أهمية “الدراسات النسائية” في الجامعات المصرية
تاريخ النشر:
2007
اعداد بواسطة:
أهمية “الدراسات النسائية” في الجامعات المصرية
من منظور النوع الاجتماعي (*)
تتناول هذه الورقة جانبا حيويا من قضايا المرأة والنوع الاجتماعي من حيث العوامل الثقافية والاجتماعية المتعلقة بالنهوض بالنساء، مع التركيز على دور التعليم في نهضة النساء. ومن منطلق كون قضايا النساء تتجاوز حدود الزمان والمكان، وإيانا بأن الحركة النسائية هي حركة ممتدة تاريخيًا، قد تشهد لحظات صعود وهبوط تبعا لحركة التاريخ، تسعى هذه الورقة إلى تأكيد أهمية التركيز على قضايا النساء في التعليم، وإفراد مراكز بحثية متخصصة في الدراسات النسائية. ومن هنا تنقسم الورقة إلى جزءين، يتم في الجزء الأول إلقاء نظرة تاريخية على بدايات الحركة النسائية المصرية باعتبارها حركة كانت – وما زالت – تستهدف النهوض بالمرأة المصرية، وبالتالي المساهمة في تحقيق نهضة فكرية وثقافية على مستوى المجتمع ككل1. أما في الجزء الثاني فيتم طرح تصور مبدئي لبرنامج الدراسات النسائية في الجامعات المصرية، بما يتيح مساحة أكاديمية جادة للبحوث في مجال قضايا النساء، وبالتالي العمل على خلق مجال معرفي يسهم في التعريف بمفاهيم الدراسات النسوية وتشجيعها ونشرها بحيث تسهم جنبا إلى جنب غيرها من مؤسسات النهوض بالنساء في تغيير المفاهيم الرجعية التي لم تعد تواكب حركة تطور العصر والبشر. وباستدعاء الماضي تسعى هذه الورقة إلى تأكيد دور النخب المثقفة في صياغة مجتمعها من خلال الجهود الفردية والمؤسسية، وعلى رأسها في هذا السياق المؤسسة الجامعية الأكاديمية. وفي الختام تبين هذه الورقة أهمية قيام مركز للدراسات النسوية المتخصصة في الجامعات المصرية، إحياء لفكرة دراسات الفرع النسائي التي صاحبت تأسيس الجامعة المصرية ثم ما لبثت أن توقفت في بدايات القرن الماضي2.
إن الفكرة المغلوطة السائدة حول مفهوم الحركة النسائية هي أنها تتكون من جهود بعض النساء من أجل الحصول على حقوق فئوية قد تتعارض مع مصالح المجتمع ككل، بل إن كثيرًا ممن يعترفون نظريا بشرعية قيام حركة نسائية تطالب بالمساواة والعدالة الاجتماعية على أساس النوع (الجندر) إنما يرون أن المطالبة بحقوق النساء هي مرحلة ألا يجب تحتل موقع الأولوية على أجندات العمل السياسي نظرا لكونها قابلة للحل تلقائيا بمجرد تطبيق مفاهيم الديمقراطية أو الليبرالية أو الاشتراكية الشاملة. ومن هنا أرى أهمية التأكيد أن الحركة النسائية هي حركة اجتماعية مبنية على فرضية خضوع النساء لصور من القهر والتهميش والاستبعاد في المجتمع، وهي حركة تسعى من أجل تغيير أوضاع النساء في سبيل العدالة والمساواة.
وفي مصر، عادة ما يتم التأريخ لميلاد الحركة النسائية المصرية بخروج النساء في مظاهرات ثورة 1919 ضد الاحتلال البريطاني التي تفجرت عقب نفي سعد زغلول ورفاقه من البلاد في أعقاب تصاعد الخلاف بينه وبين سلطات الاحتلال، كما تميل المصادر التاريخية إلى إرجاع الأسس الفكرية لتنامي الوعي النسوي وحقوق المرأة إلى جهود مفكرين مصلحين من أمثال جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وقاسم أمين. لكن البحث المتأني في مصادر التاريخ الرسمي وغير الرسمي يشير إلى أن خروج نساء مصر إلى المجال العام مطالبات بالتحرر من قوى الاستعمار قد بدأ قبل عام 1919 بعقود عديدة، كما أن إرهاصات الوعي النسوي لم تقتصر على الفعل السياسي الحزبي المنظم ولم تعتمد بالضرورة على أيدي المصلحين الرجال، وإنها عبر ذلك الوعي عن نفسه حينذاك في دعوة المثقفات المصريات على سبيل المثال إلى إعادة النظر في النظم الاجتماعية وحقوق النساء في إطار مشروع النهضة المصرية الشاملة. ومن هنا كان اندلاع ثورة 1919 التي شهدت سير المرأة المصرية في مظاهرة نسائية عامة يوم 16 مارس 1919 هي لحظة تلتها بل وسبقتها لحظات أخرى تقاطعت فيها قضية تحرير الوطن بقضية نساء هذا الوطن.
تشير المصادر التاريخية الرسمية منها وغير الرسمية إلى تنامي وعي النساء المصريات بحقوقهن وتعبير هن عن هذا الوعي بداية من نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وإذا كانت بعض نساء الصفوة المثقفة قد اقتبسن الخطاب النهضوي ودعون إلى حصول المرأة على حقوقها في سبيل نهضة البلاد، فإن التأمل في كتابات نساء تلك الفترة وأعمالهن ومطالبهن يكشف عن وجود خيط يجمع ما بين أهداف رفعة الوطن من ناحية وحقوق المساواة والمواطنة والمعرفة والعمل. وقد كانت عين المفكرين والمصلحين من الرجال متجهة صوب النهضة بأبناء وبنات مصر من أجل النهضة بالوطن وسعيا إلى التحرر والتخلص من النفوذ الأجنبي ردا على توظيف الخطاب الاستعاري لقضية المرأة كمبرر للاستعمار. أما الفكر النسوي فكثيرا ما عبرت رائداته عن اهتمامهن الأساسي والإضافي بإصلاح المجتمع والنهضة الثقافية والاجتماعية الشاملة، ومن هنا تميز نشاط المثقفات المصريات في بدايات القرن العشرين بالعمل الاجتماعي من خلال الجمعيات المختلفة والعمل الثقافي عن طريق إصدار الكتب والمجلات النسائية التي تتبنى قضايا المرأة المصرية. وتذكر “بث بارون” في كتابها عن “النهضة النسائية في مصر” الدور المهم الذي لعبته الصحافة النسائية بداية من مجلة “الفتاة” الشهرية لصاحبتها “هند نوفل” التي أنشأتها في عام 1892 “للدفاع عن حقوق النساء والتعبير عن وجهة نظرهن“، وما لبثت أن توالت الإصدارات النسائية الصحافية مثل “أنيس الجليس” عام 1898، والعديد من المجلات الأخرى اللاحقة مثل “فتاة الشرق” عام 1906 لصاحبتها لبيبة هاشم و“الجنس اللطيف” لملكة سعد في عام 1908. 3 وقد نشأت الصحافة النسائية في مصر متزامنة مع صعود الحركة الوطنية، وعلى الرغم من عدم تبني تلك الصحف القضايا السياسية بصورة مباشرة فإنه “مع ظهور حركة وطنية كان لابد من خلق تصور جديد عن المجتمع وانتهاءاته، وبالتالي إعادة التفكير في الأسرة والأدوار الاجتماعية والثقافية للجنسين. وهي القضايا التي حملتها الصحافة النسائية على عاتقها“، 4 وأصبحت المجلات النسائية منبرا لمناقشة قضايا تخص علاقة المرأة بالمجتمع، مثل مسائل الزواج والطلاق وتعدد الزوجات والحجاب والتعليم والعمل إلى جانب دورها في تناول شئون الأسرة والمنزل.
وتؤكد إجلال خليفة الدور الكبير الذي ساهمت به الصحافة النسائية تحديدا في بلورة العديد من القضايا التي شغلت الحركة النسائية المصرية ومنبرا لعرض نماذج من الحركة النسائية في العالم، حيث خرجت المرأة المصرية إلى مجال الإعلام معبرة عن مواقفها السياسية والاجتماعية والثقافية.5 وقد قامت الصحافة النسائية بالدور الأكبر في إثارة القضايا للجدل والنقاش وأدت إلى قيام حركة فكرية حول قضايا المرأة والمجتمع، ورغم قيام المجلات بمبادرات فردية فإنها بوجودها جنبا إلى جنب قد أسهمت في إحداث تأثير هو أقرب إلى العمل الجماعي الفعال. وفي سياق مجتمع “ربات الخدور” ومع غياب وسائل الإعلام كانت الكلمة المكتوبة وسيلة التواصل بين النساء وتجاوز الحجب فيها بينهن وبين مجتمعهن، وما في ذلك من شحذ لهممهن وتكثيف جهودهن في النضال من أجل حقوقهن.
