الأدبيات الشرعية والفقهية من القرن التاسع إلى القرن الخامس عشر
ترجمة:
بقلم:
المنهجيات والمنظومات والمصادر
لدراسة النساء والثقافات الإسلامية المداخلات تبعا للموضوع
الأدبيات الشرعية والفقهية
من القرن التاسع إلى القرن الخامس عشر
إن القانون الإسلامي أي الشريعة الإسلامية قامت وتطورت بشكل رئيسي من البداية على أيدي مؤسسات أبوية واستمرت كذلك حتى الوقت الحاضر، وهي في ذلك مثلها مثل معظم المؤسسات والمذاهب القانونية الإنسانية. ولكن هذا لا يعني فقط أن معظم مفسري الشريعة الإسلامية عبر كل العصور كانوا رجالا، وإنما يضاف إلى ذلك أن النبرة الطاعية على التفسيرات والاجتهادات والقرارات الشرعية الإسلامية كانت تسعى إلى حفظ وإبراز فضل الرجال على النساء، فالنساء خلقن الحياة في قوالب وظيفية محددة حيث يتوقع منهن التفاوض على أدوارهن السياسية الاجتماعية داخل معايير محددة وضعها لهن الرجال. وفي أغلب الأحيان وطبقا لهذه القوالب الوظيفية كان يتم حبس المرأة في أدوار مساندة أساسا للرجل، حيث يكون على النساء تلبية حاجات ورغبات الرجال كأمهات وزوجات وبنات. وبينما يتم تمكين الرجال بقدرات تفاوضية أعظم بكثير تسهل عليهم لعب أدوار اجتماعية وسياسية شديدة التنوع، كان يتم تصوير قدرة النساء على إعادة تعريف أو تجديد أدوارهن داخل وخارج مضمون العائلة على أنها منبع الشر والانهيار الأخلاقي.
ويعج التراث الفقهي الإسلامي بالتحذيرات مما يسمى “فتنة” (أي غواية ومكر) النساء ومخاطرها على الرجال. وقد تم تكريس الصورة النمطية القديمة للمرأة باعتبارها وسيلة غواية وإحدى أهم أسباب الانحلال الخلقي لدى الرجال، واستخدامها للحفاظ على النساء داخل حدود القوالب الوظيفية ولتقييد قدراتهن التفاوضية. وأفضل تمثيل لهذا هو التراث المنسوب للرسول والذي يشير إلى أن معظم وقود جهنم هم النساء والرجال الذين يستجيبون للغواية، وهو الأمر الموجود أيضًا في العديد من نصوص التراث المتحيزة ضد النساء التي تقيد قدرة المرأة على السفر بدون مرافق ذكر (محرم)، أو التي تؤكد على أن واجب الزوجات والبنات طاعة الأزواج والآباء، وأن رضا الله عن المرأة يتوقف على رضا الزوج، وأن الزوجة لن تدخل الجنة بدون رضا زوجها، أو أن الملائكة تلعن النساء اللاتي يغضين أزواجهن أو يتسبين في تعاستهم (Abou El Fadl 2001). وهنالك نصوص أخرى متحيزة ضد المرأة تدعو النساء إلى تجنب مغادرة منازلهن إلا للضرورات القصوى، أو تلك التي تحاول إقصاء النساء عن الأماكن العامة مثل الجوامع والقبور أو الشوارع العادية، ففي هذه النصوص تؤمر النساء بالبقاء في أبعد مكان في خلفية الجامع أو السير في أبعد جزء من رصيف الشارع بدلا من السير في وسطه. وبنفس الطريقة هناك نصوص تشكك في قدرة المرأة على تبوؤ مناصب قيادية أو مسؤوليات عامة، وتحذر من إلقاء أية مسؤولية على النساء خارج نطاق عائلاتهن. ونجد في هذا النوع من النصوص الادعاء القائل بأن جسد المرأة وصوتها عورة يجب إخفاؤها عن الأنظار والأسماع. وقد لعب هذا التراث دورا قويا في تبرير عزلة النساء والمحافظة على الأماكن العامة منطقة خاصة مقصورة تقريبا على الذكور (Abou El Fadl 2001).
