أفريقيا جنوب الصحراء منتصف القرن الثامن عشر إلى أوائل القرن العشرين
ترجمة:
بقلم:
المنهجيات والمنظومات والمصادر
لدراسة النساء والثقافات الإسلامية المداخلات تبعا للموضوع
أفريقيا جنوب الصحراء
منتصف القرن الثامن عشر إلى أوائل القرن العشرين
مقدمة
قليلة هي المعلومات المتوفرة عن النساء المسلمات في أفريقيا جنوب الصحراء في الفترة ما بين القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. لكن الأمر يختلف خلال القرن التاسع عشر بالنسبة لمناطق كثيرة من القارة حيث تتزايد المادة المشار إليها خلال بدايات القرن العشرين، وذلك نتيجة لعديد من العوامل، منها انتشار الإسلام نفسه، والجهود المبذولة من قبل المهمومين بالتوثيق ونشر فعالياتهم، والاستثمارات التي صاحبت الكشوفات والاستعمار الأوروبي، وجهود المؤرخين والإثنوغرافيين الأوروبيين الأوائل في أفريقيا جنوب الصحراء. أما الرؤى الفكرية التي اتخذها باحثو وباحثات القرنين العشرين والواحد والعشرين في البحث عن تلك المصادر وفهمها فقد تطورت هي الأخرى وتغيرت إلى حد كبير عبر العقود.
تتضاعف التعقيدات الداخلية المصاحبة للكتابة من منظور عادل وموضوعي عن الحقائق التاريخية بالنسبة لهؤلاء الذين يسعون إلى تصوير حياة النساء في أفريقيا جنوب الصحراء من خلال أكثر من منظور. ففي تلك المرحلة يصبح من الضروري البحث من خلال، وبالالتفاف حول، وفيما يتجاوز المنظور الاستعماري والشوفينية الغربية والمنظور الطبقي والعرقي والهيمنة الاجتماعية المرتبطة بالجندر والهيمنة الدينية والعجز عن الاعتراف رسميًا بما هو معروف بشكل غير رسمي. هناك تقدم في مجال التأويل وسوف نعرض لذلك ونناقشه، لكن ما زال هناك احتياج إلى القيام بالمزيد. ومع ذلك، وبشكل عام، فإن تلك الفترة تعتبر فترة مثيرة كموضوع للبحث المعاصر تحمل نماذج كثيرة للدراسات وتطرح مزيدًا من إمكانيات البحث في المستقبل.
كان الإسلام ما بين القرن الثامن عشر وبدايات القرن العشرين مركزًا بشكل أساسي في منطقتين: إقليم متسع في غرب أفريقيا، ومنطقة ساحلية أقل اتساعًا في إقليم شرق أفريقيا. إضافة إلى ذلك كانت هناك مجتمعات متناثرة تكونت بداية من المهاجرين المسلمين فيما يعرف اليوم بجنوب أفريقيا.
كان الإسلام، الذي جاء من شمال أفريقيا في القرن التاسع عشر بواسطة التجار العرب والبربر، متأثرًا بالتعاليم الدينية الصوفية وزعمائها المؤثرين وهمومها الأصولية. وقد كان للعلاقات ما بين الريف والحضر أثرها الهام في حيوية الإسلام في غرب أفريقيا. وقد انتشر الإسلام بواسطة المعلمين والتجار، ثم توسع فيما بعد بواسطة الانتصارات العسكرية للدول السابقة عليه، واشتد عوده بالجهاد الدوري الذي للمفارقة وجد دعما من المتحولين إليه خلال بدايات الاستعمار العربي المسيحي.
كانت هناك قوى مختلفة تسعى إلى تدعيم الإسلام في شرق أفريقيا. وقد كان هناك أكثر من شكل للإسلام الذي ولد من الوجود المبكر للمستوطنين المسلمين ثم دعم بواسطة موجات متلاحقة من المهاجرين من شبه الجزيرة العربية. ولقد نشأت دولة مدينية قوية بداية من القرن الإفريقي وامتدت جنوبًا بطول ساحل المحيط الهندي، ومع ذلك فقد كانت جهود الدعوة محدودة، وبدلاً من ذلك انتشر الإسلام تدريجيًا من خلال الزيجات المختلطة وتبني بعض المنظومات مثل المنظومة القانونية. إن تبلور الحضارة الثقافية يعد بمثابة صورة مصغرة لتلك العملية. وإلى جانب التدخل الاستعماري الغربي كان على الإسلام في شرق أفريقيا أن يواجه تحديًا من قوى التعريب خلال القرن التاسع عشر.