وإلى جانب العمل الصحفي وتنامي الوعي النسوي المعرفي وتناقله على صفحات الجرائد والمجلات شهدت بدايات القرن العشرين اشتغال النساء بالعمل التطوعي من خلال الجمعيات بما كان يمثله ذلك لهن من احتلال مساحة ما بين حدود العام والخاص، حيث أن القيام بالعمل الخيري من رعاية المرضى والأيتام والاهتمام بتعليم الأطفال هو أقرب من منظور المجتمع إلى مجالات عمل النساء. لكن قيام النساء بهذا العمل قد أناح لهن مساحة خارج إطار شئون البيت والأسرة وساهم في تواجدهن المشروع في مجال العمل العام. كما ظهرت على الساحة التجمعات الثقافية النسائية وقيام “صالونات” ثقافية تلتقي فيها النساء لمناقشة شئونهن ودراسة سبل الارتقاء بأوضاعهن في المجتمع. وإذا كان قد درج على تسمية حلقات النقاش تلك باسم “صالونات” (صالون الأميرة نازلي، وصالون مي زيادة على سبيل المثال) فإنما يعكس ذلك شكل تلك اللقاءات لا مضمونها لارتباطها بالطبقة الحاكمة والنخبة المثقفة. لكنه بالنظر إلى تلك “الصالونات” شكلا ومضمونا فإننا نتلمس دورها المهم في خلق وبلورة وعي النساء بقضاياهن بصورة تدريجية تراكمية راسخة. كما أنشئت الجمعيات الثقافية ولعل من أشهرها “اتحاد النساء التهذيبي” الذي أنشئ عام 1914 كرد فعل لغلق الفرع النسائي في الجامعة الأهلية، وكان الهدف من إنشائه إتاحة مجال المحاضرات التعليمية العامة المتبنية لقضية المرأة.
ورغم ازدحام الصحافة النسائية بآراء تعكس الجدل الدائر في بدايات القرن العشرين حول قضية المرأة وحقوق النساء، واقتصار ذلك الجهد على المبادرات الفردية والجماعية في الإطار الثقافي والاجتماعي، فإن “ملك حفني ناصف” قر قامت في إطار خطبة ألقتها في نادي حزب الأمة (عام 1909) في حضور المئات من السيدات بتحديد عشرة مطالب نسائية وجهتها إلى البرلمان، وهي:
1. تعليم البنات الدين الصحيح
2. جعل التعليم الأولي إجباريا للجميع وإتاحة فرص التعليم الابتدائي والثانوي للبنات
3. تعليم البنات التدبير المنزلي ومبادئ الصحة والتربية
4. تخصيص عدد من الفتيات لدراسة الطب ودراسة أسس التربية والتعليم
5. إطلاق حرية الفتيات في تعلم العلوم كافة لمن تريد
6. تربية الفتيات على الصبر والجد في العمل وغيرها من الفضائل
7. اتباع الطريقة الشرعية في الخطبة، فلا يتزوج اثنان قبل التقائها في وجود محرم 8. اتباع عادة نساء الأتراك في الحجاب والخروج
9. المحافظة على مصلحة الوطن والاستغناء عن الغريب من الأشياء والناس بقدر الإمكان
10. على الرجال تنفيذ المشروع 6
وقد ظلت قضية تعليم النساء هي القضية ذات الأولوية عبر تاريخ الحركة النسائية المصرية، بدءا من الدعوة للتوسع في إقامة مدارس للبنات، مرورا بمساواة الذكور بالإناث في المناهج الدراسية والوظائف التعليمية، وصولا إلى المطالبة بفتح أبواب الجامعة للنساء بداية من الأيام الأولى لنشأة الجامعة الأهلية وإقامة الفرع النسائي. وعلى الرغم من إغلاق الفرع النسائي بعد سنوات معدودة من نشأته فإن الجامعة المصرية فتحت أبوابها لنساء مصر عام 1928 على قدم المساواة بالطلاب مما ساهم بالتالي في ظهور جيل جديد من النساء اللاتي التحقن بسوق العمل العام بتخرج أول دفعة من طالبات الجامعة المصرية عام 1933، ثم تدرج بعضهن في المواقع الأكاديمية والمناصب العامة. وهكذا شهدت بدايات القرن قيام حركة نسائية تحدث عنها أحمد لطفي السيد في صحيفته الجريدة كالآتي:
كانت ترمي هذه الحركة النسائية في مصر إلى غرض أصلي كبير وهو تربية المرأة المصرية وتعليمها حتى تشعر لذاتها بوجود خاص وشخصية مستقلة لتستكمل حظها هي أيضا من الكمال الذاتي ولتنتفع وتنفع بخير الحرية المفيدة التي ما منعتها إياها شريعتنا ولكن أنانيتنا وفرط غيرتنا:
وقد كانت قضية تعليم الفتيات من أكثر الموضوعات المطروحة على الساحة الثقافية المصرية، فإلى جانب مدرسة المولدات التي أنشأها محمد على عام 1832، 7 كانت “المدرسة السيوفية” هي أول مدرسة أنشئت للفتيات وتم افتتاحها عام 1873 على أن تكون مدة الدراسة فيها خمس سنوات، ثم أنشئت مدرسة أخرى عام 1875 ضمت للسيوفية، وظل الوضع على ما هو عليه إلى أن تحول اسم المدرسة إلى المدرسة السنية منذ عام 1889، 8 ومع ذلك ظل المجتمع يتخذ موقفا مستهجنا تجاه تعليم الفتيات حيث تشير “نبوية موسى” على سبيل المثال في كتابها “تاريخي بقلمي” إلى نظرة المجتمع – والمتمثل في والدتها – إلى تعليم البنات باعتباره “خروجا على قواعد الأدب والحياء ومروقا من التربية والدين.”9 أما فيما يتعلق بأنصار تعليم الفتيات فقد ساد بينهم أيضا أكثر من اتجاه بشأن طبيعة هذا التعليم. إذ رأت الأغلبية قصر تعليم البنات على مفاهيم التربية وأسس التدبير المنزلي ومبادئ الدين، بما يهيئها للقيام بأدوار الزوجة والأم. أما الاتجاه الآخر وعلى رأسه رائدة تعليم الفتيات في مصر نبوية موسى فكانت تدعو بالمساواة ما بين الجنسين في التعليم والعمل، فكانت تدعو إلى التحاق الفتيات بالمدارس العليا التي تؤهلهن للعمل فتقول “لقد كنت أعمل جاهدة في أن تتساوى المرأة بالرجل في الوظائف وفي كل شيء.”10
وقد شهدت بداية القرن العشرين وعام 1901 تحديدا إتمام الفتيات المصريات لأول مرة المرحلة الابتدائية وذلك بحصول ملك حفني ناصف وفكتوريا عوض على الشهادة الابتدائية من المدرسة السنية. وشهد عام 1903 تعيين ملك وفكتوريا معلمتين في السنية بعد نجاحهما في دبلوم المعلمات. ثم تبعتها فيها بعد نبوية موسى لتعين أول معلمة للغة العربية ثم أول ناظرة مصرية لمدرسة ابتدائية للبنات عام 1909، ثم ناظرة لمدرسة معلمات المنصورة عام 1910. 11 وإن كنت قد أفردت بعض الوقت للإشارة إلى المناخ الثقافي السائد أوائل القرن العشرين وأوضاع التعليم المدني الرسمي – أي الخاضع للإشراف المباشر من وزارة المعارف – فإنما أهدف من ذلك محاولة تقديم السياق العام لتعليم الفتيات في مصر، ذلك السياق الذي خرجت منه رائدات النهضة النسائية المصرية من أمثال باحثة البادية ملك حفني ناصف ونبوية موسى، وهما أيضا من أبرز المحاضرات في الجامعة المصرية عند إنشائها في بدايات القرن العشرين.
تذكر المصادر التاريخية أن اجتماع اللجنة التأسيسية لمشروع الجامعة المصرية قد عقد يوم 12 أكتوبر 1906 في منزل سعد زغلول تم خلاله الاتفاق على دعوة “الأمة المصرية” للاكتتاب للجامعة، وقد جاء في هذه الدعوة ما يلي:
إن جميع الذين يشعرون منا بنقص في تربيتهم العقلية، يرون من الواجب أن التعليم يجب أن يتقدم خطوة في بلادنا نحو الأمام، وأن أمتنا لا يمكنها أن تعد في صف الأمم الراقية، لمجرد أن يعرف أغلب أفرادها القراءة والكتابة، أو أن يتعلم بعضهم شيئا من الفنون والصناعات، كالطب والهندسة والمحاماة، بل يلزم أكثر من ذلك. يلزم أن شبابنا الذين يجدون في أوقاتهم سعة، ومن نفوسهم سعة واستعدادا، يصعدون بعقولهم ومداركهم إلى حيث ارتقى علماء تلك الأمم، الذين يشتغلون آناء الليل وأطراف النهار، بالهدوء والسكينة، لاكتشاف الحقيقة ونصرتها في العالم.
