سمحة الخولي الذاكرة والتاريخ
رقم الايداع:
2007/24494
الترقيم الدولي:
977-5895-22-7
رقم الطبعة:
الطبعة الأولى
تاريخ النشر:
2007
اعداد بواسطة:
تصميم الغلاف:
التحرير:
التدقيق اللغوى:
إشراف:
حوار:
مقدمة
تعد سمحة الخولي (١٩٢٥ – ٢٠٠٦) فنانة لها فكر وتاريخ ثاقب ورؤية واضحة ومحددة, ترى أن الموسيقى ليست فقط فنًا يتذوقه النخبة ولكنها أداة تؤثر على المجتمع، بداية من الطفل الصغير في مراحل التعليم الأولى. أثرت على الحياة الموسيقية في مصر منذ الخمسينيات من القرن الماضي. وأورثت تلاميذها بعضاً من فكرها وربما من رؤيتها.
هي تاريخ وليست جزءًا من تاريخ. تحكي لك التاريخ وكأنها تعانقه ويعانقها.. تحكيه بصدق وشجاعة ولا تتوارى خلف أي واجهة جميلة، فثقتها بنفسها وإيمانها بعملها وجديتها الشديدة أمدتها بقوة ممتزجة برقة وتلقائية شديدتين.
بدأت سمحة الخولي رحلتها مع الموسيقى في سن مبكرة جداً, وشجعها على ذلك والديها كما كانت والدتها تعزف العود وتغني وترنم.
سمحة الخولي من مواليد القاهرة ١٩٢٥، والدها العالم الجليل أمين الخولي أحد رموز التنوير في القرن العشرين، ووالدتها السيدة/ نجية حسن مديرة مدرسة ومتذوقة للفن والأدب، وهي أيضًا زوجة المؤلف الموسيقي الراحل الكبير/جمال عبد الرحيم.
بدأت د. سمحة الخولي دراسة الموسيقى من الطفولة وحصلت على دبلوم المعهد العالي للموسيقى (كلية التربية الموسيقية حاليًا) سنة ١٩٥١ بتقدير ممتاز، وفي العام نفسه أوفدت في بعثة حكومية لبريطانيا حيث حصلت على درجة الدكتوراه في تاريخ الموسيقى من جامعة أدنبره سنة ١٩٥٤، وعلى دبلوم الأكاديمية الملكية للموسيقى بلندن تخصص بيانو سنة ١٩٥٤ (L.R.A.M.).
بعد العودة من البعثة اشتغلت بالتدريس والتحقت بهيئة تدريس “الكونسرفتوار” منذ إنشائه سنة ١٩٥٩ (كما كانت عضوة بلجنة تأسيس الكونسرفتوار). تدرجت في وظائفه العلمية حتى وظيفة أستاذة للتاريخ والتحليل الموسيقي (الموزيكولوجيا) سنة 1968.
عينت عميدة للكونسرفتوار سنة ١٩٧٢ حتى ١٩٨١، وهي أكثر فترات الكونسرفتوار ازدهاراً، وقد أنشأت وأشرفت خلال هذه الفترة على كورال أطفال “الكونسرفتوار” الذي تم تكوينه سنة ١٩٧٤ ثم أوركسترا الكونسرفتوار سنة ١٩٧٥، وهو أول أوركسترا مصري، وقد امتد نشاطه في الداخل والخارج في رحلات متعددة لأوروبا وأمريكا وكندا من سنة ١٩٧٦ وحتى سنة ١٩٨٥ بنجاح كبير, وقد لعب هذا الأوركسترا دوراً هاماً في الحياة الثقافية المصرية خاصة الفترة التي تعثر فيها أوركسترا القاهرة السيمفوني بعد حريق الأوبرا.
كما أنشأت كورال الشباب بالكونسرفتوار وأوركسترا وتريات الكونسرفتوار لأداء الموسيقى المصرية التراثية (ذات الأرباع) والمصرية الحديثة، والغربية (الكلاسيكية والمعاصرة) على السواء. كما تولت الإشراف على فرقة الأوبرا المصرية من سنة ١٩٧٢ وحتى سنة ۱۹۷۹ – بعد حريق دار الأوبرا – وفي هذه الفترة قدمت الفرقة عدداً من عروض الأوبرا بإخراج كامل من بينها العرض الأول والوحيد لأوبرا “مصرع أنطونيو” موسيقى المؤلف المصري حسن رشيد (١٨٩٦ – ١٩٦٩)، وعروض كاملة بإخراج مسرحي لأوبرات بترفلاي وتوسكا ولابوهيم ولاترافياتا وكافاليريا روستيكانا… إلخ. وبذلك حفظت للفرقة البقاء وحمتها من التشتت.
عينت رئيسة لأكاديمية الفنون من سنة ١٩٨٢ وحتى سنة 1985. فامتد نشاطها ليشمل جميع معاهد الأكاديمية، وفي هذه الفترة نظمت مهرجاناً دولياً للفنون، ومؤتمراً دولياً حول “الهوية المصرية في الفنون” احتفالاً باليوبيل الفضي للأكاديمية ١٩٨٤.
عملت لسنوات طويلة خبيرة للموسيقى بمؤسسة المسرح والموسيقى ومستشارة للموسيقى لوزير الثقافة لعدة سنوات. وكان لها دور في إنشاء فرقة الموسيقى العربية للتراث الموسيقي بوزارة الثقافة (في أواخر الستينات، وعينت عضوة بمكتبها الفني). كما كان لها دور في التوصية بجمع وتسجيل الأغاني الشعبية من أنحاء القطر قبل أن تندثر.
عملت كأستاذة زائرة بجامعة جنوب فلوريدا في الولايات المتحدة من سنة ١٩٨٧ وحتى ۱۹۸۹. كما دعيت لتحاضر في بعض الدول العربية مثل البحرين وسوريا، والغربية مثل أمريكا وألمانيا.
شارکت في عضوية عدد كبير من الهيئات والمجالس فكانت عضوة في المجلس الأعلى للثقافة، وعضوة في مجلس إدارة دار الأوبرا المصرية. وكانت أيضاً مقررة لجنة الموسيقى والأوبرا والباليه من ١٩٩٩ وحتى ۲۰۰۲. وعضوة بها منذ بداية إنشاء المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب في أواخر الخمسينات. وانضمت لعضوية شعبة الفنون بالمجالس القومية المتخصصة من الثمانينات حتى وفاتها. وكانت أيضاً عضوة للجنة العليا لجوائز الإبداع الفني، وكانت مستشارة الموسيقى بجامعة الدول العربية، وأمينة المجمع العربي للموسيقى في السبعينات، وكذلك عملت عضوة بلجنة التفرغ بوزارة الثقافة في بدايتها.
ساهمت الدكتورة سمحة في الخدمات التثقيفية العامة، فقامت بإعداد وتقديم برنامجها التليفزيوني الأسبوعي “صوت الموسيقى” على القناة الثانية المصرية، لأكثر من ٢٥ عاماً من 1975 وحتى ٢٠٠١. والذي ساهم بشكل كبير في نشر الثقافة الموسيقية الجادة من كل العصور, وإبراز المؤلفين والمؤدين المصريين إلى جانب رعاية البرنامج للمواهب من الطفولة والشباب وتناول القضايا الرئيسية للموسيقي في مصر والعالم بنظرة متفتحة. وقد ترك هذا البرنامج آثاراً ملحوظة على قطاعات عريضة من المشاهدين في مصر على اختلاف طبقاتهم وأذكى اهتمامهم بالموسيقى الفنية.
