أربع نساء من مصر

التصنيفات: غير مصنف

مراجعة:

أربع نساء من مصر

منذ عدة سنوات ظهر كتاب السيدة جيهان السادات الذي يحمل عنوان امرأة من مصر. ولازلت أذكر التناقض في المشاعر التي انتابتني عندما حملته إلي صديقة وزميلة أتذكر أنني بعد تصفح الكتاب وجدتني أعود وعلى نحو متواتر إلى فكرة تمثيلالثقافة بإلحاح ربما نبع من محاولة فهمي للتناقض في المشاعر الذي استقبلت به هذا الكتاب. كنت وقتها أعيش فى المملكة المتحدة وأعاني من الإحباط الذي يعانيه مغتربو العالم الثالث في مناخ اجتماعي وثقافي لا يجدون فيه صدى لـحقيقتهم؛ بمعنى أن أماكنهم وأزمنتهم التي يحملونها ضمن متاع ترحالهم في الوجدان وصارت جزءًا من نسيج شخصياتهم المنفردة هي غير معترف بحقيقتها. وجدتني أمام هذا الكتاب أفرح وأغضب وأحبط حتى قبل أن أقرأه. أما فرحتي فربما كانت لأن العنوان كان يحمل لي أملاً في أن بعضًا من مناحي ثقافتي سوف يصل إلى بعض من أعيش وسطهم فيزكي حقيقتي ويجعل لي موقعًا من خارطة الوطن في الغربة، والغضب لأننى لم أكن أشعر أن زوجة رئيس الجمهورية هي من كنت أختارها طواعية لتمثيلي في تلك اللحظة بالذات فى نهاية السبعينيات. أما الإحباط فكان لأن هذا الكتاب مثل كتب كثيرة أخرى عن مصر باللغات الأجنبية كان يحمل معه صفة الاستثناء، بمعنى أن كل تجربة مروية عن تلك الثقافة التي أنتمي لها هي تجربة فردية في نجاحها واستثنائية في تحققها، وأن الخلفية التي تطل من ورائها إنما هي خلفية لأغلبية تعيش ضمنيًا في عالم آخر لا يستحق الإبراز. أما ما ظل معي ويظل يؤرقني هو أن الممثل التقليدي لثقافتي ورموز وجداني وتاريخ تكون هذا الوجدان في الغالب لا يمت لي بصلة لأسباب يطول شرحها وإن كان من الممكن اختزالها دون إخلال كبير بالحقيقة تحت مسمى علاقة الإعلام بالسياسة والتاريخ“. يومها أذكر أنني وأنا أعيد كتاب السيدة جيهان السادات لصاحبته الإنجليزية قلت لو كان عن خمسة أو ستة نساء من مصر لكان أفضل. وبالطبع لم تفهم ماري ولم أحاول الشرح وأعطيتها كتاب أنتوني نانتج ناصر. عندما شاهدت فيلم تهاني راشد الذي يحمل عنوان أربع نساء من مصر كان رد فعلي العاطفي كمن يتلقى هدية خاصة جدًا لم يكن قد أعرب عن توقه إليها لأحد. فبين السيدات الأوائل والاستثناءات وبين فقيرات هذا الوطن والأمهات الطيبات المغيبات، هناك أخريات قلما نسمع أصواتهن أو نشاهد صورهن، قلما يسمح لهن بالتأثير من خلال عرض العوامل والتوترات التي جعلتهن ينذرن حيواتهن لمثل ومبادئ آمن أنها تغير الواقع إلى الأفضل. لو وثقنا لتلك الحيوات بالذكاء والحساسية التي وثقت بها تهائي راشد لكل من أمينة رشيد وصافيناز كاظم ووداد متري وشهنده مقلد تمثلت أمامنا الحياة في الوطن على مدى نصف قرن من تاريخه الحديث. تمثلت أمامنا طوبوغرافيا المدينة ونقاط التحول التي وجهت الذاكرة الواعية الراصدة لهذا التاريخ كما تمثلت أمامنا التعددية في الرؤى والتوجهات المستدعية للأحداث العامة