أن تكوني نسوية أوروبية مسلمة: تصالُح الهويات
اسمي أسماء عبد الحميد، وأشتهر بأني أول امرأة مسلمة في أوروبا تعمل مقدمة برامج محجبة في قناة تلفزيون مملوكة للدولة، كما أني كنت أول امرأة مسلمة محجبة في أوروبا تترشح للبرلمان الدنماركي. بالإضافة إلى ذلك، فقد درست في جامعة ليليبيلت (Lillebaelt) وحصلت على درجة علمية في العمل الاجتماعي.
وقد ولدت عام ١٩٨١ في دولة الإمارات العربية المتحدة، ثم انتقلت مع أسرتي إلى الدنمارك بوصفنا لاجئين فلسطينيين في سبتمبر عام 1986. وقد كنا الأسرة المسلمة الوحيدة في الحي الذي سكناه في الدنمارك، ومع ذلك أتذكر أن حياتي كانت آمنة ومريحة دون أن يخالجني أي شعور بالاختلاف عن الأطفال من حولي. وقد كان الناس الذين نعيش وسطهم يحترمون اختلافنا، وكنا جميعًا نعيش في تآلف.
وقبل أن أعرض لموضوع كلمتي الرئيسي وهو النسوية، قد يكون من المفيد أن أتناول سريعًا مفهوم العِرْق أو الهوية. من أنا؟ وكيف ينظر الآخرون لمن هم مثلي؟ لقد ولدت في أسرة مسلمة وهاجرت من دولة عربية إلى مجتمع أوروبي. هل يعد مَن هم مثلي عربًا؟ أم دنماركيين؟ أم مسلمين؟ وأجيب بأنني فلسطينية دنماركية مسلمة. أنا هؤلاء الثلاثة في آن واحد. وليس علىَّ أن أختار واحدة وأنحّى الأخريين. في الواقع أشعر بالتميز لكوني فلسطينية ودنماركية في آن واحد، وأفضل أن أصف نفسي بأنني“دنماركية ذات هوية مزدوجة” وهو ما يعني أنني دنماركية إلى جانب هوية أخرى. هكذا أرى نفسي. ولكن واقعي يختلف عن ذلك.
بدأت في عام ٢٠٠٦ العمل مقدمة لبرنامج حواري اسمه آدم وأسماء (Adam and Asmaa)، وقد كان البرنامج معنيًا بتناول الفجوة الثقافية والدينية بين الإسلام والعالم الغربي، وعلى الأخص في موضوعات السياسة والمجتمع والاندماج المجتمعي. وكان البرنامج يسعى إلى تعميق فهم زوايا الرؤية المختلفة والمتعددة التي يتبناها كل منا في هذا البلد بعد أزمة الرسوم الكاريكاتورية الشهيرة 1، أو بالأحرى ذات السمعة السيئة، التي واجهتنا في الدنمارك عام ٢٠٠٥. وجاء محتوى البرنامج الذي كان يذاع على شاشات التلفزيون في البيوت الدنماركية ليخلق اتجاهًا غير مسبوق. ففي الحلقة الأولى شاهد الناس للمرة الأولى في حياتهم امرأة مسلمة عربية ترتدي الحجاب تقدم برنامجًا على قناة مملوكة للدولة. وقد جاء رد الفعل سلبيًا في بعض الحالات. أذكر أن بعض النسويات المخضرمات قد اعترضن على دوري بوصفي مذيعة ترتدي الحجاب، سائقات الحجج بأن الحجاب يمثل رمزًا للقهر، ولذلك فقد طلبن من القناة أن تنهي تعاقدها معي. وبمرور الوقت، جذبت القضية اهتمامًا عالميًا، وتوافد الصحفيون، ليس من الدنمارك فقط ولكن من كافة أنحاء العالم، لإجراء مقابلات معي. لم يكن هاتفي يتوقف عن الرنين. والمفارقة كانت أنه بينما اعتبر بعض الصحفيين قصتي دليل نجاح يعكس انفتاح سوق العمل أمام النساء، فقد اعتبرها آخرون أزمة تواجه تحرر النساء.