كذلك كان هناك وجود إسلامي في أقاليم أفريقيا الجنوبية حيث أدت احتياجات العمالة إلى جذب المسلمين من شبه الجزيرة الهندية وجنوب شرق آسيا وكذلك من الساحل الشرقي لأفريقيا. وقد تمركزت مجتمعات المهاجرين هذه في كيب تاون وناتال وفي ترانسفال فيما بعد. هذا وقد تبلورت المجتمعات الإسلامية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في جنوب أفريقيا والتي كانت تمثل مدارس مختلفة في الفكر الإسلامي، تطورت بمعزل عن بعضها البعض وفي تفاعل مع أحداث شديدة المحلية.
في تلك الفترة، ظل الرجال الأفارقة المسلمون، وبدرجة أقل النساء، في اتصال فكري وثيق مع المناطق التي أثرت عليهم البداية، وذلك على سبيل المثال من خلال السفر إلى مراكز إقليمية بهدف الحصول على مزيد من التعليم أو من خلال استقبال المعلمين من تلك المناطق. ومع ذلك فقد افتقد المؤمنون وجود اتصال تاريخي فيما بينهم كمسلمين أفارقة وذلك حتى بزوغ الهم الإسلامي والهم الأفريقي المشترك في منتصف القرن العشرين. ولغرض هذا العرض العام قد يكون من الأفضل التعامل مع أفريقيا جنوب الصحراء كتجمع من الوحدات المختلفة وليس ككل موحد، حيث لكل منها خبراتها الخاصة ومواردها. ومع ذلك فهناك أحداث تاريخية وثقافية متوازية تحتاج إلى البحث فيها، وكذلك مناهج وقضايا مشتركة في البحوث المستقبلية.
منظور جدید للنساء المعروفات بالاسم
أدى البحث في العقود الثلاثة الأخيرة من المنظور النسوي إلى الكشف عن كم من المعلومات الجديدة عن عدد من العالمات والزعيمات المسلمات البارزات في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. إنهن نساء لم تنساهن مجتمعاتهن أبدًا وقد أصبحن موضوعًا جاذبًا لاهتمامنا في الفترة الأخيرة من خلال جهود باحثات وباحثين معاصرين. ولعل أفضل مثال شخصية نانا أسماءو (١٧٩٣ – ١٨٦٤م) الكاتبة والشاعرة والمدرسة بلغة الهاوسا. وكانت ابنة عثمان دان فوديو، الذي أدى جهاده إلى تأسيس خلافة سوكوتو في شمال نيجيريا. ورغم أن هناك الكثير مما كتب عنه وعن أبنائه ومستشاريه من الذكور إلا أن شيئًا لم يكن معروفًا عن نانا أسماءو إلى أن بدأت البحوث في السبعينات (Mack and Boyd 2000، ix- xv).إن تنوع وكثرة المواد والمصادر التي تساهم في فهمنا لأسماءو تتضمن أعمالها الشعرية الأصلية ورسائلها، والمصادر الشفهية الحديثة التي تتناولها، وما تبقى من آثار من الثقافة المادية الملموسة كالحجرة التي كان تعيش وتكتب فيها والنسخ الأصلية من كتاباتها. وقد كانت شخصية مدهشة في حد ذاتها، كما كانت أيضًا مؤرخة ومدرسة، ساهمت كتاباتها بلغة الهاوسا والفولفولد والعربية والتاماتشيك (لغة الطوارق) في توضيح دور النساء، ليس فقط وسط النخبة التي ولدت بينها ولكن أيضًا في تشكيل المجتمع الإسلامي في فترة ما بعد الجهاد. ورغم تميز أسماءو إلا أنها لم تكن فريدة من نوعها. فقد كانت أخواتها ونساء أخريات من عائلتها عالمات ومدرسات. وقد قامت أسماءو بتأسيس حركة “يان تارو” (الأختية) التي استمرت إلى ما بعد وفاتها، والتي تكونت من نساء تدربن على نشر التعاليم الإسلامية بين النساء الريفيات من خلال الحفظ الشفهي للنصوص الإسلامية (Mack and Boyd 2000, 89- 91).وفي مناطق أخرى من غرب أفريقيا كانت من بين الزعيمات الروحيات نساء مثل الشيخة خديجة وهي مدرسة موريتانية من القرن التاسع عشر، كما كانت معلمة عبد القادر زعيم ثورة تورودو. ومن كانو في نيجيريا، جاء عدد من النساء “المقدمات” (المعلمات الصوفيات) اللاتي اشتهرن خلال العقود الأولى من القرن العشرين، وكان من بينهن عائشة وصفية عمر فلكه وحجية إيا وأمة ماكارانتا (Dunbar 2000, 400 – 401, Hutson 1999, 43) .