ومن إسهاماتها المجيدة في مجال العمل الاجتماعي الموسيقي, والذي يكشف عن جانب إنساني عميق في شخصيتها، قيامها بتأسيس معهد موسيقى جمعية النور والأمل للكفيفات سنة 1960 وإشرافها عليه تطوعاً حتى وفاتها. وتأسيس أوركسترا النور والأمل للكفيفات والإشراف عليه فنياً، وعلى كل رحلاته الخارجية منذ سنة ١٩٨٨، وقد جال هذا الأوركسترا الفريد من نوعه في أنحاء العالم المختلفة مثل النمسا وألمانيا وبريطانيا والسويد وأسبانيا والكويت والمغرب واليابان وتايلاند وقطر وكندا… وغيرها. ويعتبر أوركسترا النور والأمل الوحيد من نوعه في العالم. ورحلاته تعتبر نصراً فنياً لمصر، والعمل الاجتماعي والموسيقي فيها. أيضاً أنشأت جمعية الشباب الموسيقى المصري (وهو عضو مراقب في الاتحاد الدولي للشباب الموسيقى F.I.J.M.) سنة ١٩٨٥ لرعاية الموسيقيين الشبان – مؤلفين ومؤدين – في مستهل حياتهم الفنية، وتقدم الجمعية حفلاتها دورياً في الأوبرا (وغيرها) وتعمل فيها على العناية بشباب الموسيقيين، و“بالملتقى” بتقديم الثقافة الموسيقية الرفيعة له – مع الحرص على توجيه دراسات الموسيقى العالمية لخدمة الموسيقى المصرية (كما في الحفلات التي تجمع بين الغناء الأوبرالي والغناء العربي التقليدي). كما تقدم هذه الجمعية حفلاً سنوياً كبيراً للمؤلفين الموسيقيين الشبان لإلقاء الضوء على إبداعاتهم, وتنظم مسابقات في التأليف والعزف، وندوات للاحتفال بذكرى كبار الموسيقيين: السنباطي – أبو بكر خيرت – جمال عبد الرحيم – فيردي – كارمن زكي… إلخ).
كان للدكتورة سمحة إسهامات قيمة في حركة الترجمة، وقامت بترجمة الكتب الآتية باللغة العربية: تراث الموسيقى العالمية (تأليف كورت زاکس). ١٩٦٣. تاريخ الموسيقى العالمية (تأليف ثيودور فيني) بالاشتراك مع جمال عبد الرحيم سنة 1969. التأليف الموسيقي (تأليف س. ث. فيني) سنة 1965 (دار المعارف) وصدرت طبعته الثانية الموسعة عن المجلس الأعلى للثقافة بعنوان “التحليل الموسيقي“، وأضافت إليه تعقيبًا يعرض مذاهب التحليل الموسيقي حتى نهاية القرن العشرين، (صدر عن المجلس الأعلى للثقافة سنة ٢٠٠٠). “الموسيقى والعولمة” (المجلس الأعلى للثقافة) سنة ٢٠٠٢.
بالإضافة إلى ترجمة الأعمال الموسيقية، ألفت د. سمحة عدداً من الكتب وكتبت أبحاثاً كثيرة من أهمها: “التربية الموسيقية” (بالاشتراك), وقد نال الجائزة الأولى لوزارة التعليم سنة ١٩٨٥. وكذلك كتاب “الموسيقى والحضارة“، وأيضًا كتاب “الموسيقى الأوروبية في القرنين السابع والثامن عشر” (محيط الفنون). و“الموسيقى الأوروبية في القرنين السابع والثامن عشر” (محيط الفنون)، “وظيفة الموسيقى في الحضارة الإسلامية حتى سنة ١١٠٠” بالإنجليزية (رسالة دكتوراه)، نشرت في القاهرة (الهيئة العامة المصرية للكتاب) سنة ١٩٨٤، كتاب “القومية في موسيقى القرن العشرين” (نشر عالم المعرفة – الكويت). “كتاب من حياتي” (نشر دار الشروق) سنة ٢٠٠٢. وقد أشرفت على تحرير الكتاب التذكاري لجمال عبد الرحيم الذي أصدرته هيئة فولبرايت الأمريكية المصرية سنة 1993 بالإنجليزية، ولها فيه ثلاث دراسات كبيرة، وصدرت ترجمته العربية الموسعة عن المجلس الأعلى للثقافة ٢٠٠٢.
كما قامت بمراجعة كتاب “واحة سيوه وموسيقاها” سنة ١٩٧٧ (وهي أول رسالة علمية عن الموسيقى الشعبية المصرية). وكتبت له مقدمة علمية طويلة عن دراسات ووسائل البحث في الأثنوموزيكولوجيا وأساليبها (المجلس الأعلى للثقافة). وأشرفت على تحرير كتاب “التأليف الموسيقي المعاصر” (دليل مقروء ومسموع في ثلاث أجزاء لوحدة “بريزم” بالعلاقات الثقافية الخارجية بوزارة الثقافة – صدر منه الجزء الأول والثاني، الجزء الأول منه عن مؤلفي الجيل الأول, وهو سجل علمي لسبعة مؤلفين من “يوسف جريس” وحتى “أحمد عبيد” وصدرت معه أسطوانات مدمجة بعضها يسجل لأول مرة, كما كتبت له مقدمة طويلة عن تاريخ الثقافة والفن في مصر حتى القرن العشرين. والجزء الثاني من هذا الكتاب في اثني عشر مؤلفًا من الجيل الثاني، وقد أشرفت على إصدار سبعة أسطوانات مدمجة (CD) للجزء الثاني، قدمت فيها أعمال 13 مؤلفاً موسيقياً مصرياً من ذلك الجيل. كما كتبت ۱۳ مقالاً عن الموسيقيين المصريين (ملحنين ومؤلفين ومطربين) لقاموس جروف للموسيقى والموسيقيين المصريين (طبعة ١٩٨٠) “Grove’s Dictionary of Music and Musicians”، وكذلك ساهمت في قاموس جروف للأوبرا سنة 1993.
دعیت سمحة الخولي لمراجعة وتحديث مقالاتها للطبعة الجديدة سنة ٢٠٠٠, وتم إضافة ثمانية مقالات عن مؤلفين وملحنين مصريين للطبعة الجديدة (29 جزءاً) في صورتيها المطبوعة والإلكترونية, وبذلك بلغ عدد مقالاتها في هذه الموسوعة عن الموسيقيين المصريين 21 مدخلاً ومقالاً. وأشرفت على إصدار كتاب “أغاني كورال الأطفال” الصادر عن أكاديمية الفنون سنة 2000 (ويضم 23 أغنية متعددة الأصوات لكورال الأطفال لجمال عبد الرحيم وعواطف عبد الكريم). كذلك أشرفت على إصدار كتاب “موسيقيات السندباد” عن لجنة الموسيقى والأوبرا والباليه بالمجلس الأعلى للثقافة، ويضم 125 مقالة موسيقية للدكتور حسين فوزي (نشرت بالأهرام من سنة 1961 وحتى سنة ١٩٨٤). وصدر سنة ٢٠٠١ بإشرافها كتاب “محمد عثمان الملحن الكبير” (١٨٥٥ –۱۹۰١)، ويضم أبحاث الندوة الكبيرة التي نظمتها عنه لجنة الموسيقى والأوبرا والباليه ۲۰۰۰, ويحتوي على توثيق علمي كامل لكل ألحان محمد عثمان. كما صدر تحت إشرافها كتاب لذكرى محمود كامل ويضم دراسات الندوة التي نظمتها لجنة الموسيقى والأوبرا والباليه لتكريمه (قبل وفاته بشهور).
