يناير2021
تحل علينا في هذه الأشهر مرور عقد من الزمن على الثورات التي بها قامت الشعوب العربية والشمال افريقية ضد الاستبداد والقمع والقهر السياسي والاقتصادي، شكلت هذه الثورات تاريخاً جديد استعادت به النسوية حضورها كنضال سياسي في الفضاء العام وأعادت صياغته بشكل جذري، ورغم أن لها وجوه عدة لكنها تسرد بتاريخ وصوت واحد تماما كما تقدم قصص الاضطهاد الأبوي بصوت واحد، وتقدم تواريخنا بوجه وحيد يخفي تحته طبقات من التبييض السياسي للقمع، دفنت العديد من القضايا في تقاطعاتها المتعددة كما دفنت أنواع الاضطهاد تحت مسمى المرأة الواحدة أو القضية الواحدة، وحرمت العديد من النساء والهويات الجندرية من سرد قصصهمن خارج هذه المركزية.
هذا التهميش أو الإخفاء الممنهج للقضايا خارج مركزيات الهيمنة المتعددة (الجندر، الطبقة، العرق، الميول، القدرة الجسدية، المواطنة…) كانت السبب في أن تقدم صورة مضللة للاضطهاد تصورنا ككتلة متجانسة وتسطو على حقنا في تعريف الاختلاف والاختلاف هنا ليس شيئا هلاميًا بل اختلاف التجارب واختلاف أدوات القمع واختلاف القصص. لذلك نحتاج لاستعادة التاريخ واستعادة القصص من الهامش والتعرّف على تقاطعات هذه القصص، والآليات التي تظلل بها القضايا وتُغطّى.
نحتاج أن نتحدث بوضوح عن تاريخ العنصرية والأبوية وتاريخنا نحن في وسطها، وأن نقاوم ونفهم الدافع لمعرفة القمع الأول: الرأسمالية والأبوية، والقمع الأكثر تدميراً: العنصرية، والقمع الفريد من نوعه: قمعنا بناءً على جنسانيتنا وهوياتنا الجندرية وقدراتنا الجسدية، وأوراقنا الثبوتية، وتحدي كل أنواع هذه الاضطهادات ومقارنتها ببعضها.
علينا أن نسرد قصصنا مع القمع لنستعيد حقنا في الفضاء العام، وحقنا في تشكيل أصواتنا ونؤكد أن سرد اضطهاداتنا هو مقاومة لسردية القامع ولأساطيره واستبدالها بالمعرفة الثورية حول العنصرية المتجذرة حتى في حراكاتنا التحررية في دوائرنا التي نظن أنها آمنة لكنها تبث السمومية بمصادرة صوت النساء السودوات والمجتمع الكويري الأسود. لايمكننا التوقف لأن قصص العنصرية والأبوية هي التاريخ الذي لايسرد، والتاريخ الذي يزور، سنحتاج إلى تنمية طريقة للمعرفة نوجه فيها نضالنا السياسي لبعضنا البعض لكي نستطيع تخيل تغيير ممكن.
نحاول في هذا المقال انتزاع مساحة للصوت النسوي والكويري الأسود، صوت يقدم التجارب مع تقاطع العنصرية والأبوية كقصص لجميع النساء والأشخاص الكويرز الذين واللواتي لم يتسنى لهمن من قبل سرد أو سماع قصصهمن كأولوية وكتحليل يضع هذه التقاطعات في سياقها. هي عملية تتطلّب منّا أن نعيد حكاية قصصنا، أن نراجعها ونفرضها كنضال سياسي يقطع الطريق أمام من يتظاهر بعدم معرفته بارتباطات العرق والطبقة والإثنية والقومية والجنسانية والقدراتية كتقاطعات للقمع وللنضال.
قبل أن تتشكل صورنا عن المجتمع والنظام الذي نعيش فيه أيقينا أنه يمقتنا ويقصينا، أولى ذكرياتنا محملة بالعنصرية إنها في كل مكان وبمختلف أنواعها وأشكالها نعيشها منذ الطفولة وحتى الممات، نسمع الكثير من القصص ونرى بأم أعيننا ما يحصل، في المدرسة، والأماكن العامة ينادى الأطفال والشباب والكبار بكلمات مسيئة وعنصرية (عبد، خال، خادم، عزي…) يتم إقصاء الأطفال والمراهقين السود من النشاطات، والتجمعات، والفعاليات، والحفلات المدرسية لأنهم لايرغبون بوجودهم لأسباب عنصرية كما حصل معي أنا روني فيتاليا 17 عاما، امرأة كويرية سوداء وإحدى كاتبات هذا المقال.
ماذا حصل لي؟ سأخبركمن، بعد انتهاء اجتماع الأمهات في المدرسة كالعادة تصطحب كل فتاة والدتها لتعرفها على رفيقاتها، لكن فور رؤية أم احدى رفيقاتي لنا “فتيات ذوات بشرة سوداء” بين أخريات “ذوات بشرة بيضاء” أصيبت بالذعر، لم تلقي علينا التحية وتجاهلتنا، كانت تنظر لنا بشكل غريب ولكننا لم نقل شيئا، عدنا إلى منازلنا وفي اليوم التالي أخبرتنا رفيقتنا بأنها آسفة ولن تستطيع مرافقتنا أو الجلوس معنا بعد الآن، في البداية لم تذكر أن عنصرية والدتها كانت السبب ولكن بعد القليل من الضغط اعترفت بذلك.