هذا هو العمل الذي نريد أن نشرع فيه، ونطلب عليه المساعدة من جميع سكان القطر.12
کما جاء في الدعوة أن الجامعة المصرية ستكون “مدرسة علوم وآداب، تفتح أبوابها لكل طالب علم مها كان جنسه ودينه“، كما تم نفي أية “صبغة سياسية” عن الجامعة.13 وقد لاقى المشروع تأييدًا من الصحافة المصرية مثل صحيفة المؤيد والجريدة اللتين شجعتا الفكرة ودعتا إلى الاكتتاب حتى قبل تكوين لجنة مشروع الجامعة المصرية. بينها اتخذ المعتمد البريطاني اللورد كرومر موقفا متحفظًا من مشروع الجامعة، فتذكر “هدى شعراوي” في مذكراتها أن موقف اللورد كرومر القائم على محاربة كل ما من شأنه تقدم البلاد قد دفعه إلى “تعيين سعد باشا وزيرًا للمعارف ليبعده عن الجامعة التي كان وكيلا لمجلس إدارتها. “14
وقد كان مشروع الجامعة يهدف إلى المساهمة في إحداث نهضة فكرية وثقافية في مصر مع الأخذ بالنماذج الجامعية الغربية، ومن هنا كان مشروع الجامعة النهضوي في بدايته يعتمد على الاستعانة بأساتذة أجانب من ناحية وإرسال بعثات من الأطفال إلى إيطاليا وسويسرا وفرنسا وألمانيا بجهود الأمير أحمد فؤاد في سبيل إعداد أساتذة المستقبل15، كما أرسلت الجامعة بعثات من الشباب بداية من صيف عام 1908 ليعود طلابها فينقلوا معارفهم وخبراتهم لجامعتهم ويتم بالتالي تدريجيا الاستغناء عن الأساتذة الأجانب. وهو ما عبر عنه عبد الخالق ثروت في خطبته التي ألقاها بمناسبة افتتاح الجامعة قائلا:
ولما كان من الضروري أن يكون التدريس فيها [أي الجامعة] باللغة العربية عولت اللجنة على أن تبعث بإرساليات إلى البلاد الأوروبية حتى إذا ما أتم أعضاؤها دروسهم واستقصوا العلوم التي انقطعوا لها هناك عادوا فقاموا بالتدريس باللغة العربية كل في علمه الذي اختص به. 16
وفي 21 ديسمبر 1908 تم افتتاح الجامعة المصرية في سراي “جناكليس” مقر إدارة الجامعة الأمريكية حاليا، والذي حضره الخديو عباس ومدير الجامعة الأمير فؤاد، وقد وصف أحمد لطفي السيد ذلك الحدث بوصفه “ذلك الاحتفال الاختياري الذي اجتمع فيه التاج والأمة ليعظموا قدر العلم وليثبتوا أقدام الجامعة وليضمنوا نجاحها.”17
إن مشروع الجامعة المصرية قد أخذ في اعتباره فئات المجتمع كافة رجالا وأطفالا ونساء. وكعادة المشروعات النهضوية الكبرى كان للمرأة مكانها المأخوذ في الاعتبار بصفتها شريكة أساسية في نهضة البلاد، وليس أدل على ذلك من وجود قاعة استراحة “محجوزة للسيدات“. إلا أنه من الجدير بالذكر أن القاعة لم تكن “محجوزة” إلى أجل غير مسمى، حيث ضمت قاعات المحاضرات منذ بدء الدراسة بالجامعة كلا الجنسين. ويورد أحمد عبد الفتاح بدير في کتابه حول نشأة الجامعة المصرية جداول تتضمن المحاضرات وأعداد الطلاب والطالبات منذ العام الأول لافتتاحها. ففي الفترة من 21 ديسمبر 1908 إلى 16 فبراير 1909 كان مجموع الطلاب المواظبين على حضور جميع المحاضرات يبلغ عددهم 2024 طالبا وطالبة، منهم طلبة منتسبون (أي منتظمون) وطلبة متطوعون أو مستمعون.18 وكان عدد الطالبات المنتسبات 22 سيدة إلى جانب المستمعات. ومن اللافت للنظر أن النساء كن يحضرن المحاضرات جنبا إلى جنب الرجال،19 رغم عدم وجود دلائل بشأن جنسية هؤلاء الطالبات حيث تذكر بعض المصادر حضور نساء أوروبيات من المقيمات في مصر المحاضرات في الجامعة المصرية. ولا يرد ذكر إحصائي دقيق لحضور المصريات المحاضرات في الجامعة المصرية إلا ابتداء من العام الدراسي 1909 -1910 عند التوسع في المحاضرات ليزيد عددها إلى ثماني محاضرات منها محاضرات خاصة بالنساء أو “درس النسائيات” كما يوردها أحمد عبد الفتاح بدير في جدول مفصل بكتابه.20
تشير إجلال خليفة إلى أن المحاضرات الخاصة بالسيدات جاءت نتيجة “لمطالب الجمعية الأدبية التي رأستها هدى شعراوي في بداية كفاحها في مجال الحركة النسائية“.21 وتذكر “هدى شعراوي” في مذكراتها بإيجاز شديد قصة أولى المحاضرات الخاصة بالنساء، فتشير إلى زيارة الخطيبة والكاتبة الفرنسية من القائمات بالحركة النسائية مدموازيل مارجريت کلیان لمصر فدعتها هدى شعراوي إلى إلقاء محاضرة عن المرأة الشرقية والغربية، وتم الاتفاق على أن تكون المحاضرة تحت رئاسة الأميرة عين الحياة، فتحدد للمحاضرة يوم الجمعة 15 يناير 1909 في مقر الجامعة المصرية22 وتصف الحدث كما يلي:
وكانت هذه أول محاضرة ألقيت على جمع من السيدات في الجامعة المصرية. وقد لقيت نجاحًا وتقديرًا شجعاني أن أطلب من “الآنسة كليان” أن تعود إلينا بعد ذلك لتلقي سلسلة محاضرات مفيدة على سيداتنا، وبخاصة بعد أن رتب سمو الأمير محاضرات خاصة للسيدات أيام الجمع.23
ولعل لبيبة هاشم لعبت دورا في إنشاء قسم السيدات أو القسم النسائي داخل الجامعة المصرية بدءا من العام الدراسي التالي 1910 -1911. كما تشير هدى شعراوي إلى قيام ملك حفني ناصف فيما بعد بإلقاء محاضرات في الجامعة ذلك إلى جانب محاضراتها في قاعة بصحيفة الجريدة.24 ويبدو أنه قد تمت دعوة ملك حفني ناصف لإلقاء محاضرات في الجامعة المصرية عن “المرأة المصرية والمرأة الغربية” نشرتها لبيبة هاشم في مجلتها فتاة الشرق في مايو 1910، وهي مقالة طويلة تناولت مقارنة المرأة المصرية بالغربية في أدوار الحياة المختلفة سعيا للتوفيق بين النموذجين “واستخلاص زبدة الاثنين لنعمل بها“. 25 فبعد أن كانت محاضرات الجامعة تتضمن محاضرة واحدة للسيدات ضمن برنامج المحاضرات العامة تلقيها الآنسة كوفرير، أصبح هناك قسم خاص يعرف بقسم السيدات أو الفرع النسوي أو الفرع النسائي26 في الجامعة المصرية جنبا إلى جنب قسم الآداب والفلسفة وقسم العلوم الاجتماعية والاقتصادية. أما عن محاضرات هذا القسم فكانت كالآتي:
1) علم النفس والأخلاق الخاصة بالنساء، وهي محاضرات تلقيها بالفرنسية الآنسة کوفریر