أخيرًا وليس آخرًا، حصلت د. سمحة على العديد من الجوائز تقديراً لدورها الريادي في مجال الموسيقى، منها جائزة وزارة الثقافة في النقد الموسيقي سنة ١٩٦١، وجائزة جمال عبد الناصر سنة ١٩٧٥. وجائزة الدولة التقديرية في الفنون سنة ١٩٨٤، وجائزة مبارك للفنون سنة ٢٠٠٣، وهي أعلى جائزة تمنحها الدولة، وكانت أول سيدة تحصل على هذه الجائزة.
نهال النجار
* تم الرجوع إلي الكتيب الصادر من أكاديمية الفنون بمناسبة الاحتفال بالعيد الثمانين للأستاذة الدكتورة سمحة الخولي إشراف الدكتورة حنان أبو المجد والتي كانت إحدى تلامذتها المقربين.
اسمي سمحة أمين إبراهيم الخولي. من مواليد القاهرة، ٢٧ يوليه سنة ١٩٢٥. دخلت روضة أطفال شبرا، وسبقني فيها أخواتي – الأكبر مني– “طريف الخولي” – الله يرحمه – و“أسامة الخولي“. كانا معي في نفس الروضة لكن “طريف” في سنة ثالثة و“أسامة” في سنة ثانية، وأنا دخلت سنة أولي، فقد اجتمعنا في سنة واحدة معاً. في هذه الفترة كانت لي تجربة فيها مزيج غريب جدًا من الحيرة والسعادة في نفس الوقت. جاءت الحيرة لأن المدرسة كبيرة جداً, وكانت الناظرة سويدية الجنسية مما يصعب من مسألة التواصل بينها وبيننا…. كان عندنا مدرسات موسيقى… أذكر منهن“مدام إيفون“. .. كانت ست جميلة جداً وتلعب بيانو بلدي، لكن كانت تلعب بشكل جيد وكانت تمتعنا في هذه الحصص، وكان أيضاً من مصدر سعادتنا في حصة الموسيقى حضور مفتش للموسيقى اسمه “خيرت أفندي“، وأنا كتبت عنه مقال في كتاب سيصدر – قريباً إن شاء الله -. هذا الرجل غير مفهومنا عن الغناء المدرسي تماماً. كان يأتي وفي جيبه ورقة ويخرجها لمدام إيفون، تنظر فيها وتعزف على البيانو، بينما هو يكتب نص الكلام على التختة بخط جميل، ويعني لنا النشيد. أول نشيد غناه لنا كان “الفأر لا يخرج في النهار بل يختبى في داخل الأجحار، لكنه إذا أتى الظلام وكان أهل البيت فيه نيام يسرح في البيت بلا احتشام يأكل ما شاء من الطعام“. المضحك أن المفتش كان لديه أذنان كبيرتان جداً، مثل أذن الفأر وصوته لم يكن جميلاً، صوته فيه أزيز مثل الطيارات لكنه كان يغني من كل قلبه. فكنا ننظر إليه ونتخيله فأراً حقيقياً بالفعل. كل الأناشيد التي أخذناها منه حفظتها إلي الآن، لأني بعدها بفترة طويلة كنت أدرسها للأطفال في التربية العملية.
في هذه الفترة كنت سعيدة جدًا بالمدرسة، فقد وفرت لنا آلات إيقاع صغيرة للعزف عليها وهذه ميزة جميلة جداً بالنسبة للأطفال. وبالرغم من سعادتي بالنشاط الموسيقي إلا أن حصص الأشغال كانت تصيبني بحزن شديد. كنا نأخذ كرتونة مرسوم عليها رسم جميل جداً. ويطلبون منا أن نشتغل عليها. ولما أدخل الإبرة في ورقة الكرتون تتمزق وهذا يتكرر في كل مرة مما يشعرني بالفشل والحزن.
أمي السيدة نبيهة حسن إبراهيم، كانت مديرة مدرسة بنات، وهي في سن 17 سنة. وهذا كان شيئاً غريباً جداً أن تصبح ناظرة لمدرسة في هذا السن، فلقد سبقتها ناظرة لم تحظ بقبول الأهالي في الحي، وطلبوا تغييرها من المفتشة – الإنجليزية الجنسية – في ذلك الوقت، فرشحت والدتي وتحمست لها بالرغم من سنها الصغير, وأثبتت أمي جدارتها بالمنصب وكانت على قدر المسئولية.
أبي أمين إبراهيم الخولي، وقد تزوج أمي عن حب عنيف جداً، وهذا شيء نادر جدًا في هذا العصر, فقد رآها أثناء سيرها للمدرسة, وهي واضعة البيشة البيضاء الشفافة على عينيها وكانت جميلة جدًا وطبعاً لم يستطع أن يتحدث معها، وقرر أن يتزوجها، وبعد الزواج استقالت من العمل بناءاً علي شرط الوالد بأن تتفرغ للبيت, ولكن لفترة طويلة جداً كان والدي, الله يرحمه, عندما يكتب مقالاته يقرأها لها ويهتم برأيها فيها.
أنا البنت الوحيدة في العيلة، أخي الأكبر أسامة ثم أنا ثم جاء أخي تميم – الذي توفي بعد ذلك – فأكثم. كان الاهتمام كبير بالأخ الأكبر “أسامة” فهو كل شيء ونحن كومبارس! لكن المشاعر لم تكن واضحة تماما فأبي كان يحبني جداً ولي عنده مكانة كبيرة لكن في نفس الوقت النظرة التقليدية للبنات كانت مسيطرة على وضعي في الأسرة. وكان هذا الشعور يسبب لي تعاسة خفيفة حبيسة لم أفصح عنها.
ومن الذكريات الجميلة التي أحملها لأبي… كنت في أولى إبتدائي وكان عندنا مدرسة لغة إنجليزية تدلل بنت في الفصل بشكل مبالغ فيه لأن شكلها جميل دون مراعاة لمشاعرنا، فنحن أطفال مثلها ونشعر بالغيرة، فذهبت لأبي قلت له “أنا يا بابا مش عاوزة أتعلم إنجليزي“، قال لي “ليه” قلت له الحكاية. قال لي “خلاص زي بعضه, ما يجراش حاجة إنتي روحي المدرسة ومش لازم تتعلمي إنجليزي“.
ولكن العكس ما حدث، فمن غير ما أقصد أصبحت حريصة على تعلم الإنجليزية، فأنا عندي ذاكرة قوية في التعليم بسرعة جداً, ولعل في طريقة تعامل أبي مع غضبي من المدرسة قدر كبير من الحكمة ورجاحة العقل.
في الصف الثاني الابتدائي حدث شيء مهم جداً، وهو شراء أبي بيانو وقد قال لي “ده علشانك” وأتى لي بمدرسة أرمنية اسمها مدام “آراكس” لتعلمني العزف على البيانو، ولكنها كانت حزينة لفقد ابنها, فكانت تصيبني بالعدوى، أي بالحزن والبكاء، وبعدها أحضروا لي مدرساً إيطاليا للبيانو، كان لطيفاً جداً. والدى كما هو واضح رجل متفتح جدًا، وهو كان في الأصل رجل دين, فقد تخرج من مدرسة القضاء الشرعي، ومن مظاهر تفتحه إنه، وهو طالب في مدرسة القضاء الشرعي, ألف مسرحية اسمها “الراهب المتنكر“, عن “عبد الرحمن الناصر” وهي عن موقف معين في الأندلس يوضح سماحة الإسلام في التعامل مع غير المسلمين، كانت مسرحية جميلة جداً ولها حبكة، وهي منشورة حالياً. كان هاوياً للمسرح وعندما سافر للخارج رأي امرأة مصرية تلعب بيانو– سوليست بيانو – اسمها “عايدة علم“, وكان طول عمره يحكي لي على “عايدة علم“. أنا طبعاً لم أسمع عنها، ولم تكن معروفة في مصر ولكنه أعجب بعزفها وتمنى أن أكون مثلها، ومن ناحية أخرى كان حريصاً في تربيته لي أن يتوفر لي كل إمكانيات الفتاة الأوروبية وكل مهارات الفتاة الريفية المصرية: أي أن أعرف أعجن وأخبر وفي نفس الوقت أتعلم اللغة الفرنسية، وقد بدأت تعلم الفرنسية في الصف الأول الثانوي, وكانت لطريقة تعلم الفرنسية ذكريات جميلة معي، كنت أسكن في مصر الجديدة أمام مدرسة “نوتردام“. كل يوم خميس أرجع البيت أتناول الغداء وأجمع ورقي وكتبي وأذهب إلي المدرسة, وأدخل من الباب الخلفي لأتعلم علي يد الأخت Marie Eraclide وتجلس معي ساعتين، بفضلها أجدت اللغة الفرنسية، وعندما تعينت رئيسة أكاديمية, من أهم الأشياء التي أفادتني اللغات: لأني أجيد الإنجليزية والفرنسية.