إنها تلك الصورة النمطية التي تربطنا بالعنف وتوصمنا بالذنب، في كل مشكلة أو نزاع، أو خلاف يحصل بيننا في المدرسة، رأيت المعلمات يخشين الخوض في جدال معنا خوفا من أن نكون عنيفات رغم أننا مجرد طالبات مراهقات كسائر الطلبة نرتكب الأخطاء، لكن يبدو بأن اخطاءنا جينية نحملها في بشرتنا، ولوننا وعروقنا.
هي صورة مرتبطة بأيديولوجيا عنصرية وطبقية تلقي بالعنف على أقلية اجتماعية لكي تحور النظر عن البنية المؤسساتية التي تنتجه مثل أن تعتقل الشرطة أي شخص أسود يمارس حياته بشكل طبيعي دون أذية أي شخص لكي تقدمه كمثال على الاجرام وتلصق به التهم النمطية كالشغب والتخريب والسرقة والسطو كما حصل مع رينان:
“في إحدى المرات كنا أنا وصديقتي في المركز التجاري وبعد أن انتهينا من الدفع توقف السكرتير للتحقق منها لمعرفة ما إذا كانت قد سرقت أي شيء ولكننا كنا قد دفعنا بالفعل ولم يتحققوا من أي شخص آخر لأننا الفتيات السود الوحيدات في المتجر”.
هي نفس الأيديولوجيا التي جعلت النساء السود لايحصلن على المساعدة الطبية السريعة واتهامهن بالمبالغة والدراما والظن بأنهن يستطعن تحمل الألم وحتما ينتهي ذلك بموتهن أو تضررهن.
وهو ماجعل الكثيرين ينظرون للنساء السود على أنهن “خارقات” وقادرات على تحمل كل شيء، نجد الكثير من القصص من كل أنحاء العالم تصور النساء السودوات بأن لديهن قوة تحمل عالية للألم وهو ماساهم في الإهمال المتعمدة لصحتهن وحرمانهن من العلاج بل واتخاذ أجسادهن كمسارح للتجارب الطبية بدون موافقتهن. نعلم جميعًا بأن اختلاف الطبقة والعرق يفاقم مقدار وحجم الضرر والاضطهاد بشتى أنواعه، لكنه لايجعلنا أكثر قابلية لتحمل الألم.
من ناحية أخرى لعبت جميع المؤسسات السياسية والاجتماعية دورها في إعادة انتاج التراتبية والعنصرية، لكن مايختبره الأطفال السود في المدرسة يؤثر على حياتهمن للأبد، فهي من بين المؤسسات التي تقوم بوظيفة ايديولوجية تقدم الممارسات والأفكار العنصرية والطبقية والذكورية كشيء طبيعي ومشروع بل وتقدم البيئة المناسبة لاستمرارها، حيث عاشت كل طفل وطفلة سوداء الكراهية ودفعت لمقاومة الاقصاء مثل ما حدث مع ب.س من الصحراء الغربية:
“عشت العنصرية في جميع مراحل حياتي وعاشتها عائلتي في مخيمات اللجوء الصحراوية، لقد كانت حياتي اليومية محاولة دفاع مستمرة ضد الكلام والممارسات العنصرية وضد اقصائي. فالوقت الذي كان من المفترض أن أعيش فيه طفولة طبيعية أدرس وألعب، استنفذته في المقاومة والدفاع عن نفسي كنت أتشاجر في المدرسة لأنني سوداء، أتشاجر في مجموعات اللعب مع الأطفال لأنهم ينادونني “بيورثك” و “يالخادم” وعندما انتقلت نحو مدرسة داخلية “١٢ أكتوبر” عشت الكثير من العنصرية والمعاملة السيئة، كان علي الدفاع عن نفسي في الوقت الذي يعيش فيه أقراني طفولتهمن.
وعندما حصلت على منحة للدراسة في الخارج كنت السوداء الوحيدة بين المقبولين/ات فظنوا أن لدي واسطة أو أن أحد أفراد عائلتي ضمن قيادة الجبهة فأضطررت مرة أخرى للدفاع عن نفسي وإثبات أن الفتيات السود بإمكانهن الدراسة والحصول على منحة أيضاً، كافحت لأدرس وتخرجت وأنا الان أعمل ولم تعد لدي رغبة في الرجوع لهذا المجتمع ولا للعيش في مكان يرفضني”.
رينان من السودان ومقيمة في الإمارات تحكي تجربة مماثلة حيث عانت من العنصرية والكراهية من الطلاب والمدرسين هي ورفيقاتها:
“ذهبت إلى مدرسة خاصة الأغلبية العظمى فيها من العرب، كنا فقط 4 أطفال سود في المدرسة كان الأطفال متنمرين وعنصريين جدا يطلقون علينا أسرة “بلاكي” ولأنني من السودان كانوا يستخدمون كلمة (الزول\ة ) بطريقة عنصرية، ويتنمرون علينا بسبب لون بشرتنا، وتصفيفات شعرنا، لم يفعل المعلمون أي شيء حيال ذلك طبعا. كان لدينا أيضاً معلمة هندية ذات بشرة داكنة لا تستطيع التحدث بالعربية وكانوا يلقبونها بألفاظ عنصرية باللغة العربية. وليسوا الأطفال فقط من يمارسونها بل المدرسون أيضا كمدرس الموسيقى الذي لم يسمح للفتيات السود باختيار الآلات مثل الأطفال الآخرين وكان علينا أن نكتفي بما تبقى عنهم”.
الكراهية والاقصاء هي أيضا عنوان تجربة زينب احميدة من موريتانيا:
“تعرضت للاقصاء بسبب لون بشرتي في الثانوية، حيث كنت من التلاميذ المتميزين في اللغة الإنكليزية وأدرس في القسم الخامس في الثانوية، المتفوقين/ات من القسم في مادة الإنكليزية والناطقين بها يدرسون في Access وهو مركز أمريكي لتقوية التلاميذ الذين واللواتي لديهم/ن مستوى جيد في اللغة الإنكليزية وتجرى سنويا مسابقة لدخوله.
