الأدب الأندلسي من القرن التاسع إلى القرن الخامس عشر
ترجمة:
بقلم:
المنهجيات والمنظومات والمصادر
لدراسة النساء والثقافات الإسلامية المداخلات تبعا للموضوع
الأدب الأندلسي
من القرن التاسع إلى القرن الخامس عشر
الأدب الأندلسي مصطلح يشير إلى كل الأشكال الأدبية التي كتبت أو نظمت خلال العصور الوسطى في المناطق التي حكم فيها المسلمون في شبه جزيرة إيبيريا، والتي عرفت أيضا باسم الأندلس. وقد دخل المسلمون أسبانيا في عام ٩٣ ه / ٧١١ م وغادروها في ٨٩٨ ه / ١٤٩٢ م بعدما هزمهم فرديناند وإيزابيلا. وتذكر الحوليات الإسلامية إجماليا عددا لا بأس به من النساء الأندلسيات المتعلمات واللواتي كما يبدو كن معروفات بالشعر والبداهة والمعرفة، ومن هذه الحوليات كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة تأليف ابن بسام (المتوفى حوالي ٢٤٥ه /٧٤١١م)، وكتاب ابن بشكوال ( ٤٩٥–٥٧٩ ه / ١١٠١–١١٨٣ م)، وكتاب بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس تأليف الضبّي (المتوفى ٥٩٩ أو ٦٠٠ ه/ ١٢٠٢ أو ١٢٠٣ م)، و كتاب المُغرب في حلى المغرب تأليف ابن سعيد ( حوالي ٦٠٩–٦٨٤ ه/١٢١٣–١٢٨٦)، وكتاب الإحاطة في أخبار غرناطة تأليف ابن الكاتب (المتوفى عام ٧٧٦ ه/ ١٣٧٤ م).
ورغم ورود أسماء نساء كثيرات في الحوليات الإسلامية في الأندلس فهناك مشاكل متعلقة بالمعلومات المقدمة عنهن. وهكذا فرغم توفر العديد من المصادر الأندلسية التي تذكر شعر النساء إلا أنه نقل التفاصيل الخاصة بالكثير من هؤلاء الشاعرات. وأغلب ما حفظ في هذه الحوليات لا يوفر معلومات كافية حول أعمالهن الكاملة أو موضوعات أشعارهن.
فعلى سبيل المثال، لا تذكر الحوليات الأندلسية سوى ستة أبيات شعرية فقط مما نظمته الغسانية البجانية (القرن الخامس أو السادس الهجري/الحادي عشر أو الثاني عشر الميلادي) والتي تمدح بها الأمير خيران العامري حاكم مرسيا وألميرا. وكذلك هنالك ستة أبيات شعرية فقط محفوظة نظمتها مريم بنت يعقوب الأنصاري (سنوات حياتها غير معروفة) في مدح الخليفة القرطبي المحمد. ونجد مثالا آخر في حالة عائشة بنت أحمد القرطبية (المتوفاة حوالي ٤٠٠ ه/ ١٠٠٩ م)، حيث أوردت الحوليات الأندلسية سبعة أبيات نظمتها في مديح المنصور بن أبي عامر، إضافة إلى بيتين آخرين تذكر الحوليات أنها نظمتها عندما رفضت عرض الزواج الذي تقدم به إليها أحد الشعراء.
ويميل كتاب الحوليات الأندلسية إلى ذكر الشاعرات في سياق لا يتمحور حول المرأة نفسها بل يقع التركيز على عائلتها أو نسبها خاصة حين تكون سليلة عائلة نبيلة. وهناك أحداث كثيرة تتعلق بالخليفة أو الحاكم الذي تمتدحه الشاعرة، كذلك يبدو أن الحوليات تفضل الحالات التي تدور حول المعارضات الشعرية خاصة تلك التي تتحدى الشاعرة وتختبر قدرتها على ارتجال الشعر في اللحظة الآنية. إضافة إلى ذلك تفضل الحوليات الاستشهاد بشعر المرأة إذا كان ضمن قصة حب أو مثلث عشق. وفي حالات الجواري، نجد الحوليات حافلة بتفاصيل قدراتهن على إمتاع البلاط والحكام بسرعة البديهة والفكاهة.