من المحطات المهمة في حياتي التحاقي بمدرسة “الثقافة النسوية“, فالثقافة النسوية عبارة عن مدرسة ثانوي لبنات الأغنياء أو “بنات الذوات” لتعلم بعض المواد المنزلية وتهيئة البنت لتصبح أماً واعية. دخلت المدرسة وكانت مدرسة جميلة جدًا وبها حديقة رائعة. .. كان عندنا مادة “فلاحة بساتين” والحديقة ضخمة جداً وكل حوض من أحواض الأزهار مكتوب عليه لوحة باسم الزهرة التي بداخله, استفدت جدًا من هذا الموضوع في تربية الحس المرهف لدي. ومن الأشياء الأخرى التي تعلمتها في المدرسة كانت من خلال علاقتي بمدرسة التطريز والخياطة.. امرأة جريجية شديدة جدًا ومتعلمة في باريس… كانت مدرسة غريبة جداً experimental وموضوع التطريز والتفصيل والخياطة شيء مهم جداً بالنسبة لها… بدأت تعليمنا، وأنا لا بد أن أتعلم I have no choice وبدأت أتحسن. وقد نلت إعجابها لأني أربط شعري بـ “فيونكتين” strict جدًا، وهي تحب هذا الشكل لأن البنات الكبار كان اهتمامهن الأكبر بتزيين أنفسهن، وكانت تقول لهن “شوفوا البنت الصغيرة دي أحسن واحدة فيكم“، علمتنا الـ discipline. .. أحيانًا أكون متعبة جداً وأضغط على نفسي حتى الواحدة والثانية صباحاً من أجل أن أنهي واجباتي، هذا الإحساس بالالتزام والواجب تشكل في البيت, وكانت هذه المدرسة تقول لنا “اوعوا لما تتجوزوا أروح لكم البيت ألاقيكم لابسين جلابية مبهدلة وشعركم ملخبط، اوعوا حتعرفوا شغلكم“.
عندما انتهينا من الدراسة… في البداية كانت مدتها أربعة سنوات, وعملنا مظاهرة وطالبنا فيها بمد الدراسة سنتين مثل ثانوى البنات, واستجابوا لمطالبنا، وكانت تلك السنتين عبارة عن تخصصات، أنا دخلت علم نفس وموسيقى، وتطريز وتفصيل وتعد هذه مجموعة لا بأس بها.
نقطة التحول في حياتي كانت في امتحان آخر السنة عندما جاءوا بممتحنين من معهد الموسيقي، وعندما رأوا قدراتي طلبوا منى الالتحاق بمعهد الموسيقى. قلت لهم “فين المعهد ده؟” قالوا لي “ده في بولاق“. كان ببولاق معاهد معلمات للموسيقى وللتربية الفنية والتربية الرياضية، وهنا بدأ أكبر صدام مع والدي، فقد قال “لا لا احتراف ما فيش“، وفي هذه الفترة حدثت بيننا فجوة فظيعة جداً لأنه تزوج “عائشة عبد الرحمن“. وتفرقت العائلة وتحاملت والدتي على نفسها من أجلنا ومن أجلي أنا بالذات, كبر أخوتي وأنا كنت بدأت أمرض، فحاول أخي أسامة إقناع والدي بالمعهد وكذلك والدتي التي قالت له “شوف البنت بالشكل ده ابتدت صحتها تبوظ خالص ومش حينفع تقعد في البيت، هي حتقعد تعمل إيه في البيت! هي عندها طاقة فظيعة جدًا ما فيش معنى إنها تقعد في البيت وأهي عيت بالفعل“.
دخلت المعهد وكانت العميدة ألمانية الجنسية وتعد واحدة من أكثر الناس تأثيرًا في حياتي. .. اسمها “بريجيت شيفر“…. شخصيتها كانت قوية وقد استفدت كثيرًا بعلمها وأسلوبها في الإدارة والتعامل مع الناس. وقد لمست رغبتي الشديدة في التعلم.. وكانت تمدني بالكتب بشكل شخصي, كان عندنا مكتبة موسيقية كنت أجلس فيها ساعات طويلة. كان في المعهد أفضل الأساتذة مثل “هانز هيكمان“، وهو عالم كبير جدًا في علوم الموسيقى وتاريخ الموسيقى الفرعونية. وكان المعهد يحضر لنا “محمد القصبجي” يجلس معنا ساعتين في الأسبوع نسمع منه فقط بدون مقرر دراسي. .. يعزف فقط ويغني ألحانه الجديدة، ومن ضمن الحاجات المعروفة عن العميدة دعوتها لـ “أم كلثوم” من وقت لآخر، وكانت دائماً تقول لنا “إنتوا مبهورين أوي بالعازفين الغربيين ليه، إنتو عندكم عازفين زيهم بالظبط ما يقلوش عنهم“. هذا التوازن في النظر للأمور نظرة رشيدة استفدت منه تماماً في حياتي، ويرجع الفضل – بالطبع – لـ “شيفر“.
بعد المعهد تزوجت، فأنا تزوجت في حياتي ثلاث مرات. المرة الأولى كانت بائسة من أولها لآخرها. هو شخص من تلامذة والدي ذو عقلية ريفية مقفولة ليس له أي علاقة بالموسيقى ولا يوجد أي تواصل بيني وبينه، وكان به عيبان قويان: بخيل بشكل مرضي وشكاك جداً، تزوجنا وسافرنا الخرطوم. كان مدرساً في كلية “غوردون” في الخرطوم، وقد أقمت سنة في الخرطوم. في هذه الأثناء كان أخي أسامة مسافراً بعثة لإنجلترا. وكان يشعر بحالتي فأرسل لي packet بالبريد عبارة عن مجموعة اسطوانات، فاشتريت جرامافون وأخذت أسمع “شوبان” وكنت سعيدة جداً، شعرت إن الدنيا رجعت لي مرة أخرى. وأرسل لي مالاً لكي أؤجر بيانو، وفعلاً أجرت بيانو.
