حين سئلت في يوم ما إلى ما انتمى… فكرت في أقوي وأحق شعور بالانتماء ووصلت إني أبحث عن الشعور بالأصل, والمركز، والوصف الأساسي لل “بيت” وحينها وجدت أن القوة الراعية التي تخلق إحساس الانتماء بداخلي هي النظام الأمومي الذي تربيت في كنفه ومن خلاله تعرفت على النظم القيمية والعالم من حولي.
لا يمكنني ادعاء امتلاك تحليل أكاديمي عميق, وشامل, ولا بحث دقيق للنظم الاجتماعية، ولكني أقدر على تكوين رؤية شخصية للخطوط العريضة للحياة داخل مؤسسة أمومية؛ لها كيانها الخاص، ولذا لا يمكن الحكم عليها كوجه آخر للنظام الأبوي الاجتماعي. فالحسية والفطرية كانت هي القوة المحركة لهذا النظام الذي يعزز وجود بديل للبيوت – والأصول – المهدمة وخلق مساحة مغايرة للنساء والرجال لكي يتعايشوا بها، ولذا فتراكمت المعرفة المتعلقة بالأمومية في شكلها الاجتماعي من خلال فطرية الحياة وحسيتها.
منذ الطفولة كان من الواضح أن “الرعاية” بمعناها الإنساني هي المنبع لكل التصرفات الصادرة من النظام الأمومي، وهي البوصلة للممارسة الحياتية والمنطق في الوصول لمراكز هرمية داخل تلك المنظومة. ارتبطت الصورة القوية للنساء في بداية الأمر في كونها نابعة من كثرة عددهن مقارنة بعدد الرجال في الأسرة والأسرة الممتدة. لكن الأهم من العدد هو الأدوار إلى لعبتها النساء حتى في أطر اجتماعية ذكورية. والأكيد أن الأدوار التي يلعبها الرجل في نظام أمومي مختلفة جدًا عن أدوارهم في نظام أبوي، وذلك الاختلاف ليس نابع من عكس للأدوار المجتمعية ولا التوقعات النوعية ولكن من الاختلاف الجوهري لأسس المنظومتين المجتمعيتين وذلك ليس لأفضلية مسبقة لنظام بعينه.
القوة عند النظام الأمومي – عكس النظام الأبوي – هي وسيلة وليست هدف, فمفهوم القوة واكتسابها والحفاظ عليها داخل إطار مبني على الحس الفطري الراعي عند النساء يعتمد علي رؤيتهن للبناء المستقبلي للعائلة (شركاء – أولاد وبنات – إخوة وأخوات) فالهدف من القوة ليس الوصول لمراكز أعلى ولا الحصول على الطاعة والتبعية بشكل مطلق أو أعمى ممن هم أقل حكمة أو سنا. لكنها مرتبطة بشكل مباشر بالقدرة على توفير الحماية والمصلحة الأولى للصغار والبقاء بشكل أشمل لكل من يتمتعوا بالانتماء لتلك المنظومة، فمن الصعب أن ترى أي من تلك النساء تسعي وراء قوة أو سلطة بشكل نهم لأسباب سلطوية أو هرمية في حد ذاتها.
في أجواء “أمومية” النوع الاجتماعي ليس المحرك الأساسي لتكوين الهوية ولكن القدرات الشخصية التي تمثلت في كم الشغف والمبادرة والطاقة أصبحت هي القوة الدافعة لتأصيل مقاييس مثلى تتمثل في الحماسة والاهتمام والسعي للمعرفة. ومع ذلك تصادمت قيمة الرعاية مع جوانب أخرى من تفاصيل الحياة اليومية والتي خلقت صراع ليس بالهين بين القيم المجتمعية الأشمل للنظام الأبوي – الذكوري – وقيم الرعاية والتنشئة في ظل النظام الأمومي.
تصادم النظام الأبوي الأشمل مع الرؤية الراعية التي تعاملت بها أمهات النظام الأمومي مع مفاهيم الكم والكيف في مساحة التواجد ومساحة الاختيار التي خلقتها ثقافة الأمومية للنساء والحرية في ممارسة الأدوار المختلفة دون إلزامها بدور اجتماعي محدد إن لم تجد نفسها تسعى لتحقيق هذا الدور أو هذه المهمة.
تراءى للأمهات أهمية تواجدهن الحقيقي والعطاء المعنوي لخلق فرصة حقيقة للصغار للتعرف على عالم أشمل. لذلك كان مهم ترجمة الحياة لاختيارات، فتستطيع المرأة أن تكون طباخة شغوفة أو أن توفر السبل الأساسية للبقاء لأسرتها وأن تطعمهم ما احتاجوا إليه وليس أن تحقق متوقع نوعي لوجود دائم لتلبية متوقعات تُفرض عليها كمهمة موكلة إليها. المنتظر من المرأة داخل منظومة أمومية إن اختارت أن تلعب دور الراعية أن يكون لديها الشغف والرغبة لتقديم تلك الرعاية, أن يتم تقدير قيمة وجودها وكيف يؤثر فيها وفي كل من حولها… المنتظر منها هو أن تختار بحكمة.