فعلى سبيل المثال، كانت ولادة بنت المستكفي (حوالي ٤١٠–٤٨٤ / ١٠١٠–١٠٨٧ أو ١٠٩٥ م)، كانت أميرة ولدت في عائلة قرطبية تمتد سلالتها إلى ملوك الأسرة الأموية في الجزء الشرقي من الشرق الأوسط. وكان والدها المستكفي الأموي مسؤولا عن قرطبة في وقت من الأوقات، وكان معروفا بعصبيته وسلوكه العنيف، كما انتشر الفساد خلال فترة حكمه، وتعرض للقتل حوالي عام ٤١٥ ه/ ١٠٢٤ م. ولكنه كان مهتما بتعليم ابنته ولادة والتي كانت في الغالب ابنته الوحيدة.
وعندما كبرت ولادة أصبحت دارها صالونا أدبيا مفتوحا للشعراء والشخصيات الأدبية في ذلك الوقت. وقد وصفت بالجمال والذكاء وسرعة البديهة وروح الفكاهة. وقد كتب ابن بسام في كتابه الذخيرة أنها كانت “سهلة الحجاب” مما يمكن فهمه باعتباره مؤشرا على كونها متساهلة في الحجاب أو أنها كانت تغطي شعرها دون وجهها. وقد أثنى ابن بسام والمقري على رفقتها وطيب سلوكها، ويبدو أنهما كانا يدافعان عن سمعتها رغم أنهما أضافا أنها كانت تتصف بالعصبية والتهور. ويبدو أنها لم تحجم عن هجاء من لا تحبهم أو أولئك الذين جفتهم مثل ابن زيدون، وهو شاعر قرطبي آخر (حوالي ٣٩٤–٤٦٣ ه/ ١٠٠٣–١٣٧٠م).
وتتفق الحوليات الأندلسية على أن ولادة بنت المستكفي كانت واحدة من أهم الشاعرات في قرطبة، ولكن لم ينسب لها سوى بضعة أبيات شعرية ومعظمها حول علاقتها بابن زيدون، وتستفيض الحوليات في تفاصيل قصة حبهما وانفصالهما ولكن المصادر لا تتفق على أسباب فراق الحبيبين، حيث يؤكد البعض أن الغيرة أصابت ولادة من جارية، بينما ترى مصادر أخرى أنهما اختصما بسبب انتقاد ابن زيدون لشعرها. وتستفيض الحوليات في تناول سمعة ولادة وما إذا كانت امرأة فاضلة أم لا، نظرا لما كانت تعقده من صالونات أدبية تدعو لها الشعراء الذكور. وانصب اهتمام الحوليات على حياة ولادة العاطفية وسمعتها أكثر من الاهتمام بشعرها، ولهذا لم يصلنا سوى القليل من أشعارها. ومن جانب آخر، تورد الحوليات الكثير من القصائد التي كتبها ابن زيدون، وقد كانت قصائده الواردة كافية في الواقع لجمعها لاحقا في ديوان. ويعرف النقاد والمؤرخون المسلمون ولادة باعتبارها ملهمة لمعظم قصائد الغزل التي كتبها ابن زيدون، أكثر منها شاعرة في حد ذاتها، وبالتالي لم يوجه لها الاهتمام البحثي الجاد.
فالفرضية التقليدية هي أنه بسبب ذيوع حب ابن زيدون لها تدخل الواشون وتسببوا في فراقهما. وقد كتب ابن زيدون قصائد يسألها إعادة ما انقطع من الوصل، ولكنها لم ترد عليه طبقا للحوليات.
ولدينا شاعرة أخرى وصلنا شعرها العاطفي وهي حفصة بنت الحاج ( ٥٣٠–٥٨٦ ه/ ١١٣٥–١١٩٠م) التي كانت مولعة بأبي جعفر وهو شاعر كان يعيش في غرناطة. وتذكر الحوليات بالتفصيل مثلث قصة حب حفصة وأبي جعفر وأبي سعيد حاكم غرناطة الذي كان ينافس أبا جعفر في حبه لحفصة. ولكن بعد وفاة أبي جعفر اختفى ذكر حفصة باستثناء ذكر ظهورها في المغرب بعد ذلك بسنوات حيث توفيت.
أما فيما يتعلق بالجواري فإن الحوليات الأندلسية اشير إليهن من حيث علاقاتهن بالبلاط الملكي أو بملكية الخلفاء أو الحكام الأندلسيين لهن. وكان مألوفا في ذلك الزمان تدريب الجواري الموهوبات على الموسيقى والشعر والفنون الأخرى، وفي حالة ما إذا تمتعت الجارية بالجمال والموهبة والبداهة عادة ما كان سعرها مرتفعا ويمكن أن تأتي بمبلغ كبير من المال عند بيعها. وكانت عادة امتلاك جوار موهوبات منتشرة في الأندلس إضافة إلى قصور الدولة الإسلامية في الشرق في مدن مثل بغداد والقاهرة ودمشق وغيرها.