كان من الواضح أن حياتي بهذا الشكل مستحيلة. رجعنا من الخرطوم وبدت منه تصرفات غريبة جداً: يجلس طول الليل يدخن, وأنا لست معتادة علي ذلك. أنا أعرف إن الناس تنام بالليل وتستيقظ بالنهار، وإذا خرجت أمشي بابني اكتشف إنه يمشى خلفي ليراقبني. لم استطع التواصل معه وبعد معاناة طويلة تم الطلاق, وبدأت أجمع أشلاء حياتي. قلت لوالدي “من فضلك ساعدني بأي شكل أرجع تاني المعهد“. قال لي “طب وماله” رحت للدكتورة “شيفر” قالت لي “we receive you with open arms”, بس تعالي” دخلت المعهد لكن من كانوا معي في سنة ثالثة قد تخرجوا بالفعل، فقررت أن أدرس السنتين في سنة واحدة. فقد كان وكيل وزارة المعارف في هذا الوقت “شفيق غربال” زميل والدي في الجامعة، فذهب له, بطلب أن أدمج السنتين في سنة واحدة، فاشترط موافقة الأساتذة أولاً وبالفعل وافق الجميع بلا تردد. بعد المعهد جاءت لي بعثة للدراسة في إنجلترا، ومما سهل علي الأمر زواجي الثاني من صديق والدي الذي يعمل في إنجلترا… فأنا كنت في مصر وهو كان في إنجلترا، فقد كان يدرس هناك في بعثة، وقد حصل علي Ph.D.. وأنا سافرت بعد الزواج وأقمت سنتين وأخذت الـ License. Ph.D of The Royal Academy الاثنان في وقت واحد. والدراسة الثانية عبارة عن ليسانس الـ Royal Academy of Music أي التخصص في Piano teaching وفيه Piano performing. الـ performing مستوى أعلى قليلاً. وفي الحالتين هناك مواد كثيرة. شعرت بعد ذلك أن عالم زوجي “الدكتور العلائي” خاص به وحده وإن أنا I am not part of it, بالإضافة إلي تركي لابني مع والدتي في مصر مما شكل ضغطاً نفسياً علي. انفصلنا بمنتهى الأدب والهدوء والصداقة. وفضلت أن أركز على ابني وشغلي.
اشتغلت في تفتيش الموسيقى لمدة ثلاثة أشهر الصيف إلى أن يفتح المعهد، وعملت به كمدرس لمدة أربع سنوات. في هذه الأثناء كانت عميدة المعهد “عائشة صبري” فهي أقدم مصرية من خريجات المعهد. فالمسائل أصبحت شكلية خالص. أقالوا مدام “شيفر” العالمة العظيمة وأتوا بمن هي أقل خبرة وعلمًا. كان عندها نوع من الصالون الثقافي في بيتها يجتمع مرة كل أسبوع, تعمل به شروح عن الموسيقات في القرن العشرين ultra modern وكنت أحضره مع مجموعة أغلبها أجانب، واستمرت علاقتي بها موجودة حتى ذهبنا معاً الكونسرفتوار، هي كانت أستاذة فيه, وحتى خروجها من مصر.
في سنة ١٩٥٨ كان “ثروت عكاشة” وزير الثقافة. وفي هذه الفترة انتدبت من المعهد للعمل بالوزارة كعضوة للموسيقى في مكتب “ثروت عكاشة“. وكان عضو الفن التشكيلي “صلاح طاهر“. وفي هذا الوقت تشكل المجلس الأعلى لرعاية الفنون سنة 1956، وكان رئيس لجنة الموسيقى به “حسين فوزي“، ومن ضمن المشروعات التي تناقشنا فيها إنشاء معهد الكونسرفتوار، وكان وظيفته تخريج فنانين للعزف على المستويات الغربية، ولكي ينفذ تم تشكيل لجنة من مجموعة كبيرة أنا واحدة منهم و“جمال عبد الرحيم” و“برجيت شيفر” وواحد اسمه “بيرو جورينو” من إسكندرية وكان عميد معهد إسكندرية و“محمود النحاس” مدير الأوبرا وقتها، و“صالح عبدون” سكرتير مجلس الموسيقى. كانت مهمتنا النظر في نظم الكونسرفتوار في البلاد المختلفة الغربية والشرقية – الشرقية So called يعني الشيوعية ونطلع بأحسن system ينفع. في هذه الأثناء نقلت إلى وزارة الثقافة من التربية الموسيقية، وقد رحبت جداً. .. نظراً لما حدث لي قبل انتقالي مباشرة، فقد قررت أن أكتب كتاب للتربية الموسيقية لمستوى ابتدائي وطلبت مني العميدة وكانت “عائشة صبرى” أن تشترك معي في الكتاب وضغطت علي ولم تكتب سوى عشر صفحات من ٢٠٠ صفحة!
عندما جاء “أبو بكر خيرت” للوزارة كان مطلوباً منا تكوين هيئة تدريس والبحث عن مبنى مقراً للمعهد، وجمعت كل الأساتذة الأجانب من ضمنهم “شيفر” و“فيلينجر” و“باتيس” و“بوليزيه” كان ساكن جنبي في مصر الجديدة و“كارو” وكل الأسماء الكبيرة للتدريس في المعهد. وفي الغناء كان فيه مدام “رطل” وأخرى فرنسية اسمها “لافروزيه“, أي كان هناك هيكل تعليمي جيد, وكنا نعمل في اللائحة بقدر المستطاع.
من الأشياء المهمة، أن كورال الأوبرا الذي أنشأه “حسين فوزي” سنة 1956 تم إلغاؤه أثناء العدوان الثلاثي، وكانت بالكورال أصوات مصرية جيدة جداً، ستة دخلوا الكونسرفتوار منهم “أميرة كامل” و“فيوليت مقار” هم أساتذة كبار جداً الآن ومتفرغين.
بدأنا العمل سنة ١٩٥٩ وفي هذه الأثناء أحضر خيرت الأرض من أجل بناء الكونسرفتوار في الهرم, في آخر سنة قبل التخرج حصلت النكسة وتقرر الأخذ بدرجة التخصص فقط دون باقي المواد مثل تاريخ الموسيقى والتحليل الموسيقي والـ counterpoint. اعترضنا, قلنا له “ما ينفعش كده“. كان “جمال عبد الرحيم” في هذه الأثناء انتقل للكونسرفتوار وقد كان قبلا في معهد البنين “معلمي الموسيقى“, وكنت قد انتقلت قبله، وكان هناك أيضاً “عواطف عبد الكريم” منتدبة و“أميمة أمين” منتدبة، واحدة رجعت من النمسا والأخرى رجعت من سويسرا، وكان هناك إصرار على رفض قرار درجة التخصص، فأرسلنا مذكرة إلي “عبد القادر حاتم” ولكن لم يحدث أي تغيير.
كان الدكتور “حسين فوزي” وكيلاً أول لوزارة الثقافة. وقد أحضر أستاذاً إيطالياً كبيراً من بلد في شمال إيطاليا اسمه “تشيز رينولديو“. حضر ليرى المعهد ويدرس أحواله ويكتب تقريراً. كتب تقريراً جيداً في الحقيقة، وقال إن المعهد في حاجة لأساتذة أقوياء جداً في العزف, لأن العزف في النهاية هو واجهة الكونسرفتوار. فكانت النتيجة أن طلب دكتور “ثروت عكاشة” هو ودكتور “حسين فوزي” من روسيا إرسال مجموعة خبراء لدراسة مواد العزف الأصلية. أرسل الدكتور “حسين فوزي” طلباً لـ “فورتسيا” وزيرة الثقافة الروسية في هذا الوقت, وكانت امرأة قوية جداً. فأرسلت “برتسيا” – الله يرحمه هو تقريباً مات عندنا في مصر– كان لـ “برتسيا” ميزة جيدة جداً, وهي إتقانه للغة الفرنسية، كما كانت لديه اتصالات دولية، فجاء وشغل منصب عمادة المعهد لمدة سبع سنين حتى أتيت بعده سنة ١٩٧٢. وقد أحضر معه مجموعة من أستاذة عظام, وبدأت تظهر نتائج ومستويات جيدة جدًا منهم “عفاف راضي” و“مصطفى ناجي” و“حسن شرارة” و“هاني الطنبولي” و“رمزي يسى” – رمزي دفعة أكبر منهم قليلا – و“محمود القلعاوي” ما عمله “برتسيا” كان جهداً عظيماً، فقد حول مسار المعهد بقوله “ما أقدرش أعلم عزف لناس كبار في السن لازم أعلم عزف للأطفال“. وقد كان هناك قسم للأطفال قبل مجيء “برتسيا” لكن كان اسمه “إعدادي غير نظامي” لكن يدخلوا full time لم يحدث إلا في عهد “برتسيا“. وهذه كانت خطوة مهمة جدًا وهذا النظام موجود إلي الآن.