إن سيادة الأبوية هي واقع اجتماعي تشترك فيه الشريعة ومعظم الأنظمة القانونية الأخرى، ومع ذلك يظل المدى الحقيقي للأبوية ونطاق هيمنتها في حاجة ماسة إلى الاستكشاف والفهم. ومع أن دور الرجال في تطور الشريعة الإسلامية خضع للتوثيق الجيد، إلا أن الأدوار المتعددة التي لعبتها النساء في الأماكن والأزمنة المختلفة التابعة للنظام القانوني تظل موضع التخمين والبحوث القائمة على الافتراضات. والأكثر من ذلك هو أن النصوص المتعددة التي تضم تراث الفقه الإسلامي غنية ولكن لم تستغل بشكل كاف كمصدر لفهم بناء وتكوين أدوار الجندر في فترات التاريخ الإسلامي المتعددة. وهناك دلائل وفيرة على أن قصة الأبوية في الإسلام لم تتخذ خطا مطردا ومستقيما ودائما، وأنه رغم القوى الأبوية المتسلطة التي تحاول إقصاء وتقييد النساء فإن الشريعة الإسلامية تظل واحدة من الحقول الرئيسية التي يكثر فيها الجدل والتفاوض بقوة حول أدوار الجندر. وقد لعبت المسلمات باعتبارهن خاضعات للقوانين وأيضًا بصفتهن كاتبات وصانعات للقرارات التشريعية دورا تفاوضيا ديناميكيا حيويا لا يتماشى مع صورة النمط السائد للمرأة السلبية الخاضعة في تاريخ الشريعة الإسلامية.
هناك مصادر نصية كثيرة ومتنوعة يمكن استخدامها في عملية فهم الأدوار المتعددة للنساء في تطوير الفقه الإسلامي، وهي مصادر تضم من بينها نصوصاً تاريخية، والسير والتراجم، وتفاسير القرآن، ونصوصا فقهية، وأعمالا حول القانون الإسلامي الإيجابي، وفتاوى شرعية، ووثائق وسجلات قضائية وإدارية، وحكايات وأعمالا أدبية، وكتبا عن الحياة الجنسية، ونوعا من الكتابة عادة، ما تكون من تأليف الرجال عن طبيعة المرأة وأدوارها الاجتماعية. ونجد أن مادة كل هذه المصادر ليست محددة بهوية وجنس المؤلفين، وكذلك ليست محددة بما تدعيه هذه الأعمال بجلاء عن النساء وطبيعتهن وأدوارهن وحضورهن الديني الاجتماعي وعن الوظائف المتوقعة منهن. بل إن ما تحذفه هذه النصوص وما تخفيه وما تعتم عليه حين يتعلق الأمر بالنساء هو مصدر للمعلومات بمثل أهمية ما تعلنه بوضوح، وفي حين أنه من المهم الأخذ في الاعتبار التأكيدات المعلنة التي تقدمها هذه النصوص حول الأوضاع والأدوار الأخلاقية والاجتماعية التاريخية للنساء، ولكنه ربما يكون الأكثر أهمية هو أن نبحث الافتراضات المسكوت عنها والمخفية غالبا والتي كانت هي مصادر هذه النصوص، إضافة إلى الوقائع التي ترفض مثل هذه النصوص الاعتراف بها أو قبولها. ومن الضروري أيضًا أن نقر بأن الفقهاء الإسلاميين كانوا يعملون ضمن ثقافة بالغة التخصص، غالبا ما كانت تستجيب إلى توجيهاتها القانونية لا إلى الحقائق السياسية الاجتماعية فحسب. وفي أمثلة كثيرة كانت اللغة التقنية المتخصصة للثقافة الفقهية الإسلامية تعمل للتعبير أو إخفاء تفاعلات الجندر وعلاقات القوى بين الجنسين الموجودة في المجتمع. ولكن مثل هذه اللغة كانت في الغالب نتاج طائفة معيارية ممجدة للذات وللسابقات القانونية الملزمة في الثقافة القانونية. إن التقاط الديناميكية والتفاعل القائم ضمن مجموعة من الأحكام الفقهية يتطلب من الباحثين والباحثات فهم المضامين التاريخية المختلفة للشريعة الإسلامية بما فيها سياق الثقافة الفقهية ذاتها، إضافة إلى بحث الخطابات المصغرة للغة التقنية المستخدمة من قبل الفقهاء المسلمين. إن هذه العملية التحليلية الطويلة لفهم