وكان يجري تدريب الجواري النابهات من أجل متعة البلاط الملكي والحكام، لا لتشجيع المواهب الأدبية أو الفنية لدى الجواري. فعلى سبيل المثال، طلب من الجارية غاية المنى أن تقوم مرتجلة بإكمال البيت التالي من الشعر: “سل غاية المنى/من كسا جسمي الضنا؟” فأجابت “وأراني متيما/سيقول الهوى أنا“. ولم يردنا سوى هذا البيت من شعرها.
أما اعتماد الرميكية فهي تقدم لنا نموذجا آخر للجارية الموهوبة التي لم يحفظ شعرها جيدا، ولم يردنا سوى نصف بيت شعري لأنه لعب دورا مهما في قصة حب ملكية. فقد أكسبها نصف البيت ذاك إعجاب وحب المعتمد حاكم إشبيلية (ولد حوالي عام ٤٣١ ه/ ١٠٣٩ م)، وتخبرنا الحوليات كيف تحدى المعتمد وزيره ليكمل بيت شعر يقول “نسج الريح على الماء زَرَد” ولكن الوزير أفحم ولم يستطع الإجابة، وكانت اعتماد تغسل الملابس في النهر حيث كان يقف الرجلان، فأجابت “يا له درعا منيعا لو جَمَد“.
وفي تلك اللحظة استدار المعتمد ورآها وافتتن بها، ثم جلبها إلى القصر وتزوجها.
ولكن الحوليات تورد الكثير من شعر ابنتهما بثينة بنت المعتمد بن عباد ويرجع ذلك في الغالب لأن ذاك الشعر كان أيضا جزءا من قصة حب. فعندما أطيح بالمعتمد وتم نفيه، سبيت ابنته وحاول من امتلكها أن يفرض نفسه عليها ولكنها رفضت وأصرت على أنها لن تستسلم له إلا بالزواج. وعندما اكتشف أنها ابنة ملك خطبها لنفسه، وهكذا أرسلت بثينة رسالة شعرية إلى والدتها تطلب منها موافقتها وبركاتها.
وترد أشعار الشاعرات أيضا في الحوليات الأندلسية ضمن اجتماعات البلاط حيث مجالس البهجة والسرور والمعارضات الشعرية. ويبدو أن الأشعار القليلة التي حفظت عن نزهون بنت القلاعي تصب في هذا المجال، ويستشهد بشعرها في على سبيل الرد على تعليقات الشعراء الآخرين حول شعرها، وذلك مثل عدة أبيات كتبتها ردا على هجاء أبي بكر المخزومي.
وتواجه الحوليات الأندلسية الباحثات والباحثين بعدة مشاكل حيث أن المعلومات المذكورة فيها تكون أحيانا مبهمة أو متناقضة. فعلى سبيل المثال، قيل عن راضية (المتوفاة عام ٤٢٣ ه/ ١٠٣١ م)، وهي الجارية المعتوقة لعبد الرحمن الناصر، أن “لها بعض الكتب” ولكنه من غير الواضح إن كان المقصود أنها هي التي كتبتها أم كانت تملكها، في حين قيل أن أم الهنا (عاشت حوالي ٥٠٠ ه/ ١١٠٦ م) ألفت كتابا عن المقابر وآخر عن الصلاة، ولم يصلنا أي من الكتابين.
وكان أدب ذلك العصر يكتب بالعربية الفصحى، وكانت لغة البلاط ولغة العرب المسلمين والمزَرَب (أي المسيحيين الأسبان الذين كانوا يعيشون في المناطق الإسلامية من الأندلس) واليهود، في أنشطة حياتهم اليومية. والمادة المتوفرة حول الشاعرات اليهوديات الأندلسيات كانت حتى أقل مما وصلنا من شعر المسلمات الأندلسيات. ومع ذلك تذكر الحوليات الإسلامية اسم قسمونة بنت إسماعيل اليهودي (عاشت حوالي ٤٠٠ ه/ ١٠٠٩ م) والتي كما يظهر امتازت بنظم الشعر والموشحات. وهي تذكر بسبب والدها الذي كان شاعرا كما يبدو، وتفترض بعض المصادر العبرية أن أباها كان صمويل ها–ناجد، ولكن الحوليات الإسلامية لا تذكر اسم والدها الكامل أو نسبها. ولم يذكر التاريخ سوى قطعتين من شعرها، كل قطعة تكون بيتين من الشعر فقط، وفي القطعة الأولى تقارن قسمونة مشاعر الوحدة التي تنتابها بغزال أبعد عن محبوبه، وتنهي الشعر بمناشدة نفسها الصبر وانتظار ما يحمله القدر لها. وفي الثانية تشكو قسمونة من أنها لا تجد خطابا رغم جمالها، وتضيف أنها تخشى من أن تظل وحيدة طوال العمر. وحسب ما ورد في الحوليات، فقد سمع والدها هذه الأبيات وقرر أن يزوجها. والقطعتان مكتوبتان باللغة العربية، أما بالنسبة لموشحاتها فلم يصل إلينا أي منها، كما أن الحوليات لا تذكر ما إذا كانت قد استمرت في كتابة الشعر بعد زواجها.