والنظام الأمومي يتنفس من خلال التقدير … بينما تمر السنين يدرك الفرد وجود طرقاً متضاربة بين قواعد ومعايير مجتمعية مسلم بها وبين ما نشئ عليه… فالأكيد أن الاحترام والتقدير مكتسبات وليس مستحقات.
كيفية قبول الدخول في تحديات والسعي لها والتعامل مع العواقب من أكثر التعاليم محبة.. حيث أن البيئة إلى تهتم بالرعاية والتنشئة تسعي لنمو وتطور الأفراد بالاختيارات التي تأخذ والعواقب التي يُفرض علينا أن تتحملها حتى وإن كانت تعنى تجارب سيئة نمر بها. لم يكن هناك أبدًا حتمية الاختيار الصحيح أو التحصن من آلام الاختيارات المختلفة، إنما الحتمية في ضرورة البحث عن رغباتنا والسعي إليها مع التساؤل الدائم إذا كنا مستعدين للتعايش مع عواقب هذه الاختيارات.
المجتمع الأكبر – المجتمع الأبوي – يسعى إلى السلطة من أجل السلطة ولأن النظام الذي نشأت فيه وفي ظل قواعده لا يستسلم لصراعات قوة مهيمنة ولا يخلق علاقات مشوهة. فهنا قد تضطر إلى إعادة هيكلة جزء من نفسك وتعديلها لتتمكن من التعامل مع المواجهات العنيفة لقواعد ومعايير مجتمعية أقل بساطة, وسوف تجد أن الطريق الذي قمت بمدحه والثناء عليه لأنه طريق هادئ وداعم, ستجده مهدداً للقواعد القمعية والخانقة للنظام الأبوي.
السبب الرئيسي أن النظام الأمومي لا يمثل الوجه الآخر للنظام الأبوي، ولا يمكن التمييز بينهما من خلال الافتراضات الواضحة التي تتعلق باستبدال النوع الاجتماعي وتوقع نفس البنية التحتية من دينامكيات السلطة التعسفية لتحقيق نفس النتائج لكن على للجنس الآخر، أن القاعدة الأساسية لكل من الهيكلين الاجتماعيين تختلف تماماً وتحتاج إلى موازين قياس مختلفة.
ويعتمد النظام الأبوي بصفة عامة على التهديد بالإقصاء وممارسة التمييز بوضوح شديد، ويعد الاحتياج الإنساني للحصول على الموافقة والشعور بالاندماج أساس الجذور القاسية لعلاقات النظام الأبوي. وأخيراً على المرء دائمًا أن يطالب بالطاعة ويطيع الآخرين حيث أن استمرار الفرد يتحقق من خلال حصوله على وضع هرمي أعلى فضلاً عن ممارسة الاضطهاد ضد الآخرين.
إن القواعد الأساسية للنظام الأمومي لا تنشئ الرجل والمرأة كعناصر تهديد ساعية لسلطة أو أفضلية على معارضيهم أو أتباعهم ولكنها تسعى إلى التحرر من القهر الثنائي باعتبارها الشكل الوحيد للعلاقات. ويزدهر النظام الأمومي من خلال التعايش؛ حيث تكمن طاقاته المحركة وصراعاته في الوعي بالمجال المحيط والقدرة على تحقيق الإضافة من خلال الاعتراف بشمولية الإمكانيات الإنسانية التي يتم السعي من أجلها والوصول إليها في ظل توجيهات موروثة بالحكمة وممارستها أثناء التنشئة بمجرد أن ندرك حرية الخيار.
ومما لا شك فيه أن تطبيع الأدوار والدينامكيات الاجتماعية لا تمثل أي نوع من الحقيقة بشأن كيف نعيش حياتنا أو ما يميز الخطأ والصواب كما أنها لا تمثل على نحو صادق طريقة وحيدة وسليمة للوجود الإنساني. وإنني أؤمن بأن التمسك بتعاليم النظام الأمومي يحمينا من الآلام المنعكسة علينا خلال السعي المستمر للحصول على الموافقة والقبول كما يشترط أن نفعل في إطار النظم الأبوية.
لمزيد من القراءات عن الأم الحاكمة والتراث الأمومي، أقترح أن تقرأ “نساء يركضن مع الذئاب” بواسطة كلاريسا بينكولا استس Clarissa Pinkola Estés