أنّـا فرويد ودوروثی بورلینجهام في هامستيد
تاريخ النشر:
2016
اعداد بواسطة:
أنّـا فرويد ودوروثی بورلینجهام في هامستيد:أصول ملاحظات التحليل النفسي
بشأن العلاقة بين الأب الأم والطفل*
هناك العديد من الأسباب التي جعلت سيجموند فرويد يصبح أكثر حساسية في منتصف العشرينات بشأن أهمية العلاقة المبكرة بين الأم والطفل فيما يتعلق بتطور كل من الأنثى والذكر. في العقد السابق على ذلك وجد فرويد تحديًا في اهتمـام يونج Jung) ) بالأمومية والأم العظمى. كذلك ذكرته لو أندرياس سالوميه (Lou Andreas Salome ) التـي يمكن اعتبارهـا museعلـم فـرويـد، بنظريـات النظـام الأمـوميmatriarchy) ) التي كانت منتشرة بين علماء الأنثروبولوجيا. ثم في عام ١٩٢٤ ووجه فوريد مرة أخرى بنظرية أوتو رانكOtto Rank) ) بشأن نظرية صدمة الميلاد وكذلك نظرية ساندور فيرينشي (Sandor Ferenczi) عن التناسلية (genitality) وتركيزها على النكوص الطبيعي نحو الأم ورحم الأم في الجماع الجنسي (وهو النكوص الذي اعتبره فيرينشي عنصرًا مشتركًا بين الرجال والنساء رغم أنه وجد صعوبة في الدفاع عن تلك النظرية في حالة النسـاء فـي كتابـه ثالاسا: نحـو نظريـة عـن التناسلية(Ferenczi 1933). كذلك فقد أقر فرويد بأن إعادة التفكير في الديناميات النفسية للقلق، بما في ذلك عصاب الحروب، والتعريف الجديد للقلق الذي أعلن عنه في عمله الصادر في عام ١٩٢٦ الكف: الأعراض والقلق قد دفعه إلى التساؤل عما إذا كان القلق من فقدان الحب الأمومي محوريًا في تطور الأنثى مثلما قلق الاخصاء محوري في تطور الذكور. كذلك كان هناك الكثير من عدم الرضا بشأن آرائـه حـول علم النفس الأنثوي بين زميلاته الأكبر سنا مثل هيلين دويتشHelen Deutsch) ) في فيينا وكارين هورني (Karen Horney ) في برلين. لكن العودة الى مراسلات فرويد تشير إلى أن عمله الإكلينيكي في منتصف العشرينات ظل في جوهره يدعم أحكامه الهامة بشأن التطور الأنثوي في المرحلة ما قبل الأوديبية التي أعلنها في مقاله الصادر في عام 1931 بعنوان “الجنسانية الأنثوية“.
مـن المعـروف جيدًا أن هناك الكثيـر مـن النساء اللاتـي يشعرن بارتبـاط قوي بوالدهن؛ إنـهـن لـسـن بـالضـرورة عصابيات. لقد كانت هؤلاء النساء هن اللاتي لاحظت عليين مـا أنـا بصدد الحديث عنه هنا وما دفعني إلى أن أتبنى وجهة نظر خاصة فيما يتعلق بالجنسانية الأنثوية. لقد تأثر على وجه الخصوص بحقيقتين: الأولى هي انه في الحالات التي كان فيها ارتباط المرأة بوالدها شديدًا بشكل خاص أظهر التحليل إن ذلك الارتباط سبقه مرحلـة مـن الارتباط المطلق بالأم.. الحقيقة الثانية علمتني أن قدر أمد ذلك الارتباط قـد بـخـس هـو الآخر بدرجة كبيرة. (هذه الحقائق تظهر أن) مرحلـة مـا قبـل الأوديبيـة لـدى النساء تكتسب أهمية لم تكن تمتع بها حتى الآن.. إن فهمنا لتلك المرحلة المبكرة، مرحلة ما قبل الأوديبيـة فـي القيـات قـد تبدو لا مفاجنـة مثـل اكتشـاف الحضارة السابقة على الحضارة اليونانية في مجال آخر. (ص٢٢٥–٢٢٦)
لم يتردد فرويد في أن يستخلص من الملاحظات التي لخصها في تلك الفقرة أن عليه أن “يسحب عنصر العالمية من القول المأثور بأن عقدة أوديب هي نواة العصاب” (ص٢٢٦). لكنه ما أن فعل ذلك إلا وعاد وراجع نفسه. إذا كان مفهوم عقدة أوديب قد امتد ليشمل كلا من الوالدين وإذا كان فرويد قد اعتبر أن عقدة أوديب الايجابية لدى الفتاة تأتي بعد عقدة أوديب سلبية، حيث تكون الأم هي موضوع حب الفتاة الصغيرة، فإنه لاحظ بارتياح أن نـواة جوهر العصـاب يمكن أن تبقى دون إزعاج في سباتها الدوجمائي كما كانت لعقود من الزمان في إطار نظريته. مع ذلك فإن التراجع، وقد حدث، لن يتلاشي.
إن قصـة الكيفية التي بحثت بها ميلاني كلاين في عملها التحليلي مع الأطفال وتأملها النظري في المجال ما قبل الأوديبي هي قصة معروفة جيدًا. لكنني أريد أن أبحث في هذا المقال مسارًا أقل شهرة من التطور الإكلينيكي والنظري الذي امتد من عمل فرويد الإكلينيكي في العشرينات إلى حضانات هامبستيد في الأربعينات، حيث استكملت كل من دوروثي بورلينجهـام وأنـا فرويد بحثهما في السنوات الأولى من الحياة، ذلك البحث الذي بدأنه أثناء فترة تحليلهن هن أنفسهن مع فرويد. إنها قصة ميلاد ملاحظات علاقة الأم أو الأب بالطفل في التحليل النفسي.