تمت كتابة الأدب في الأندلس أيضا بلغات أخرى غير العربية الفصحى. فقد ساعدت الفترة الأندلسية على ازدهار الأدب العبري. وقد تم العثور على مخطوطة من بين “مجموعة الجنيزا” تشير إلى امرأة أندلسية يهودية ربما تكون قد كتبت شعرا بالعبرية. وهناك بعض الأبيات المدونة في المخطوطة نسبت إلى زوجة دوناش بن لابرات بدون ذكر اسمها كاملا، ولكن بعض النقاد عبروا عن عدم قناعتهم بأنها هي التي كتبت تلك الأبيات الشعرية بنفسها. ففي القرون الوسطى كان تعلم العبرية حكرا على الرجال اليهود، وحتى لو تعلمت امرأة يهودية القليل من العبرية فمن غير المحتمل أن تكون لديها المعرفة الكافية لنظم الشعر بتلك اللغة.
وهكذا فإن معظم النقاد يعتقدون أن الأبيات المنسوبة إلى زوجة دوناش قد ألفها كاتب محترف.
كما أنه ليس من المحتمل أن يكون دوناش (حوالي منتصف القرن الرابع الهجري/منتصف القرن العاشر الميلادي) قد كتب القصيدة بنفسه مستخدما صوت زوجته كأداة خطابية، حيث أن أسلوب تلك الأبيات القليلة يختلف عن أسلوبه. وقد اشتهر دوناش (أكثر من كونه شاعرا) بابتكار طريقة لتبني علم العروض العربي في اللغة العبرية، وهي طريقة كانت رأس الحربة في تطور الشعر العبري العلماني، كما عرف بصلاته مع حسداي بن شبروت الذي كان راعيا له وشخصية عبرية شهيرة في بلاط الأندلس، لا سيما إذا قارنا شعره بالشعر العبري الأكثر تطورا والذي ظهر في أسبانيا فيما بعد.
ولا يوجد دليل حتى الآن على كتابة نساء الأندلس الشعر باللغة الأسبانية، على الأقل في المناطق التي كان يسيطر عليها المسلمون.
أما في المناطق المجاورة للمدن الأندلسية الإسلامية فإن دونا ليونور لوبيز دي كوردوبا (القرطبية) (من ٧٦٣ ه إلى رحوالي ٨١٨ ه/ ١٣٦١ م إلى ما بعد ١٤١٤ م) معروفة بتأليف مذكرات
(Doña Leonor López de Córdoba, Memorias).
وقد كانت ليونور امرأة من النبلاء وكان والدها ابن عم ورئيس جند ملك قشتالة بيدرو الأول، وبسبب حدوث مؤامرات سياسية عائلية سجنت ليونور في إشبيلية لمدة تسع سنوات. وتصف ليونور في المذكرات محنتها وفترة اعتقالها ونضالها حتى بعد إطلاق سراحها.
ولكن حتى في هذه الحالة نجد أن بعض النقاد يؤكدون على أنه ليس من المعروف ما إذا كانت ليونور هي التي ألفت الكتاب بنفسها أم أملته على شخص آخر.
وحتى عند العثور على قصيدة أو عمل أدبي مكتوب باللغة الأسبانية في الأندلس فإن النقاد يميلون أكثر إلى اعتباره أدبا أوروبيا أكثر منه إسلاميا أو عربيا أو شرق أوسطيا. والتقسيم اللغوي للأدب الأندلسي بين عربي وعبري وأسباني كان عادة ما يتناقض مع الحضارة المتنوعة ومتعددة الثقافات التي نشأت في الأندلس. ولكن الوضع تغير مؤخرا حين بدأ الباحثون يهتمون بالموشحات وفن “الخرجة” والزجل، وهي الأشعار الغنائية الأندلسية التي كسرت الحدود اللغوية الثابتة ومثلت تحديا أمام الباحثات والباحثين، ما زال الكثير منها في انتظار الحل.
