ولا عزاء للغة العربية
منذ فترة طويلة يراودنى هذا الموضوع ولكنني قررت أخيرا أن اكتب فيه بعد أن فاض بي، ذلك حينما فاجأني ابن أخي الصغير البالغ عمره سنتان ونصف بأنه ينطق الأرقام باللغة الإنجليزية، وحينما حاولت تدريبه على نطقها بالعربية وجدته لا يعرفها أى أنه لم يتدرب على نطقها مسبقا، وما فاجأني أكثر هو أن والدته كانت سعيدة جدا بأنها دربته على نطق الأرقام والحروف باللغة الإنجليزية، وقابلت دهشتی بردها“كده كده هيتعلم العربي، مننا ومن التليفزيون والشارع لكن لو اتعلم الانجليزى الأول هيثبت فى دماغه وما ينساهوش وكمان عشان احنا هنقدمله في مدرسة لغات، هوه ده التعليم المحترم ودلوقتى المستقبل كله إلى معاه لغات“.
بالتأكيد أقنعني منطقها فهى بجملتها تلك قد لخصت احساسنا الآن باللغة العربية في مقابل احساسنا باللغات الأخرى العالمية، وبالقطع لم استطع أن امنعها من التفكير في مستقبل إبنها والذى كانت تقصد به طبعا العمل المناسب وفرص السفر والترقي وهكذا … ولكن كلامها أيضًا لم يمنعني في التفكير والبحث عما وراء هذا المنطق وكيف صار كلامها هذا هو حكمة السنون التي ستتناقلها الأجيال.
وبالرغم أننى كنت أعلم أن الأسر العريقة ورجال الصفوة في المجتمع المصرى القديم كانوا يحرصون على تعليم بناتهن بالتحديد اللغة الفرنسية لأنها كانت اللغة التى انتشرت بها الثقافة المستنيرة وتحدث بها المثقفون والوافدون من البعثات التعليمية، إلا إننى تذكرت أن هذه الأفكار تعود جذورها إلى ما هو أقدم من ذلك.
فقد تمكن الاستعمار بإختلاف أجناسه وعلى مدار أزمنة طويلة من مسخ هويات وثقافات بعض الشعوب العربية فأصبحت أزياء المستعمر هي زيها الوطني وعادات المستعمر هي عاداتها وحتى أصبحت لغة المستعمر هي لغتها الأولى، أما باقى الشعوب العربية فقد تكفلت العولمة بمسخ هوياتها، وحتى لا أفعل مثل كثير من الناس وأعلق أخطائنا على شماعة الغير، فأنا لن أتهم الاستعمار والعولمة وحدهما بإغتيال حضارتنا وثقافتنا وطمس هويتنا، لأن الحقيقة الواضحة الجلية أننا نحن من فرطنا في هذه الهوية، لأننا تنازلنا وتخاذلنا أمام ثقافات الدول المهيمنة والمسيطرة والمانحة، بهرتنا أضوائها وأخافتنا سطوتها وأغرقتنا دولارتها فتركنا قيمة الجنيه“عملتنا الوطنية” تتضاءل وتتراجع فى مقابل الحصول على العملة الصعبة للتعامل بها مع الدول الأجنبية التى استطاعت أن تفرض عملتها وتجعلها صعبة“علينا“، مرورا بأمثلة كثيرة سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الدول والحكومات، ووصولا إلى حاجز اللغة الذى وضعناه صوب أعيننا منذ زمن وصار عبور هذا الحاجز هو بمثابة العبور إلى عالم السحر والإشراق والأمان أيضا، فأصبح التعليم المحترم هو تعليم اللغات والشرط الأساسى لوظيفة محترمة“في دولة عربية” هو إجادة اللغة الإنجليزية، حتى إذا كان المتقدم للوظيفة لا يجيد اللغة العربية، أو حتى لا يعرفها أساسا بالرغم من أن شروط تعيين الأجنبي في دولة عربية – إذا كانت هناك شروط لتعيينه – لا تتطلب على الإطلاق إجادة اللغة العربية، ولا أبالغ إذا قلت أننا أصبحنا نحرص على أن تكون إصداراتنا الجديدة بها على الأقل بعض الصفحات بالإنجليزية، إن لم يكن نصفها الثاني هو ترجمة بالإنجليزية للنصف الأول، وذلك حتى تكون متاحة للمثقفين من العرب والأجانب، بل وأصبحنا نعتبر الشخص المحترم هو من يتحدث الإنجليزية أو يغازلها ببعض الألفاظ والمصطلحات أثناء حديثه، وهو ما جعل المواطن البسيط وحسب تعبيره“والله اهو بنلقط كلمة من هنا على كلمة من هنا عشان نكلم بيها مع البهوات ويقولوا علينا ولاد ناس برضه“.
أما الكارثة الحقيقة والأكثر بشاعة أن الشباب الذى لا يجيد الإنجليزية إجادة تامة، وبالتأكيد هو لا يجيد العربية أيضًا قرر أن يصنع لغته الخاصة، لغة الإنترنت والمحمول لغة المحادثة“الشات” والرسائل القصيرة SMS””، لغة كووول آخر حاجة، تستطيع من خلالها أن تكتب الكلمات كما تنطقها بالعامية ولكن باستخدام الحروف والأرقام الإنجليزية، كأن تكتب مثلا كلمة أصحاب هكذا“as7ab”، وهكذا أصبحت لغتنا في عام ۲۰۱۰، ولكن الأكيد أنه بعد مرور سنوات ستصبح هذه اللغة بالية مثلما صار حال اللغة العربية التي تحولت إلى العامية، ثم تدهورت إلى الألفاظ البذيئة إلى أن غزتها بعض المصطلحات الإنجليزية، وحتى وصلت إلى اللغة الكوول الجديدة والتي ستصل بنا في يوم من الأيام – ولن يكون بعيدا – إلى أن تصبح اللغة الإنجليزية هي لغتنا الأم التي يجب أن يتعلمها الطفل أو لا حتى ترتكز فى ذاكرته ويتعود عليها لسانه، وعلى الحريصين – مثلي – على هويتهم العربية ولغتهم العربية، أن يجلسوا مساءا أمام التليفزيون لمشاهدة المسلسلات التركية والمكسيكية المدبلجة بالعربية !!!!!