2) مواضيع عصرية تلقيها بالعربية السيدة نبوية موسى ناظرة مدرسة معلمات المنصورة
3) مواضيع في التربية تلقيها بالعربية لبيبة هاشم صاحبة مجلة فتاة الشرق
4) ومواضيع طبية في علم حفظ الصحة باللغتين العربية والفرنسية.27
ويلاحظ حدوث تطوير كبير في موضوعات المحاضرات النسائية في الجامعة على مدى العامين الدراسيين الأخيرين من عمر الفرع النسائي الذي تم وقف محاضراته في مايو 1912، وقد جاء في تقرير عن الجامعة للعام الدراسي 1912- 1913 التبرير التالي المبهم لوقف محاضرات الفرع النسائي بعد الحماس الشديد الذي كان قد ارتبط بإنشاء الفرع:
أما الفرع النسوي الذي أنشئ بالجامعة، وأمه الكثير من عقائل الأسرات المصرية، فقد اضطرت الجامعة لوقف التدريس به هذا العام، حتى توفق لوضع الخطة التي تتبعها فيه، بحيث يكون موافقا لحاجات السيدات المصريات. 28
لكن من المثير للانتباه هنا أن تقرير الجامعة عن العام الدراسي 1912- 1913 قد أعلن توقف محاضرات الفرع النسائي، في حين أنه بالرجوع إلى عدد أكتوبر 1912 من الجريدة يتضمن جدول محاضرات الجامعة المصرية لنفس السنة أنه قد تم قصر محاضرات السيدات على “محاضرات باللغة العربية خاصة بالسيدات في علم حفظ الصحة سيما حفظ صحة الأطفال والتدبير المنزلي والتاريخ وغير ذلك“.29
ويثير هذا التدهور الشديد والمفاجئ في محاضرات الفرع النسائي بالجامعة المصرية أكثر من علامة استفهام. هل يرجع ذلك إلى مرور الجامعة المصرية الأهلية بضائقة مالية هي التي أدى تفاقمها فيما بعد إلى تسليمها للحكومة المصرية؟ وهل يرجع إلى ظروف حرب البلقان وبوادر الحرب العالمية الأولى التي دفعت المصريين إلى التقشف فقل الإقبال على محاضرات الجامعة لتوفير مصروفاتها؟ أم كان ذلك نتيجة لظهور أصوات تنادي بإنشاء جامعة خاصة بالنساء، وهي قضية دارت حولها مناقشات عديدة وتباينت فيها وجهات النظر على صفحات الجرائد؟ 30 أم أن السبب الرئيسي لوقف هذه المحاضرات يرجع كما تذكر إجلال خليفة إلى الموقف المحافظ لكثير من الرجال ممن تجمعوا أمام الجامعة للتعرض للنساء ومنعهن من حضور المحاضرات لما اعتبروه من خروج عن الآداب لخروجهن من بيوتهن وترددهن على الجامعة؟ 31 أم أن السبب الحقيقي هو الشعور بتنامي الحركة النسائية المصرية ونهضة المرأة المصرية نهضة تعليمية ثقافية قد تدفعها إلى المطالبة بحقوقها الإنسانية كذات مستقلة والخوف من تأثرها بالحركة النسائية العالمية واتساع مجالات طموحاتها فتطالب بحريتها وحقوقها السياسية والإنسانية، خاصة وقد تحولت محاضرات الفرع النسائي إلى منبر يتبنى قضية المرأة كقضية ذات الأولوية؟
كانت نبوية موسى (1886–1951) من رائدات تعليم الفتيات في مصر،32 وقد كانت مؤمنة بضرورة الوعي بخصوصية المرأة وضرورة تأكيد دور المرأة في التاريخ والحياة بشكل عام. ومن هنا كان أن لجأت إلى تأليف مناهج دراسية خاصة بتلميذاتها، ولعل من أبرز مواقفها في هذا الصدد هو انتقادها لكتاب “الفوائد الفكرية” لعبد الله باشا فكري والذي كان يدرس في المدارس الابتدائية، فقامت بتأليف كتاب “ثمرة الحياة في تربية الفتاة” والذي تم تحويله فيما بعد إلى كتاب للمطالعة العربية في مدارس البنات.33 وفي مقدمة كتاب المطالعة العربية توضح نبوية موسى منهجها التعليمي القائم على الاختيار لا الأمر والنهي والإجبار، فتقول:
ولما كنت فتاة أشعر بما تشعر به الفتيات وأعرف من أين يتأثرن وما يحرك عواطفهن ألفت هذا الكتاب لتلميذات السنتين الثالثة والرابعة من المدارس الابتدائية للبنات وجعلته حاثا على الآداب في أسلوب لا يظهر فيه أمر ولا نهي لأن الإنسان إذا أمر بشيء فربها ثقل عليه عمله أو نهي عن شيء تاقت نفسه إليه.. لذا شرحت الأمر الحسن ومدحته وبينت الشيء القبيح وذممته وتركت الفتاة تختار لنفسها ما شاءت… 34
ويكشف منهج نبوية موسى التربوي عن وعي بأن يخاطب التعليم خبرات المرأة بعيدًا عن الأدوار النمطية في إطار أدوار الأمومة والحياة الزوجية، فتنتقل بالمرأة إلى الحيز العام من خلال إلقاء الضوء على الأدوار السياسية البارزة التي لعبتها النساء المصريات والعربيات على مدار التاريخ الإنساني، كما أنه منهج يتميز بالمرونة ويقوم على مفاهيم الحرية والتفاهم الاختيار لا الأسلوب السلطوي الجامد الذي يرتكز على الأمر والنهي والإجبار. ولعل كتابها المرأة والعمل35 أيضا بما يتضمنه من موضوعات حول المرأة المصرية وتاريخ المرأة عبر العصور يمثل مؤشرا لفكر نبوية موسى الذي يربط التعليم بالعمل والذي انعكس بلا شك على مضمون محاضراتها في الجامعة المصرية. وهي تستهل مقدمة هذا الكتاب بقولها:
لقد بحثت في كتابي هذا عن تاريخ المرأة في بعض الأمم وعن مواهبها الفطرية؛ وما ينجع في تعليمها خصوصا ما يتعلق بالفتاة المصرية، ثم أظهرت ما يعوز ذلك التعليم وطرقت بعض مواضيع أخرى لها مساس بعلاقة المرأة بالرجل مستشهدة بذلك كله على احتياج المرأة إلى العمل لكسب قوتها…36
وقد كان لنبوية موسى بوصفها أول مصرية تحصل على شهادة البكالوريا وأول معلمة مصرية للغة العربية ثم أول ناظرة مصرية لمدارس البنات، أن تمت دعوتها عند إنشاء الفرع النسائي بالجامعة المصرية عام 1910-1911 للاستعانة بها كي تلقي محاضرات باللغة العربية حول موضوعات عصرية متنوعة، ثم طلب منها في العام التالي أن تلقي محاضرات حول التاريخ القديم والحديث قامت من خلالها بالتركيز على الشخصيات النسائية البارزة في التاريخ المصري والعربي. وفي أولى محاضراتها بالجامعة المصرية والتي نشرت في جريدة الأهرام بعنوان “المحاضرات النسائية في الجامعة المصرية” 37 تقول نبوية موسى:
كلفتني إدارة الجامعة هذا العام بتدريس تاريخ مصر وسنعلم منه إن شاء الله حالة نساء الفراعنة، كما يظهر لنا كفاءة المرأة في زمن العرب الفاتحين.