نتج عن الأدب الأندلسي الكثير من الأساليب الأدبية المستحدثة التي لم تعرف من قبل في الشرق الإسلامي أو في شبه الجزيرة الأيبيرية، ومن أمثلة هذه الأشكال الأدبية الجديدة كل من فن الموشح والزجل، وهما نوعان من المقطوعات الشعرية الغنائية التي تستخدم اللهجات العامية أكثر من الفصحى. ويعتبر الاهتمام بدراسة هذين الشكلين من الشعر حديثًا نسبيًا رغم المعرفة بوجود هذه القصائد والأغاني منذ العصور الوسطى، وقد تم إعمال أهميتها نظرًا لكونها مكتوبة باللهجات العامية، وخاصة فيما يتعلق بالنصوص الغذائية العربية في جنوب أوروبا. أما السبب الآخر وراء إغفالها من قبل نقاد العصور الوسطى فهو أنها تخرج عن قواعد الوزن والقافية الخاصة بالقصيدة التي تنظم كلها بعربية فصحى وتعتبر قمة ما يصبو إليه أي شاعر موهوب.
تتكون القصيدة النموذجية من ثلاثة أجزاء، حيث تبدأ بالنسيب (مقدمة غزلية) يتبعها الرحيل وتنتهي بالمديح الموجه إلى راعي الشاعر. ومع أن الموشح والزجل يركزان على فكرة الغزل والمديح ولكنهما لا يلتزمان ببنية القصيدة، كما أن القصيدة تكون موحدة القافية والوزن في حين أن الموشح والزجل متعددا القافية والوزن.
إن كلمة “موشحات” (مفردها موشح) تعني المطرزات، وقد أطلقت على كل الشعر بما في ذلك الشعر العبري، والكلمة العبرية للموشح هي “شير إزور” (شعر إزار – من المئزر). ويبدو أن الموشحات ظهرت في الأندلس في منتصف القرن العاشر. ومقاطع الشعر الغنائي عموما ليست شائعة مثل القصيدة والقطعة، وكان أصل الموشحات مجال جدل الدوائر البحثية، لا بسبب ندرة هذا الأسلوب في اللغة العربية فصب ولكن أيضًا لأن غالبية الموشحات منظمة إما باللغة العربية الفصحى أو العبرية باستثناء المقطع الأخير المسمى “الخرجة“، والذي يصاغ باللهجة العربية الأندلسية المتأثرة باللغات ذات الأصول اللاتينية (Arabic- Romance) أو بالعامية المزربية أي اللهجة الدارجة في الأندلس والمتأثرة بالعربية (Mozarabic).
وقد عرق دراسة هذين النوعين من الشعر المقطعي العامي الكثير من القضايا مثل طبيعتها اللغوية، والجدل حول أصولها، والصوت الأنثوي المسموع في الخرجة، وهي المقطع الختامي المتكرر في الموشح، بالإضافة إلى ما تستخدمه الموشحات من قوالب غزل البلاط الحاكم. ونظرًا للتداخل القائم بين تلك الجوانب فلابد من تقديم موجز عن كل منها.
إن أهم ما يقلق الباحثين في هذين الشكلين الأدبيين الجديدين هو النظريات المتعلقة بأصول الموشحات العربية والعبرية. ونظل مسألة غموض منشأهما موضع جدل الباحثين إلى الحد الذي يقسمهم إلى معسكرين متضادين: المعسكر الأول هو الأوروبي الذي يعزو جذور الموشحات إلى شبه الجزيرة الأيبيرية وفرنسا، والمعسكر الثاني هو العربي أو الشرقي والذي يتمسك بأن الموشحات نشأت في الأندلس في الوسط المسلم، ولعلها تمتد بجذورها إلى الأشعار الغنائية المبكرة التي كانت تغنى في الشرق الأوسط. وفي سبيل فهم أسباب مثل هذا الجدل العنيف حول أصل الموشحات، من المهم أن نفهم الخلفية التاريخية التي كتبت فيها وعلاقتها بالأدب العربي وبالأشعار الغنائية الأوروبية، وكذلك القضايا المثارة عند دراسة الموشحات مثل الفرع المعرفي أو الأدب القومي الذي ترتبط به.