العلاقة بين الشريعة الإسلامية والنساء تظل في معظمها غير ناجزة بسبب تسييس هذا الحقل إلى حد كبير. فخلال الفترة الكولونيالية الاستعمارية سعت البحوث الاستشراقية إلى التأكيد على أوجه النقص والإخفاق في تراث الشعوب الخاضعة للاستعمار وذلك بالبحث عن دلائل تتحدث عن قمع واضطهاد النساء في الإسلام. وفي الفترة ما بعد الكولونيالية، أصبح هذا المجال خاضعا لبعض المسلمين من المبررين الإسلاميين الذين سعوا إلى إثبات أن الإسلام حرر النساء، أو من قبل أصحاب النظريات الاجتماعية والكاتبات والكتاب ذوي التوجه النسوي الذين أصدروا أحكاما مسبقة على المصادر المتوفرة وحاولوا تثبيتها في أطر غير مناسبة، وذلك من داخل منظوماتهم النظرية المحكمة. وقد فشل الكثير من هذا الجهد في تناول تفاصيل وخصوصيات الخطابات الفقهية، أو كشف عن افتقار إلى الآلية والكفاءة اللازمة للتعامل مع المصادر الأصلية.
وبعيدا عن الالتزامات الأيديولوجية التي تصبغ المقاربات البحثية الحديثة، فمن أكثر الجوانب المثيرة للاهتمام في تاريخ الشريعة الإسلامية هو هذا العدد الكبير نوعا ما من النساء المرجعيات اللاتي يقال أنهن لعبن دورا مهما في بداية تطور النظام الشرعي (al- Jawziyya 1996). فهنالك مرجعيات مثل أم سلمة وعائشة، زوجتي النبي (ص)، حيث توارد أنهما لعبتا دورا أساسيا في بداية التقاضي القانوني وكثيرا ما احتلتا موقعا محوريا في الجدل الشرعي الدائر حول وضع النساء في المجتمع. وعلى سبيل المثال، نجد في نصوص تراثية مبكرة صورة عائشة عادة تقوم بدور المعارضة الحريصة فيما يتعلق بالأحكام الشرعية غير المنصفة للنساء (Abou El Fadl 2001).ومن بين المصادر الأخرى المثيلة في إثارة الاهتمام، والتي للأسف لم تخضع للقدر الكافي من البحث في آليات الجندر في بدايات القانون الإسلامي، هي تلك الروايات الخاصة بمناسبات نزول الآيات القرآنية (والمعروفة بأدبيات “أسباب النزول“)، حيث يوجد عدد كبير من التقارير التاريخية التي تشير إلى أن الكثير من الآيات القرآنية نزلت استجابة للتوتر في علاقات القوى بين الجنسين والقائم داخل المجتمع الإسلامي في بداياته. فقد ورد مثلا أن القرآن قام بوضع قيود على حرية التصرف التي كان يتمتع بها الرجل في مجتمع ما قبل الإسلام فيما يتعلق بإنهاء الزواج متى شاء، وذلك بتقييد عدد مرات طلاق الرجل لزوجته، وبإدانة استغلال الزوج لحقه في رفض تطليق زوجته على سبيل الانتقام منها كي لا تتزوج من غيره (السيوطي ١٩٨٠، ٤٤ – ٤٨). كذلك توجد دلائل على قيام مقاومة ذكورية واسعة بل واحتجاجات ضد منح القرآن حصة من الإرث للنساء، فطبقا لعدد من الروايات طالبت النساء في زمن الرسول (ص) بحصة في الإرث، وتم منحهن هذا الحق رغم معارضة الرجال لذلك الأمر في المدينة. إضافة إلى ذلك، واستجابة لوقائع تاريخية معينة، وضع القرآن حدودا مفيدة لإمكانية استحواذ الرجال على ممتلكات وأموال زوجاتهم (السيوطي، ٦٤ – ٦٥). وهذه التقارير المتعددة لا تعكس سردا مبسطا أو سائدا سواء دفاعاً عن حقوق النساء أو قمعا لهن في بدايات الإسلام. بل ما يتضح لنا من هذه المصادر هو دليل على وجود آليات تفاعلية وتفاوضية معقدة ودقيقة بين الجنسين، بما يفند البحوث التي كتبت حتى الآن عن النساء وبدايات الفقه الإسلامي، وهي بحوث تنطوي على مفارقات تاريخية وغالبا ما تميل إلى النزعة الجوهرية.