وبالتالي اكتسبت تلك الأحداث الأبعاد اللازمة للتماهي مع هذا التاريخ المشترك حتى لو كانت تجربتنا الخاصة لا تنطبق (وهي بالتأكيد لا يمكن أن تنطبق) مع أية من الشخصيات اللواتي وقع عليهن الاختيار للتذكر، كل منهن على حدة. في هذه النقطة بالتحديد تكمن أهمية الفيلم: انبثاق العام من الخاص الذي يتسبب في إبراز وإظهار المشترك في الرواية الفردية على كل خصوصية التجارب المطروحة، فالرواية إذا ليست رواية هؤلاء النساء الأربع وإنما رواية الوطن بكل تناقضاته وفى مجمل تعدده وثرائه وصراعاته كذلك، وبالتالي في مجمل ديناميكيته واستمراريته بوصفه حيزا جغرافياً وفضاء تاريخياً متخلقًا دوماً على أيدى بناته وأبنائه، متحولاً بالقدر الذي يتحول به منظور رؤية الرواية ولكنه ثابت كذلك بحكم ثبوت رموز الرواية في الذاكرة الجماعية والتى يسجل لها الفيلم بالصورة الموثقة: الأميرة فوزية تتقبل تحية التمنوالتركية من إحدى الوصيفات على سلم قصر عابدين، صدقي باشا يخطب، جمال عبد الناصر في موكب مفتوح بجانب محمد نجيب، مظاهرات كمشيش، وكنيسة قبطية ورعة وصغيرة بعيدًا عن الزحام. فوق الصورة النادرة يصلنا الصوت. الصوت هنا لا يعلق على الصورة على نحو مباشر لكنه صوت يتذكر وفقًا لمجموعة من الأسئلة انتقتها المخرجة لشحذ ذاكرة الرواية، فتتخلق علاقة جدلية مركبة بين الصوت والصورة تتولد منها أبعاد تبئر الصوت ليخوض المتلقون تجربة معقدة ومدهشة هى تجربة التعرف من جديدوكأن الذي يتذكر ليست أمينة رشيد أو صافيناز كاظم أو وداد متري أو شهنده مقلد، وإنما المشاهدون. ومما يزيد التجربة ثراء أن الصديقات الأربع يظهرن فرادي ومجتمعات على الشاشة في غياب المقاطع التسجيلية فتتحرى الكاميرا لغة الجسد والعيون لتفصح عن المسكوت عنه في علاقة الصديقات، الأرستقراطية، التقدمية، الأصولية الإسلامية القبطية، الاشتراكية، والناصرية. أخيرًا وليس آخرًا يبدو لي أن مثل هذا الفيلم ما كان يمكن أن تنجزه إلا امرأة فرضت عليها الغربة شيئًا شبيهًا لما جاء ذكره أول هذا المقال: وثيقة تؤكد تعدد أبعاد ذلك المكان المغمور في إعلام وطنها المتبنى كنداتؤكد بالتوثيق المرئي، ثراء التعدد وديناميكية الاختلاف في مصر. ومن ناحية أخرى تثبت تهاني راشد أهمية فنون السيرة الشفاهية المسجلة بالصوت والصورة بالنسبة للتاريخ، حيث يخضع العام للإدراك الخاص، ليفصح ويظهر لا تأثير الأحداث على الأفراد موضع الترجمة فقط مهما كانت أهميتهم أو حتى تأثيرهم في الحدث ولكن ليؤكد انتماء الوجدان الجمعي والذاكرة الجماعية للقواسم المشتركة بين بنات وأبناء المجتمع الأم دون الحاجة إلى إهمال أو إغفال جوانب الاختلاف والتباين، بل اعتمادًا على جوانب الاختلاف تلك ذاتها.  
شارك:

اصدارات متعلقة

اغتصاب وقتل طفلة رضيعة سودانية في مصر
نحو وعي نسوي : أربع سنوات من التنظيم والتعليم السياسي النسوي
شهادة 13
شهادة 12
شهادة 11
شهادة 10
شهادة 9
شهادة 8
شهادة 7
شهادة 6