وفي كتابه الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة ينسب ابن بسام ابتكار الموشحات إلى شاعر أندلسي غير معروف، واسمه محمد بن محمود القبري وقد أشار إليه ابن خلدون باسم مقدم بن معافى القبري. ولكن لم يتم ضم الموشحات العربية المبكرة إلى مجموعات الدواوين الشعرية لأصحابها، وهو إغفال قد يشير إلى عدم اعتراف الدوائر الأدبية العربية بالموشحات كنوع من الأنواع الأدبية. أما في اللغة العبرية حيث لا يوجد تقليد صارم خاص بفن القصيدة كما هو الحال في العربية، فقد ضم الشعراء الموشحات إلى دواوينهم.
النوع الجديد الآخر من الشعر هو الزجل، وهو يشبه الموشحات من ناحية القافية ولكنه لا يكتب إلا بالعامية ولا يكتب بالفصحى أبدا. وأشهر زجال أندلسي هو ابن قزمان (حوالي ٤٧٣ –٥٥٦هـ / ۱۰۸۰ – ۱۱٦۰م)، وقد كتب شعره الزجلي باللهجة القرطبية. ونجد أعماله الزجلية مجموعة في ديوان ابن قزمان، وقد كتبت مقدمة الديوان بالعربية الفصحى ولكنه يلتزم في شعر الزجل باستخدام العامية.
وإلى جانب الجدل الدائر حول لغة الموشحات فإن الوزن المستخدم في تأليفها يشكل معضلة أخرى، فالاختلاف بين القصيدة والموشح هو أن القصيدة تتطلب استخدام أحد الأوزان التقليدية في صياغة البيت والذي يتكون بدوره من شطرين، في حين يستخدم الموشح أوزانا متنوعة غير متسقة وخفيفة. وقد نظر العديد من الباحثين والباحثات في الأصول التي يرجع إليها خروج الموشح عن قواعد القصيدة، من حيث كيفية ذلك وأسبابه وزمانه. ويعزو بعضهم خصوصية الموشحات إلى المقطع الختامي أي “الخرجة” التي دار حولها جدل أكثر من أي جزء آخر من الموشحات.
ومن القضايا مثار النقاش هي أقدمية الخرجة وما إذا كانت هي الأساس في تأليف الموشح وأسلوب إيقاعه.
ومن الخصائص الأخرى المميزة للموشحات والتي أحدثت جدلاً كبيرًا هي حقيقة أن الخرجة تروى على لسان شخص آخر يكون غالبًا امرأة. وفي كتابه دار الطراز في عمل الموشحات كتب ابن سناء الملك (المتوفى حوالي ٦٠٩هـ /١٢١٢م) أن الخرجة كانت تعنى من قبل النساء والرجال على السواء. وقد أثارت تلك الخاصية الجدل حول ما إذا كانت الخرجة من بقايا “أغاني المرأة” (chansons de femme) القديمة التي كانت تؤلف قبل القرن العاشر الميلادي. ويرى بعض الباحثين والباحثات أن أجزاء منها امتدت إلى الخرجة، في حين يربط آخرون الخرجة بـ “أغاني الصداقة” (cantigas de amigo) أو بـ “أغاني الحب” (cantigas d`amore)، وبـ “أغاني النساء” (Frauenlieder).
ولكن بما أن ابن سناء كان يشير إلى نماذج الخرجة في شمال أفريقيا فقد وجد بعض الباحثين والباحثات أنه لا يمكن التأكيد على أن نمط الخرجة في شمال أفريقيا هو نفسه النمط الذي تم تطبيقه على الخرجة في الأندلس. فعلى سبيل المثال، يرى غيسيبي تافاني (Guiseppe Tavani) الذي بحث في “أغاني المرأة” أن تلك الأغاني هي من أعمال شعراء “التروبادور” الذكور، وأن استخدام صوت شخصية أنثوية في الأشعار الغنائية الدرامية هو عادة شعرية قديمة يستخدمها كتاب الدراما والشعراء والرواة، إضافة إلى أن عادة استخدام صوت شخص أخر هي وسيلة أدبية قديمة كانت معروفة في فن البلاغة الكلاسيكية تحت مسمى خاص (prosopopeia). ويبدو أن مسألة استخدام صوت أنثوي ترجع في تاريخها إلى الأزمنة القديمة من الأدب الغربي، ولم تنشأ في الشرق الأوسط.