في السنة الأولى لمعهد الكونسرفتوار سنة ١٩٥٩ هب علينا فجأة طقم ضخم جداً من الملحنين المشاهير مثل “كمال الطويل“, “محمود الشريف“, “فؤاد حلمى” مجموعة ضخمة، بالرغم من تجاوزهم للسن المسموح به. بدأ “جمال عبد الرحيم” تدريس مادة “التأليف” فقط سنة ١٩٧١. قبله كانت الدراسة مواد نظرية، وكانت “شيفر” مصدر رعب لكل الطلبة، ففي مرة أمسكت بكراس “كمال الطويل” ورمته في وجهه وقالت له: go out طبعًا go out للأستاذ كمال الطويل فلم يحضر مرة أخرى وغيره كثيرون.
في هذه الفترة كنت أدعى لمؤتمرات كثيرة في الخارج، أنا و“جمال” فقد دعينا لـ Festivals of Contemporary Music في يوغوسلافيا وأماكن أخرى في مختلف البلدان وأصبحنا معروفين ومشهورين, وكنت أكتب في الجرائد وكذلك في مجلة “المجلة” عند “يحيى حقي“. ولـ “يحيى حقي” صنائع كثيرة لا أنساها, كان يشجعني ويستفزني لكي أكتب أي يستثير حماسي لكي أكتب، وكانت طريقته رقيقة جداً، كما كانت بيننا صداقة جميلة جداً. بدأت أكتب عن الموسيقى في القرن العشرين والتجديدات والشخصيات المشهورة، وفي مجلة “العربي” الكويتية – في مرحلة لاحقة – كنت أكتب في صميم الموسيقى العربية موضوعات متخصصة. ولم استمر طويلاً لأنه في هذه الفترة عينت رئيسة للأكاديمية.
في فترة “برتسيا” ارتفع مستوى العزف بشكل غير عادي لدرجة إن “حسن شرارة” – علي سبيل المثال – رشح لمسابقة في باريس كوسيلة للاحتكاك. وكذلك “مصطفى ناجي” وكانا من المجموعة التي دخلت مسابقة “تشيكوفسكي” في روسيا ومعهم “رمزي يسى” و“جابر البلتاجي“: حسن كمانجة، مصطفى تشيللو، رمزي بيانو، جابر غناء.
كان هناك ما يسمى بأوركسترا الإذاعة، سموها أوركسترا القاهرة السيمفوني. وأقام أوركسترا القاهرة السيمفوني حفلات أسبوعية، حفلة الصبح وهي البروفة الـ general يذهب الناس لها في الأوبرا بخمسة قروش ويقول الأساتذة الأجانب “الجمهور اللي بيجي الصبح أحسن ميت مرة من جمهور الليل” it was such a beautiful experience. لقد خلق “ثروت عكاشة” حياة موسيقية رائعة فقد دعا “رمارتشر دریان” في مصر وكذلك دعا “كارول أوثر“. في فترة “رشاد رشدي” طلب من “جمال” تلحين رواية “حبيبتي شامية“، وكانت تنتمي للمسرح السياسي، وكانت بلا معني، ولا يعرف جمال المجاملة فرفض، وأحضر “جمال سلامة” للتلحين و“عبد المنعم كامل” للإخراج. أنا طلعت على المعاش 1985. في الأربع سنين الأخيرة كنت رئيسة الأكاديمية. في ذلك الوقت كانت المكانة الاجتماعية التي وصل إليها الكونسرفتوار، والتي وصلت لها كبيرة جداً. كنت أعقد أحاديث للتليفزيون وكان عليها إقبال خرافي. عندما عملنا الأوركسترا أول مرة ونجح، طلبت من وزير الإعلام “كمال أبو المجد” فرصة يطلع الأوركسترا مرة تراه الناس. وطلب مني عمل برنامج للثقافة الموسيقية، فكان له الفضل في عمل برنامج “صوت الموسيقى” الذي استمر ستة وعشرين سنة, وكان نافذة على الثقافة الموسيقية في التليفزيون.
كان المعهد يبدأ الساعة التاسعة، أتواجد من الثامنة صباحاً…. كان هناك مدرسة إعدادية للأطفال، يدرسون المواد كلها بالإضافة للموسيقى، في المرحلة الثانوية يدرس الطلبة ثلاث سنوات مواد الثقافة العادية، ويمتحنون الثانوية العامة في كل المواد بالإضافة للموسيقى، وهذا الذي رفع وحسن المستوى جداً. كنت أجعل الكبار يعملون في رعاية الصغار وكانوا سعداء بهذه المهمة.
في موضوع. Ph.D حصلت من إنجلترا علي الـ
“History of Music of Islamic Civilization up to The Twelfth Century” وكتبت في المقدمة إنني اشتغل على الموسيقى العربية لكي أعرف وضع هذه الموسيقى في الحضارة التي religious aspects خرجنا منها. فكان هناك فصل كامل عن الـ الإسلامية وعلاقتها بالموسيقى ورأيها في الموسيقى ورأي الأئمة musical and religious والقرآن. فالجزء الأول في الرسالة كان musical والثالث musical and intellectual life والثاني life أدخلت فيه النظريات الخاصة intellectual الـ and social life بالموسيقى العربية والعلاقة بين الفكر الإسلامي في الموسيقى. والفكر الإغريقي وكنت أول من كتبت في هذا الموضوع.
وكان للنشأة منذ البداية أكبر الأثر في تشكيل وعيي وثقافتي… عندما انتهيت من المدرسة الثانوية “الثقافة النسوية“, وجلست في البيت. قضيت سنتين أقرأ في الأدب الإنجليزي، فقد كنت انتهز فرصة اشتراك أبي وأخوتي في مكتبة جامعة القاهرة في استعارة الكتب. فقرأت كل كتب “تشارلز ديكنز” دون ملل. وكانت مشكلة حياتي مع عائلتي “عينيكي حتتعب. بطلي قراية” فأنا كنت ساعات أقرأ وأنا نائمة “عينيكي حتحول” و“بطلي قراية ومش عارف إيه“, وكنت أعمل حاجات very silly ساعات في الحر الشديد جداً في الصيف أملأ البانيو وأخذ كتاب مثلاً ثمنمائة صفحة أقرأ فيه ساعة which is very stupid. كان عندي ولع بالقراءة شديد. وتعددت مساحات القراءة فبدأت أقرأ لشعراء المهجر.