عندما نجحت في امتحان الولوج إلى Access رفض أستاذ لي أن أكمل دراستي في المعهد حيث قام بوضع تلميذة أخرى من نفس شريحته ولونه في مكاني. رفعت دعوة إلى الإدارة ولكن دون جدوى لأن الاختيار بيد الموريتانيين هم من يحررون القائمة النهائية للمشاركين والمشاركات وهو ما أدى لاقصائي لأسباب عنصرية.
تأثرت بهذا الفعل العنصري وأصبت بالاحباط الشديد وأثرت هذه الحادثة علي مدة شهر كامل تأخرت في الدراسة ولازلت حتى الآن أتذكرها، ولكني تماسكت في الأخير لأننا نعيش في دولة تقوم على الظلم والتهميش والعنصرية”.
تجربة الصحراء آباتي من موريتانيا تحكي الواقع نفسه:
“هناك تجربة لا أنساها عندما كنت في الابتدائي كان نجاحي يوضع موضع الشك فأن أكون سوداء وأحصل على المرتبة الأولى تعتبر معجزة وتعاد لي بشكل حصري الاختبارات لأنهم غير واثقين أنني حصلت على المرتبة الأولى ويعاد لي الاختبار مع استاذ خاص ليتأكدوا أنني أستحقه”.
بالنسبة لحمادة كويري أسود، يعيش ما بين دولتي السودان والإمارات فإن تواجده كالطفل الأسود الوحيد في المدرسة وتعريضه المستمر للكراهية دفعه للمعاناة النفسية المبكرة وكراهية الذات:
“أن أكون الشخص الأفريقي الوحيد جعلني اتعرض للتمييز والتقليل من شأني، أصبحت أكره لون بشرتي وأثناء الاستحمام أقوم بفرك جسمي واستحم كثيرا لأني ظننت أن ذلك سيغير لوني ويجعلني ” نظيف غير متسخ ” أو افتح لكي اشعر بتحسن”.
أحمد 21 عاما نشأ في الخليج ويقول بأنه “لا يزال يشق طريقه عبر العالم الظالم للسود والنساء :
“في المدرسة أشير اليّ باستمرار باسم ” بلاكي ” أو “العبد ” وكانت التجربة نفسها ذات مراحل مختلفة، وتتراوح بين العنف الجسدي، والرسائل المسيئة، إلى المضايقات النفسية والجسدية، الشعور الذي أتذكره حقًا هو السخرية من وجود “شعر أفرو ” وكان سببًا كافيًا لعدم التفاعل معي، على الرغم من أنني لم أكن الطفل الأسود الوحيد في الفصل، إلا أنني كنت بالتأكيد من يحمل جنسية أفريقية. واليوم، أستخدم الفكاهة كطريقة للتعامل مع مثل هذه التفاعلات غير المريحة مع الأشخاص، ومحاولة الإشارة إلى العنصرية المطبعة في بيئتنا. صحتي النفسية متقلبة, عدم رؤية أي شخص يشبهني خلال مشاهد التلفاز، على سبيل المثال، يجعلني أشعر بأنني غير مرئي وغير مهم في بيئتي، ولحسن الحظ، لا تتأثر حياتي الحالية بشكل سلبي بصدمات الماضي، وأكثر وعياً بمن أقضي وقتي معه”.
تعريض الأطفال السود والأطفال من أقليات اجتماعية أخرى للكراهية والاقصاء في المدارس أنتج تمييزًا سياسي واقتصادي يؤثر على مقدرتهمن في الوصول للخدمات الأساسية فالمجتمعات العربية والشمال افريقية أنتجت التراتبية العنصرية كتراتبية طبقية أيضاً، فاستمرار أساطير تفوق الفئات المهيمنة أدى لاحتكار الثروات والموارد واحتكار فرص العمل والتمثيل السياسي من الفئات المهيمنة، وهو ماجعل العديد من النساء السودوات أو من أقليات مضطهدة يختبرن الفقر المؤنث والحرمان من العمل والاقصاء من التنظيمات السياسية أكثر من غيرهن وهي تجربة هيام من موريتانيا:
“قبل عام ونيف تمّ اقتراحي من طرف أحد المقربين- دون علمي طبعا -على أن أكون أحد أعضاء المكتب التنفيذي لحركة شبابية قيد الإنشاء نظرا لتجربتي السياسية ولمعرفة بعض القائمين على الحركة بما يمكنني أن أقدمه ليس إلاّ، لكن سرعان ما استحضروا اللاوعي الجمعي وموقفه من “لمعلمين” وعدم جدوائيتهمن فيما يعتبرونه ممارسة سياسية في البلد القائم على المنفعة والتي بكل تأكيد لا تخدم مشروعهم العنصري في طياته وإنطلاقا من التسلسل الهرمي للمجتمع كان ردهم وقحا دون أدنى تفكير:
“منت ذي الأسرة لاينبغي أن تكون في واجهتنا هناك من هو أحق منها وأكثر نفعا علينا”
أخبرني أحد القائمين على الحركة بما جرى من حديث في غيابي، لا أخفيكن سراً في تلك اللحظة أحسست بغصة في حلقي كمن يوشك على ابتلاع حجر بحجم البيضة، تمالكت نفسي الهشة وجمعت كل قواي ابتسمت ابتسامة يتيم واهتزت مفاصلي شعرت بقشعريرة قوية تسري داخل جسدي، توجهت مباشرة إلى الخارج استقلت سيارة أجرة اخبرته بوجهتي وأن يسير دون توقف.