ومن الملاحظ وجود دلائل على نفس الديناميكية في فترة تشكل الفقه الإسلامي، خاصة فيما يتعلق بالمذاهب المتنافسة لمدارس القانون العديدة المختلفة. فعلى سبيل المثال، نرى أن كلا من مدرسة مكة ومدرسة المدينة كانت تميل إلى التشدد تجاه النساء مقارنة بمدرسة سوريا ومدرسة الكوفة. كما أن وجهات نظر بعض الأوائل من أصحاب المرجعية مثل ابن عمر وابن العباس كانت تميل إلى أن تكون أكثر محافظة تجاه الأدوار المفروضة على الجنسين من ابن مسعود على سبيل المثال، وهو ما يشير إلى أن الشريعة الإسلامية استجابت وتفاعلت مع ظروف اجتماعية تاريخية وبيئات ثقافية مختلفة جدا، وأن هذه الظروف والبيئات كان لها تأثير كبير على الأحكام الشرعية الخاصة بالنساء. وفي بعض المدارس المنقرضة من الشريعة الإسلامية، كانت هناك بعض الأحكام القضائية التي لو قارناها بما ساد بعد ذلك وتأسس كعقيدة ثابتة لوجدناها مثيرة للدهشة. وعلى سبيل المثال، نجد أن مدرسة جريري ومدرسة أبي ثوري المنقرضتين كانتا تريان أنه يمكن للنساء إمامة الرجال في الصلاة (ابن رشد ۱۹۹۹، ۱۲۳)، والأكثر من ذلك هو أن حركات التجديد الأولى، مثل طوائف الخوارج الذين غالبا ما يعتبرهم باحثو الاتجاه السائد هراطقة (أي “أهل أهواء” أو “أهل بدعة“)، كانت تضم عددا لا بأس به من القائدات والزعيمات، وربما نتيجة لذلك كانت مثل هذه الحركات ترى أن المرأة قد تكون مؤهلة للإمامة أو الخلافة (الجاحظ 1968، ۲: 8، كحالة بدون تاريخ ١ :١٤١). ومن المهم للغاية قطعا أن نحاول فهم ما إذا كانت المواقف غير التقليدية التي تبنتها هذه الحركات تجاه النساء هي التي أدت بأي شكل من الأشكال إلى انهيارها وانقراضها.