في منتصف العشرينات كان فرويد يقوم بتحليل عدد من النساء نوات الارتباط القوي بالأب. لقد كن في واقع الأمر نساء يتدربن على التحليل النفسي معه ويحضرن أنفسهن للدور الهام الذي سوف يلعبنه في حركة التحليل النفسي. كانت ابنته أنّا فرويد واحدة منهن ويبدو أنها فطنت أثناء فترة علاجها إلى الرابطة المبكرة، القوية والمليئة بالشغف التي كانت تربطها بشخصية كانت لها بمثابة الأم، هي مربيتها، جوزفينJosefine))، التي كان تفانيها الأول والأهم نحو أصغر أبناء فرويد الستة، الابنة التي كان عليها أن تعمل جاهدة لكسب التقدير والاندماج ضمن أخواتها الأكبر. كما أنها بدأت أيضًا في اكتشاف غياب أي رابطة قوية بينها وبين أمها الصارمة والمحافظة، وعلاقة الأخيرة المتوترة والتنافسية مع عمتها ميناMinna) )، ثالث النساء اللاتي كن يقمن بوظائف رعائية في منزل فرويد. لكن الشخصية موضوع التحليل، ذات الرابطة القوية بالأب، والتي كان لها علاقة طويلة وملفتة –وتراجيدية– بأمها كانت هي الابنة الاصغر لفنـان الزجاج الأمريكي الشهير والمعروف بغرابته وصعوبة مراسه لويس تيفاني (Louis Tiffany).
كانت دوروثي تيفاني بورلينجهامDorothy Tiffany Burlingham) ) قـد بـدات تحليلاً مع تيودور رايك Theodor Reik ) ) ثم انتقلت في عام ١٩٢٧ إلى فرويد بعد أن وجدت أن ما يقرب من عامين مع رايك لم يساعداها كثيرًا.1 في ذلك الوقت كانت هي ذاتها أمًا لأربع أطفال صغار –عملوا جميعًا بعد ذلك في التحليل مع أنّا فرويد– وكانت من تلك الزاوية مهتمة بالعلاقة ما بين الأمهات والأطفال الصغار. ابنها الأول، بوبBob) ) كان قد بدأ يعاني من سلسلة من الأمراض بعد ستة شهور من ميلاده في عام 1915. عند عمر ست شهور أصيب بوب بإكزيما شديدة شملت کامل جسده مما استلزم كسوه بالقار بالمعنى الحرفي للكلمة لمنعه من أن يحك نفسه. بعد ذلك بدأت حساسيته من اللبن، وأصبح من اللازم تغذيـة بـوب بالقوة بعد أن امتنع عن تناول الطعام. (وهو ما قد يوصف اليوم بحالة “تأخر في النمو“). بعد عام من ميلاده تركه والداه مع جده لأبيه، ليقوما بتجهيز مسكنهما في مدينة نيويورك، ومن ثم أصيب بأول أزمة ربوية شديدة، وأصبح لونه أزرق وصار يسعل بشكل متشنج. في لحظة ما من عامه الأول –هنـا لا يوجد تحديد دقيـق لترتيب الأحـداث– أصيب والـده روبرت بورلينجهام Robert Burlingham) ) بانهيار عصبي، لم يكن على الأرجح هو الأول، لكنه كان بمثابة علامة واضحة لدوروثي بورلينجهام بأن زوجها يعاني من مرض خطير. عند عمر الثلاثة والعشرين عامًا كان على دوروثي ان تتعامل مع رضيع شديد الحساسية، له قدرة حدسية حادة على التقاط –والتوحد مع– تقلباتها المزاجية وقلقها منذ البداية، وهي القدرة التي نمت مع تراكم المشكلات ومع زوج تم تشخيصه فيما بعد بذهان هوس اكتئابي. تبعًا للنصيحة الطبية السائدة في ذلك الوقت، استمرت دوروثي في ترك ابنها مع جديه أو سلسلة متوالية من المربيات على حين حاولت هي إدارة أمورها المنزلية. لكنها مع كل محاولة كانت تصاب بأزمة ربوية. ثم بدأت نوبات بوب الربوية تتزامن مع انفصاله عن أبيه وذلك في فترة كان والداه فيها يعيشان في منزلين منفصلين. واستمرت الأزمات حين أصيب والده بانهيار عصبي ثان. حين كان بوب لم يبلغ بعد العامين من عمره أنجبت بورلينجهام طفلها الثاني، ابنة اسمها ماري تيفاني، ثم بعد ذلك بعامين طفلتها الثالثة، كاترينا، ثم جاء طفلها الرابع، مايكل. حين وصل إلى مرحلة الكمون كان بوب قد أصبح ذا مزاج متفجر، كما أصبح مخادعًا، ميالاً للسرقات الصغيرة وأفعال الجنوح. لقد أشارت إليـه أنّـا فرويد كواحد من الحالات، دون كشف هويته، في كتابها: أربع محاضرات في تحليل الأطفال واصفة سماته الأساسية كالتالي: “انحرافات، أشكال متفرقة جدًا من القلق، شبه جنوح” (ص۱۱).
لقد اتخذت بورلينجهام القرار الصعب بأن تبتعد هي وأطفالها عن زوجها وعن منزلهم في نيويورك في عام ١٩٢٥. ومن هناك ذهبت إلى أوروبا ومن ثم إلى فيينا باحثة عن المساعدة في التحليل النفسي الذي سمعت به في واحدة من محاضرات أوتو رانك (Otto Rank ) الأمريكيـة فـي عـام ١٩٢٤ ومـن إحـدى قريباتها، أيزيت دو فوریستIzette de Forest) (، والتي كانت، بالاشتراك مع امرأة أمريكية أخرى هي کلارا طومسون (Clara Thompson) ، قد سعت إلى التدريب مع فيرينشـي فـي بودابست. (فيما بعد كان للاثنتين تأثيرهما في تطوير مدرسة بودابست للتحليل النفسي في كل من واشنطن وبوسطن، حيث ساهمتا في أعمال ساليفان Sullivan) ) وآخرين فيمـا أصـبـح يـعـرف بـاسـم الـ“بين شخصية” interpersonalism)). اعترضت أسـرة بورلينجهام ذات النفوذ بشدة على قرار دوروثي بشأن فيينا والتحليل النفسي، وقد ظلت دوروثي طرفًا في مفاوضات مستمرة ومعقدة بشأن طبيعة العلاقة بينه وبين أسرته من ناحية وبين أطفاله من ناحية أخرى، وكذلك الشكل الذي سوف تتخذه علاقتها الزوجية (بما في ذلك الجنسية) معه إلى أن انتحر روبرت بورلينجهام قفزًا من نافذة شقته في نيويورك في مايو ١٩٣٨.