وبالتوازي مع ما سبق هناك نماذج في شرق أفريقيا لنساء مسلمات متعلمات كتبن لتعزيز عقيدتهن ومن بينهم موانا كوبونا من مومباسا في كينيا والتي كانت تكتب الشعر باللغة السواحلية في منتصف القرن التاسع عشر (Berger 1999, 25)، والشيخة متونوا بنت علي بن يوسف والتي حصلت على شهادة الإجازة في زنزبار وأدخلت الطريقة القديرية إلى ملاوي في عشرينات القرن العشرين (Alpers 2000, 312- 313) .
وفي الصومال في القرن التاسع عشر كان للشيخ الكايلاي تلميذات عرف باسم “المريدات“، وكانت بينهن الشيخة فاطمة التي أصبحت رمزًا دينيًا محليًا فيما بعد (Kapeteijns 2000, 235).كذلك عاشت دادا ماسيتي في برافا على ساحل بنادير في القرن التاسع عشر، وكانت عالمة دينية وشاعرة وصوفية والمرأة الوحيدة بين الأولياء في الصومال، حيث يكرم مقامها بزيارة سنوية (Dunbar 2000, 404) .
شهدت الفترة ما بين منتصف القرن الثامن عشر إلى بدايات القرن العشرين ذروة الاكتشافات الغربية للقارة. كان هناك الكثيرون من الرحالة، من بينهم مكتشفون وتجار وتبشيريون وموظفون في المستعمرات، ترك كل منهم وصفا للقارة متأثرًا بالرؤية المهنية والثقافية لكل منهم.
لقد حمل هذا الرصد الغربي للإسلام في أفريقيا جنوب الصحراء تناقضات كثيرة داخلية، فمن ناحية كان هناك احترام للحضارة الإسلامية بما تحمله من أدبيات وفنون ومراكز حضرية، وكان كثيرًا ما ينظر إلى الممارسات الدينية الإسلامية المستندة إلى عقيدة توحيدية مشتركة على أنها أعلى شأنًا من الممارسات الأفريقية “البدائية“. كذلك كان هناك تقدير للمؤسسات القانونية والسياسية الإسلامية إلى حد أن المندوب السامي البريطاني فريدريك لوغارد، على سبيل المثال، صاغ سياسته الاستعمارية الشهيرة الخاصة بـ. “الحكم غير المباشر” لكي يستطيع أن يحكم من خلال الجهاز السياسي البيروقراطي الذي وجده في مقار الخلافة في شمال أفريقيا. لكن من ناحية أخرى كان ينظر إلى الإسلام أيضًا على اعتبار أنه تهديد خاصة لما يتعلق بالمنافسة مع المصالح الاقتصادية الأوروبية. كذلك كان مما يقلق الغرب كون الإسلام مستمرًا في كسب مؤمنين به في أفريقيا أكثر من المسيحية.
ومن الأسباب التي أثارت الفلق الغربي هو استمرار ما يسمى بتجارة الرقيق العربية. وعلى العكس من نظيرتها عبر الأطلنطي في الفترة ما بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر فإن التجارة المتجهة شمالاً وشرقًا والأطول من حيث فترة استمرارها (حيث بدأت في القرن الثامن واستمرت حتى بعد بداية القرن العشرين)، وإن كانت الأقل عددًا، كانت تحت سيطرة المسلمين من حيث المعتقدات الثقافية المختلفة فيما يخص مؤسسة العبودية، وكانت تستهدف النساء أكثر من الرجال بنسبة 2 إلى 1 تقريبًا (Segal 2001, 4).وقد كان العديد من البعثات الغربية إلى أفريقيا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر يقوم بهدف إحلال التجارة “الشرعية” التي يقوم بها الأوروبيون محل الاتجار بالأفارقة. وقد مثلت مناهضة العبودية قضية مركزية في كتابات الكثيرين بداية من جيمس ريتشاردسون (١٨٠٦ – ١٨٥١م) إلى ديفيد ليفينغتون (۱۸۱۳ – ۱۸۷۳م) وهنري مورتون ستانلي (١٨٤١ – ۱۹۰٤م). لكن، وفي نفس الوقت ترك لنا الرحالة الغربيون بعض المعلومات المفيدة حول حياة الرجال المسلمين والنساء المسلمات الذين التقوا بهم في شتى مناطق أفريقيا جنوب الصحراء، وإن كانت محدودة بمنظورها الفيكتوري. ومن بين تلك المصادر الأولية هناك الكتابات الوصفية لكل من منعو بارك (١٧٧١ – ١٨٠٦م) وجيمس بروس (١٧٣٠ – ١٧٩٤م) ورينيه أوغوست کاییه (۱۷۹۹ – ۱۸۳۹م) وهاينريش بارث (۱۸۲۱ – ۱۸٦٥م) وريتشارد بيرتون (۱۸۲۱ – ۱۸۹۰م) وجون هانينغ سبيك (١٨٢٧ – ١٨٦٤م).