وبعيدا عن قضية انقراض المدارس وعلاقتها بالجندر، هناك ثروة من المادة القضائية نقوم باستمرار بتوثيق قيام جدل بالغ حول قضايا الجندر وذلك في الفترات المتأخرة من التاريخ الإسلامي، وهي المواد الموجودة غالبا في أدبيات الفتاوى وكتب الفقه. فعلى سبيل المثال نجد في فتاوى ابن تيمية وآخرين روايات عن وجود جدل واسع يتعلق بما إذا كان يمكن للنساء وضع شروط في عقود الزواج تمكنهن من اكتساب حق في التطليق مماثل لما لدى الزوج إذا رغبن بذلك. وتشير أدبيات هذه الفتاوى بوضوح إلى وجود جدل اجتماعي وقانوني متجدد وحيوي حول قدرة النساء على التفاوض بشأن أوضاعهن وحقوقهن داخل العلاقة الزوجية. وتركز كثير من تلك المحاورات، على سبيل المثال، على قدرة النساء في استخدام عقد الزواج كوسيلة لوضع الشروط التي تضمن مختلف الحقوق، مثل التعليم والسفر والضمان المادي (مثلاً: الونشريسي ۱۹۸۱، 3: 6 – 10, 16 – 22, 52 – 55, 108 – 109, 142 – 144, 278 – 279, 384 – 388, 414 – 419, 4: 366 – 377, 394 – 403). ونجد في كتب الفقه كثيرا من الجدل حول مسائل مثل قدرة المرأة على شراء حريتها من زواج غير مرغوب بإعادة المهر إلى زوجها – وهو نظام يعرف باسم “الخلع” –، وفيما يتعلق بالقضايا ذات الصبغة السياسية العامة يدور جدل حول ما إذا كانت المرأة تصلح لمنصب القاضي أو المحتسب (الفراء ۱۹۸۳، 3۱ – 32، ابن رشد ۱۹۹۹، ٧٦۸ – ٧٦٩). ومن أهم الموضوعات المثيرة للجدل من حيث أهميتها الرمزية هو الجدل الدائر حول المدى الذي تذهب إليه الزوجة في طاعة زوجها، وإلى أي مدى تمتلك النساء حقهن غير الواضح في التواجد في الجوامع والمدارس (الأكبري 2001، 1: ۲۸۱ – ۲۸۲). ولدينا أدلة على أن مثل هذا الجدل الفقهي كان يعكس عادة ديناميكيات اجتماعية سياسية متحفظة ومعقدة، ومن هذه الأدلة على سبيل المثال ما نجده في نصوص الفتاوى لفقيه على المذهب المالكي، ويدعى الونشريسي (المتوفى عام ٩١٤هـ./ ١٥٠٨م)، وقد كتب الونشريسي عن جدل قضائي كبير يتعلق بالوضع القانوني لجامع في الأندلس كان يؤمه عادة من وصفهم بأنهم جماعات خارجة على الدين ونساء سافرات. وكان الجدل الذي نقله الونشريسي يتركز على ما إذا كان يجب حرمان هؤلاء النسوة السافرات من ارتياد الجامع أو إذا كان ينبغي هدم الجامع (الونشريسي ۱۹۸۱، ۷: ۲۱۸). وتفيد هذه الأمثلة في تأكيد حقيقة أن البحث الدقيق والمصغر للخطابات والمحاورات الفقهية، وخاصة حين تتلازم وتتواجد داخل سياقاتها الثقافية الاجتماعية المتنوعة ومتعددة المستويات، يمكن أن ينتج رؤية تاريخية أكثر شمولا وحيوية لآليات التفاعل بين الجندر والقانون في المجتمعات الإسلامية.