في هذه الأثناء في فيينا توثقت العلاقات بين عائلتي بورلينجهام وفرويد، بل يمكن القول أن الأسرتين اندمجتا في أواخر العشرينات. في فترة الصيف كان للأسرتين منزلان متجاوران للعطلات في سيميرينج Semmering) ) ثم أنهما كانا يتشاركان في منزل ريفي، هوخروتيرد Hochroterd))، الذي كانـت بورلينجـهـام وأنـا فـرويـد قـد اشترتاه معًا. لقد كان فرويد إذا في صحبة الأطفال الصغار يوميًا، وكأنه جد لهم، وذلك لأول مرة منذ أمده أبناؤه بـالأحلام لكتابـة كتابـه تفسير الأحلام (1900 Freud ) والنظريات الجنسية لكتابـه ثـلاثـة مقالات في نظرية الجنسانية (Freud 1905 ).استمرت دوروثی بورلينجهام في التحليل مع فرويد خلال سنوات مراهقة أطفالها وحتى وفاة فرويد بالسرطان في عام 1939 – اثنا عشر عاما طويلة من التحليل، هو أطول تحليل قام به على الإطلاق، في حدود ما يمكن أن يقال في ضوء ما هو متوفر من أدلة.
في ربيع ١٩٢٦ عبر فرويد عن قربه من بورلينجهام بأن أهداها دبوسًا للزينة مصنوعًا من أحجار الأوبال متعددة الألوان على أرضية من الذهب، كما سوف يهديها فيما بعد خاتمًا، تسجيلاً لعضويتها في الدائرة المكونة من أتباعه في التحليل النفسي. لكن دوروثي حزنت بشدة حين فقدت الدبوس بعد أيام قليلة من إهدائه لها. فأمر فرويد بصنع بديل له فورًا، وحتى حين تم العثور على الدبوس الأصلي، أصر فرويد على أن تحتفظ دوروثي بالبديل – وقد يكون ذلك ليؤكد لها أنه مقدم الهدايا الذي يمكن الاعتماد عليه في كل الظروف، على العكس من والدها الذي لم يكن كذلك أبدًا. من الصعب أن نتصور أن ذلك الموقف لم يكن في ذهن أنّا فرويد بعد ذلك بحوالي 30 عامًا، في عام ١٩٥٣، بعد مرحلة حضانات حرب هامبستيد، حين كتبت مقالها الشهير “حول الفقدان والتيه” وهو المقال الذي يتضمن الكثير من المؤشرات إلى أنها قد ناقشته مع دوروثي بورلينجهام.
يبدأ المقال بعرض مختصر في فصلين لتاريخ فكر سيجموند فروید، صدرا منفصلين فـي مقـالي “المرضية النفسية فـي الحيـاة اليومية” (1901 Freud ) و“محاضـرات تمهيديـة” (1916-1917 Freud ) حـول شـذوذ التصـرف “الفقـدان والاستبقاء“. ثـم يـأتي الإقرار بـأن “فصـلاً جديدًا” (كـان يمكنها أن تقول “متجـاوزا لفرويد” لكنها لم تفعل) قد بدأ حين راح المحللون (بما فيهم هي ذاتها؛ كان يمكنها أن تقول ذلك، لكنها لم تفعل) “يركزون انتباههم على أحداث السنة الأولى من الحيـاة والتفاعلات الأولى بين الأطفال حديثي الولادة وأمهاتهم” (1953,304 A. Frued). في نفس العام الذي كانت أنّا تكتب فيه، أقرت أنّا بـأن وينيكوت ( D. W. Winnicott ) كان قد عرض ورقته الشهيرة عن البواعث الانتقالية، على سبيل المثال.
بعد أن بحثت أنّـا فرويد، بدقتها المعتادة في الديناميات الشبقية للفقدان، حولت انتباهها إلى ما قد يطلق عليه اليوم منظـور “علاقات الموضوع” object relations))، أي كيفية توحد الأفراد بموضوعات الفقد، وقد استخدمت في وصفها أحد المفاهيم الرئيسية لميلاني كلاين الخاصة “بالتوحد الاسقاطي” (وهو أمر جدير بالملاحظة في ضوء الجدال المشحون الدائر في ذلك الوقت). لقد لاحظت أنـّا فرويد أن الطبقات العميقة من المشاعر تنكشف أثناء عملية التحليل حين تحدث خبرة فقدان أو حين يتم تناول خبرة فقدان أثناء عملية التحليل، حيث ينكشف حينها ما شعر به الطفل أو البالغ حين كان طفلاً، حين شعر بالضياع أو الهجران من قبل أحد والديه. ولتوضيح ذلك استخدمت أنّا فرويد إحدى قصص سيرتها الذاتية، دون أن تكشف عن ذلك، حين كانت فتاة صغيرة وفقت قبعتها أثناء رحلة سير في جبال الألب، ثم بكت، في توحد مع قبعتها، حين تخيلتها “عارية ومهجورة في الوحدة المظلمة للجبال” (ص305).
كذلك لاحظت أن الأطفال والبالغين المتوحدين مع أشياء يشعرون وكأنها هي ذاتهم الضائعة، يزيحون مشاعرهم المؤلمة نحو محللهم أو القائمين على رعايتهم، فيتخيلون أن المحلل يفتقدهم حين يكونون في عطلة، أو أن أمهم تتألم حين تفترق عنهم. “في عملنا مع الأطفال المنفصلين (عن ذويهم) أثناء فترة الحرب، كانت لدينا فرص كثيرة لنلاحظ هؤلاء الذين شعروا، لا بألم انفصالهم هم ذاتهم الحقيقي جـدًا، بـل بـألـم مـا يتخيلونه من وحدة ووحشة الأم التي تركوها وراءهم” (ص۳۱۰). وباختصار:
ليس من الصعب في التحليل أن نفهم ونفسـر مثـل ذلـك الإحلال للمشاعر. فحين نبحث في أصولها نكتشف أنها تعود إلى أحداث في الطفولة المبكرة، حين شعر الفاقد بأنه هو نفسه “مفقود“، أي حين شعر بأنه مهجور ومرفوض ووحيد وبكل المشاعر شديدة الألم التي يعزوها فيما بعد إلى الأشياء التي فقدها. (ص۳۱۰)
حين كانت بورلينجهام تضيع دبوسها في عام ١٩٢٧، كانت في غمار تحليلها تتأمل تأثير افتراقها عن زوجها عليها وعلى أطفالها وتأثير انتقالها إلى فيينا على زوجها ومجمـل تـاريخ عـدد مـرات فراقهـا السـؤلم أثنـاء سنوات طفولتها، بدايـة مـن افتراقها المتكرر عن أمها.