وقد جاء دوري بوصفي مقدمة برامج وشخصية سياسية مهمًا للغاية في سياق النسوية، وليس سرًا أن ارتداء غطاء الرأس قد شكل أمرًا مثيرًا في أوروبا والعالم العربي وخلق مساحات للنقاش حول حقوق النساء والمساواة والفرص المتاحة أمامهن. ولكن أصبح لزامًا علينا وقتها أن نرى كل ذلك في ضوء جديد.
وحتى أكون أمينة، فقد كان من الصعب عليَّ أن أقوم بعملي في الوقت نفسه الذي كنت أحاول الإجابة عن سؤال مفاده من عساي أكون. وبوصفي مسلمة، فقد توقعت أن ألقى معارضة، ولكن ما فاجئني كان اتهام بعض النسويات لي بالترويج للفصل التعسفي بين النساء والرجال. لقد كان من المحزن أن نجد أنفسنا في مواجهة نسويات مخضرمات يملون علينا ما ينبغي للمرأة أن تفعل أو لا تفعل. لا يعني ارتدائي لغطاء الرأس أنني امرأة مقهورة، ولم أعتبر يومًا غطاء رأسي علامة على القهر. يمثل ارتداء غطاء الرأس بالنسبة لي رمزًا للحرية، ورمزًا للتحرر. قلت لنفسي وقتها: هل نسيت النسويات اللاتي كن يوجهن النقد لى أنهن كن في الماضي يكافحن من أجل الحصول على حقهن في الاختيار؟ هل نسين كيف كان المجتمع يحكم على مطالبهن؟ أليس هذا هو حالهن نفسه عندما يعتبرن النساء المسلمات اللاتي يرتدين الحجاب مقهورات من قبل الرجال أو الدين أو من ثقافة بعينها؟ من يمارس الحكم على الآخرين الآن؟ هل سألن النساء اللاتي يحكمن عليهن عن آرائهن أو مشاعرهن، أو ما إذا كن اتخذن قراراتهن بأنفسهن؟
يبدو أن بعض النساء يعتبرن أنفسهن عارفات بما هو الأفضل لكل النساء، الأمر الذي يكون في بعض الأوقات أسوأ بكثير من أن يطلق الرجال الأحكام عليهن! وقد شعرت وقتها للمرة الأولى أن هناك أشخاصًا يمارسون إقصائي عن مجتمعي الصغير. ولكن فجأة انضمت جماعات نسوية أخرى إلى الحوار القائم وأعلنّ عن دعمهن لي بوصفي مقدمة برامج في التلفزيون، وكان من بين هذه الجماعات مركز Kvinfo (المركز الدنماركي للمعلومات عن النوع الاجتماعي والمساواة والعرق).
هل هناك صورة وحيدة ليس إلا للمرأة الحرة؟ أم هناك صور متعددة للنساء المتحررات؟ استمر الحوار لأسابيع عدة، وشهد خلافات كثيرة بين الجماعات النسوية. وبالنسبة إلى المهاجرين، فقد تعلم البعض أن قيمهم الأساسية مختلفة عن تلك التي يحملها الدنماركيين، كما شعر بعض المنتمين إلى أقليات عرقية أنهم غير مندمجين في المجتمع، وبخاصة الفتيات منهم.
وباعتباري امرأة دنماركية مسلمة فقد نشأت وأنا أؤمن بحقوق النساء وفقًا للإسلام، وأجد تلك الحقوق تتماشى مع المجتمع الذي أعيش فيه. ولكني اعترفت وقتها كذلك بأن جزءًا من ثقافة المجتمعات العربية يتسم بالقيود التي تحاصر النساء. ورغم أنني كنت أعمل في وظيفة إدارية فقد قال لي العديد من الرجال العرب أن تلك الوظيفة ليست ملائمة للمرأة. لاحظت وقتها أن هناك فارقًا بين الإسلام بوصفه دينًا والثقافة الأبوية التي تدعي أنها الدين. يسمح الإسلام للنساء بالتحدث في أماكن عامة والتعبير عن آرائهن. ولكن كثيرًا من الرجال أخبروني أن على النساء العرب البقاء في البيت. وقد ظهرت أمامي وقتها وجهتا نظر متعارضتان: وجهة نظر الإسلام من جهة، والتوقعات التي ينتظرها جزء من الجالية العربية في الدنمارك من جهة أخرى. وقد قررت أن أختار: اخترت أن أكون مسلمة دنماركية وأن أرفض التفسيرات المتشربة بالسياق الثقافي التي كانت تقيدني من قبل.