ومن أغنى مصادر المعلومات وثائق المحاكم التي تدور حول مسائل متعلقة بالقوانين الشخصية والجنائية والتجارية، ونصوص الوصايا والودائع التي وصلت إلينا من فترات تاريخية ومواقع جغرافية متنوعة. وقد بدأ بعض الباحثات والباحثين المعاصرين في التنقيب في وثائق المحاكم الغزيرة التي تخلفت من العصر العثماني وخاصة من مصر وسوريا. أما وثائق المحاكم ما قبل العصر العثماني فهي أكثر ندرة، ولكن الاكتشافات الأثرية في العالم الإسلامي لم تتطور بعد إلى درجة مرحلة تسمح للباحثين والباحثات بالقيام بالتقييم المناسب لمدى توفر الوثائق القانونية الفعلية مثل الأحكام القضائية والأدوات المستخدمة في صياغة الودائع أو الوصايا. ويميل الباحثون والباحثات حتى الآن إلى الاعتماد على تقارير الأحكام القضائية أو نسخ من الأدوات القانونية المحفوظة في النصوص الفقهية، وحتى وقت قريب كان معظم الباحثين والباحثات يلتزمون بما يمكن وصفه بأنه أسطورة تاريخية قائلة بأن الشريعة الإسلامية في معظمها نظرية وغير عملية ولا يمكن فرضها. وقد ساهمت هذه العقلية الاستشراقية الجامدة في افتقاد الاهتمام بالخطابات المصغرة الخاصة بالشريعة الإسلامية، وكذلك الفشل في التفتيش عن الوثائق القانونية الأصلية من العصر ما قبل العثماني ودراستها. وللأسف أدت هذه الحقيقة بدورها إلى تقييد قدراتنا على فهم الوسائل التي كانت تستطيع النساء عبرها التفاوض حول أوضاعهن أو تمكين أنفسهن في ظل أنظمة قضائية ذكورية السيادة. كما أنه رغم وجود دلائل قوية على أن النساء من العائلات الموسرة كن يلعبن عادة دورًا حاسمًا في إنشاء منح دراسية للنساء لدراسة الشريعة، إلا أننا لا نملك سوى فهم مبدئي لما تحمله تلك الممارسة من مؤشرات عن آليات وعلاقات الجندر في التاريخ الإسلامي (مثلا: كحالة بدون تاريخ 1: 89).
ومن المعروف أن النساء لعبن دورا مهما في تطوير الفقه الإسلامي، لا باعتبارهن خاضعات للقانون فحسب وإنما كناقلات وصانعات للقانون. ولكن لم يتم فهم الدور المتواصل للنساء في تدوين وتأويل الشريعة الإلهية فهما جيدا. كما أن المصادر من سير وتراجم وغيرها من المصادر التاريخية الأخرى توثق أسماء مئات ناقلات وراويات الحديث النبوي اللاتي عشن على وجه الخصوص في الفترة ما بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر الميلادي. ويبدو أن عائلات معينة من دمشق والقاهرة وبغداد أرست تقليدًا بتدريب راويات الحديث الإناث، وأن هؤلاء الباحثات فمن بانتظام بتعليم الفقهاء الذكور والإناث مع منحهم شهادة بذلك، وبالتالي لعبن دورًا مساهما كبيرًا في حفظ ونقل التراث الإسلامي. إلا أنه بالإضافة إلى حفظ ونقل التراث، فإن القراءة المتأنية للسير والتراجم تكشف وجود عدد كبير من النساء ممن يوصفن بوصف “الفقيهات” وقد وصلن إلى درجة معترف بها تؤهلهن لإصدار الفتاوى. وقصص هؤلاء النساء الفقيهات متنوعة بشكل كبير وتغري بدروب بحث قد تؤدي إلى إعادة بناء وفهم علاقات الجندر في التاريخ القانوني الإسلامي. ومما يثير الاهتمام هو المدى والاستمرارية التاريخية لهذه القصص، وهي تتراوح من الشخصيات المبكرة مثل هجيمة بنت حبي الأوطابية (المتوفاة عام 81هـ./ ۷۰۱م) والتي وصفت بأنها من أهم