لقد اختبـأت سمات الحضـارة مـا قبـل اليونانية لعلاقة بورلينجـهـام بأمها، وراء ذكرياتها المؤلمة عن موت أمها شديد الألم بسرطان الأمعاء حين كانت دوروثي في الثانية عشر من عمرها (وهو أمر عجيب، حيث أن فترة تحليلها مع فرويد استمرت هي الأخرى اثني عشر عامًا إلى لحظة موته بسبب السرطان). لقد كانت أمها زوجة أب لثلاثة أطفال من زواج لويس تيفاني الأول، إضافة إلى أربعة أطفال لهـا ـ وكانت ثالثهم آنيAnnie) ) قد توفيت حين كانت دوروثي تبلغ من العمر ستة شهور. لقد تسبب موت آني في دخول أمها في حالة من الإكتئاب العميق ومن ثم وضعت دوروثي في رعاية مربية مهملة، لعب إهمالها دورًا في وفاة آني. وبالتالي فإنه عند عمر الستة شهور تم التخلي عن دوروثي وانفصالها عن أمها وتسليمها إلى مربية لا تحسن معاملة الأطفال.
لقد شعرت أن أختيها الأكبر، التوأم، هما المفضلتان من قبل أمها بعد أن شفيت الأخيرة. كما شعرت أنها الأقل قيمة بين إخوتها: فهي ليست الملاك الرائع مثل آني التي فقدت إلى الموت، ولا هي جميلة أو موهوبة موسيقيًا أو تتمتع بتلك الرابطة القوية كالأختين التـوام، كما أنها ليست الصبي الذي كانت تشعر أن أباها وأمهـا وجـديها يرغبون فيـه (خاصة أنها كانت بالنسبة للأخيرين الحفيدة التاسعة). وحين كانت والدتها تحتضر، يبدو أن دوروثي شعرت من جديد بذلك الشعور الذي كانت تشعر به وهي كطفلة صغيرة بأن وجودها مخيب لآمال أمها ومن ثم تسبب لأمها في الأذى. لكنها أيضًا كانت تلـوم أباها الذي كان لرغبته الخارقة والنرجسية في المشروعات الإبداعية وامتلاك العقارات والسفر والأعمال وفي ترقية الذات أن أدت إلى إجهاد كل من زوجته الأولى والثانية.
أثناء فترة تحليلها أدركت دوروثي بورلينجهام كيف أنها أمضت فترة شبابها وهي تشعر بالذنب، يلاحقها أنين أمها وهي تتألم أثناء احتضارها.. وهي تحاول أن ترى أمها في تلك العلاقة التي أسماها فرويد “عقدة أوديب السلبية“؛ وهي تحاول أن تنقذ أمها؛ وأن تتوحد مع أمها التي لم تكن أمًا متفانية فحسب وإنما أيضًا محبة متفانية للخير والإحسان ضمن مجلس إدارة مستشفى نيويورك للنساء والأطفال؛ ثم تتزوج رجلاً جمع ما بين كونه مكتئبًا وطبيبًا؛ آملة أن تصبح أمًـا (كمـا أصبحت فعليًا أمًا لأربعة أطفال مثل أمها). لقد سارت دوروثي على هدى خطـوات أمها مثلما فعل أطفالها فيما بعد.
في السنة التي كانت أنّا فرويد تكتب فيها “الأنا والآليات الدفاعية” الذي صدر في عام 1936، والذي أهدته لوالدها في عيد ميلاده الثمانين، أنتجت دوروثي بورلينجهام هي الأخرى هدية اعترافًا بما للتحليل من تأثير على قدرتها على الانضمام إلى حركة التحليل النفسي كعضو فاعل. كانت هديتها عبارة عن مقالين، مليئتين بالملاحظات – والأولى من نوعها– حول ممارسة الأمومة، وتحملان الكثير من سيرتها الذاتية فيما يخص ممارستها للأمومة وعلاقتها بأمها وتجربتها مع التحليل النفسي بالتزامن مع أطفالها: “تحليل الطفل والأم” و“التقمص العاطفي بين الطفل حديث الولادة والأم” وقد تـم تجميعهـا فيمـا بعـد ضـمن مجلـد “دراسـات نفسـتحليلية للمبصـر والضـرير” (Burlingham 1972).
في تلك المقالات برز التقمص العاطفي كمدخل لفهم التواصل المعقد بين الأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة جدًا (خاصة في السنة الأولى من العمر) وأمهاتهم. في مقالها الأول كانت بورلينجهام تميل إلى استحضار توارد الخواطر أو طرح الأفكار – وهي القدرة التي أمضي فرويد وفيرينشي وقتًا طويلاً في تأملها والتراسل بشأنها– كتفسير لكيفية تناغم الأطفال في مرحلة ما قبل الكلام مع كل فعل لأمهاتهم، بل، وعلى وجه الخصوص، كل شعور أو فكرة لديها، بما في ذلك مشاعر أو أفكار اللاوعي. “إن لا وعي الأم لا يقل حيوية وأهمية بالنسبة للطفل عما يدور في وعيها… إن شخصية الأم وعصابها، وهواجسها وقلقها وأعراضها، باختصار كل ما يشكل وجدانها وكذلك كل ما تكبته، ينتقل من الأم إلى الطفل بسرعة وقوة البرق” (ص 5). لكنها في المقال الثاني تصل إلى القناعة بأنـه لـيـس تـوارد الخواطر – أو، في احتمال آخر، نزعات موروثة مشتركة– تلك التي تربط ما بين الأطفال وأمهاتهم وإنما قدرة الأطفال ذاتهم على التقمص العاطفي.