ويسرني أن أقول أن في كلا الأمتين المصرية والعربية قد بلغ الاهتمام بشأن المرأة شأوا بعيدا حتى ساوت الرجل أو كادت. ففي الأمة المصرية شاركته في سياسة الملك وتدبير الحروب. كما شاركته في تعضيد الصناعة وترقية البلاد… أما في الأمة العربية فقد شاركت المرأة الرجل في حروبه وشجاعته وزاحمته في أسواق الشعر والأدب…
ولعل السر في تقدم قدماء المصريين في العلم والحضارة كان في رقي نسائهم، کا كان نجاح العرب ناشئًا عن رقي المرأة رقيًا ضارعت به الرجال، والتاريخ كله شواهد ساطعة على أن الأمة إنا ترتقي بنسائها وتحط بانحطاطهن.38
وحين تتحدث عن دور المؤرخين الشرقيين في تدوين التاريخ تحمل عليهم إغفالهم ذكر إنجازات النساء من الملكات اللاتي حكمن البلاد فيها مضى من الزمان، فتقول:
انتبه الشرقيون بعد النوم وأرادوا تدوين التاريخ وقد درست آثاره، فأخذوا يترجمون تاريخ مصر عن الكتب الأجنبية. ومن العجيب أني قرأت بعض هذه الكتب المترجمة، فوجدت أن كتابنا الشرقيين سامحهم الله قد حذفوا في ترجمتهم كثيرًا مما يتعلق بذكر النساء.39
وهي تشير بذلك تحديدًا إلى ذكر ملكات مصر القديمة وإنجازاتهن في تاريخ الفراعنة. وهي تحاول تبرير ذلك بقولها إنهم لعلهم قد فعلوا ذلك خشية من تأثير إنجازات النساء في الماضي على ممارسة الرجل المعاصر سلطته على المرأة فتتساءل ساخرة: “أم خافوا أن تسمع نساؤنا ذلك فتعرف ما للمرأة من المكانة العالية وتخرج من ذلك الخمول والهبوط إلى العمل والحياة، فيصعب عليهم قيادتها كما يزعمون“.40
ومن اللافت للنظر أن محاضرات نبوية موسى كانت تمثل في حد ذاتها إعادة قراءة للتاريخ المصري وتكشف في الوقت نفسه عن وعيها بالدور الذي يلعبه المؤرخون في عملية التأريخ وما يصاحب ذلك أحيانًا من تجاهل واستبعاد لأدوار النساء في التاريخ العربي والمصري. فقامت نبوية موسى بمحاولة إلقاء الضوء على الأدوار التي لعبتها النساء في التاريخ المصري والعربي بهدف التأكيد على موقع تاريخ المرأة في إطار تاريخ الأمة. وقد كان التعليم والمعرفة ما السبيل نحو نهضة النساء والمجتمع، وهو ما كانت حريصة على تأكيده دوما، كما كانت تلك رسالتها التي وردت في إحدى محاضراتها ضمن محاضرات الفرع النسائي في الجامعة المصرية حين قالت:
… أريد أن تحيا المصريات حياة حقيقية، فيقبلن على العلم ويسعين إليه سعيا متواصلا فلا يمضي زمن حتى أرى في هذه الدار مئات من السيدات… وأملي وطيد إن تعضدني السيدات في تلك النهضة الوطنية… وما لنا نحن السيدات إلا ما نستطيع الآن وهو الاهتمام بنشر التعليم بينا وترقية شئوننا ليرقى بها الوطن العزيز… هذه نساء أوربا قد زاحمن الرجال وتطرفت في التمسك بحقوقها إلى حد بعيد فطلبت حق الانتخاب ونحن بإزائها نائمات…41
إن أولى المحاضرات التي عقدت بالجامعة المصرية للسيدات كانت بمبادرة من هدى شعراوي، رائدة الحركة النسائية المصرية، وكانت المحاضرات الأخيرة قبل وقف الفرع النسائي ذات صبغة نسائية سياسية تحررية. كما أن المحاضرات التي كانت تعقد للسيدات على مدى السنوات 1909 -1912 في إطار الفرع النسائي، كانت تسير جنبًا إلى جنب الدراسات الأدبية والاقتصادية القائمة في الجامعة المصرية منذ نشأتها وكانت تحضرها السيدات مع الرجال. كما أن دراسات الفرع النسائي كانت تتميز بخصوصية لا لمجرد كونها موجهة خصيصا للنساء في إطار خطاب نسائي ثقافي شامل ومتحرر يخاطب المرأة من حيث انتهائها إلى حيزين: العام والخاص، وتتبنى بالتالي قضايا نسائية بعيدًا عن حدود الخطاب التقليدي الذي يضع المرأة في دائرة مسائل التطريز والطهي وغيرها. وهكذا كانت محاضرات الفرع النسائي تتبنى منظورًا نسائيًا صرفًا، فلم تكن المحاضرات مبنية على كتب لأساتذة الجامعة من الرجال رغم ورود هذا الاقتراح حينذاك.
ومن الملاحظ أن هذه المحاضرات تطرقت إلى قضايا ثقافية ونسائية شائكة، في ذلك الوقت من أبرزها التأريخ لدور المرأة المصرية عبر العصور في محاولة لإثارة همة وحماس المرأة المصرية حينذاك في إطار نهضة شاملة، مع ربط حاضر المرأة بماضيها الفعال. كما تمت إثارة قضايا متعلقة بالعلاقات الثقافية بين الشرق والغرب، وتحديدًا موقع المرأة المصرية حينذاك مقارنة بالمرأة الغربية، حيث كان النموذج الأوروبي من القوى الدافعة للمشروع النهضوي أوائل القرن. كما لعبت هذه المحاضرات دورا بارزا في دفع المرأة المصرية إلى الخروج من حدود الحيز الخاص إلى الحيز العام، وهو ما تمثل على مستوى الفعل بخروج النساء إلى الجامعة لحضور المحاضرات، وعلى مستوى المعرفة من خلال مضمون المحاضرات النسائية. وقد تم تناول قضايا اقتصادية وسياسية مهمة من خلال محاضرات “رحمة صروف” وكذلك الإشارات المتكررة بشأن حقوق المرأة الاجتماعية والسياسية في محاضرات “نبوية موسى” على سبيل المثال. وهكذا اتصفت هذه المحاضرات بالصبغة الثورية شكلا ومضمونا من حيث المضمون المعرفي الذي كان مرتبطًا في الأساس بمبادئ الحركة النسائية ورائداتها المصريات من أمثال هدى شعراوي وملك ناصف ونبوية موسى وغيرهن، وخروجها في مضمونها عن موضوعات التعليم الذي اقتبسته الجامعة المصرية عند إنشائها نقلا عن النموذج الأوروبي.
ومن الجدير بالذكر أنه على الرغم من إلغاء محاضرات الفرع النسائي عام 1912، فإن صحافة أوائل القرن تشير إلى قيام رائدات الحركة النسائية والثقافية المصرية بإلقاء خطبهن في أماكن أخرى مثل صحيفة الجريدة وجمعية المحبة وحزب الأمة، بل في إطار اتحاد النساء التهذيبي حيث تشير مجلة “الجنس اللطيف” لصاحبتها ملكة سعد أن ملك حفني ناصف ألقت على سبيل المثال محاضرة حول “تأثير المرأة في العالم” في إطار الاتحاد في مقر سراي الجامعة المصرية يوم 6 مارس 1914. 42
وإذا كان التأريخ لأهم معالم نمو الوعي النسوي منذ نهايات القرن التاسع عشر يعتمد إلى حد كبير على ما شهدته تلك الحقبة من تزايد في مصادر المعرفة وطرح قضية المرأة على الرأي العام عن طريق كتابات النساء بمبادرات فردية، وتعدد قنوات العمل النسوي الثقافي والاجتماعي عبر الصحافة والجمعيات، وما نجم عنه من تشكيل تيار معرفي جديد ساهم في بلورة وانتشار وعي نسوي جماعي دفع بنساء مصر إلى نقد أوضاعهن والسعي نحو تغيير أدوارهن الاجتماعية والتمتع بقدر أكبر من الحقوق. ومن ناحية أخرى شهد النصف الثاني من القرن العشرين مظاهر السياسة الداخلية والخارجية للدولة وما صاحبها من تراجع في فرص العمل وازدياد معدلات البطالة مع تزايد المد الديني وموقفه تجاه المرأة القائم على تحميل النساء مشكلات المجتمع كافة، والدعوة إلى تنازل النساء عن إنجازاتهن كافة في العقود السابقة والعودة إلى البيت لإفساح الطريق أمام الرجال ليقوموا بشئون الوطن والأمة! كما شهدت فترة السبعينيات تصاعد الحركة الطلابية بمن فيهم من نساء شاركن بدور فعال في العمل السياسي والحزبي، ما لبثن أن تبنين قضية حقوق المرأة كرد فعل للنزعة التقليدية الأصولية المتنامية في المجتمع من ناحية، ولغياب قضايا حقوق النساء في برامج الأحزاب. ومن ناحية أخرى شهد المجتمع الدولي ممثلاً في الأمم المتحدة تركيزًا للاهتمام بقضايا المرأة والتي اتخذت أوضح صورها بدءًا من مؤتمر المكسيك عام 1975. ولم يقتصر التفاعل بين الفكر النسوي المصري في العقود الأخيرة على الاحتكاك بالفكر النسوي الغربي بما يشتمل عليه من مناهج بحث نظرية ومعرفية من ناحية وممارسات نسوية مطبقة على أرض الواقع ممثلا في القوانين المحلية والاتفاقيات الدولية من ناحية أخري. ولعل من أبرز خصائص العقدين الأخيرين على وجه الخصوص النمو المتزايد لدور وفعالية مؤسسات حقوق الإنسان وحركة المنظمات غير الحكومية ونشاط المجتمع المدني في تكوين قوى ضغط دولية ومحلية لتطبيق الاتفاقيات الدولية.