الفقيهات في دمشق، وقيل أنها علمت العديد من الرجال وتمتعت بثقة الخليفة عبد الملك بن مروان (حكم ٦٥ – 85هـ. / ٦٨٥ – ٧٠٥م) واعتادت أن تقابله بانتظام حيث كانا يجلسان معا في مؤخرة مسجد دمشق (الزركلي ۱۹۹۷، ۸: ۷۷). وكذلك الفقيهة على المذهب الحنفي خديجة بنت محمد الجوزاني (المتوفاة عام ۳۷۲هـ. / ۹۸۳م) (كحالة بدون تاريخ، ١: ٣٤١)، وبعض الشخصيات اللاحقة مثل كل من أمة الرحيم بنت محمد بن أحمد القسطلاني (المتوفاة عام ٧١٥هـ. / ۱۳۱٥م) ( كحالة بدون تاريخ، ١: ٨٦)، والفقيهة على المذهب الحنبلي خديجة بنت القيم البغدادية (المتوفاة عام ٦٩٩هـ. / ۱۲۹۹م)، والفقيهة على المذهب الشافعي باي خاتون بنت إبراهيم الحلبية (المتوفاة عام ٩٤٢هـ./ ١٥٣٥م) ( كحالة بدون تاريخ، ۱ :۱۰۹، ۳۹۹)، والفقيهة على المذهب الحنفي خديجة بنت محمد البتيلوني (المتوفاة عام ٩٣٠هـ. /1523م) (ابن العماد بدون تاريخ، ۸: ۱۷۲). وقد بلغت بعض الفقيهات درجة “ست الفقهاء“، وهو لقب شرفي يرمز للأستاذية في الفقه. وعلاوة على ذلك، تذكر قواميس السير والتراجم فقيهات أصدرن فتاوى مثل الفقيهة الشافعية البارزة أمينة بنت الحسين المحاميلي (المتوفاة عام ۳۷۷هـ./ ۹۸۷م) (ابن العماد بدون تاريخ، ۳: ۸۸)، وأم عيسى بنت إبراهيم الحربي (المتوفاة عام ۳۲۸هـ. / ٩٤٠م) (ابن كثير ۱۹۹٦، ۱۱: ٢٣٤)، وأخريات مثل زين العرب بنت عبد الرحمن بن عمر بن الحسين (المتوفاة عام ۷۰٤هـ. / ۱۳۰٤م) التي احتلت منصبا رفيعا في التعليم في مكة (العسقلاني ۱۹۹۷، ۲: ٦٩)، والتونسية سيدة بنت عبد الغني المبدري (المتوفاة عام ٦٤٧هـ. / ١٢٤٩م) التي قامت بتدريس الشريعة وكانت تحضر بانتظام اجتماعات مجلس كبار الفقهاء (الصفدي 1991، 15: 67)، والشافعية زينب بنت مكي الحراني (المتوفاة عام ٦٨٨هـ. / ۱۲۸۹م) التي كانت تقوم بالتدريس في دمشق وكنت مركز جذب لطلاب الشريعة من كل أنحاء العالم الإسلامي الناطق بالعربية (الصفدي ۱۹۹۱، 15: 67 ابن العماد بدون تاريخ ٥: ٤٠٤). كما يقال أن الطلاب كانوا يتحلقون حول الفقيهة القاهرية هاجر بنت محمد بن علي بن أبي الطاعة (المتوفاة عام ٨٧٤هـ. / ١٤٦٩م) والتي يقال أنها كانت على عادة النساء المتقدمات في السن في عصرها لا تغطي وجهها بحجاب أو شعرها بغطاء رأس (السخاوي بدون تاريخ، ۱۲: ۱۳۱). وقد عرفت بعض الفقيهات لمجرد مشاركتهن فيما يمكن وصفه بالمناسبات المهمة ثقافيا، ومنهن مثلا بنت علي المنشار (المتوفاة عام ١٠٣١هـ /١٦٢١م) التي تذكر نظرا لما ورثته من مكتبة عامرة بالمصادر القانونية التي كانت تربو على أربعة آلاف مجلد (كحالة بدون تاريخ، ۳: ۳۳۲)، وأمينة خاتون المجلسية (المتوفاة عام ١٠٨٠هـ. / ١٦٦٩م) وكانت معروفة لأن زوجها وهو فقيه معروف كان يستشيرها كثيرا حول معنى المصطلحات في كتب القانون (كحالة بدون تاريخ، ١: ٩)، في حين أن الشيرازية حبيبة الله بنت الصفي بنت الحسيني الأبيجي (المتوفاة عام 895هـ. / ١٤٨٩م) والتي درست وعاشت في مكة يذكرها التاريخ لكرمها وقوة شخصيتها وحضورها الطاغي، كما يقال أن زوجها تزوج عليها سرا من زوجة ثانية صغيرة السن ولكن حين علمت حبيبة بما فعله أسرع بطلاق الزوجة الجديدة خوفا من أن يواجه غضب حبيبة (السخاوي بدون تاريخ ۱۲: 19).