وقد انتهى العصر الأوروبي للاسكتشاف باستعمار واسع النطاق وفريق جديد من الملاحظين. ومع بداية القرن العشرين كان هناك عدد من الإثنوغرافيين الحكوميين والمؤرخين الهواة يعملون وسط الشعوب الإسلامية في أفريقيا جنوب الصحراء. ورغم أنهم كانوا يعملون تحت رعاية القوة الاستعمارية إلا أن ما كتبوه من وصف مباشر لا يقدر بثمن رغم الانحيازات السياسية المتوقعة، وكذلك انحيازهم فيما يتعلق بقضايا الجندر.ومن أبرز هؤلاء الباحثين على سبيل المثال راتري (وهو أول أنثروبولوجي حكومي يتم تعيينه في مستعمرة أفريقية) وموريس ديلافوس وبول مارتي. ومثلما كان الحال بالنسبة لبحوث المستكشفين، كان لكل إقليم باحثوه، حيث كان بعضهم أفضل ملاحظة من الآخرين كما كان إنتاج بعضهم أكثر انتشارًا من إنتاج البعض الآخر. والأمر الذي ميز هؤلاء عن الكتاب السابقين عليهم هو تقديرهم المحدود للشعوب والمجتمعات الإسلامية المحلية، وهو المنظور الذي كان يمثل إشكالية خاصة بالنسبة للباحثين الفرنسيين فقد سيطرت فرنسا على أكبر عدد من المناطق الإسلامية في أفريقيا جنوب الصحراء، وكانت في البداية داعمة للمؤسسات في الدول الإسلامية التي التقت بها. لكن حين بدأت بعض عناصر الأخيرة تحمل تهديدًا للإدارة الاستعمارية، ابتدعت فرنسا مفاهيم مثل “الإسلام الأسود“، على اعتبار أنه أقل شأنًا من الإسلام العربي، وذلك كتبرير أيديولوجي لتغير السياسات الاستعمارية. وكما كان الحال بالنسبة لسياسات الحكومة الإنجليزية، فإن سياسات الحكومة الفرنسية تجاه المسلمين نادرًا ما أدت إلى أية تغيرات إيجابية بالنسبة للنساء اللاتي عشن تحت حكمها الاستعماري، بل وكثيرًا ما كانت لها آثار سلبية باستثناء هام، وإن كان لا يخلو من مشاكل، في مجال التعليم.
بعد الحرب العالمية الثانية بدأ الأنثروبولوجيون والمؤرخون المهنيون التخصص في الدراسات الإفريقية. ومن بين أبرز الأمثلة على ذلك نجد السيرة الحياتية التي كتبتها ماري سميث والصادرة في عام ١٩٥٤م بعنوان بابا من كارو: امرأة من الهاوسا المسلمين (Mary Smith، Baba of Karo: A Woman of the Muslim Hausa)، وهي دراسة هامة عن امرأة أفريقية مسلمة. كذلك اتسمت الدراسات البحثية بالتركيز على إعادة الهيكلة التاريخية وكثيرًا ما ضمت مواد كالتاريخ والتاريخ الشفهي أو قوائم الموضوعات الخاصة بفترات سابقة. وبشكل عام كان هناك بعض من عدم الوضوح المتكرر في الحدود بين الأفرع المعرفية المختلفة وذلك بسبب قلة عدد الباحثين العاملين في المواقع المختلفة بالقارة لفترة طويلة من الزمن. فكان الأنثروبولوجيون ودارسو الفولكلور يقومون بمشروعات التوثيق وإعادة الهيكلة المرتبطة عادة بالمؤرخين، على حين كان المؤرخون ومؤرخو الفنون يستخدمون مناهج الأنثروبولوجيين في العمل الميداني مثل اللقاءات المعمقة والملاحظة بالمشاركة والمقاربة الخاصة بقصة الحياة. وعلى حين كانت المشروعات مفتوحة من حيث نطاقها إلا أن الباحثين مالوا إلى البقاء داخل حدود التوجهات المنهجية التقليدية. على سبيل المثال، كانت المقاربة الإثنوغرافية تميل إلى جمع البيانات من خلال التعامل المباشر وجهًا لوجه، مما ترتب عليه بطبيعة الحال أن قلة من الدارسين هم الذين اهتموا بالبحث المنظم للمصادر غير المنشورة المكتوبة باللغات العربية ولغات أفريقيا جنوب الصحراء. وفي تقييم صريح لبحثها الميداني في غانا في أواخر الستينات من القرن العشرين تتحدث إينيد شيلدكراوت نيابة عن أكثر من جيل من الباحثين والباحثات حين تصف التدريب الأنثروبولوجي الذي وجهها بعيدًا عن المكتبات والمصادر الأدبية الإقليمية، ومن ثم قلل من فهمها للنصوص الصادرة محليًا (Enid Schildkrout 1996, 368 – 269).ورغم أن بعض الباحثين استمروا في تفصيل الحصول على البيانات غير المعتادة من خلال العمل الميداني، بدأ عدد أكبر منهم في إعلاء قيمة استخدام المخطوطات المتوفرة التي زاد معدل ترجمتها.