كانت لحظات مليئة بالفراغ استحضرت جميع قصص ومرويات الميثولوجيا الشعبية عن لمعلمين. بعد عشرين دقيقة تقريبا وصلت إلى المنزل. اتجهت إلى غرفتي قبل أن يراني أحد كنت كمن يجر بحبل من الخلف متثاقلة الخطوات رغم هرولتي، قد يكون هروب إلى الأمام من يدري كم تمنيت أن يكون حلما. كان يوم الخميس فقلت نفسي هذا جيد نحن في نهاية الأسبوع مما يعني أنني أستطيع المكوث في المنزل حتى يوم الاثنين علني أستطيع أن انسى أو اتناسى ما حدث، ولكن ما يؤلم أكثر أن تمتد تلك اللحظات القاسية حتى تصبح روتين حياة لا مفر منه!”
تعد ثقافة الاغتصاب ركيزة ثابتة في المجتمعات الأبوية، تتحول فيها النساء والهويات الجندرية من ضحايا إلى مسؤولات عن الانتهاك، تترواح التهم من شكل الملابس إلى مكان التواجد وقت الاعتداء ثم يبدأ البحث في حياة الضحية الشخصية، ماهي خلفيتها وطبقتها ومانوع الصور النمطية الملصقة في مجموعتها والتي على أساسها ستقرأ لائحة الاتهامات ويبرر انتهاكها وفقها.
بالنسبة للنساء السود في المجتمعات العربية والشمال افريقية لطالما كان الطمس ولوم الضحية وثقافة الاغتصاب الممنهجة هي ردة الفعل الطبيعية تجاه الانتهاكات التي يتعرضن لها، إذ لاتصنف هذه الجرائم في الأصل كإعتداء بل حق مشروع يرجع لبنية العبودية التي كانت بموجبها أجساد النساء السود مسرحاً لانتهاكات الرجال الاقطاعيين واعتداءاتهم المتكررة، انتقل ذلك إلى الفضاء العام المعاصر الذي لم يتسع يوماً لسماعهن أو توفير المساحة الآمنة لسرد هذه الاعتداءات فحتى في أكثر الأوقات الجذرية التي عرفها الحراك النسوي في قضايا الاعتداء الجنسي كانت قضايا الاعتداء تجاه النساء والفتيات السود غائبة تماما وتخفى تحت العنوان الكبير “الاعتداء الجنسي على النساء” دون تهيئة مساحة المقاومة النسوية لقصص يتقاطع فيها الانتهاك الأبوي مع الانتهاك العنصري.
لازلت النساء والأشخاص السود يحاولن النجاة فكما وضعت الذكورية وثقافة الاغتصاب حدوداً وخوفاً وعنف معنوياً للنساء يحولهن من “ضحايا” إلى “مخطئات” أي مذنبات بالفطرة، ينطبق ذلك على السود يصارعن الوجود! فمجرد وجودهن وممارستهن لحياتهن وسط مجتمعات كهذه يجعلهن مثقلات ومتعبات وخائفات من التعامل مع واقع يفرض عليهن تقاطعات الألم ويفرض عليهن تحمل الكثير من طرح الأسئلة الشخصية والمحرجة والتعجب والبحلقة والتقزز واللمس والسخرية من لون بشرتهن.
كما حدث مع الصحراء اباتي من موريتانيا:
“في إحدى ليالي رمضان خرجت مع صديقاتي للشارع العام كنت أرتدي سروال دجينز تحت “الملحفة”، مررنا بجانب مجموعة من الرجال “بيظان” قال أحدهم للآخر بنبرة سخرية وتحرش “شوف ذي الحرطانية جسمها متناسق وزين لو كانت بيظانية تعود كاملة لكنها سوداء كمبة كحلة والليل احكل” أحسست بالقهر ولم أعرف كيف سأواجهه هل سأواجه خطاب التحرش وجنسنتي وتشييئي أم أواجه خطاب العنصرية!”.
التحرش، والعنف، والطرد، والاعتداءات، والاهانات، هي كلمات تصف معاناة سنوات تحكيها لنا V :
“على مدار السنوات عانت جدتي من العنصرية والإهانة بسبب اختلاف لونها عن بقية العائلة وبسبب تزويجها قسرياً من جدي وهو أبيض، وحتى بعد الإنجاب لم ينجو أبناؤها من العنصرية فوالدي وأشقاؤه كانوا أيضا سود وبسبب ذلك طلق جدي جدتي لعدم إنجابها أطفالا بيض بلونه هو.
لم ننجو نحن الأحفاد من حلقة العنف، ما بين الاعتداءات التي تأتي من الأقارب وتعرضي انا واختي للتحرش بعمر ال 9 من قبل ابن شقيق جدي، إلى احتقارنا في الحي الذي نسكن فيه ومقاطعتنا من الجميع، وأمام المسجد الذي في حينا كان يقوم بطرد اخوتي الصغار من الصلاة وحلقات التحفيظ، حتى انهم اصبحوا لايصلون في المسجد. وفي المدرسة كنت أمنع من الجلوس في المقعد الأمامي وتعرضت لأشد العبارات قسوة ونعم لقد مضى وقت طويل على ذلك ولكني لن انسى لا يزال محفورا في ذاكرتي”.