ومن العدل أن نقول أنه بالنظر إلى وفرة المصادر التاريخية والقانونية التي مازالت في حاجة إلى الدراسة والتحقيق والنشر فإن إدراكنا لعلاقات الجندر والطريقة التي أثرت بها في تطور الفقه الإسلامي مازال في مراحله الأولى. ومن الحقائق المثيرة للدهشة مثلا أنه رغم ما وردنا عن قيام بعض الفقيهات بكتابة ما يبلغ حوالي ٦٠ مجلدًا حول الشريعة الإسلامية (كحالة بدون تاريخ، ٢: ٤٥) إلا أنه لم ينشر من هذه المخطوطات التي ألفتها نساء سوى القليل. ومن المفارقة أن الفقه الإسلامي، بما في ذلك قضية الجندر وعلاقته المتداخلة بالشريعة، أصبح ضحية لما له من أهمية، حيث أنه نظرًا لأن الشريعة الإسلامية ما زالت بنية رمزية تحمل دلالات قوية فإن تفاصيلها وخطابها المصغر وخصوصياتها الفنية تعرضت لقدر كبير من التجاهل في الدراسات المتخصصة الحديثة. بمعنى آخر، فنظرا لأن الشريعة الإسلامية تستمر في لعب دور أيديولوجي مركزي حتى اليوم فإننا نجد معظم الأعمال التي تتم في هذا المجال مستمرة في البحث عن سردية خطية أحادية البعد تتناول دفاعا أو استنكارا لحقوق النساء بدون اهتمام كاف بالعمليات المعقدة الخاصة بعلاقات الجندر الموجودة، والتي تصبح أحيانا مخفية أو معتماً عليها من خلال الممارسة اللغوية التي يقوم بها الفقهاء المسلمون. ولكن هذه الممارسة اللغوية الفنية كانت هي الوسيط الأولي للتفاوض وبناء وابتكار معان ودور للجندر في الفقه الإسلامي. إن بحث كل المصادر التي وثقت وحفظت الممارسات اللغوية التي قام بها الفقهاء سوف يساعد الباحثين والباحثات على بدء إعادة بناء وفهم لأعماق مفهوم وأدوار النساء في عملية تطور الشريعة الإسلامية.
أبو عثمان عمرو الجاحظ، البيان والتبيين، القاهرة ١٩٦٨.
أبو الفداء إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية، بيروت ١٩٩٦.
أبو الفلاح بن العماد، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، بيروت بدون تاریخ.
أبو مواهب الحسين الأكبري، رؤوس المسائل الخلافية، تحقيق خالد الخشلان، الرياض ۲۰۰۱.
أحمد بن يحيى الونشريسي، المعيار المعرب، تحقيق الحجي، بيروت ۱۹۸۱.
تقي الدين بن تيمية، مجموع الفتاوى، تحقيق محمد بن قاسم، الرياض بدون تاريخ.
جلال الدين السيوطي، لبب النقول في أسباب النزول، بيروت ١٩٨٠، ٤٤ – ٤٨.
خير الدين الزركلي، الأعلام، بيروت ۱۹۹۷.
شمس الدين أبي عبد الله بن قيم الجوزية، أعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق محمد عبد السلام إبراهيم، بيروت ١٩٩٦.
شمس الدين محمد السخاوي، الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، بيروت بدون تاريخ.
شهاب الدين أحمد ابن حجر العسقلاني، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، تحقيق عبد الوارث محمد علي، بيروت ۱۹۹۷.
صلاح الدين بن أيبك الصفدي، كتاب الوافي بالوفيات، تحقيق القاضي، شتوتغارت ۱۹۹۱.
عمر رضا كحالة، أعلام النساء، بيروت بدون تاريخ.
محمد بن أحمد بن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، بيروت ۱۹۹۹.
محمد بن الحسين الفراء، الأحكام السلطانية، بيروت ۱۹۸۳.
Khaled Abou El Fadl, And God knows the soldiers. The authoritarian and authoritative in Islamic discourses, Lanham, Md. 2001a
Speaking In God’s name. Islamic law, authority and women, Oxford 2001b.