ في حركة تحرير المرأة؟
– أنا حررت المرأة تحرير المرأة ليس كلامًا وشعارات، المرأة التي تعلمت وعملت هي التي تحررت، والشابات اللاتي كافحن وتعلمن وعملن أمثال نبوية موسى هن اللاتي حررن المرأة، كانت نبوية موسى صديقة مي، حين كان عمري خمسة عشر عامًا وحدثت ظروف اجتماعية سيئة اضطرتي للبحث عن عمل، ولم يكن شيئًا متاحًا للمرأة، فلجأت إلى نبوية موسى لتمنحني فرصة تدريس اللغة الفرنسية للطالبات ووضعت الحبرة والبيشة وذهبت إليها فرحبت بي لكنها لم ترحب بفكرة عملي كمدرسة، وقالت إنها لا توظف مصريات.. لذلك أؤكد أن الذي حرر المرأة الفتيات اللاتي احتجن للعمل فتحررن… الحاجة هي التي حررت المرأة.
– قلت لها: كان لك اهتمامات فنية واضحة في القاهرة والإسكندرية؟
– قالت نعم – عملت في الإذاعة المصرية، وكنت أقدم برنامجًا كل جمعة عن تاريخ الموسيقى والأدب الفرنسي منذ عام 1935 حتى عام 1955، لكن الإذاعة بكل أسف أضاعت الأشرطة، وكان لدي قاعدة عريضة من الجمهور المتذوق للثقافة الغربية، ولكن بعد الثورة تقلص جمهوري حتى أضمحل، وذلك لبروز أفكار القومية العربية: توقفت واستمرت محاضراتي الأسبوعية في الجمعية الجغرافية والجامعة الأمريكية.
سألتها وماذا عن تأسيسك لمعهد الموسيقى في الإسكندرية؟
عندما انتقلت إلى الإسكندرية مع زوجي د. أحمد فكري، رئيس قسم اللغة الفرنسية عام 1950، كنت في هذه الأثناء أعرف البيانو والفيلولون.. فكرت في جمع الموسيقيين المهرة، الذين تبعثروا في شوارع الإسكندرية يتكسبون القليل، وأسست أوركسترا للشباب ثم أوركسترا الإسكندرية من 40 فردًا، وبعد ذلك تحول إلى الكونسرفتوار وكتبوا وعلقوا لوحة باسمي في مدخل المعهد باعتباري مؤسسة معهد الموسيقى السكندري، وهنا صورة للأوركسترا القديم بعازفيه الأربعين معلقة بالصالة.
قمت برحلة إلى تركيا وكرمك كمال أتاتورك؟
– أنا ذهبت مع الطلبة إلى إستنبول سنة ١٩٣٦، وهناك دعتني البلدية في أوتيل، وجاء مدير الجامعة قال لي إن أتاتورك يدعوني على العشاء.. كانت دعوته تكريمًا: لأنه لم يكن يدعو أقل من السفراء ولم يدعو مصريًا من بعدي.
– ماذا قدمت للمكتبة المصرية؟
– الكتب كلها عن الأدب الفرنسي 60 كتابًا باللغة الفرنسية، تم طبعها في فرنسا، وكتاب واحد في الهيئة العامة للكتاب، والثاني في دار نشر خاصة.. وكتاب طبعته جامعة الإسكندرية.. الكتاب اسمه تاریخ فرنسا مع الأغنية، والكتاب، عن الأغاني الفرنسية التي عبرت عن تاريخ فرنسا – سيدة فرنسية أخذت الكتاب، وسافرت وهي أستاذة في جامعة باريس، وتدرسه في جامعة باريس.. كتاب أستاذة مصرية يدرس في جامعة باريس…