إننـي أعتقد أن الأطفال الصغار لديهم قدرة أكبـر علـى الملاحظـة مـمـا كـان يعتقد في الماضي؛ وأنهـم يلاحظـون التعبيرات المباشرة عن المشاعر وكذلك الجهود المبذولة لإنكار تلك المشاعر؛ أن لديهم قدرة خاصة على استقبال تلك التعبيـرات عـن الـدوافع المكبوتـة التـي تستند إليهـا شخصية الأم، وهـم ينجذبون لتلـك الـدوافع ومـن ثـم يستخدمونها فـي إغـراء الأم؛ إن الأطفـال يفقدون تلـك القدرات حين ينضجون ويتطـورون ويتكيفون مع البيئة المحيطة. باختصار إن التقمص العاطفي بين الطفل والأم، الذي كان فيما مضى يبدو غامضًا بل ويكاد أن يكون خارقًا للطبيعة، يبدو هنـا وكـأنـه يكمن بدرجة كبيرة في القدرة الإدراكية للطفل. (ص٦٩)
رغم أن أنّا فرويد كانت في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى طرفًا في مشروع يقدم المأوى والدعم العلاجي لصغار الأطفال من الأسر التي فرقتها الحرب، إلا أن العمل الأول الذي قامـت بـه فـي مؤسسة من تصميمها الخاص كان بالاشتراك مع بورلينجهام، وكـان يركـز بـوجـه خـاص على صغار الأطفال –حديثي الولادة في المرحلة ما قبل الأوديبية– من خلفيات اقتصادية معدمة. إن مشروع إديث جاكسون Edith Jackson))، الممـول مـن قبـل الثرية الأمريكيـة إديث جاكسون، والذي كـان يتضمن وحدة خاصة لملاحظة التفاعل بين الطفل والوالدين في نيو هايفن، كان عبارة عن حضانة أو دار رعاية أطفال في عمر العام أو العامين لأمهات عاملات – أي دار رعاية نهارية بلغة اليوم، لكنه كان يتضمن طبيبة أطفال مقيمة به (جوزفين شتروس Josefine Stross ) التي عملت فيما بعد كطبيبة أطفال في حضانات هامبستيد). لقد استمر مشروع جاكسون لعام واحد فقط بسبب توتر الفترة التي واكبت تثبيت السلطة النازية لأقدامها في ألمانيا. لقد كان وضعًا سياسيًا شديد التوتر لم يسمح بفسحة من الوقت لإصدار ملاحظاتهم الدقيقة في شكل تقارير أو مقالات.
في عملهما التحليلي مع الأطفال وفي ما قامـا بـه من عمل في المدارس وفي حضانة جاكسون، كما في حياتهما الأسرية، قامت كل من أنّا فرويد وبورلينجهام بلعب دور قيادي في الثلاثينات لمجموعة من المحلات النفسيات اللاتـي بـدأن التأمل في العلاقة بين الأمهات وصغار الأطفال واللاتي قمن بملاحظة الأطفال حديثي الولادة إضافة إلى تحليل الأطفال القادرين على الحديث. غالبية هؤلاء النساء كن أمهات قمن بملاحظة أطفالهن بأنفسهن، ما عدا أنّا فرويد نفسها التي لم تكن بالطبع أمًا وإن كانت شارکت بورلينجهام مهام الأمومة مع أطفال الأخيرة الأربعة كما كانت طرفًا في حياة زميلاتها. غالبية نساء فيينا كن يلاحظن أطفالهن في سياق التدريب على التحليل وفي زيجاتهن مع محللين نفسيين، في ذات الوقت الذي شاركن فيه في ندوة التحليل النفسي للأطفال التي نظمتها أنًا فرويد في فيينا: جريتا بيبرينج (وإدوارد)، ماریان كريس (وإرنست)، جيني والدر (وروبرت)، آني رايخ (وويليم)، إيديثا سنيربا (وريتشارد)، آنـي كـاتـان (وموريتيوس) وجـاين لامبـل (وهـانز).2 كمـا كـانـت كـل مـن الأختين بورنشتاین Bornstein))، بیرتاBerta) ) وشتيفي Steffi))، جزءا من تلك الدائرة، كما كانت كذلك مارجريت ماهلر Margret Mahler) ) التي جاءت من تدريب أولي في بودابست.
في تلك الفترة كان محللو الأطفال في فيينا أكثر ارتباطًا ببودابست – عنهم ببرلين مقر ميلاني كلاين– حيث كانت أليس بالينت (زوجة مايكل التي كتبت أحد أول كتبها عن السنوات الأولى من العمر (1931 Alice Balint)، وكاتا ليفي Kata Levi))، وهي واحدة أخرى ممن حللهن فرويد (وزوجة لاجوس Lajosالطبيب والمحلل النفسي) كن يدرسن تحليل نفس الأطفال وحيث كانت تيريز بينيديك (Therese Benedek) الشابة تتلقى تدريبها قبل أن تهاجر إلى شيكاغو، حيث استقرت وأصدرت سلسلة هامة من المقالات النفستحليلية والتجريبية عن العلاقات المبكرة بين الأم والطفل.
القليل هو المعروف عن الملاحظات التي تمت في حضانة جاكسون، لكن حين أسست بورلینجهـام وأنـا فرويد حضانات هامبستيد في يناير 1941، كانت الجهـة الأمريكية المانحة تطلب منهن تقديم التقارير، ومن ثم فقد قمن بتدريب فريق العمل على تدوين الملاحظات استخدمنها في تجميع ملف ثري بالملاحظات ثم بعد ذلك إصدار كتاب أطفال بلا أسر (1941 A. Frued ).
لقد أملت ظروف الحرب عليهن شروط البحث: لقد كن يراقبن أطفالاً –رضع وأطفال صغار وأطفال في سن المدرسة– منفصلين عن ذويهم ومحاطين بكل مخاطر الغارات الجوية. أي أن “عينة” بحثهما كانت تعاني الحرمان بتلك الطريقتين القاسيتين؛ وكانت “التجربة” –” وهي حالة تجريبية أمدنا به القدر للقيام بتلك التجربة” (ص۱۹)- تركز على كيفية تقدير أثر الحرمان في مراحل النمو المختلفة وكيفية توفير ما ينقص أو تعزيز أشكال التكيف الصحي.
لقد حددت تجربة حضانات هامبستيد إذا المعطيات التي استند إليها الكثير من أعمال الملاحظة التي قامت بها كل من أنّا فرويد وبورلينجهام خلال الأربعين عامًا التالية: “كون هذه الطريقة في اختبار حالة بيئية أو فطرية بعينها من خلال استئصالها من السياق طريقة مثمرة هو أمر أثبته الكثير من الدراسات التالية لصغار الأطفال المحرومين أو المعاقين حيث تم اعتماد نفس المنهج” (ص۱۹).