كنت أحاول في رسالة الدكتوراه التعرض لبعض المفاهيم الخاطئة التي تقول إن المسلمين لم يقدموا جديدًا في الموسيقى، وهذا غير صحيح، وهذا الإدعاء يقال أيضًا في الفلسفة، فيقال إن الفلسفة الإسلامية مجرد بناء فوق الفلسفة الإغريقية، وهذا غير صحيح. لأن الدين الإسلامي لون الفكر الفلسفي الإسلامي بتفكير مختلف تماماً عن الإغريقي، كما أن التوجه الديني غير الفكر الفلسفي تماماً. نفس الشيء في الموسيقى… المفكرون في الموسيقى كثيرون وبعضهم خرج من تحت عباءة الإغريق. مثل “الكندي“, وقد قسمتهم: الأول الـ historians وهم الذين يكتبون كتابات أدبية مثل “الأصفهاني” صاحب “كتاب الأغاني“. الثاني كتابات الـ theoretical والفلاسفة اللذين كتبوا عن الموسيقى والحكمة الرباعية والحكمة الثلاثية للعصور الوسطى، فحاولت أفهم الـ aspects حول الموسيقى وكذلك نظرية الفكر الإغريقي. اتضح, فيما بعد، بعد ما كبرت، أن هناك أشياء استطعت أن أضع يدي عليها عن طريق القراءات والدراسات… هناك تأثيرات إغريقية ليست بالقليلة ليس فقط في الـ terminology في تفسير الأشياء، بل أحياناً في وصف الآلات، لكن هذا لا يمنع أن هناك عرباً اخترعوا آلات. أنا متحمسة لتأثير الحضارة الإسلامية، فهذا المفهوم أشمل من الحضارة العربية فهو يشمل شمال إفريقيا للهند وإندونيسيا، ولا يقتصر علي العرب, كما أني كتبت chapter مقبولاً عن الصوفية في الموسيقى والأصول الهندية ومفاهيم الصوفية وانعكاساتها في الموسيقى.
أنا – منذ زمن – امتلك رؤية منفتحة في المجالات الموسيقية, لا تقتصر رؤيتي علي العربي فقط أو الغربي فقط فأنا لا أضع حدوداً لتفكيري أو عملي، فكل ما هو موسيقي بداية من الموسيقى الشعبية إلي the most sophisticated twentieth century musics. والآن سندخل في القرن الواحد والعشرين كل دول
are all my own special interest. ويمكن ما يميزني عن غيري أني أملك background في الموسيقى العربية ليست بالقليلة أبداً. وكذلك الحال بالنسبة للموسيقى الغربية، وهذا ما أحاول أن أوصله لتلامذتي لكي يتجنبوا الرؤية الواحدة المحدودة. دائماً أقول لنفسي وفي كتاباتي، ما فائدة ما تعلمناه في الدراسات الغربية؟ فائدته أننا نطبقه على دراساتنا. فدراساتنا are very raw وفجة تماماً. أنا مهمتي أعلم musicologists جيدين وأكتب كلاماً محترماً أبقى مسئولة عنه.
لقد بدأت الكتابة أول ما رجعت، تعلمت الكتابة العربي في مجلة “الأدب” الخاصة بوالدي. كنت أكتب موضوعات من نوع “القومية في الموسيقى والنقد” كانت مقالات نقدية قوية جدًا. وبعد ذلك كتبت في “الأهرام” سنة ١٩٦١, في هذه السنة أنجبت بسمة، كنت في الشهر الأول، وكنت أخلص أرضعها وأدخلها الفراش وأواصل الكتابة في وسط الليل. طول عمري كنت أعمل, أحياناً اندهش وأتساءل: كيف استطعت أداء كل هذا العمل؟! ففي نفس سنة ١٩٦١ طلبوا منى في الإذاعة عمل برامج في “البرنامج الأوروبي” عن “القومية في الموسيقى” وقد كتبت كتاب بنفس الاسم فيما بعد.
أنا – حالياً – منشغلة بإصدار كتاب اسمه “موسيقيات السندباد“, وهو يجمع كل المقالات الموسيقية للدكتور “حسين فوزي“، وأعمل فيه منذ خمس سنوات.
عندما أنشئ المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية أيام “يوسف السباعي“، وبدأ يظهر فيض من المثقفين يتجمع ويتقابل ويتكلم مع بعضهم البعض. كنت سعيدة جدًا بجلوسي مع مثقفين من الصعب الالتقاء بهم في فرصة أخرى. فكنت متأثرة جداً بالحديث مع “رشدي صالح“. الله يرحمه، كان يقنعني بجمال الفلكلور المصري, وذكر لي نماذج كثيرة وجدت نفسي أبكى تأثراً.
بعد الانفصال الثاني – كما ذكرت قبلاً – قررت التفرغ لابني وعملي ولكن في سنة ١٩٥٧ قابلني طاهر بك العمري – الله يرحمه – سفير مصر في الفاتيكان، قال لي “حأقول لك خبر جميل أوي” قلت له “إيه؟” قال لي “فيه واحد مصري راجع من ألمانيا ودرس تأليف موسيقي“. كنت أقابل طاهر بك في لجان الموسيقى لأنه محب للموسيقى، وفي مرة عرفتني دكتور “شيفر” علي دكتور جمال عبد الرحيم قائلة لي “ده راجع من ألمانيا حالاً, وده واحد درس تأليف كويس أوي ويمكن ما فيش حد في مصر درس التأليف زيه فرصة كويسة أوي إنكم تتعرفوا على بعض، وحنعمل له حفلة كبيرة أوي للمؤلفات بتاعته في معهد جوته، تحبي تلعبي أعمال البيانو بتاعته؟” قلت لها “أنا ما شفتهاش، أشوفها“. أخذت الموسيقى وجلست ألعبها في البيت… وجدت نفسى أقول “إيه ده فيه حد مصري بيعمل كده, ده عامل زي اللي عملوه موسوسكي والقوميين الروس حاجة غريبة أوي أوي” انبهاري بموسيقاه جعلتي أتقبله بمنتهى السهولة، فهو شخص منطو جدًا وعنده مشكلة صحية طويلة منذ طفولته, فجسمه قليل النمو، ولكن كان هناك تقارب في المستوى الفكري والثقافي. بدأنا نتقابل وبدأ يسمع مني الموسيقى التي أعزفها علي البيانو، ويقول لي رأيه، وازداد تقاربنا،
فقد كنا نذهب للأوبرا معاً، كان عندي “أبونيه” في الأوبرا، كنت أحضر كل الأوبرات الإيطالية، فكنت أدعيه. كنا نروح الأوبرا وكنت أقول له “سامع النشاز“، يقول لي “ما تسمعيهوش“. “يعني إيه ما أسمعوش” ده الـ attitude بتاعه، فهو يسمع الذي يرغب في سماعه. كان قوي جداً وأخيراً طلب نتجوز، وأنا كنت مترددة جدًا وخائفة جدًا من تكرار التجارب الفاشلة، ولكني أقدمت علي التجربة، نظراً لمساحات التقارب بيننا.
أحب أن أتحدث هنا عن فرق بين نوعين من العمل الموسيقي لابد من توضيحه ألا وهما: التأليف والتلحين، فالتلحين عبارة عن تناول الموسيقى غالباً ما يكون غنائي فهو لحن واحد, صوت مفرد وإيقاع معه، ومن الممكن أن تعزفه عدد كبير من الآلات لكنه في النهاية لحن واحد ونقول عليه مونوديك. في التأليف ليس اللحن والإيقاع كل شيء فيه بالعكس لأن فيه بعد ذلك harmony أو counterpoint وهناك أيضاً form متفق عليها ومعترف بها توضع فيها أفكار موسيقية يمكن فهمها بشكل أفضل خارج الحدود، أي لا تقف عند الحدود المحلية فقط. لذا كان من المهم أن نضع خطاً واضحاً بين التأليف والتلحين لأنه حتى عندما ترجمنا كتب إلي الإنجليزية احتفظنا بكلمة Talheen as it is حتى يبقى لها مفهوم واضح، فالتأليف بمعنى التأليف يعد شيئاً جديداً في مصر، وكان هناك جيل أبو بكر خيرت ويوسف جريس وحسن رشيد لم يكونوا معروفين في مصر، وبدأت شهرتهم في الازدياد تدريجياً حتى صار لهم وجود في القواميس الدولية المتخصصة بالموسيقى, وفتحوا هذا القسم ودرس فيه طلبة, كان منهم أناس بدءوا التأليف من المرحلة الثانوية.