يحكي لنا ن.ف من الصحراء الغربية أيضاً قصة قريبته التي تعرضت للاغتصاب الجماعي ولسيل من عنف ثقافة الاغتصاب والعنصرية:
“من القصص التي تجسد معاناة النساء الحرفيات تحت النظام القبائلي الأبوي العنصري الصحراوي هي قصة ابنة عمي التي كانت في إحدى الفرق الغنائية في مخيمات اللجوء الصحراوية والتي كان من بين مغنيها الناجم علال. كانت امرأة جميلة للغاية وموهوبة أيضا، في إحدى النشاطات التي شاركت فيها عرض الناجم وبعض رفاقه أن يوصلوها لمنزلها بعد انتهاء الحفلة ووافقت قاموا بغدرها واغتصابها جماعيا في الطريق.
أتذكر هذا الاعتداء جيدا لأن أختي التي كانت في مثل عمرها أرادت أن تذهب للحفل الذي أقاموه وأمي رفضت، أتذكر كيف انفجرت باكية تصرخ على أختي وهي تقول “لهذا لا يجب أن نذهب للحفلات، كان من الممكن أن تكوني أنت في مكانها”.
الجميع قاموا بلومها، لا أتذكر وقوف أي كان من عائلتنا أو غيرها معها أو حتى مؤازرتها، رفضت الدولة البحث في القضية ولم يحاسب الناجم علال ولا أصدقاءه، بل قام بعدها بتسجيل جديد لأغنية قدحية وعنصرية ضد النساء الحرفيات “يا لمعلمة يگاع مولاك”، عاشت الكثير من الألم وتم وصمها طيلة حياتها”.
في بداية التسعينات طرح موظف في المطار على الكاتبة والنسوية السوداء أودري لورد سؤال “ألايزال شعرك سياسياً؟” بعد أن منعت من السفر بسبب تسريحتها الإفريقية التي صنفت بأنها غير لائقة/ممنوعة.
اليوم في القرن الواحد والعشرين لاتزال النساء السودوات في أماكن كثيرة من العالم بما فيها الدول الناطقة بالعربية يواجهن نفس الإقصاء، لايزال شعرهن سياسي كمظهرهن ولونهن، سياسي في الطريقة التي يعزلن بها من الفضاء العام، وسياسي بالطريقة التي يقاومن بها هذا العزل والاقصاء الممنهج.
سادت لوقت قريب ناقشات حول تصفيفات الشعر الإفريقية وأنه في الأخير مجرد شعر ومجرد تصفيفات ولايمكن أن تجادل النساء السود حول استخدامها من غير السودوات للزينة لأنها تحمل تاريخاً من الاقصاء، حسناً لقد كانت الساحة النسوية الناطقة بالعربية أقل وعياً أو مبالاة بحقيقة أن شعر النساء السودوات كما تصفيفات شعورهن هي سياسية، ترددت تلك العبارة “هو شعر فقط لماذا سيتحول لدراما أيضاً” وأن تاريخه كأداة للإقصاء “يرتبط بالغرب فقط” وكأن الدول الناطقة بالعربية لم تعرف العبودية ولا تعيش فيها النساء السودوات الاقصاء بسبب طبيعة شعورهن ولون بشرتهن، في تجاهل تام لإرث وسيرورة القهر والعزل عن أجسادهن وهوياتهن.
هو ليس شعر فقط بل جزء من هوية تتصل بالعرق والطبقة، وتنتج العزل والاقصاء من الفضاء العام من المدارس ومن أماكن العمل.
الأغلبية العظمى من الفتيات السود مررن بتلك المواقف التي تحول شعورهن لموضوع سياسي من لمس وشد وتحسس وطرح الكثير من الأسئلة حول التسريحات الإفريقية وطبيعة الشعر الأفريقي وصولاً للتنمر والرفض كما حصل مع رنا 17 عاما، امرأة سوداء كويرية من السعودية:
“طوال حياتي لم أعمل الضفائر بمختلف أشكالها لم يكن لدي الجرأة الكافية لترك شعري الأفريقي على طبيعته بسبب تلك النظرات والكلمات والكراهية “مثل قومي بربط شعرك! لن تستطيعي التعامل مع شعرك, لماذا يبدو هكذا؟ شعرك منكوش! ما هذا؟ لماذا لا تقومين بتمليس شعرك ليصبح ناعما…؟”
كانت تسيطر علي تلك الفكرة بأن يكون شعري ناعما، طويلا، يتحرك مع نسمات الهواء. ولكنني في مرحلة التخلص منها وبدأت في حب شعري وتقبل ذاتي لأن شعري جزء من هويتي الأفريقية”.
بالنسبة ب.س من الصحراء الغربية كان شكلها لايعبر عند المجتمع الصحراوي عن هوية المرأة الصحراوية فهي ليست بيضاء البشرة وشعرها مجعد ولم تلتزم بالقواعد الأبوية حول تغطية نفسها بالزي الموحد الملحفة:
“عندما تخرجت انتشرت صور تخرج دفعتي وكنت لا أرتدي الملحفة تعرضت لهجومات عنصرية وذكورية لأنني لم أرتدي الزي المفروض على المرأة الصحراوية ولأنني سوداء ذات شعر أفرو وغير محتجب كنت بالنسبة لهم لا أستحق الهوية الصحراوية فقد خالفت المعايير الذكورية لمظهر المرأة (تغطية نفسي) والمعايير الطبقية والعنصرية لمن هي الصحراوية. المجتمع الصحراوي الحياة فيه مستحيلة إذا كنتِ امرأة وسوداء وفقيرة علينا المقاومة يوميا لنعيش رغم صعوبة اللجوء على الجميع كانت التحديات علينا مضاعفة علينا أن نتحدى اللجوء والعنصرية والفقر والذكورية أيضا”.