وسرعان ما فطـن العاملين في الحضانات إلى أمرين كانت بورلينجهام مدركة لكليهما من خلال تحليلها بأثر رجعي للسنة الأولى من عمر ابنها بوب ولطفولتها ذاتها. لقد لاحظوا، أولا، أن “احتياجات الرضيع للقرب العاطفي من بشر آخرين” هو أمر لا يمكن تجاهلـه أو التقليل مـن شـأنه أو تلبيتـه فقـط مـن خـلال “أعمـال الرعاية والإشراف غير الشخصية والمهنية” (ص۱۹). بل يجب الاستجابة إلى ذلك الاحتياج عن طريق (كلما كان ذلك ممكنًا) تنظيم الانفصال عن الأهل بحيث يكون تدريجيًا بدلاً من أن يكون مفاجئًا، وأن يكون هناك بديلا للأم يقدم الرعاية الأمومية في هيكلية شبيهة بالأسرة – أي عاملة واحدة لكل خمسة أطفال على الأكثر. إن الأطفال لا يتمكنون من الحصول على الانتباه والرعاية الدافئة التي يحتاجون إليها إذا زاد عدد المجموعة عن خمسة ومن ثم ينكصون: “يحدث النكوص حين يمر الطفل بمساحة خالية من العاطفة، أي في الفترة بين لحظة التخلي عن موضوع الحب القديم وقبل لحظة إيجاد بديل جديد له” (ص۲۰۹).
ثانيًا، لاحظوا أن الأطفال الذين كانوا في صحبة شخص بالغ يتميز بالهدوء ويوليهم الانتباه اللازم لم يشعروا بنفس القدر من الفزع أو الهلع حين تنطلق صفارات الإنذار أو تسقط القنابل. أحد الآباء، أب لطفلة في السادسة من عمرها، قال لفريق العمل، حين جاء بابنته إلى الحضانة: “عليكم أن تقذفوا قنبلة وراء ظهرها مباشرة لتنتبه إلى ما يحدث!” ففهموا أن ما يحميها ويلفها بشعور بالأمان كان ذلك الهدوء الذي نجح أهلها في نقله إليها. “كان الوضع مختلفًا في حالة اثنين من أطفالنا اللذين جاءت بهم أمهات على درجة عالية من التوتر.. كانت هؤلاء الأمهات يجررن أطفالهم من السرير ويقفن أمامهم مرتعشات؛ أحد الأطفال ظل طوال الليل واقفًا إلى جوار أمه، غير قادر على تركها” (ص٨). وبشكل عام، فإن خبرتنا تقول بان الحساسية المفرطة للخطر لا علاقة لها بخبرة القصف الفعلية التي حدثت من قبل. بل إن خوف الأطفال يعتمد إلى حد كبير على درجة قلق أهلهم. حين يبتعد هؤلاء الأطفال عن أهلهم تختفي مخاوفهم أو على الأقل تقل كثيرًا. أمـا قلـق زملاء اللعب فلا يبدو أن لها مثل ذلك التأثير المعدي (ص۱۲).
مع تطور الحضانات عبر الأربع سنوات التالية وحتى ديسمبر 1945 ومع تجدد المواقع والمهام، بمـا فـي ذلـك نقل بعض الأطفال إلى الريف، تمكنـت أنّـا فرويد وبرولينجهام من تسجيل ملاحظات طولية، وتحديد مراحل التطور، بدرجة عالية من التفصيل، في العلاقة بين الأطفال وأهلهم، سواء الأحياء أو الاموات، الحاضرين أو الغائبين أو من كانوا يزورون الأطفال بشكل متقطع. لقد كتبتا منفردتين عن ٢٥ رضيعًا في حضانة الأطفال الرضع وميزتا بين الأطفال في سن الثانية والثالثة وبين الأطفال الأكبر، البالغين ثلاث سنوات فأكثر، على أساس واضح من قدراتهم المتباينة في تذكر أهلهم الغانيين سواء على مستوى عقولهم أو مشاعرهم. نعود مرة أخرى إلى الاقتباس من أطفال بلا أسر:
نظرًا لما شرحناه بشأن الحالة الداخلية، فإن أغلب الأطفال تحت سن الثالثة سوف ينسون أهلهم أو على الأقل يشعرون باللامبالاة نحوهم. إنهم يوجهون انتباههم نحـو المحيط الجديد وبعد قليل من التردد، وفقدان قدر من النمو القيم الذي سوف نصفه لاحقًا، يبدءون حياة طبيعية على أساس جدید.
بعد سن الثلاث سنوات لا ينسى الأطفال في العادة أهلهم، حيث ذاكرتهم أكثر استقرارًا؛ ويحتل تغيير المواقف محل الكبت الكامل. في هذه السن المبكرة يصبح من الأسهل على الأطفـال أن يجدوا تعبيـرًا فـاعلاً وواعيًـا عن مشاعرهم. صورة الأهل تبقى في أذهانهم خاصة حين يساعدهم على ذلك الزيارات المتكررة أو الحصول على الهدايا أو الحديث المستمر عن الأهل. في كثير من الأحيان تمر تلك الصورة عن الأهل بتغيرات كبيرة حتى أنها تكاد لا تتشابه في شيء الأهل الحقيقيين في ماضي الطفل. في العالم الخيـالي يبدو الأهل أفضل وأكثر ثراء وكرمًا وتسامحًا مما كانوا عليه في الماضي. إن المشاعر السلبية، كما أشرنا اعلاه، هـي مـا تتعرض للكبت وتتسبب في التغيرات المزاجيـة والمشكلات السلوكية، التي يبقى مصدرها مجهولاً بالنسبة للطفل والمعلم على السواء. (ص۱۹۰)
بعد خمس سنوات من نهاية الحرب وإغلاق الحضانات انتهزت أنًا فرويد فرصة اجتماع في مركز أوستن ريجز في ستوك بريدج، ماساتشوستس، للتأمل بشكل عام فيما يمكن تعلمه عن تطور الرضع والأطفال من خلال الملاحظة، مقارنة بما لا يمكن أن ندركه سوى من خلال التحليل النفسي. تقول أنّا فرويد في “ملاحظات حول تطور الأطفال” (A. Freud 1951): “باعتبارنا محللين نفسيين لا نهتم بالمعلومات السلوكية في حد ذاتها. اننا نسأل أنفسنا ما إذا كان العمل من خلال الملاحظة خارج السياق التحليلي يمكن أن يقودنا إلى اكتشافات جديدة حول الميول والعمليات الكامنة، ومن ثم يمكن أن يستكمل المعلومـات التـي نجمعهـا مـن خـلال تحليل الكبـار والأطفـال” (ص١٤٤). في تقديرها هي شخصيًا لم تأت المعلومات التي حصلت عليها بالملاحظة في حضانات هامبستد باكتشافات جديدة تضاف إلى التحليل النفسي، لكنها “أضافت إلى كمية المعرفة التحليلية المتوفرة” (ص١٤٥)، وقدمت بعض التدقيقات كما طرحت بعض التساؤلات الجديرة بالبحث في المستقبل. على سبيل المثال، لقد طرحت هذه التجربة تدقيقًا لنظرية الليبيدو كما كانت تطبق في ذلك الوقت، وتطبيقها لفهم الجذور العميقة، ذات الأصول الحضارية القديمة، لسلوك الأولاد والفتيات على السواء. لطالما أكد المحللون أن المراحل الشبقية الفمية والشرجية والقضيبية ليست قاطعة التحديد فيما بينها وإنما كثيرًا ما تتقاطع وتختلط.