ويتخذ نشاط الحركة النسائية في العقود الثلاثة الأخيرة عدة أشكال:
1 – لجان المرأة في الأحزاب السياسية. وهي رغم وجودها في الأحزاب السياسية الرئيسية في مصر، فإن نشاطها يتحدد في إطار برنامج الحزب. ويتضح من خلال حوار تم مع فرخندة حسن أثناء شغلها منصب أمين عام الحزب الوطني الديمقراطي أن دور لجنة المرأة وأهدافها تتمثل في “زيادة مشاركة المرأة في الحياة السياسية وعملية صنع القرار… من خلال عقد المؤتمرات والندوات وعبر وسائل الإعلام المختلفة وغيرها من القنوات.” 43 وفي حوار مع “ليلى الشال” ممثلة عن اتحاد النساء التقدمي بحزب التجمع التقدمي الوحدوي، قامت بتأكيد المفهوم الذي يتبناه حزب اليسار من حيث رفض الفصل بين قضايا الرجال والنساء والتعامل مع قضايا النساء بوصفها قضايا ذات خصوصية في المجتمع من منطلق أن “نضالات الرجال والنساء داخل المجتمع غير منفصلة.” 44 أما أسمهان شكري فقد أكدت عند حديثها عن لجنة المرأة في حزب العمل بأن سياسة لجنة المرأة جزء لا يتجزأ من سياسية الحزب.45
وهكذا يتضح أن لجان المرأة في الأحزاب السياسية الثلاثة السابقة لا تقوم بدور مستقل عن أهداف الحزب، ولعل فيها نسمعه من أمينات المرأة في تلك الأحزاب ما يقرب إلينا جو العمل الذي وجدت نساء مصر أنفسهن يعملن في إطاره من خلال لجنة سيدات الوفد المركزية، ومبررات تكوين مؤسسات نسوية مستقلة وخاصة في الحالات التي لا تتمتع بها النساء بحرية صنع القرار فيما يتعلق بقضاياهن.
2 – المنظمات النسوية غير الحكومية، وهي منظمات قامت على أساس من العمل المستقل الذي يركز على قضايا النساء من أجل السعي نحو مجتمع تسوده العدالة الاجتماعية والمساواة، وتضمنت هذه المنظمات جمعيات مشهرة بموجب قانون الجمعيات، خاضعة بصورة مباشرة لسلطة وزارة الشئون الاجتماعية. وفي محاولة للخروج من قيود سلطة الحكومة؛ شهدت الثمانينيات والتسعينيات قيام مراكز بحثية مسجلة على هيئة شركات مدنية غير تجارية تتناول معظمها قضايا المرأة والنوع الاجتماعي من خلال العمل البحثي والميداني؛ إلى جانب منظمات تقدم خدمات صحية وقانونية للنساء. وقد تلقت هذه المؤسسات ضربة مع قيام الدولة بتمرير قوانين العمل الأهلي لعام 1999 (الذي ثبتت عدم دستوريته) ثم قانون العمل الأهلي لعام 2002، بهدف تضييق الخناق على جهود منظمات حقوق الإنسان. فكانت آخر المعارك المستمرة هي تلك الساعية إلى تغيير قانون العمل الأهلي لما يفرضه من عقبات أمام قيام مجتمع مدني يتمتع بالحرية والقدرة على الحركة والتغيير.
وهكذا على مر قرن من الزمان يظل العمل النسوي متمثلا في إثارة النقاش، وطرح قضايا النساء على الرأي العام وتظل الناشطات المصريات يطالبن بالمزيد من الحقوق في المجالات نفسها التي سبقتها إليها أجيال قرن مضى. وفي السنوات الأخيرة، ومع تصاعد الانتفاضة الفلسطينية واحتلال العراق إضافة إلى التراجع الاقتصادي محليًا وسيادة سياسات العولمة الرأسمالية والهيمنة الإمبريالية عالميًا، من الملاحظ قيام المنظمات النسائية بالمشاركة في الجهود الساعية نحو الإصلاح والتغيير. ومن الملاحظ أن بدايات الحركة النسائية قد ساهمت في تدريب النساء على مبادئ العمل السياسي بما فيه من تحديد للأهداف واختيار للقرارات الاستراتيجية، والعمل المنظم والدءوب في سبيل تحقيق الأهداف على المستوى البعيد، كما أن تجربة العديد من الناشطات النسويات المعاصرات اللاتي لاحظن تكرار تهميش قضيتهن وذوبانها ضمن قضايا أخرى بدعوى ترتيب الأولويات، قد أثبتت لهن صحة المقولة التي تؤكد أن “التجربة الذاتية هي خبرة سياسية“.
وبناء على ما سبق أود أن أطرح تساؤلا عن مدي كون “الفرع النسائي” في الجامعة المصرية عند نشأتها من إنجازات مشروع الجامعة المصرية الأهلية، أم أنه كان في الواقع من إنجازات الحركة النسائية المصرية أوائل القرن؟ ومن السياق العام الذي نشأت في إطاره دراسات الفرع النسائي، يمكنني الجزم بأن تلك الدراسات المتخصصة كانت بالفعل من إنجازات الحركة النسائية آنذاك، ممثلة في جهود النخبة المثقفة من النساء المصريات اللاتي سعين إلى فتح آفاق جديدة أمام نساء مصر في سبيل تحقيق نهضتهن وترسيخ مطالبهن وتغيير واقعهن. حيث قام الفرع النسائي بأيدي الشخصيات الرائدة في مجالات الكتابة والصحافة والتعليم والعمل العام، في حين أتاحت الجامعة المصرية – بإدارتها والقائمين عليها من صفوة المفكرين الحريصين على نهضة البلاد، وبوصفها معقل النهضة الفكرية والاجتماعية والثقافية – مجالاً رحبًا داعيًا لمساعي النساء. وإذا كانت دراسات الفرع النسائي لم تستمر سوى لفترة وجيزة في بدايات القرن الماضي، فلابد لنا اليوم كأفراد ومؤسسات تشكل الحركة النسائية المصرية المعاصرة من إحياء تلك الفكرة والعمل على إنجازها في زمن أصبحت “الدراسات النسائية” فرعًا معرفيًا راسخًا في مختلف جامعات العالم – شمالاً وجنوبًا، شرقًا وغربًا.
ومن خلال معرفتنا اليوم بمفهوم “الدراسات النسائية” ونماذجها الأكاديمية العالمية، ودورها في دعم الحركة النسائية عالميا، وبناء على تاريخنا المحلي الخاص، يمكنني القول بأن محاضرات الفرع النسائي بالجامعة المصرية في بدايات القرن العشرين كانت نموذجًا رائدًا لبرامج الدراسات النسائية Women’s Studies المتضمنة في غالبية المؤسسات التعليمية العالمية اليوم. حيث تتناول برامج الدراسات النسائية موضوعات وقضايا تأخذ المرأة في الاعتبار، ومن أهم هذه الموضوعات على سبيل المثال: 1) تاريخ النساء والكشف عن المسكوت عنه في مصادر التاريخ الرسمي، 2) المرأة في موقعها ضمن إطاري الحيز العام والحيز الخاص: من حيث قضايا التعليم والعمل والأسرة والقانون وغيرها، 3) أشكال مقاومة النساء لمختلف صور القهر والسلطة الذكورية، 4) وصورة المرأة في الثقافة السائدة مع الكشف عن نماذج تهميش النساء وقولبتهن، وغيرها من قضايا تتناولها برامج الدراسات النسائية. 46 وإذا كانت المعرفة هي من سبل تمكين النساء والنهوض بالمجتمع، فإن المعرفة المتخصصة في الدراسات الخاصة بقضايا المرأة جديرة بأن تتبناها المؤسسة الأكاديمية لدعم الحركة النسائية وجهود المجتمع المدني في سبيل نهضة المجتمع معرفيًا وثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا.
ومن المعروف أن مفهوم “الدراسات النسائية” كفرع معرفي نشأ في الستينيات من القرن العشرين من رحم الحركة النسائية في علاقتها بالنظرية النسوية (feminist theory) والدراسات الإنسانية، ويعتبر مجالاً بحثيا يقوم على مركزية وجهة نظر المرأة ويعتمد منهجيا على “الدراسات البينية” (interdisciplinary studies). وقد تبلورت الدراسات النسائية لتقوم على تحقيق هدفين تعليميين أساسيين متداخلين، ويتمثل الهدف الأول في توفير مصادر المعرفة والتحليل فيما يتعلق بحياة النساء بغرض تحقيق تغيير في الأنماط الاجتماعية والثقافية القائمة على التمييز ضد النساء. أما الهدف الثاني فهو إنتاج معرفة ناقدة وكاشفة لأوجه القصور في الأفرع المعرفية المختلفة من حيث تجاهلها العمدي أو غير المقصود لمنظور النساء.47 وفي كلتا الحالتين تجمع الدراسات النسوية بين المعرفة النظرية والتطبيق العملي، أي بين النظريات النسوية وبين خبرات النساء في الحياة اليومية.