غرز معايير الجمال العنصرية في النساء من خلال التنشئة والمؤسسات الذكورية يفقد هؤلاء النساء الثقة في أنفسهن ويشعرن بالكراهية تجاه شعرهن وطبيعتهن، وهي جزء من أدوات النظام الأبوي التي تعمل على فرض معايير معينة لكي تسيطر على أجسادهن وجنسانيتهن وتهيئهن للعب الأدوار الجندرية.
لكن حتى في هذا العنف تكون تجارب النساء السود متقاطعة القمع فالمرأة السوداء في المجتمعات العربية والشمال افريقية تجبر على تغيير لونها لأن المعايير الأبوية تعبتر اللون الأسود “قذارة” والشعر الأفرو “بشع”.
تقاطع الذكورية مع العنصرية ضد النساء السود تعمل على زرع فكرة أن إرضاء معايير الرجل بل معايير الرجل الأبيض بالتحديد التي خلفها الاستعمار ونشر ثقافة كراهية الشعوب الأصلية واستخدام الوسائل الأيديولوجية كالإعلام واستخدام هذه المعايير كسوق للرأسمالية العالمية التي تتغذى على مخاوف النساء السودوات من الاقصاء فتستثمر فيها وتسوق لنشر مواد التبييض والفرد.
ساهم هذا في تجذير أن البياض والشعر الناعم يعني الجمال أما السواد والشعر الافريقي فهو رديف للبشاعة أنتج ذلك كراهية داخلية بين المجموعات السوداء في هذه المجتمعات أو مايعرف بال colorism، وهو مايعني أن النساء السودوات لايعانين فقط من العنصرية السائدة في المجتمعات العربية والشمال افريقية بل أيضاً من سيادة ايدولوجيتها بين صفوف المجموعات السوداء نفسها.
تشكل العنصرية مصدر قلق للكثيرين والكثيرات في مجتمعات المثليات والمثليين ومزدوجي ومتعددي الميول الجنسية ومغايري وثنائي الهوية الجندرية، وأفاد الكثيرون من أفراد الأقليات العرقية والاثنية والقومية عن تعرضهمن للتمييز من أفراد مجتمع الميم عين، مثل تعرض العديد من السود للعنصرية من البيض في ذات المجتمع، مما دفع البعض إلى رفض تسميات مثل «مثليّ/ gay» أو مثليات\lesbian والخروج بمصطلحات خاص بهمن. كما يرفض البعض الصلات مع ثقافة مجتمع الميم عين عند البيض، لتزايد العنصرية والتعسف من قبل بعض المثليين البيض.
وقد يجد أفراد الأقليات العرقية من مجتمع الميم عين الشرق الأوسط وشمال افريقيا أنفسهمن في أقلية مزدوجة، إذ لا تتقبّلهمن أو تفهمهمن بشكل كامل فمجتمعات الميم عين من البيض في هذه المجتمعات بشكل رئيسي لا زالوا غير مُتَقَبَّلين بالكامل لهمن بناءً على هويتهمن العرقية.
ويعاني العديد من الأشخاص من العنصرية في مجتمع الميم عين المهيمن الذي تندمج فيه القوالب النمطية العنصرية مع القوالب النمطية الجندرية وكتب الكثيرون تجاربهمن مع تجذر العنصرية والأبوية ضد أفراد مجتمع الميم عين الأسود، ووضع قوالب نمطية للتفضيلات مثل الزعم أن الرجال السود الذين يعبرون عن تفضيلهم الجنسي للرجال البيض يعانون من «عنصرية بيضاء موروثة وخبيثة». ويعارض بعض الرجال المثليين من معتنقي الأفروسنتريك العلاقات بين المجموعات العرقية، معتقدين أن المثليين السود الذين يفضلون الرجال البيض يفتقرون إلى جذور قوية في المجتمع الأسود، أو أنهم غافلون عن العنصرية ولا يفتخرون بتراثهم، كما يظن المناهضون للعلاقات بين الأعراق أنه بدلًا من «كراهية الرجال السود لسوادهم»، على الرجال السود المثليين مواعدة الرجال السود المثليين الآخرين فقط.
يخلق هذا التمييز والتنميط حاجة إلى مجتمع داعم للتخلص من الضرر النفسي الذي يسببه، فغالبًا ما يجد الأشخاص السود المثليين أنّه من غير الممكن تلبية احتياجاتهم النفسية لا في مجموعتهم العرقية التي قد تضطهدهم برهاب المثلية، ولا في مجتمع الميم عين الذي قد يضطهدهم بالعنصرية
في الفترة الأخيرة ظهرت عدة نساء سود وتشجعن للتحدث عن معاناة العيش كامرأة سوداء ومثلية في دول عربية. مثل precious من البحرين، امرأة سوداء ومتعددة الميول الجنسية في منتصف العشرينات تشارك رؤيتها للعنصرية في عالم أبوي بعدستها الخاصة ضمن مقابلة اجريناها معها ومع عدة نساء وأشخاص سود كويريين:
–مرحبا, كيف تشعرين حيال نفسك؟ هل لا زال للعنصرية تأثير على صحتك النفسية؟
صحتي النفسية سيئة ولكني لا ألومها على العنصرية فقط، ومع ذلك، نعم، لا تزال تؤثر علي، لأنني أستيقظ لأتفقد الأخبار كل يوم، هناك قتيل رجل، امرأة سوداء أو إطلاق بعض رجال الشرطة النار على السود.