لقد كان الأمر واضحًا. فقد نشأت وأنا أفكر في نساء مسلمات كن المثل الأعلى لي. أولاهن خديجة زوجة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، التي كانت سيدة أعمال كبيرة في مكة، وكانت تحظى باحترام الرجال والنساء على حد سواء. أما الثانية فهي عائشة، إحدى زوجات النبي الأخريات، التي كانت تعد معلمة ورائدة عظيمة لصحابته. كانت امرأةٌ هي أول من آمن بالنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) واعتنق الإسلام: خديجة. وكم أود أن يكون لي مكان متواضع بين هؤلاء النسوة العظام. وبوصفي امرأة حرة، فقد أردت أن أتخذ قرارًا حرًا.
لقد تعلمت طيلة حياتي تحمل المسئولية – أن أعطي وأتطور وأشارك وأن أكون فاعلة. كما تعلمت أن المجتمع القوي هو المجتمع الذي يعم فيه التعاون، فالإنسان بمفرده لا يقدر على تحقيق شيء، ولكننا يمكن أن نحقق الكثير معًا. وقد قررت أن أكون في المقدمة، أن يكون لي دور مؤثر، أن أقدم أفكاري التي تحقق التغيير والتقدم للمجتمع. لقد شعرت بالمسئولية كما شعرت أن عليّ أن أنخرط في الحياة العامة. وقد كان تخصصي الرئيس السياسات الاجتماعية، ولذا فقد كان من الطبيعي وقتها أن أنخرط في السياسة، بوصفي مترشحة وعضوة في مجلس المدينة في البداية، ثم مترشحة في البرلمان الدنماركي. وهنا تأجج الجدل حول غطاء الرأس من جديد، ولكن في صورة أكثر حدة هذه المرة.
كنت أسأل نفسي كثيرًا وقتها: هل ينبغي أن أرضخ، هل أنهي مساري المهني السياسي، فأتزوج وأنجب أطفالاً؟ هل ينبغي أن أسمع ما يقال وأضع غطاء الرأس جانبًا وأحصل على منصب إداري بمرتب كبير؟ أم هل ينبغي عليّ أن أنظر في المرآة وأسأل نفسي: ماذا تريدين أن تفعلي؟ ليس من السهل أن تكوني امرأة يحكم عليها كل من حولها. ولكن ذلك لم يشعرني قط بأنني ضحية – مقيدة ولا حول لي ولا قوة. ذلك لأنني عندما أنظر في المرآة أرى المرأة التي أريد أن أكونها. أعرف أن القوة تكمن في اتخاذ قرارات مستقلة. دع الناس يقولون ما يشاءون، ولكنني في نهاية المطاف، وبوصفي امرأة حرة، علي أن أدافع عمن أكون وعن الخيارات التي أختارها لنفسي. عليَّ أن أحيا حياة لائقة، وأن أنظر دومًا في المرآة وأتبين الوجه الذي يطالعني فيها.
كان السؤال هنا: هل من الممكن السماح لامرأة ترتدي غطاء الرأس بحضور جلسات البرلمان الدنماركي؟ وجاءت الإجابة:”نعم، بالطبع“، قرر مكتب البرلمان أنه بإمكان النساء اللاتي يرتدين غطاء الرأس أن يقفن أمام منبر البرلمان. كان ذلك بمثابة انتصار كبير لحقوق النساء وللمساواة في المواطنة. ليس هناك ثمة فارق بين الدنماركيات غير المسلمات والدنماركيات المسلمات اللاتي ترتدين غطاء الرأس.