ما لفت نظرنا بشكل خاص هو ذلك التقاطع الواسع بين المرحلة الفمية والشرجية. قد يكون ذلك في حالتنـا بسبب الحرمان الفمي الذي مر به الكثير من أطفالنا حين انفصلوا عن أمهاتهم. لكن حتى الأطفال الذين أرضعوا بواسطة أمهاتهم في الحضانة وظلوا على اتصـال لصيق بـهـن أظهروا استمرارًا للرغبات الفميـة والـنهم الفمي والنشـاط الفمي الذي بدا أكثر امتدادًا عما توقعناه. فقد استمروا في مص الإبهام كمصدر أساسي للإشباع الشبقي الفمي، وفي العض كشكل رئيسي للتعبير عن العدوانية، واستمر ذلك حتى امتـد إلـى المرحلـة الشـرجية جنبًـا إلـى جـنـب مـع السلوكيات الشرجية. لقد كان الحد الفاصل بين الاهتمامات الشرجية والقضيبية أكثر وضوحًا مقارنة بهذا التقاطع بين الاهتمامات الفمية والشرجية
مـن نـاحيـة أخـرى ورغم التقاطع بين الملذات المـا قبـل تناسلية، كان من السكن التمييز بوضـوح بين المراحل الشبقية المختلفة على أساس من سلوك الطفل تجاه الأم أو بديلتها: اعتمادية نهمة (فمية)؛ رغبة شديدة ومؤلمة في الامتلاك (شرجية)؛ وسعي دائم إلى جذب الانتباه والتقدير مصحوبًا بحمائية مفرطة تجاه موضوع الحب (قضيبية).. لقد كان الأطفال يعبرون عن كل ذلك يوميًا، وفي كل ساعة وما بين دقيقة وأخرى من خلال سلوكهم (ص150)
إن تدقيقًا من هذا النوع، وأشكال التفاوت بين المعرفة التحليلية والمعلومات الناجمة عن الملاحظة في هاسبستيد، وخبرة التعرف على اختلاف شكل الأحداث الأولى حين نراها تتكون، مقارنة بها حين نعيد بناءها من جديد في سياق تحليل البالغين، والحالات التي لم تتفق فيها توقعاتنا المبنية على التحليل النفسي مع المعلومات الناجمة عن الملاحظة – كل ذلك طرح عددًا من البرامج البحثية التي بدأتها أنّا فرويد فيما بعد من خلال برنامج البحث والتدريب الذي أسسته بعد الحرب. وقد استمرت المحللتان في دراستهما الدقيقة للأمهات والأطفال من خلال العمل من أجل إدماج الأمهات في تحليل أطفالهن وكذلك من خلال تنظيم عدد من التحليلات المتزامنة للأمهات والأطفال قامت بها أطراف ثالثة. لقد تمت غربلة تلك النتائج على مدى الخمسة عشر عامًا التالية قبل أن تنشرها أنّا فرويد في بحثهـا الشامل الذي أصدرته عام 1965 بعنوان الطبيعي والمرضي في الطفولة. ومن هنا أدرجت تلك النتائج في أعمال أنّـا فرويد التي قامت بها في عدد من المجالات، تراوحت بين علم الأطفال إلى نظرية القانون، من الطب النفس جسدي إلى طب نفس المراهقة.
إن كتابًا بعنوان الطبيعي والمرضي في الطفولة ما كان له أن يكتب اليوم. ذلك أن تشديده على ما هو طبيعي وما يخلص إليه من إمكانية التمييز بوضوح بين ما هو طبيعي وما هو مرضي لم يعد ملائمًا في ظل التحليل النفسي المعاصر، بل وفي مركز أنّا فرويد في لندن. ونظرًا لأن هذا العمل الشامل بواسطة أنّا فرويد يرتكز بدرجة كبيرة على نظرية فرويد حول الدوافع الغريزية، والتي كانت محط مراجعة وانتقاد من كافة الاتجاهات الأيديولوجية تقريبًا في الفترة الأخيرة، فإن أنّا فرويد تعتبر حاليًا من المحافظين في علاقتها بالآخرين من جيلها، وبكل تأكيد في علاقتها بالرواد من الجيل التـالي مـن أمثـال وينيكـوت ولاكـان وكوهـوت، الذين اتسـع تـأثيرهم بدرجة جعلتهم موضوعًا للدراسات التاريخية ودراسات السيرة الشخصية.
كذلك فإن أعمالها المبنية على ملاحظة الأهل مع الأطفال حديثي الولادة طغت عليها أعمال مستندة أيضًا إلى ملاحظة الأهل مع الأطفال حديثي الولادة، لكنها تطرح نظريات نقدية لنظريتها. إن النظر إلى الأمر من منظور مؤرخين ومحللين نفسيين يرون في اللحظة الحالية لحظة “ما بعد فرويد” يجعل أنّا فرويد –وعلم نفس الأنا بشكل عام– يبدو وكأنه تراث أرثوذوكسي من عصر مضى. لكن الأمور سوف تبدو مختلفة تمامًا، كما حاولت أن أطرح في هذا المقال، لو أنها كانت تدرس في الوقت الحالي باعتبارها شخصية تقدمية وليس باعتبارها شخصية محافظة. اليوم أصبح هناك قدر كبير من التأكيد على أهمية البحث في مجال التحليل النفسي. لقد قدمت أنـّا فرويد نموذجًا رائعًا كباحثة، من بداية الثلاثينات، ثم كمنسقة مع دوروثي بورلينجهام في حضانات هامبستيد في الأربعينات، ثم فيما بعد كمساهمة في تأسيس مركز هامبستيد في الخمسينات، والذي ظل لعقود أهم مركز بحثي في مجال التحليل النفسي على مستوى العالم. ومن هذا المنظور يتضح كم كانت أنّا فرويد، مدعومة ببورلينجهام، مجددة فيما ركزت عليه فيما يعرف اليوم “بثنائية الأم والطفل“.