إن الجهد البالغ الذي بذله الباحثون والباحثات في أواخر الحقبة الاستعمارية وخلال عصر الاستقلال، من تجميع وترجمة الوثائق التاريخية الإفريقية الهامة من العربية إلى الإنجليزية والفرنسية (وبدرجة أقل الوثائق المكتوبة بلغات أفريقية هامة إقليميًا مثل السواحيلي والهاوسا والولوف)، كان جهدًا ذا أهمية شديدة في ترسيخ أهمية التراث التاريخي المكتوب في أفريقيا جنوب الصحراء والخالي من المركزية الأوروبية. ولكن بعض تلك الوثائق لها أهمية خاصة ومباشرة في دراسة أحوال النساء. كذلك هناك الكثير مما تجدر الإشارة إليه في تلك الأعمال، مثل المشروع متعدد الأجزاء حول الأدب العربي في أفريقيا والذي قام بتحريره كل من جون هنويك وشون أوفاهي. إلا أن قلة قليلة من الكتابات التي تمت ترجمتها كتبت بأقلام النساء. كذلك هناك الجهود الرامية إلى نشر تلك الأبحاث عالميًا، ومن بينها مؤخرًا تأسيس معهد دراسات الفكر الإسلامي في أفريقيا في جامعة نورثوسترن بولاية ألينوي في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يركز على المجموعات الأرشيفية والمكتبية الكثيرة التي تم العثور عليها في البلدان الأفريقية وكذلك في مختلف مراكز التعليم الإسلامية، ويبقى علينا أن نرى كم من تلك الأبحاث سوف يركز على أمور لها علاقة بقضايا الجندر.
ومن يريد فهم خبرات الغالبية العظمى من النساء المسلمات اللاتي عشن في أفريقيا جنوب الصحراء من منتصف القرن الثامن عشر إلى بدايات القرن العشرين، فعليه البحث فيما هو أبعد من الكلمة المكتوبة. فلكي نتمكن من فهم حياة النساء المسلمات العاديات اللاتي لا نعرف لهن أسماء في أفريقيا جنوب الصحراء نحتاج إلى مصادر ومناهج إضافية ومختلفة، وتنقسم تلك المصادر البديلة إلى نوعين أساسيين: المصادر البصرية والمصادر الشفهية.
المصادر البصرية
تواكب التقدم التكنولوجي الذي أدى إلى صناعة الكاميرا في نهايات القرن التاسع عشر مع التوسع الغربي في أفريقيا جنوب الصحراء، حيث تظهر النساء المسلمات في عدد من المواد الفوتوغرافية تتضمن البطاقات البريدية والصور المجسمة والكتب المصورة. وعلى عكس ما تبدو عليه تلك الصور من تمثيل صادق، فإن الإعداد والملابس المستخدمة في تلك الصور عادة ما كانت تخضع للإعداد بما يتناسب مع رؤية المصور. فعلى سبيل المثال، في الفترة ما بين عام ۱۹۰۱ وعام ۱۹۱۸م كان هناك أكثر من ۷۲٠٠ بطاقة بريدية مصورة متداولة غرب أفريقيا، تحمل جميعها رسالة جوهرية مؤيدة للاستعمار (Prochaska 1991, 40).وهو أمر يحد من قيمة تلك الصور الأولى، وإن كان لا يلغيها تمامًا، ولكنها تحتاج إلى مهارات تحليلية قريبة من تلك اللازمة عند التعامل مع الكتابات التي صدرت في الحقبة الاستعمارية. كذلك ركز البحث المعاصر على وجود قراءات خاصة لتلك الصور تستطيع أن تتوازى، بل وتتوازى فعليًا، مع القراءات الرسمية لها. كما أن اختلاف الجمهور كان يؤدي إلى ردود أفعال مختلفة تجاه الصور ذاتها. وأخيرًا فإن بعضا من أكثر البحوث المعاصرة إثارة للاهتمام يستخدم المواد الفوتوغرافية الأولى كأدوات للتذكرة واستثارة المناقشات حول الماضي.