ثم أرى أفراد المجتمع الكويري الأسود يواجهون ضعف ذلك فهمن يتعرضون لرهاب وكراهية المثلية والعنف والقتل أيضًا. كل يوم أستيقظ وأنا أعلم أنني سوداء وأنثى ومثلية وأعلم أنني سأسمع خبرًا عن موت جزء مني في وسائل الإعلام. لذلك، نعم، إنه يؤثر علي، نعم هناك تأثير يومي ولا يمكنني فعل أي شيء حيال ذلك. أن تكون امرأة سوداء ومثلية في العالم العربي، ستخرجين وأنتِ تعلمين أنه سيتم الحكم عليك بطريقة أو بأخرى، إما من خلال لون بشرتك أو اختياراتك في الحياة أو ببساطة عن طريق جنسك. لم أطلب هذا ولكن لا يزال يتعين علي التعامل معه كل يوم”.
تقاطع العنصرية مع الهوموفبيا وأنواع أخرى من الاضطهاد أثر في الحياة العاطفية للعديد من الأشخاص الكوير السود مثل حمادة كويري وأسود من السودان:
“اكتشفت ميولي الجنسي في المرحلة الثانوية، لكني انصدمت من عدم تقبل الآخرين لي، ففي ثقافة المواعدة في السودان الأمر يصبح أكثر صعوبة للمثليين السود بسبب العنصرية، مثل عدم تقبل الاشخاص من غرب\جنوب السودان، كما يوجد اقصاء تجاه للمواطنين من بعض البلدان الأفريقية مثل جنوب السودان والصومال، شهدت الكثير من العنصرية من الأصدقاء واعجابهم بالأشخاص ذوي البشرة ( البيضاء\قمحية\سمراء ) بصورة مرعبة”.
هل مررت بتجارب عاطفية سابقة سيئة بسبب العنصرية؟
“كانت لي علاقة تجمعني مع شخص لون بشرته سوداء وأنا أسمر كان أصدقائي دائما ماينظرون إليه بطريقة تعني “نحن مامتقبيلنك معانا عشان أنت أسود ” ولا انسى الألقاب التي كانوا ينادوننا بها مثل “ماشي مع العبد ده لي شنو؟ ” ولا ننسى الاعتقاد النمطي السائد بأن الأشخاص ذوي اللون الأسود يتمتعون بيأداء جنسي ممتاز، فكثير منهم اعتقدوا اني احبه لأنه “فحل أسود” مما أثر على علاقتنا وأدى إلى الانفصال”.
وربما أكثر مايؤثر في تجذير العنف الأبوي والعنصري هو عدم وجود مساحات آمنة لحكي هذه التجارب أو وجودها مع عوامل خطر كثيرة تحيط بها.
سألنا مايكي من السعودية 25 عاما, أسود غير معياري جندريا ومصمم أزياء وناشط في حقوق السود والمثليين. عن تجربة النشاط الرقمي وما نوع خطاب الكراهية الذي تعرض له من مواقع التواصل الاجتماعي؟
“نعلم جميعًا أن وسائل التواصل الاجتماعي سامة، خاصة بالنسبة للمجتمع الميم عين، يمكن لأي شخص أن يكون لئيمًا ويعبر عن كراهيته، ولكن ماذا لو كان هؤلاء المثليون/المثليات من السود؟ يتلقى الكويريون السود أسوأ أنواع العنصرية، ويحكم عليهمن بسبب ماذا وأين ومن همن. قبل أسبوع، كتبت موضوعًا عن ”أشياء لايمكنك قولها/ فعلها للسود” انهال علي الهجوم وتساءلت لماذا ليس من حقي أن أقول ما يزعجني كشخص أسود؟ كالعادة سيبدأ الناس بالهجوم مرة أخرى، فهذه طبيعة وسائل التواصل الاجتماعي، ولكنهم قد بدأوا في دفعها إلى أبعد من ذلك، لا أذكر الكثير ولكن عندما عرفوا انه هناك فرصة ضئيلة جدًا لأن أكون شخصًا مثليًا اضافة إلى هويتي السوداء، بدأ الناس يتمنون لي الموت وأنه يجب علي أن أقتل نفسي! مضحك أنه بسبب هذه الهوية من المفترض أن أكون أقل من أي شخص آخر.
ومن المحزن أن لا أحد يتحدث عن شيء كهذا، فالكثير من السود والمثليين لايستخدمون المنصات الرقمية لإعطاء بيانات واضحة حول هذا النوع من العنصرية والتسلط عبر الإنترنت. وسائل التواصل الاجتماعي هي مكان يمكن لأي شخص أن يقول فيه ما يجعله يشعر بالرضا عن نفسه، ولكن هل هي حقًا مكان آمن للكوير السود؟ “.
حسنا مايكي, رغبة المثليين والمثليات في الإعلان عن أنفسهمن كما تقول الرفيقة ايمان سواء كانت في الواقع أم على مواقع التواصل ليست فقط مجرد رغبة نحو الخروج من الخزانة بشكل علني علما بأن البعض يبدأ بالخروج إلى عائلته وأصدقائه، ولكن الكثير منا يظن بأن ذلك ليس فقط لنمارس حقنا الطبيعي في الحب والعلاقات والتعبير عن رغباتنا الجنسانية والشهوانية بل هي أيضا وبوضوح رغبة في الحماية، نحن نحمي أنفسنا من المجتمعات الوحشية التي نعيش فيها، نحمي أنفسنا من التهديد والابتزاز بكشف حقيقتنا، هذه ليست حياة آمنة، لذلك يلجأ المثليين أحيانا إلى قولها بصوت عالي وبشجاعة، كي لايتركوا مجالا للسفهاء للتحكم بمستقبلهمن وتدمير أمنهمن الشخصي، وأمن عائلاتهمن ومن يحبون. علما بأن العديد من الحركات الاجتماعية في الستينات مثل حركة ” القوة السوداء” قامت بالهام العديد من الناشطين والناشطات المثليين والمثليات ليصبحوا أكثر راديكالية
الوصم والعنف والعنصرية لم يؤدي فقط لخوف الكثير من الأشخاص من الخروج بهوياتهمن الجنسانية والجندرية، بل جعلهمن أيضا يرفضون المواعدة والشروع في علاقات سواء مثلية أو مغايرة بسبب العنصرية والهوموفوبيا. يعتقد البعض أن دوائرنا النسوية والكويرية لا تتضمن هذه الاستعلائية والاقصاء وأننا نحتفي بالاختلاف ونشجع على تقبل الجميع ودائما نظهر الوحدة والفخر والقيم المشتركة ولكن في هذا العالم العربي تقوم العديد من النساء بهويات جنسانية معيارية أو مثليات ومغايرات، وكويريات بإعادة خلق ذات السيناريو، كيف؟
مثلما حدث في موجات النسوية الأولى والثانية حينما طمست أصوات وقضايا النساء والكوير السود وتاريخ نضالهمن، بل والاستلاء عليه مثل الاستلاء على تاريخ شهر الفخر الذي كان نتيجة لنضالات العابرات والكويريات السودوات مثل مارشا بي جونسون، وتحويله لكارنفال مفرغ من حمولته السياسية وتبييض وتسكيت واخفاء بنيات القمع المتعددة.