وفيما يتعلق بدراسة الموشحات والخرجة وجد الباحثون والباحثات قوالب تقع ضمن مجال التقاليد المرتبطة بالغزل البلاطي. وطبقا للمعسكر الأوروبي فإن جذور غزل البلاط تعود إلى كتاب أوفيد (من ٤٣ ق. م. إلى ١٧ أو ۱۸م) وعنوانه فن الحب (Ovid، Ars Amatoria)، وإلى أندرياس كابيلانوس صاحب كتاب عن فن الحب الخالص (Andreas Capellanus¸ De Arte Honeste Amandi) والمعروف أيضًا بعنوان عن الحب (De Amore) (القرن الخامس الهجري/ الثاني عشر الميلادي). ويظهر تقليد غزل البلاط بشكل جلي في أغاني (chansons de geste) وأغاني “التروبادور” التي انحدرت من منطقة بروفانس في جنوب فرنسا. وقد حاول الباحثون والباحثات الإجابة على الأسباب وراء إحياء وشيوع هذا النوع الأدبي في بدايات العصور الوسطى، إذا كان يرجع تاريخيًا إلى الشاعر أوفيد. والتفسير الوحيد الذي يقدمه بعض الباحثين هو أنه كان فنا جديدا على المنطقة، مستحدثا ومستوردا من ثقافة مجاورة مثل الأندلس، حيث كان المسلمون موجودين في أسبانيا في نفس الوقت الذي شاع فيه غزل البلاط في بروفانس.
بالرغم من القرب الجغرافي بين أسبانيا ومنطقة بروفانس، ووجود المسلمين في أسبانيا، يرى الباحثون الذين يؤيدون النظرية الأوروبية أو اللاتينية أن المجتمعات المختلفة في أسبانيا لم تكن تختلط فيما بينها ولم تؤثر في بعضها البعض. وعندما تناول صامويل ستيرن (Samuel Storn 1974, v) الخرجة في عام ١٩٤٨، عاد الجدل ليطفو على السطح من جديد، ولكن ستيرن نفسه أنكر تأثير الخرجة أو الموشح على أغاني التروبادور. ومع ذلك يؤكد بعض الباحثين نظرية الأصل العربي، ويعززون رأيهم بناء على أغاني وليام من أكويتن وغيوم التاسع (William of Aquitaine and Guillaume IX) وتشابه أغانيهما مع الخرجة والموشحات. ويقول نيكل (A. R. Nykl 1946) أن أغاني غيوم التي ألفها قبل انضمامه إلى الحملات الصليبية كانت أكثر ركاكة من الأغاني الأكثر تطورا التي ألفها بعد عودته من رحلاته. ويعزو نيكل هذا الاختلاف إلى اتصال غيوم بالمسلمين وأغانيهم، ويضيف قائلا أنه إذا كان المسيحيون المقيمون في المناطق الإسلامية من أيبيريا يقلدون المسلمين في ملابسهم وحروبهم وعاداتهم الأخرى، فلا يجوز استبعاد مجال الأغاني والشعر من التأثير الإسلامي.
أما جذور تراث الغزل البلاطي في الأدب العربي فتعود إلى مدرسة الشعر العذري التي ازدهرت خلال حكم الأسرة الأموية (٧٩ – ١٣٢ه./ ٦٦١ – ٧٥٠م)، ونجد فيما بعد، وفي بلاط الخليفة العباسي هارون الرشيد، أن الشاعر ابن الأحنف (أواخر النصف الثاني إلى القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي) قد ألف ديوانا حول حالات الحب، من حيث خيباته وتحققه، وأشار إلى بعض قيم البلاط مثل فضيلة الحب. وقد صور الحبيب في قصائده خاضعا تماما لرغبات محبوبه، كما أشار إلى الواشين الذين يندسون بين الحبيبين. كذلك في القرن الثامن الميلادي، كتب ابن داود الاصفهائي كتاب الزهرة الذي يدور حول فكرة الحب، ويبدو ابن داود في هذا الكتاب متأثرا بالفلسفة الأفلاطونية، أما في الأندلس فقد ألف ابن حزم كتاب طوق الحمامة (القرن الرابع الهجري / الحادي عشر الميلادي) والذي تناول فيه فكرة الحب باستخدام النثر والشعر.