وتعتبر المنتجات الفنية للنساء الأفريقيات المسلمات مصدرًا بصريًا آخر للمعلومات. وللأسف فإن مقتنيات المتاحف من تلك المواد محدودة للغاية وغير متجانسة، وهو ما يرجع جزئيًا إلى أن الكثير من فنون النساء كانت تمارس في إطار التزيين والأدوات العملية والمنزلية، وإلى وقت قريب لم يكن هناك اعتقاد بأنها ذات قيمة تستدعي تجميعها. ومع ذلك فإن الدراسات التي تناولت بعض المنتجات الفنية، مثل التذكارات شديدة الزخرفة، والمصاغ المورث، والملابس الفخمة، كانت بمثابة نقطة البداية لفهم شبكات تقوم بها النساء لإنتاج ورعاية مقتنيات من المناطق الإسلامية، تعود إلى عقود بل وإلى قرون مضت.
ولعله من المفيد أن نبحث عن المعلومات فيما يتجاوز المصادر المعتادة. هناك المقاربة التي انتهجتها ماريان جونسون في دراستها عن الرمزية ودور مصاغ الذهب بين نساء ولوف وتوكولار في السنغال، والتي تضمنت فحصًا للمصاغ الخاص بالنساء. إن العمق التاريخي لتلك الدراسة لا يتضح فقط من خلال رمزية الأشياء الخاصة وما تكشفه من درجة تمكين صاحباتها، ولكن أيضًا من خلال الأسماء والأحداث التذكارية المجسدة في تلك الأشياء. فالتاريخ يعاش بشكل فريد حين تطلب امرأة من الصائغ أن يصنع لها ميدالية لسلسلة من طراز توكولار من أواخر القرن الثامن عشر، والذي تمت صناعته في الأصل ليكون مصاغًا لزوجة أحد ملوك بامانا (Johnson 1994, 39) .
كذلك يمكن للتاريخ المعماري وعلم الآثار أن يثريا المعرفة الحالية للحياة اليومية في أفريقيا جنوب الصحراء المسلمة من القرن الثامن عشر إلى أوائل القرن العشرين. وقد تضمنت الأبحاث دراسات عن طراز المنازل كمؤشرات للعلاقات الطبقية والإثنية والعلاقات بين الجنسين، ولتوثيق المعمار المحلي بما في ذلك الطرز الأفريقية المحلية للمساجد، والحفريات الأثرية بما في ذلك عقد المقارنات بين أنماط المستوطنات في أقاليم بعينها قبل وبعد دخول الإسلام. والكثير من تلك الدراسات التي ركزت على الحيز المنزلي واستخدام المساحات تعد مصادر إضافية هامة ذات صلة بقضايا الجندر والتي لم يتم استغلالها بشكل كاف سوى في الفترة الأخيرة.
المصادر الشفهية
من المفيد أن ننظر إلى العدد الهائل من مصادر التاريخ الشفهي في أفريقيا جنوب الصحراء على أنها تلك المهمومة بالحفاظ على التاريخ وروايته، وتلك الموجودة لأغراض أخرى لكنها ذات صلة بالأطروحات التاريخية الاجتماعية. وقد ركز الكثيرون ممن تدربوا على تبني منظور غربي للتاريخ على النوع الأول من المصادر، بما في ذلك التاريخ وأناشيد المديح، والأنساب وقوائم سلالات الملوك والأساطير وحكايات المهاجرين وغيرها. وقد كان الاهتمام بتسجيل تلك المصادر الشفهية للأجيال القادمة هو الدافع وراء المشروعات الضخمة التي تجري حاليًا في كثير من البلدان الأفريقية. وتتضمن بعض تلك الأمثلة مجموعات من التراث الشفهي في غانا والسنغال والكاميرون ومالي (Gutelius 2002, 11) .
ورغم أهمية تلك الجهود إلا أنه من المهم أن نلحظ أنها غالبًا ما تتعامل مع الصيغ المعتمدة للتاريخ، التي لا تكون بالضرورة موضوعية في تصويرها للنساء وتاريخهن. أما الأدبيات الشفهية الأقل تميزًا، والتي عادة ما يتم تجاهلها، فهي كثيرًا ما تكون مصادر أفضل للمعلومات عن النساء. وهي تتضمن الطرائف والذكريات والأساطير وقصائد المدح والتأبين والأغاني. هناك كذلك المعلومات الخاصة بالوظائف الدينية والرسمية السابقة التي تنعكس في أسماء وألقاب نسائية وتعكس أدوار كل من النساء والرجال في الاحتفالات السنوية كالمهرجانات والموالد، كما أن لها دلالة وأهمية تاريخية. ومن الأمثلة على ازدواجية المعايير في التأريخ الأفريقي نجدها في حالة رجال ونساء “غريوت“.