وكان هناك أساتذة مثل عواطف عبد الكريم درست Counterpoint, لكن جمال عمل لنفسه system على المقامات العربية، وقد علم طلابه كيف يكتبون الميلودي من المقامات العربية مش major و minor.
عندما أخذت العمادة بعد “بريتسا” سنة ١٩٧١ بواسطة الدكتورة لطيفة الزيات – رحمها الله – فقد رفضت فكرة أن يكون عميد الموسيقى أجنبياً، كان كل تفكيري منحصراً في كيفية توصيل الأفكار الأساسية في الموسيقى للمصريين بدون أن نفقد هويتنا, ولكن هذه الفكرة كانت تلقى مقاومة كبيرة من الأساتذة. بدأنا في السولفاج, الـ ear training وفيها يمكن للطلبة التمييز بين المقامات وبعضها، وكان هناك إملاء موسيقية بين صوتين وثلاثة في المقامات وهذا كان أول دخول لفكرة المقامات. وقد قررت ألا يدخل طالب امتحان غناء إلا بعد تأدية امتحان الموسيقى العربية والموشح. وكان هناك تحفظات علي هذا القرار بحجة أن صوتهم سينتهي، ولكني قلت لهم “ما فيش كلام من ده. دي إجبارية“. كان الهدف من هذا القرار أن يصبح الطلبة في المستقبل فنانين يستطيعون غناء النوعين, والآن يوجد من يستطيع غناء النوعين بشكل جيد وليس الغناء الأوبرالي فقط.
كان لوجود الأستاذ جمال في الأوركسترا دوراً داعماً بالنسبة لي لأنه كان متابعاً لكل الطلبة، وقد وضعنا مبدءاً أن أوركسترا الكونسرفتوار لابد وأن يعزف أعمال المؤلفين المصريين، ولا يخرج إلي أي رحلة بدون وجود أعمال لمؤلفين مصريين، فكان هناك مؤلفون من الجيل السابق لأستاذ جمال، ومؤلفون من الجيل التالي له وآخرين من جيله ومؤلفون من الشباب الصغار. كان يحضر دائماً البروفات ويرى الحفلات بقدر الإمكان, وقد كان باقي وقته مخصصاً للتأليف الموسيقي خاصة التأليف لكورال الأطفال. ومن أغاني كورال الأطفال غنوة اسمها “التعلب” وقد انتشرت ونالت إعجاب الجميع لأنه ألفها لثلاثة أصوات وكذلك أغنية “سوسة كف عروسة” وغيرها. لم يكن هناك موقع لقدم في حفلات كورال الأطفال في قاعة إيوارت. .. الإقبال كان رائعاً.. وقد كان الدخول مجاناً رغبة في التواصل مع المجتمع. وأصبح أوركسترا الكونسرفتوار أنجح أوركسترا شباب في المنطقة من الهند للمغرب.
كانت السفارات الأجنبية ترسل بعثات للخارج في العلوم المختلفة ولا تهتم بالفنون، فذهب الأستاذ جمال لسفارة ألمانيا وطالبهم بضرورة إرسال بعثات في مجال الفن والموسيقى, وبدأت – بفضل الأستاذ جمال – العديد من البعثات والمنح لدراسة الموسيقى في الخارج. وكانت كل رحلات الكونسرفتوار في الفترة من 1976 حتى 1985 ناجحة جدًا…. رحلات إلى أوروبا وأمريكا ومهرجانات خاصة بأوركسترات الشباب في أبردين في اسكتلندا. كان هناك اهتمام من الطلبة بالموسيقى المصرية. كان هناك إظهار لكل السوليست المصريين الجيدين. وقد كان الأساس في علاقتي بالطلبة هو الحزم. كان هناك عازف جيد جدًا، من أحسن العازفين، وتشاجر مع زميل له وضربه، وكنا في الأكاديمية المصرية في روما أثناء تحضير برنامج لرحلة، فكانت فضيحة كبيرة، فصممت وقلت “لأ فلان ده لازم يروح” واقترح البعض أن تعمل له لجنة تحقيق، فقلت “لأ ده لازم نروحه” ولأن الإصرار علي هذا القرار كان سيؤثر بالسلب علي المجموعة قبلت اقتراح بديل حيث اتفقنا علي عمل لجنة تحقيق في قلب الأكاديمية المصرية.
كان الأستاذ جمال عبد الرحيم أستاذاً في المعهد ووكيله أيضاً وكذلك رئيس قسم التأليف. جمال مدرس عظيم وكان يحظى بحب الطلبة حيث كانت لديه روح مرح sense of humor غريب في التدريس وoutspoken يعني يقول رأيه، فهو كان أستاذ ناجح جدًا الحقيقة، وتخرج على يديه مجموعات من المؤلفين العظماء, وكل المؤلفين المعروفين اليوم وعلى رأسهم الدكتور راجح داوود وهو عميد المعهد الآن، فهو كان نموذجاً لأستاذ التأليف الناجح الذي يخرج فنانين لديهم صنعة جيدة لكن ليسوا نسخاً منه.
وكان هناك بعض رحلات الأوركسترا رائعة. في رحلة ذهبنا إلى بون وكان فيها رمزي يسي سوليست والأوركسترا كان عنده برنامج قوي جداً، ولا أنسى أبداً أن السفير المصري هناك قال “اللي إنتوا عملتوه إنهاردة أحسن من عشر سنين شغل للسفارة” هذه الكلمة سمعناها كثيراً في أماكن مختلفة، وذهبوا إلى ألمانيا أكثر من مرة وكذلك أبردين مهرجان الشباب الدولي مرة، وفي مرة وقع الاختيار علي الأوركسترا عندنا اللي سنهم صغير ليعزفوا مع أوركسترا professional جدًا في مهرجان ادنبرة الدولي للموسيقى، وكان يقودهم كارلو ماريا جوليني. أي أنه كان افتتاح جميل جدًا بالنسبة للشباب. وأنشأنا أوركسترا وتريات يستطيع أن يلعب الموسيقى التي فيها إربع العربية ويستطيع أن يلعب الموسيقى المصرية الجديدة ويلعب الموسيقى الغربية, وهذا كان شيء نادر.
إن أكثر دعوة كنت أقولها لأولادي وهم أطفال أقول “يا رب خليهم يشتغلوا في حاجة بيحبوها“، وقد كان محمد ابني يشتغل بالعمارة ويحبها فعلاً، وتحب بسمة الموسيقى جداً والمسألة عندها وراثية.
عندما حصلت علي جائزة مبارك كنت حزينة جداً لأن جمال لم يكن في الحياة لكن أعتقد ما قدمه من موسيقى أهم بكثير مما قمت أنا به، فهو مبدع وخلاق وأستاذ كبير خرج الكثير من المؤلفين المصريين والعرب.
في النهاية أنا – والحمد لله – راضية عما أنجزته في حياتي عدا شيء واحد، وهو أني لم استطع أن أغير وضع التربية الموسيقية في المدارس, كنت أتمنى أن أجعل الموسيقى تدخل قلب الأطفال المصريين، وحاولت في جميع الجهات العلمية وجميع المستويات الخاصة باللجان والمجالس ولمدة أربعين سنة نحاول ولكن بلا فائدة, والآن التيار بقي أقوى, يكفى ما يقدمه التليفزيون ومستوى أغاني الأطفال والرقص والحركات التي يقدمها الأطفال علي شاشة التلفزيون.
وهنا تنهي د. سمحة الخولي حكايتها، ولكني أظن أن هذا الحديث جزء فقط من حياتها الثرية، التي لم ولن تنضب بما تركت من إنجازات.