يكمن جوهر الوعي النسوي في أن تتخذي قراراتك الحرة بوصفك امرأة، سواء كنت ترغبين في البقاء في البيت وتربية الأطفال أو أن تعملي وتربي الأطفال في الوقت ذاته، أو ألا تنجبي في المقام الأول. وهكذا، فقد تمثل فهمي للنسوية في أنها معنية بتغيير المؤسسات التي تضع النساء رهينات لأنماط في الحياة لا يردن أن يكن جزءًا منها. تعني النسوية بتمكين النساء من أن يكنَّ من يردن أن يكنَّ.
ولكن النسوية المعاصرة لا تقتصر على النساء، بل إنها تتعلق بالجنسين معًا، الرجال والنساء. لماذا؟ لقد كان أبي، وليس أمي فقط، شخصًا بإمكاني الاعتماد عليه في كل وجه من أوجه حياتي، شخصًا يشعرني بالأمان والتصميم. لم أكن أستطع الاستغناء عن الدعم الذي أمدني أبي به. كان يدعم رؤاي وأحلامي. هو نفسه تحرر من فكرة أن الرجال متفوقين على النساء، أو أن هناك فوارق تراتبية بين النساء والرجال. لم يكن أبي يكتفي بمشاهدتي، لم يكن يدعمني من الخارج فقط. لا! لقد كان مهتمًا بصدق، وكان يحلم معي. بعبارة أخرى، فقد أصبح هو نفسه معروفًا بكونه نسويًا.
واليوم أصادف فتيات كثيرات يحلمن أن يعملن بالسياسة. وقد أرعبهن ما مررت به، ولكنهن ما زلن يحلمن، وسوف يحققن ما يحلمن به، لأن عائلاتهن تدعمهن. فلم تعد المعركة خافية عنهن أو عن عائلاتهن.
علينا جميعًا يومًا ما، بشكل ما، أن نضيق الفجوة وندعو الرجال إلى التضامن، وإلا فسوف تأخذ سفينتنا طريقها للغرق رويدًا رويدًا. ماذا يدعو الرجال إلى الاهتمام؟ لأن المرأة هي أم الرجل، وتحتاج الزوجة زوجها كما يحتاجها زوجها، وتحتاج الابنة أباها كما يحتاجها الأب. على كلا الجنسين أن يدعم أحدهما الآخر.
لا يزال تحرر المرأة يمثل قضية مهمة في المجتمع الدنماركي، وفي مجتمعات أوروبية أخرى، كما في الدول العربية. نرى كذلك أن دور النساء يكون أوضح في مجتمعات محلية عن غيرها. وتبرز في سياق النسوية أهمية قضية الصراع الإنساني من أجل قيمة المساواة – صراع البشر أجمعين، دون النظر إلى الجندر أو لون الشعر ولون البشرة أو الانتماءات السياسية أو الخلفية الاقتصادية أو مكانة العائلة أو غيرها من الأمور. إنه الصراع من أجل الحصول على فرص متساوية في كافة مناحي المجتمع، وأن نواجه مسئوليات متساوية نحترمها ونضطلع بها.
إن المجتمع الناجح هو الذي تسود فيه المساواة بين الجنسين، مجتمع يشارك فيه كل مواطنيه، مجتمع يعي الفروق الجنسانية، ولكن أيضًا يتحمل الرجال والنساء فيه مسئولية مشتركة، لا تقتصر فيه مشاركات الأفراد من كل جنس على المجالات التي تخدم احتياجاتهم الخاصة، ولكن تتسع لتشمل الاهتمام بقضايا بعضهم البعض. بدون الرجال لن تكون النساء، وبدون النساء لن يكون الرجال.
1 بدأت أزمة الرسوم الكاريكاتورية التي تناولت النبي محمد في سبتمبر ٢٠٠٥ بعد أن نشرت صحيفة يلاندز بوست (Jyllands-Posten) الدنماركية في مقالتها الافتتاحية ١٢ رسمًا كاريكاتوريًا جاء معظمها يصور النبي محمد، مما أثار اعتراض جماعات المسلمين في الدنمارك. وقد تسبب ذلك الموضوع بعد ذلك في موجة من الاحتجاجات في دول كثيرة حول العالم.