الـ. “غريوت” هم على الأرجح أشهر حاملي التاريخ الشفهي لغرب أفريقيا. إنهم مداحون ومؤرخون وموسيقيون عاشوا بين الشعوب المسلمة مثل الماندي والولوف والفولبي. ويدل أصل المصطلح على جماعة حرفية من طبقة معينة ارتبطت بالأسرة المالكة، لكنه أصبح يستخدم بشكل عام للإشارة إلى المهنيين في كل من مالي وغينيا وغامبيا والسنغال وساحل العاج وبوركينافاسو وغينيا بيساو، وإن كان استخدامه يتسع أحيانًا لأي حامل للتراث الشفهي في كافة أرجاء أفريقيا جنوب الصحراء. لقد قام الـ. “غريوت” على سبيل المثال بالحفاظ على ملحمة ماندينغ العظيمة “سونديانا“، وتطويرها وتوريثها عبر الأجيال. وقد اعتمد أليكس هايلي على الـ. “غريوت” المحليين في غامبيا حين كان يقوم بالبحث وإعداد كتابه المعروف الجذور (Alex Haley, Roots).ومع التعامل واسع الانتشار مع ظاهرة الـ. “غريوت“، يصبح من المثير للدهشة ندرة توفر المعلومات عن تواجد وأدوار نساء الـ. “غريوت” حتى التسعينات حين تم تناولهن في أعمال مارلويس جانسون وتوماس هايل ودوران وآخرين. ولم يبدأ الاستماع إلى نساء الـ. “غريوت” سوى مؤخرًا باعتبارهن مصادر للمعلومات التاريخية والثقافية.
من المجالات الواعدة للقيام ببحوث حول النساء والثقافات الإسلامية في أفريقيا جنوب الصحراء في الفترة ما بين عام ۱۷۰۰ وعام ۱۹۰۰م هي المصادر الأرشيفية والشفهية شديدة الثراء التي تنتظر بحث الدارسين والدارسات (رغم أن الكثير منها مترجم، إلا أن هناك ميزة واضحة في دراسة أصول تلك النصوص). هذا وتعد حالات التقاضي والسجلات القانونية الموجودة في كل من الأرشيف الإسلامي والأرشيف الاستعماري مصادر ثرية بشكل خاص، حيث تضم معلومات عن التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للنساء، كما تكشف مساحة من فاعلية النساء نجدها غائبة عن المصادر الأخرى.
ومن الضروري إذا أن ننتهج مقاربة تجمع وتكمل فيما بين المصادر الشفهية والأرشيفية والمصادر الأخرى الخاصة بالنساء المسلمات في تلك الفترة. ولدينا مثال باربرا كوبر التي تقدم نموذجًا للربط فيما بين المصادر وذلك في دراستها الموثقة تاريخيًا عن أنماط زواج الهاوسا في نيجيريا فيما بين عام ١٩٠٠ وعام ١٩٨٩م.
كذلك يكتسب دور البحث المشترك أهمية خاصة كمنهج للبحث المعاصر، وفي هذا المجال تقدم لنا ليدفين كابتينس نموذجًا حين تعترف بأهمية دور ماريان عمر علي التي ساعدتها في تفريغ وترجمة المادة في عرضها العبقري لشفاهيات شمال الصومال ما بين عام ۱۸۹۹ وعام ۱۹۸۰م.
وفي بعض الأحيان تأتي المعلومات من خلال العمل في أقاليم أخرى. فعلى سبيل المثال نجد بحث سيلفيان ضيوف عن الشتات الإفريقي الذي تناولت فيه العبيد المسلمين في العالم الجديد. فهي تكتب عن القليل المعروف عن بعض النساء اللاتي ولدن في أفريقيا جنوب الصحراء وتربين هناك كمسلمات، ثم تعطينا بعض الإشارات عن خبراتهن الحياتية السابقة على العبودية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. كذلك تربط الباحثة ما بين العادة الإفريقية الأمريكية في العالم الجديد المتمثلة في إهداء الطعام على شكل فطائر من الأرز، يطلق عليها اسم “ساراكا” بطول جزر بحر جورجيا، وبين التقليد الإسلامي المعروف باسم “الصدقة“. وهي عادة “تجسد النموذج الوحيد المسجل للسلوك الإسلامي الخاص بالعبيد من النساء“، وتكتسب أهميتها الثقافية من كون النساء ما زلن يبذلن أقصى جهدهن من أجل الحفاظ على تلك العادة رغم ظروف تكاد تجعل ذلك مستحيلاً (Diouf 1998, 66) .