وفيما يتعلق بمضمون الدراسات النسائية في المؤسسات الأكاديمية الغربية، تشير “ماري ماينارد” إلى أن محتوى المواد الدراسية المطبقة في المؤسسات البحثية الغربية تشكل عبر ثلاث مراحل.
أولاً، مرحلة “الاستعادة” أي مواجهة ما تعرضت له النساء من تجاهل وتغييب وتنميط وتهميش في مجالات الدراسات التاريخية والاجتماعية والأدبية والثقافية.
ثانيًا، مرحلة “إعادة الصياغة” أي إعادة تقييم الموضوعات الأكاديمية وتضمين النساء في المصادر المعرفية التي يتم إنتاجها في صورة مفاهيم ونظريات. وقد شهدت تلك المرحلة إعادة النظر في القهر من حيث مدى التداخل فيه ما بين العوامل المختلفة من حيث النوع والطبقة والانتهاء العرقي وغيرها.
ثالثًا، مرحلة “التأمل ومراجعة الذات” أي تبني نظرة نقدية للذات، وخاصة فيما يتعلق ببعض المفاهيم النظرية وتطبيقاتها على فئات دون الأخرى. ومن أهم القضايا التي تناولتها الدراسات النسائية هي اتخاذ موقف نقدي من مناهج التدريس والتعليم بالتركيز على دراسة خبرات النساء، والتعامل مع التعليم باعتباره أداة تساهم في تمكين النساء اجتماعيًا عبر المعرفة.48
سأحاول فيها يلي وضع تصور لإدخال الدراسات النسائية في الجامعات المصرية. وأود أولاً الإشارة إلى أن بعض الباحثات والباحثين الأكاديميين المتخصصين في الدراسات النسائية يقومون بجهود بحثية فردية، سواء في صورة دراسات أو ترجمات أو إشراف على رسائل للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه تتبع مناهج بحث الدراسات النسائية. لكن بعض الجهود الفردية لا تكون كافية داخل مؤسسة لا تدرك أهمية هذا التخصص أو لا تبالي تحديدا بقضايا النساء. وبالتالي فمن المهم أن تتبنى الجامعة الدراسات النسائية وتدعمها بحيث تصبح كيانًا نشطًا ومتكاملاً.
وأرى أن البداية قد تكون عن طريق الآتي:
1- القيام بدراسة ببليوجرافية للتعرف على جميع الرسائل البحثية الأكاديمية التي تتبع منهجًا نسويًا وتتخصص في الدراسات النسائية.
2- القيام بإعداد قائمة بأسماء أعضاء هيئة التدريس المتخصصين والمتخصصات في الدراسات النسائية.
3 – إقامة مركز للدراسات النسائية كنواة تبدأ على سبيل المثال في جامعة القاهرة باعتبارها الجامعة الأم، وتحديدًا في كلية الآداب بها نظرًا لوجود مجموعة صغيرة بها من أعضاء هيئة التدريس ممن هم على دراية بطبيعة الدراسات النسائية ومناهجها البحثية من ناحية، ونظرًا لطبيعة كلية الآداب التي تشجع قيام وتطبيق مناهج الدراسات البينية.
4- أن يبدأ نشاط هذا المركز على مستوى الدراسات العليا، بتقديم دبلومة متخصصة في الدراسات النسائية كمرحلة مبدئية.
5 – أن يتم دعم هذا المركز بمكتبة متخصصة من المراجع والكتب بمختلف اللغات.
6- أن يقوم المركز بعقد ندوات تثقيفية عامة، بالإضافة إلى إقامة مؤتمرات متخصصة لتشجيع البحث في مجال الدراسات النسائية، وتبادل المعرفة محليًا وإقليميًا وعالميًا، مع دعم تلك الأبحاث بالنشر والتوزيع.
7- أن يتبنى المركز ترجمة الكتب المتخصصة في الدراسات النسائية من العربية وإليها.
8 – أن يتبنى المركز إعادة إصدار تراث النساء المصريات من نهايات القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين من كتب وروايات ودراسات وصحف ومجلات متخصصة، لإتاحتها للباحثات والباحثين.
9- أن يتم التأكيد على طبيعة الدراسات النسائية باعتبارها من مجالات الدراسات البينية.
ففي فرع الدراسات التاريخية، يمكن للدراسات النسائية أن تضيف أبعادًا جديدًا للتاريخ من واقع تتبع دور النساء في المسار التاريخي في مصر. وفي فروع اللغات والدراسات الأدبية، يمكن أن يتم التركيز على إبداع النساء في الكتابة ومساهماتهن في الحركة النقدية والجهود التنظيرية. وفي العلوم الاجتماعية، يمكن التركيز على أوضاع النساء والتعامل مع النوع باعتباره عاملاً جوهريًا مؤثرًا في طبيعة العلاقات الاجتماعية والبنية الثقافية للبيئات والمجتمعات المختلفة. هذا بالإضافة إلى تناول مختلف جوانب الحياة والمؤسسات الاجتماعية منظور النساء، عند مناقشة قضايا مثل الأسرة والعمل والإعلام والصحة والمشاركة من السياسية… وهلم جرا.
إذا عدنا مرة أخرى إلى تجربة الفرع النسائي في الجامعة المصرية في بدايات القرن العشرين، فإننا نجد أن تلك التجربة لعبت دورًا في دعم الحركة النسائية بقدر ما كانت نتاجًا لها. فقد شهدت بدايات القرن العشرين نهضة داعية للنهوض بالمجتمع ككل رجالاً ونساءً، کما شهدت تنامي وعي النخبة المثقفة بأهمية العمل من أجل تحقيق المساواة بين الجنسين في فرص التعليم والعمل والحياة. وقد جاءت دراسات الفرع النسائي آنذاك بمثابة مساحة إضافية أتاحتها المؤسسة الجامعية لنهضة النساء. فكانت المحاضرات نقطة لقاء بين الشخصيات النسائية البارزة في المجتمع وبين النساء المثقفات والساعيات إلى المزيد من المعرفة. وقد ساهمت تلك المحاضرات في تنشيط الشخصيات النسائية البارزة ودفعهن إلى بذل المزيد من الجهد في التفكير والبحث ونشر المعرفة عن النساء بين النساء. كما قامت علاقة تبادلية بين المحاضرات والمقالات، حيث كثيرًا ما كان يتم نشر المحاضرات في الصحف المصرية، وبالتالي كانت متاحة للقراء والقارئات ممن تمنعهم ظروفهم عن التردد على الجامعة. ويمكن الجزم بأن قيام هذا الفرع النسائي كان له دوره البارز كركن من الأركان الأساسية والمؤسسة للحركة النسائية المصرية في بداياتها الأولى.
ويدفعني هذا إلى التساؤل عن ما يمكن أن تحققه الدراسات النسائية في الجامعات المصرية اليوم. من المؤكد أن قيام تخصص أكاديمي في الدراسات النسائية كفيل بدعم الجهود الفردية والمدنية والرسمية من أجل النهوض بالنساء المصريات في القرن الواحد والعشرين، والعمل على تحويل مسألة النهوض بالمرأة إلى حركة اجتماعية وثقافية شاملة، بحيث تخرج عن طابعها التنموي الحالي. وأرى أن إنشاء مجال للدراسات النسائية يمكن أن يساهم في تحقيق الآتي: التأكيد على أن مسألة النهوض بالمرأة لا تقتصر على تقديم خدمات مادية وعينية للنساء الفقيرات فحسب، وأن الغرض الحقيقي هو إحداث تغيير في أنماط التفكير والتطبيق العملي في الحياة اليومية. فالنهوض بالمرأة لا يقتصر على الجانب التنموي الاقتصادي فقط، بل لابد من إدراك قيمة النهوض الفكري والثقافي للنساء. كما أن وجود كيان متخصص في الدراسات النسائية سيساهم في نشر المعرفة الخاصة بقضايا النساء وجعل قضية حقوق النساء والمساواة بين الجنسين مطروحة على مستوى فكري يساهم في تغيير العقلية التقليدية التي تميز ضد النساء. بالإضافة إلى ذلك فإن قيام كيان أكاديمي متخصص كفيل بأن يضفي على قضية النهوض بالنساء مزيدا من الجدية. وأخيرا فإن الدراسات النسائية مجال سيساهم في إنتاج معرفة جديدة تهدف إلى النهوض بالنساء وبالتالي المجتمع ككل، فتقوى الحركة النسائية المصرية المعاصرة بتضافر الجهد الأكاديمي المؤسسي مع الجهود الفردية للباحثات والناشطات النسويات ومساعي المنظمات النسائية ومؤسسات المجتمع المدني.
