هذه الكلمةُ كتبتها وألقتها الزميلة عزة شلبي عن “المرأة الجديدة” بمناسبة احتفال لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية وحزب التجمع الوطني التقدمي، بذكرى الأربعين للمناضلة إنجي أفلاطون.
علاقتي بالفنانة الرقيقة إنجي أفلاطون علاقة حديثة وعميقة في آن واحد. حديثة لأن عمرها لا يتجاوز ثلاثة أعوام، وشديدة العمق لأن حظى قد أسعدني لأعمل معها في صياغة مرحلة هامة من تاريخها الحافل، هي مرحلة الهروب ثم السجن، وذلك في الكتاب الذي كانت تنوى إصداره عن هذه الفترة ولكنها رحلت قبل أن تراهُ بين أيدى قراء حرصت على أن يقفوا على هذه المرحلة الهامة من تاريخ مصر…
“أعترف أنني قد عشت“
هكذا اعترف بابلو نيرودا ..
وإنجي أفلاطون تعترفُ أيضًا أنها عاشت كما أرادت، ولم تندم لحظةً على اختيارها بل على العكس، سبب لها هذا الاختيار السعادة الحقيقة على حد تعبيرها.
وأعترف أن إنجي عاشت… ولم تزل نموذجًا لتفجر طاقة الإنسان، وللتفاعل الدائم المتوهج مع الحياة.
والحديث عن إنجي صعب للغاية، فأنا أجد نفسي أمام حياة لاحدود لتدفقها وخصوبتها، حياة جعلتني أؤمن بطاقة الإنسان، وقدرته على البذل والعطاء، فاسمحوا لي أن أطرح بعض تساؤلات شغلني البحث عن إجابة لها، وبعض أحاسيس خاصة انتابتني وأنا أرى إنجي بانتظام في سنواتها الأخيرة.
تساؤلات:
– ما الذي دفع إنجي أفلاطون التي وُلدت في بيت ارستقراطي، وتوفرت لها أرقى أسباب العيش، أن تنحاز إلى الفقراء انحيازًا كابدت المشقة في سبيله؟ وهي الفتاة التي كُتبت عنها الأخبار بانتظام في أواخر الأربعينات “الآنسة الشيوعية التي تمتلكُ أربعين فستاناً“؟
– ما الذي دفعها إلى الانخراط في العمل السياسي بكل ما يتطلبه من جهد ووقت وتضحية. وهي الفنانة التي شهد لها الجميع بتفوقها، وكان بيدها أن تُكرس حياتها كاملةً للفن، فتحظى بالحب والشهرة وتتجنب متاعب العمل السياسي؟
– ما الذي جعلها في فترة هروبها عام 1959 تنتقل بين الجيزة والسويس وشبرا التي جاءتها متنكرةً في زي فلاحة، لتقيم مع عجوز وزوجها أقنعتهما أنها هاربة من حكم للطاعة، وتعيش في حجرة متواضعة مليئة بالبق والبراغيث. حجرة أحبتها ورسمتها في لوحة اعتزت بها كثيرًا؟
وعندما انتشر مرض الجدري وحاصر البيت نفسه، وحضر رجال الصحة لتطعيم من بالمنزل، جلست خلف باب الشقة خشية أن يكشفوا أمرها.
– ما الذي جعلها تخشى أن تلمح في عيون رفيقاتها بالسجن أدنى شكٍّ في قدرتها على احتمال ظروف السجن؟.
– ما الذي جعلها تخطط وتتحايل حتى تقنع مأمور السجن بأن يسمح لها بالرسم مقابل أخذ اللوحات لبيعها، ثم تُهرب لوحاتها ملفوفةً على جسد الباشسجانة؟.
– أي دافع قادها في اتجاه سجينة جنائية فاتنة، قتلت والدها وحُكم عليها بالإعدام لتصور بريشتها وجهها الجميل الرائع، وفي لوحة حملت لها شجنًا خاصًا؟
– ما الذي دفع هذه الفنانة إلى الإضراب عن الطعام سبعة عشرة يومًا متواصلة… إلى الاستياء من رسائل الرفاق بسجن الواحات التي دعوا فيها النساء إلى فك الإضراب خوفًا على حياتهن؟
– ما الذي جعلها تسلكُ طريقًا وعرًا محفوفًا بالمخاطر، وتمضى فيه بلا تردد حتى آخر لحظة في عمرها.
– إنه العشق والصدق..