إن مجالات البحث الواعدة الأخرى تتضمن الاستخدام المستمر والمنظم للموارد البصرية من فنون وفوتوغرافيا ومقتنيات المتاحف والمسوح والحفريات الأثرية، على أن يتم ذلك من منظور الجندر وبواسطة الدراسة الدقيقة والخلاقة للأنواع الأدبية النسائية التي لم تنل حقها في الدراسة والبحث، ممثلة في الفولكلور والتاريخ الشفاهي.
- ملحوظة: حتى عند الاقتصار على الأعمال المكتوبة بالعربية والإنجليزية والفرنسية والبرتغالية تظل هناك مصادر أولية تتناول أفريقيا جنوب الصحراء كثيرة للغاية بما يفوق إمكانية تمثيلها هنا. وبالتالي يتم توجيه القارئة والقارئ إلى المصادر الثانوية الآتية.
E. Alpers, East Central Africa, in N. Levizion and R. Pouwels (eds.), The history of Islam in Africa, Athens, Ohio 2000, 303-25.
R. Austen, Africans speak, colonialism writes. The transcription and translation of oral literature before World War II, Boston 1990.
I. Berger, Women In East and Southern Africa, in 1. Berger and E. F. White, Women In Sub-Saharan Africa, Restoring Women to history, Bloomington, Ind. 1999, 5- 62.
J. Boyd and B. Mack, The collected works of Nana Asma’u, 1793-1864, Ann Arbor 1997.
C. Coles and B. Mack, Hausa women in the twentieth century, Madison, Wis. 1991.
B. Cooper, Marriage in Maradi. Gender and culture in a Hausa society in Niger, 1900-1989, Portsmouth, N.H. 1997.
S. Diouf, Servants of Allah. African Muslims enslaved In the Americas, New York 1998.
R. Dunbar, Muslim women In African history, in N. Levtzion and R. Pouwels (eds.). The history of Islam In Africa, Athens, Ohio 2000, 397-417.
L. Duran, Stars and Songbirds. Mande female singers In urban music 1980-1999, London 1999.
C. Geary, Old pictures, new approaches. Researching historical photographs, in African Arts 24:4 (1991), 36-9, 98.
D. Gutelius (ed.), Saharan Studies Association Newsletter 10:2 (2002).
T. Hale, Griots and griottes. Masters of words and music, Bloomington, Ind. 1998.
J. Hunwick with S. O’Fahey, Assessing the Islamic intellectual tradition in Africa. The Arabic Literature of Africa Project (ALA). Reproduced at <www.sum.uio.no/research/mali/timbuktu>.
A. Hutson, The development of women’s authority in the Kano Tijaniyya, 1894-1963, in Africa Today 46:3/4 (1999), 43- 64.
T. Insol, The archaeology of Islam in Sub-Saharan Africa, Cambridge 2003.
M. Janson, The best hand Is the hand that always gives. Griottes and their profession in Eastern Gambia, Leiden 2002.
M. A. Johnson, Gold jewelry of the Wolof and the Tukulor of Senegal, in African Arts 27:1 (1994), 36-49, 94.
L. Kapteijns, Ethiopia and the Horn of Africa, In N. Levtzion and R. Pouwels (eds.), The history of Islam In Africa, Athens, Ohio 2000, 227-50.
L. Kapteijns with M. Ali, Women’s voices In a man’s world Women and the pastoral tradition in northern Somali orature, c. 1899-1980, Portsmouth, N.H. 1999.
B. Mack and J. Boyd, One woman’s jihad. Nana Asma’u, scholar and scribe, Bloomington, Ind. 2000.
D. Prochaska, Fantasia of the photothèque, French postcard views of colonial Senegal, In African Arts 24:4 (1991), 40-7, 98.
E. Schildkrout, Politics and Poetry. Mohammed Rashid Shaaban’s History of Kumasi, in J. Hunwick and N. Lawler (eds.), The cloth of many colored silks Papers on history and society Ghanaian and Islamic in honor of Ivor Wilks, Evanston, III. 1996, 367- 91.
R. Shell, Islam in southern Africa, 1652-1998, in N. Levtzion and R. Pouwels (eds.), The history of Islam in Africa, Athens. Ohio 2000, 327-48.
R. Segal, Islam’s black slaves. The other black diaspora, New York 2001.
M. Smith, Baba of Karo. A woman of the Muslim Hausa, London 1954.
M. Strobel, Muslim women in Mombasa, 1890-1975, New Haven, Conn. 1979.
E. F. White, Women in West and West-Central Africa, in I. Berger and E. F. White, Women in Sub-Saharan Africa. Restoring women to history, Bloomington, Ind. 1999, 63-129.