ورغم أن الحراكات النسوية والكويرية في المنطقة لاتزال في مراحل البناء إلا أن هناك اقصاء واضح يصور القضايا من منظور واحد، فالخطاب حول الجنسانية والهويات الجندرية كان ولايزال يسيطر عليه الكوير من البيض أو الطبقات المهيمنة، والخطاب حول العنصرية محتكرة من قبل الرجال السود، فيما تبقى أصوات النساء المثليات السوداوات والأشخاص الكوير مدفونة لاتُسمع.
لايزال يسود صوت استعلائي بين بعض النسويات العربيات، يتمسك بالعنصرية والاستبداد الديني ويطالب بفوقية بالحصول على حقوق المرأة العربية ” النمطية ” أي المناسبة للمعايير الطبقية والعرقية والغيرية التي لاتقبل الهويات الهامشية كالسود والهويات الجندرية أو التنوع الثقافي والديني. هذا يرجعنا دائما لجدلية الأولويات وأن هناك تراتبية في القمع وحقوق فئة تحوز امتيازات معينة أهم من حقوق فئة أخرى لا تملكها.
لاتزال النسوية السائدة في الكثير من الخطابات ترفض استخدام التقاطعية، ولايزال تهميش المرأة العربية والأفريقية والسوداء سواء كانت مغايرة أو مثلية أو كويرية وتعيش في مجتمع عربي عنصري أمراً مسلماً به حتى داخل أكثر الحراكات تحرراً.
فنحن لا نواجه فقط الأبوية والذكورية والهوموفوبيا بل أيضا العنصرية والتمييز، وبالطبع لايمكننا القاء اللوم على النساء فقط فكما تعمل ثقافة الذكورية والأبوية على تلقين النساء أن “المرأة عدوة المرأة” فهي أيضا لديها تأثيرها الخاص في تعزيز أفكار وسلوكيات فوقية تعمل على تفرقة وزرع الكراهية والخلافات بين النساء من عرقيات وثقافات مختلفة، لكن ذلك لايمكن فصله عن سياق الطبقية والامتيازات وسيادة خطاب ليبرالي يدافع عن النساء حسب انتمائهن وأهميتهن للنظام الطبقي السائد، خطاب لايمس بأنواع أخرى من القمع مثل الطبقية والعنصرية وسياسات الهجرة واللجوء والكفالة مثل مايحصل مع اللاجئات والمقيمات والنساء البدون في البلدان العربية وحرمانهن من الأوراق والخدمات الرئيسية وعيشهن في عنف وتهديد مستمر من الدولة الأبوية والعنصرية.
وهو مايحدث أيضاً مع عاملات المنازل الإفريقيات والآسيويات المهاجرات في لبنان وبلدان الخليج، اللواتي تبدأ معاناتهن مع ربات عملهن ومن مواجهتهن لنظام الكفالة الذي هو بحد ذاته نظام عبودية حديثة يحرص على استمراريته جشع النظام الرأسمالي، وصولا لمواجهتهن لاعتداءات وحشية جسدية وجنسية وتعذيب وطرد وتشريد وعدم اعطاءهن مستحقاتهن المالية ومنعهن من السفر وحرية الحركة والتنقل.
كل هذه القضايا لاتزال تناقش من بعض النسويات بأنها خارج عن نضالهن وأنها ليست قضايا نسوية في الأساس.
سردنا المستمر لهذه القصص هو استعادة للنضال النسوي وصياغته بشكل جذري وتأثيثه بتقاطع النضالات وأهمية التضامن وأهمية القصة في مواجهة التعتيم مثل مانقدمه في هذا المقال وهو ليس استجداءً لشفقة وتعاطف القامع والعنصري أو غيرهم فهذا لن يغيرهم أو يوقف العنصرية الممأسسة، بل لتشعر النساء والرجال السود والكوير بأن لدينا أصواتً وقصص وتجارب نرويها ونشاركها مع بعضنا، لدينا تاريخ ونضال نسرده خارج سردية القامع عنا، ولكي لا تكره فتاة صغيرة سوداء نفسها وشكلها وطبيعتها البيولوجية وميولها، وتعاني لتقبل ذاتها في وسط مجتمع مشحون بالكراهية والعنصرية والهوموفوبيا ونظام عنصري وأبوي وطبقي. ولكي تأتي من تحتاج لقراءة وسماع ذلك وتكون هذه المواساة لها ولكي يعلمن جميعا أنهن لسن وحيدات.