كانت إنجي عاشقةً لقضيتها ووطنها، وصادقةً في كل فعل تقوم به. ولعل هذا ما جعلها ترحلُ بعدما وصفت حياتها بأنها حياة سعيدة.
الصديقات والأصدقاء
اسمحوا لي أن أطرح عليكم أحاسيسًا خاصة عن الإنسانة إنجي أفلاطون. إنجي التلقائية التي لا تعرف المبالغة ولا الافتعال، ولا تتقن صناعة الكلام والتعبيرات المتراصة، والتي تُظهر بين الحين والآخر حساسيتها ورقتها ومشاعرها الفياضة وحبها العميق للناس.
إنجي البسيطة التي تتناول مواقف وأزمات بالغة الشدة، ببساطة متناهية، محن وشدائد في الحياة وهروب ومعاناة وسجن. كل هذه الأشياء تتعامل معها دون تضخيم ومغالاة في تأثيرها على حياتها، وكأنها امرأة كتب عليها القدر أن تتحلى بالصبر والقدرة على الاحتمال دون أن تشكو لأحد، وأتصورُ أنها وهي التي كانت ترى هذه الصفات في المرأة المصرية الريفية، عندما ذكرت أنها تتميزُ بروح مرحة رغم كل الشقاء والعناء الذي تعيشه، أتصور أن إنجي دون أن تشعر تمثلت هذا النموذج وتوحدت معه.. وذابت فيه وعاشته.
إنجي ذات الضحكة الطفولية التي كنتُ كلما استمعتُ لرنتها تملكني شعور بالفرح لم أكن أعرفُ وقتها مصدره، ولكني كنت كل مرة أشعر أنني أمام طفلة صغيرة تضحك من كل قلبها بصفاء وشفافية وتلقائية تبعثُ في النفس الراحة والبهجة.
رغم أن إنجى تعلمت الفرنسية قبل أن تتمكن من العربية، إلا أننى كنت كلما انتهيت من جزء معين من مذكراتها وقرأته عليها وجدتها تتوقف أمام كلِّ كلمة تشعرُ أنها غير معبرة تمامًا عما بداخلها، فتجلسُ ساعات تبحث عن بدائل أكثر تعبيرًا وجمالاً ورقة.. فقد كانت تتمتع بحس لغوى خاص تبحث فيه عن الأبسط والأنسب.
فتحيةً لإنجي أفلاطون، امرأةً من طراز فريد، ونموذجًا للطاقة الهائلة للمرأة المصرية ولقدرتها على العطاء والتضحية.
وما أحوجنا إلى أن نعي جيدًا كيف عاشت إنجي أفلاطون حياةً انعدمت فيها المسافة بين القول والفعل.
عاشت إنجي ما قالته، وقالت ما عاشته .. تحيةً لها .. إذ علمتنا أن نحترم الحياة ونعشقها ونصدق معها، ونعطيها كل ما نملك لكي تصفوا لنا وتعطينا هي أيضًا كل ما لديها…
يُسعد مجلة المرأة الجديدة أن تستضيف على صفحاتها مقال الأستاذة “أميرة بهي” التي كتبته من وحى دفاعها عن رابعة مطر المتهمة بقتل زوجها، والمجلةُ ترحب بأي رأيٍ حول هذا الموضوع وحول القضايا التي تمسُّ حياة النساء في بلادنا.
ونحن نؤمن بأن ظواهر العنف النسوى هي نوعٌ من ردِّ الفعل أو العنف المضاد، وأن وراء كل من الظاهرتين العنف، والعنف المضاد داخل الأسرة أسبابًا عميقة، من الإحباط الاجتماعي والاقتصادي والنفسي، سيكونُ هناك مجال لمناقشتها في أعدادٍ قادمة، ولكننا هنا نؤكد على رأى الأستاذة أميرة بأهمية إيجاد مؤسسةٍ شعبيةٍ تدرس الظواهر وتتلقى الشكاوى من السيدات المتعرضات للقهر الاجتماعي، على غرار ما فعلت بلدان أخرى طغت فيها ظواهرُ العنف الأسرى على السطح، وأنشات بعض البلدان منازل لإيواء السيدات من ضحايا العنف الأسرى لحمايتهن ومنع رد الفعل المضاد، ولحماية الأطفال من الوقوع ضحايا دائمين لضغوط البيئة المحيطة والمحطمة.
“الرحمة فوق العدل“