وكما أشارت كل من سوزان إينبيندر (Susan Einbinder) وتوفا روزن (Tova Rosen) فإن دراسة الموشحات مازالت مبتلاة بالحاجة إلى التعرف على مصادر المخطوطات وتأسيس نصوص نقدية. وهذه القضايا أساسية لدراسة هذا النوع الأدبي على الخصوص، طالما أن فك رموز الخرجة تبقى مسألة حدسية ولا يمكن التأكد تمامًا ما إذا كانت بعض الكلمات عربية أم أسبانية. وهنالك مشكلة أخرى هي أن الآراء الخاصة بنوع الموسيقى والآلات المستخدمة وطريقة غناء الموشحات تقوم إلى درجة كبيرة على التحمين. فالمخطوطات لا تتضمن أية إشارات موسيقية ولا أي ذكر لكيفية أداء الموشحات. والسؤال الآخر الذي تطرحه الموشحات هو ما إذا كانت قد انتقلت من الدوائر الشعبية إلى البلاط، أم أن العكس هو الصحيح. ويستمر الجدل البحثي دائرا حتى الآن.
الضبي، بغية الملتمس في رجال أهل الأندلس، القاهرة ١٩٦٧.
ابن الأبار، التكملة لكتاب الصلة، القاهرة ١٩٦٦.
ابن بسام، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، بيروت ۱۹۷۹.
ابن خلدون، المقدمة، القاهرة ١٩٠٤.
ابن سعيد المغرب في حلى المغرب، القاهرة ١٩٦٤.
ابن سناء الملك، دار الطراز في عمل الموشحات، دمشق ۱۹۷۷
ابن الكاتب، الإحاطة في أخبار غرناطة، القاهرة ١٩٧٤.
—، جيش التوشيح، تونس ١٩٦٧.
سيد غازي، ديوان الموشحات الأندلسية، الإسكندرية ۱۹۷۹.
المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار أهل المغرب، القاهرة ١٩٦٣.
المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، بيروت ١٩٦٨.
J. A. Abu-Haidar, Hispano-Arabic literature and the early provençal lyrics, Richmond, Surrey 2001.
María L. Avila, Las mujeres “Sabias” en al-Andalus, in María Jesús Viguera (ed.), La mujer en al-Andalus, Madrid 1989,
139–84.
L. F. Compton, Andalusian lyrical poetry and old Spanish love songs, New York 1976.
Federico Corriente, Poesía dialectal árabe y romance en Alandalús. Cejeles y xarajat de muwassahat, Madrid 1997.
P. Dronke, Medieval Latin and the rise of European love-lyric, Oxford 1965.
D. Earnshaw, The female voice in medieval romance, New York 1988.
S. Einbinder, The current debate on the muwashsha., in Prooftexts (Baltimore) 9:2 (1989), 161–76.
Margit Frenk Alatorre, La canción sefardí y la tradición hispánica, Monterrey, Spain 1972.
——, Las jarchas mozárabes y los comienzos de la lírica románica, Mexico 1975.
Ibn Quzman, Todo Ben Quzman, ed. Emilio García Gómez, Madrid 1972.
W. Jackson, Reinmar’s women. A study of the woman’s song, Amsterdam 1981.
Frede Jensen, Earliest Portuguese lyrics, Denmark 1978.
A. Jones and R. Hitchcock (eds.), Studies on the muwaššaħ and the kharja, Oxford 1991.
Pilar Bravo Lledo, El discurso de la mujer en el medievo Hispano, in María del Mar Graña Cid (ed.), Las sabias mujeres.
Educación, saber y autoría (siglos III–XVII), Madrid 1994, 155–60.
M. R. Menocal, The Arabic role in medieval literary history, Philadelphia 1987.
J. Monroe, The muwashshaħāt, Oxford 1965.
A. R. Nykl, Hispano-Arabic poetry, Baltimore 1946.
Julián Ribera, Historia de la música árabe medieval y su influencia en la española, Madrid 1927
٧٩
T. Rosen, The Hebrew girdle poem in the Middle Ages [in Hebrew], Haifa 1985.
——, On tongues being bound and let loose. Women in medieval Hebrew literature, in Prooftexts (Baltimore) 8:1 (1988),
67–87.
——, The muwashshaħ, in M. R. Menocal, R. P. Scheindlin, and M. Sells (eds.), The literature of al-Andalus, New York
2000, 165–89.
R. P. Scheindlin, Wine, women, and death. Medieval Hebrew poems on the good life, Philadelphia 1986.
Joseph M. Solá-Solé, Corpus de poesia mozárabe, Barcelona 1973.
Leo Spitzer, Sobre antigua poesia Española, Buenos Aires 1962.
S. M. Stern, Hispano-Arabic strophic poetry, ed. L. P. Harvey, Oxford 1974.
Giuseppe Tavani, A poesía lírica galego-portuguesa, Vigo 1986.
O. Zwartjes, Love songs from al-Andalus. History, structure, and meaning of the kharja, Leiden 1997.