لقد أسفرت مؤسسات أنّـا فرويد ومشروعاتها البحثية الكثيرة عن مفهـوم شـديد الأهمية هو مفهوم “خطوط التطور“. وفي آخر عقد من عمرها، في السبعينات، تولد عن هذا المفهوم مجال جديد تمامًا أطلق عليه اسم “مرضيات التطور“، إضافة إلى ابتكارات علاجية كثيرة للتعامل معها بما في ذلك الابتكارات التي انبثقت عن إشراف بورلينجهام على التحليلات المتزامنة لكل من الأمهات والأطفال. وبسبب تلك الفكرة الشائعة، بأن أنّا فرويد كانت محافظة، لم يسع أحد إلى دراسة كل تلك الأعمال خارج مركز أنـّا فرويد، رغـم أن بعض المحللين النفسـين مـن أمثـال روز إدجكمـب (2000 Edgecumbe ) العاملة بالمركز قد كتبت عنها لجمهور أوسع. لقد أثمر منهج أنّا فرويد في دراسة مجموعات مختلفة من الأطفال – أطفـال يعيشون في المؤسسات وأطـفـال نـازحين وأطفال ذوي إعاقـة وأطـفـال مـهـاجرين إلـخ– مـمـن تـأثر تطـورهم بعناصر مغيبة، وإبداعها في إيجاد السبل لمقارنة المعلومات الناجمة عن الملاحظة بالمعلومات الإكلينيكية التي حصلت عليها من خلال تحليلهم (الموثقة إجمالاً في مراجع هامبستيد التي كانت بمثابـة مجـال الاهتمام الرئيسي لـدوروثي بورلينجهام) أثمرت (على حد تعبيرها) في نظريات وممارسات إكلينيكية سوف تحتاج إلى جيل كامل لتطويرها. هاتان السيدتان اللتان شكلتا التحليل النفسي، دوروثي بورلينجهام وأنّا فرويد، أنجزتا ذلك في هدوء عن طريق ما أطلقت عليه أنّا فرويد اسم “الاستسلام الناكر للذات” أكثر من التأكيد المباشر أو الترويج لاستخلاصاتهن. إن تأثيرهن لا يمكن الحكم عليه من العناوين العريضة للتاريخ الحديث للتحليل النفسي، حيث إننا نجده في العالم الأوسع حيث وصلت أعمالهن إلى كل مؤسسة مهتمة برفاهية الأطفال.
*Elisabeth Young-Bruehl, “Anna Freud and Dorothy Burlingham at Hampstead: The Origins of Psychoanalytic Parent-Infant Observation”, The Annual of Psychoanalysis: Psychoanalysis and Women, ed. Jerome A. Winer, James William Anderson, and Christine C. Kieffer, Vol. XXXII, 185-197.
1. انظر/ي بورلينجهامBurlingham 1989)) لمزيد من المعلومات عن السيرة الحياتية لدوروثي بورلينجهام وأسرتها.
2.كانت هيلين دويتش (زوجة المحلل النفسي فيليكس، طبيب فرويد) أكبر من أنّا فرويد بعشرة سنوات لكن ملاحظاتها عن الأمومة جاءت بعد أعمال مجموعة أنّا فرويد الأولى في الثلاثينات. وصفت أنا فرويد (1953 A. Freud) الوضع كالتالي: “بعد أن انتشرت المعرفة بشأن الجنسانية الطفولية وأشكال تحولها بين دائرة العاملين في التحليل النفسي، بدأت ملاحظة (سلوكيات) الأطفال. كانت هذه الملاحظات تتم بداية بواسطة الأهل الذين كانوا إما محللين أو يخضعون للتحليل وكانوا يراقبون أطفالهم ويدونون ملاحظاتهم بانتظام في أعمدة خاصة بدوريات التحليل النفسي في ذلك الوقت” (ص١٤٤).
Balint, A. (1931). The Early Years of Life. New York: Basic Books, 1954. Burlingham, D. (1972). Psychoanalytic Studies of the Sighted and the Blind. New York: International Universities Press.
Burlingham, M.J. (1989). The Last Tiffany: A Biography of Dorothy Tiffany Burlingham. New York: Atheneum.
Edgecumbe, R. (2000). Anna Freud: A View of Development, Disturbance and Therapeutic Technique. London: Routledge.
Ferenczi, S. (1933). Thalassa: A theory of genitality. Psychoanal. Quart., 3:361-403.
Freud, A. (1927). Four lectures on child analysis (originally titled Introduction to the Technique of Child Analysis): The Writings of Anna Freud, Vol. I. New York: International Universities Press.
….. (1936). The Ego and the Mechanisms of Defense: The Writings of Anna Freud, Vol. II. New York: International Universities Press.
….. (1941). Infants Without Families: The Writings of Anna Freud, Vol. III. New York: International Universities Press.
…… (1951). Observation on Child Development. In: The Writings of Anna Freud. Vol. IV. New York: International Universities Press.
….. (1965). Normality and Pathology in Childhood: The Writings of Anna Freud, Vol. IV. New York: International Universitics Press.
Freud, S. (1900). The Interpretation of Dreams. Standard Edition, 4&5 London: Hogarth Press, 1953.
…… (1901). The Psychopathology of Everyday Life. Standard Edition, 6:1-291. London: Hogarth Press, 1960.
…… (1905). Three Essays on the Theory of Sexuality, Standard Edition, 7:136-234. London: Hogarth Press, 1953.
(1916-1917), Introductory Lectures on Psychoanalysis, Standard Edition, 15&16. London: Hogarth Press, 1963.
….. (1926). Inhibitions. Symptoms and Anxiety. Standard Edition, 87 – 175. London: Hogarth Press, 1959.
…..(1931). Female Sexuality. Standard Edition, 21:225-243. London: Hogarth Press, 1961.