وإذا كانت دراسات الفرع النسائي في بدايات القرن العشرين نجحت في التعبير عن أهمية الوعي والعلم والمعرفة ونشرها على مستوى المؤسسات الثقافية، فإن “الدراسات النسائية” تحمل اليوم قيمة مهمة في تضمين وإدماج قضايا النهوض بالنساء ضمن المؤسسة الجامعية، وتناولها من منطلق ثقافي جاد كفيل بأن يلعب دورًا تبادليًا وتفاعليًا مع الجهود التنموية. وهي دفعة ضرورية للحركة النسائية المصرية اليوم.
هالة كمال: مدرسة بكلية الآداب، جامعة القاهرة، عضوة بمؤسسة المرأة والذاكرة، وباحثة مهتمة بدراسات الجندر.
(*) فازت هذه الورقة بالجائزة الثانية في مسابقة أقامها المجلس القومي للمرأة، وهي تنشر لأول مرة.
1 للمزيد يمكن الرجوع إلى: هالة كمال، “الحركة النسائية حركة سياسية“، طيبة: النساء والسلطة، (القاهرة: مؤسسة المرأة الجديدة)، ع4، 2004، ص7-21.
2 للمزيد عن دراسات “الفرع النسائي” في الجامعة المصرية في بدايات القرن، يمكن الرجوع إلى: هاله كال، “محاضرات الفرع النسائي في الجامعة المصرية، 1909 – 1912″، من رائدات القرن العشرين، تحرير هدی الصدة، (القاهرة: ملتقى المرأة والذاكرة، 2001)، ص177-199.
3 بث بارون، النهضة النسائية في مصر: الثقافة والمجتمع والصحافة، ترجمة لميس النقاش، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 1999)، ص 9 وما بعدها.
4 المصدر السابق، ص 19.
5 إجلال خليفة، الحركة النسائية المصرية: قصة المرأة العربية على أرض مصر (القاهرة: المطبعة الحديثة، 1973)، ص 59 وما بعدها.
6 ملك حفني ناصف، النسائيات، (ط: 1910، 1924)، (القاهرة: ملتقى المرأة والذاكرة، 1998)، ص147.
7 كان من شروط الالتحاق أن يكون عمر الفتاة ما بين 9 – 13 سنة، وأن تكون بكرا. ولم تلتحق بها أول الأمر أي مصريات فبدأت بعشر جاريات حبشيات، وكانت أول دفعة من خريجاتها من اللقيطات! للمزيد يمكن الرجوع إلى: إجلال خليفة، الحركة النسائية الحديثة: قصة المرأة العربية على أرض مصر، ص 104.
8 حسن الفقي، سبق ذكره، ص 87.
9 نبوية موسى، تاريخي بقلمي، (القاهرة: ملتقى المرأة والذاكرة، 1999)، ط3.
10 تاريخي بقلمي.
11 محمد أبو الإسعاد، نبوية موسى ودورها في الحياة المصرية ( 1886 -1951)، سلسلة تاريخ المصريين، ع 69، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994)، ص 12- 13،
12 أحمد عبد الفتاح بدير، الأمير أحمد فؤاد ونشأة الجامعة المصرية (القاهرة: مطبعة جامعة فؤاد الأول، 1950)، ص6- 9.
13 أحمد عبد الفتاح بدير، ص9.
14 مذكرات هدى شعرواي، (القاهرة: دار الهلال)، ص 117.
15 كانت أولى هذه البعثات عام 1908 واستمرت بعدها لعدة سنوات، وقد ورد في تقرير حول “حالة الجامعة المصرية” إشارة إلى بعثات الأطفال إلى فرنسا وإيطاليا لحصولهم على شهادة البكالوريا أو ما يعادلها، مع تكفل إدارة الجامعة بتدريسهم اللغة العربية والدين، وإمكانية مواصلة المبعوثين دراستهم للحصول على الشهادات الجامعة، على أن يتعهدوا بخدمة الجامعة عند عودتهم. في الجريدة، ع 1547، 14 إبريل 1912، ص2.
16 مجلة الجامعة المصرية، المجلد الأول، ج 1، ع 1، 1 يناير 1909، ص 5-6.
17 أحمد لطفى السيد، “الحفلة الكبرى بافتتاح الجامعة“، الجريدة، ع544، الاثنين، 21 ديسمبر 1908، (القاهرة)، ص4.
18 أحمد عبد الفتاح بدير، ص 209. وفي إعلان بصحيفة الجريدة عن المحاضرات بالجامعة تم تقسيم الطلبة إلى المنتسبين وهم يحضرون كل المحاضرات بغرض الحصول على شهادة من الجامعة، والمستمعين الدين يمكنهم اختيار المحاضرات التي يرغبون في حضورها دون الحصول على أية شهادات: الجريدة، ع543، 20 ديسمبر 1908، ص 4.
19 من الملاحظ أن نص محاضرة Mr. Hugh M. Miller أستاذ الأدب الإنجليزي بالجامعة المصرية بتاريخ 2 ديسمبر 1908 موجهة إلى كلا الجنسين بقوله Ladies and Gentlemen في مجلة الجامعة المصرية، المجلد الأول، ج1، ع1، 1 يناير 1909، ص 9 من الجزء الإنجليزي.
20 أحمد عبد الفتاح بدير، ص 210.
21 إجلال خليفة، الحركة النسائية الحديثة، ص 121 – 122.
22 تشير هدى شعراوي إلى مقر الجامعة باسم “قصر خيري باش راي جناكليس“، مذكرات هدی شعراوي، ص 116.
23 مذكرات هدى شعراوي، ص 116.
24 مذكرات هدى شعراوي، ص 118 -119.
25 باحثة البادية، “المرأة المصرية والمرأة الغربية: خطبة الباحثة بالبادية“، فتاة الشرق، الجزء 6، مايو 1910، ص 283-296؛ وتتمتها في الجزء 9، يونيو 1910، 327-340.
26 تعددت مسميات هذا القسم عبر السنوات (1909-1912) كما يرد في أحمد عبد الفتاح بدير، ص 125 – 126، 128، 210- 212؛
27 أحمد عبد الفتاح بدير، ص 125 – 126.
28 أحمد عبد الفتاح بدير، ص130.
29 الجريدة، “إعلان عن محاضرات الجامعة المصرية للسنة المكتبية“، ع 1699، 13 أكتوبر 1912، ص6
30 يمكن الرجوع على سبيل المثال إلى مقالة شكري صادق، “جامعة النساء الشرقيات على بساط البحث“، الجريدة، ع1066، 10 سبتمبر 1910.
31 إجلال خليفة، الحركة النسائية الحديثة، ص 84.
32 تذكر نبوية موسى قصة سعيها للالتحاق بالجامعة المصرية فور افتتاحها، ورفض طلبها ثم الاستعانة بها لاحقا كمحاضرة في الفرع النسائي، “ذكرياتي: الجامعة قديما وحديثا“، الفتاة، ع104، ص 17 – 18
33 محمد أبو الإسعاد، سبق ذكره، ص ۱۹.
34 نبوية موسي، كتاب المطالعة العربية لمدارس البنات، (القاهرة: نظارة المعارف، 1911، ط 2)، ص 5- 6.
35 نبوية موسى، المرأة والعمل، (الإسكندرية: المطبعة الوطنية، 1920).
36 نبوية موسى، المرأة والعمل، ص 3 وما يليها.
37 نبوية موسى، “المحاضرات النسائية في الجامعة المصرية“، الأهرام، 16 إبريل 1912. وقد تمت إعادة نشرها في كتاب الأهرام: شهود العصر، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1986)، هاجر: کتاب المرأة، ع 5-6، (القاهرة: دار نصوص، 1998)، ص 143 – 146.
38 نبوية موسى، “المحاضرات النسائية في الجامعة المصرية“، هاجر، ص143-144.
39 نبوية موسى، “المحاضرات النسائية في الجامعة المصرية“، ص 145.
40 نبوية موسى، “المحاضرات النسائية في الجامعة المصرية“، ص145.
41 نبوية موسى، “المحاضرات النسائية في الجامعة المصرية“، هاجر، ص 143 – 144.
42 الجنس اللطيف، 1913، ص 272- 279.
43 آمال عبد الهادي ونادية عبد الوهاب، سبق ذكره، ص141.
44 المصدر السابق، ص 143.
45 المصدر السابق، ص152.
46 للمزيد حول مجالات “الدراسات النسائية” يمكن الرجوع على سبيل المثال إلى:
Joy Magezis، Women’s Studies (London: Hodder & Stoughton, 1996)
47 Mary Maynard, “Women’s Studies” in Contemporary Feminist Theories, eds. Stevi Jackson and Jackie Jones (New York University Press, 1998), p. 247.
48 المصدر السابق: 252- 250.Mary Maynard, pp.