الإسلام في جنوب شرق آسيا منذ بدايات القرن العشرين إلى الحاضر

التصنيفات: غير مصنف

المنهجيات والمنظومات والمصادر

لدراسة النساء والثقافات الإسلامية المداخلات تبعا للموضوع

الإسلام في جنوب شرق آسيا

منذ بدايات القرن العشرين إلى الحاضر

ندرة المصادر حتى منتصف السبعينات من القرن العشرين

لم تبدأ الكتابات الأكاديمية عن نساء شرق وجنوب شرق آسيا في الانتشار حتى منتصف السبعينات من القرن العشرين. وحتى ذلك الحين لم يوجه الباحثون والباحثات الذين يدرسون المنطقة إلا القليل من الاهتمام إلى النساء. ويبدو أن سبب هذا الإهمال ينبع من منظور الباحثين وندرة المصادر. وقد أشار علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا والمؤرخون والمؤرخات إلى اختفاء النساء من الكتابات الاجتماعية والأنثروبولوجية والتاريخية، وهو ما يرجع إلى أن هذه المؤلفات كانت تكتب من منظور ذكوري (Chipp and Green 1980، Locher- Scholten and Nichof 1987). وينطبق الأمر نفسه أيضًا على الدراسات الاجتماعية والتاريخية حول شرق وجنوب شرق آسيا. وقد لوحظ أن الأنثروبولوجيين الغربيين الذين عملوا في جنوب شرق آسيا فشلوا في التعرف على الاختلافات القائمة على أساس الجنس في المنطقة لأنها كانت اختلافات محددة بطرق غير مألوفة لهم (Errington 1990)، كما أن انحيازهم الذكوري قد منعهم من الإشارة إلى اللغة والمصطلحات السائدة في المجتمعات الذكورية والتي كانت تستخدمها النساء اللواتي كن مصادر معلومات للباحثين، في التعبير عن أنفسهن (Locher- Scholten and Nichof).

لقد حول الانحياز الذكوري المصادر المحتملة لدراسة النساء في شرق وجنوب شرق آسيا إلى مصادر عقيمة، فعلى سبيل المثال كان الأرشيف الاستعماري والكتابات الكولونيالية في إندونيسيا يحتويان على معلومات محدودة جدًا عن النساء وأدوارهن في المجتمع، ويبدو أن المسؤولين الاستعماريين الذين كتبوا وجمعوا المعلومات لم يضعوا النساء ضمن أولوياتهم (Locher- Scholten and Niehorf 1987). ويمكن استخلاص المزيد من المعلومات حول النساء في إندونيسيا إبان الاستعمار من مصادر أخرى مثل الأدب الكولونيالي الذي كتبته النساء والتقارير الإثنوغرافية والدراسات الخاصة بالقوانين الزراعية الاستعمارية والقواعد التقليدية. ولابد من الحذر مع هذا لأن هذه المصادر ليست خالية تمامًا من التحيز الغربي أو الذكوري. ويمكن الحصول على صورة أكثر توازنًا وقدر أوسع من المعلومات من الأدب والتاريخ الشفاهي الجاوي. وبشكل عام لا تذكر النصوص الأنثروبولوجية الكثير عن النساء، إلى جانب ندرة المادة التاريخية عن النساء في شرق وجنوب شرق آسيا (Chipp and Green 1980).

أما مصادر الدراسات عن النساء المسلمات في المنطقة فهي أشد ندرة، ويصدق هذا بشكل خاص على دول المنطقة التي يشكل فيها المسلمون أقلية صغيرة من السكان مثل الفليبين وسنغافورة وتايلاند وكامبوديا وبورما ولاوس وفيتنام، أو التي تكاد تخلو من المسلمين كما في اليابان وكوريا وتايوان. في حين يقدر عدد المسلمين في الصين بـ 25 مليون نسمة، ولكن من منطلق نسبتهم إلى مجموع السكان فإنهم يشكلون أقلية صغيرة، بل كان ينظر إلى المسلمين في الصين على أنهم معزولون عن بقية العالم الإسلامي. ومصادر دراسات المرأة المسلمة في الصين ليست أقل ندرة (Pillsbury 1982). كما تميل دراسات الثقافات الإسلامية في جنوب شرق آسيا على التركيز على ماليزيا وإندونيسيا (Ibrahim et al. 1985)، ومن الواضح أن ذلك يرجع إلى كون السكان المسلمين يمثلون الأغلبية في هاتين الدولتين. ففي إندونيسيا حيث يشكل المسلمون ٩٠% من السكان كانت الأرشيفات والسجلات الاستعمارية والوطنية التي تتعلق بشؤون النساء، ورغم انحيازها الذكوري، تتناول أيضًا شؤون النساء المسلمات، وهو ما ينطبق كذلك على ماليزيا ولكن بقدر أقل.

 

بدأ انتشار الأعمال الأكاديمية التي تركز على نساء شرق وجنوب شرق آسيا في منتصف السبعينات من القرن الماضي بعد تأسيس برامج أكاديمية في الدراسات النسائية في الجامعات الأمريكية والأوروبية. وبعد عقدين من السنين تم إنشاء برامج مماثلة في جامعات شرق وجنوب شرق آسيا. وقد ساعد هذا التطور على علاج التحيز الذكوري في المقاربات المستخدمة في الدراسات الأكاديمية عن النساء، كما شجع أيضًا على وجود طرق جديدة لفهم أوضاع النساء. وفي أثناء ذلك كان للمشروعات الوطنية للنهضة الصناعية والتي شرعت بها دول المنطقة في وقت واحد تقريبًا في السبعينات، تأثيرها الكبير على قضايا ومصادر دراسة النساء في المنطقة في العقدين الأخيرين من القرن العشرين.

السلطة والفاعلية والذات

شهد العقدان الأخيران من القرن العشرين اهتمام دراسة النساء في شرق وجنوب شرق آسيا الصناعية بمفاهيم السلطة والفاعلية والذات، وقد بزغت هذه المفاهيم من التقاء التراث الماركسي وفكر ما بعد البنيوية والأنثروبولوجيا الثقافية ودراسات الثقافة الرائجة والشعبية. فقد ساعد الفكر الماركسي على إبراز قضية علاقات القوة بين الجنسين وألقى الضوء على الوضع الثانوي للنساء، وتميل الرؤية الماركسية للسلطة إلى قولبتها في كيان واحد وبالتالي النظر إلى النساء باعتبارهن ضحايا لا حول لهن ولا قوة كتبت لهن النجاة. ولكن طغت على هذا الرأي وجهة النظر التي ترى أن المرأة عنصر فاعل نشط، وذات قادرة على المقاومة. ومع أن مفهوم الفاعلية كان متضمنًا داخل التراث الماركسي ولكنه ازداد وضوحًا بمقدم نقد ما بعد البنيوية، إذ أن فكر ما بعد البنيوية لا ينظر إلى السلطة باعتبارها كيانًا واحدًا وإنما مقسمة تمس الأفراد بغض النظر عن جنسهم. وتتيح هذه النظرة إلى السلطة رؤية الفاعلية الفردية باعتبارها قادرة على مقاومة القوى الصناعية والرأسمالية أما بالنسبة للنساء فإن الفاعلية الفردية تعني التمتع بالقوة على مقاومة السلطة الأبوية وصياغة الحيز النسائي الخاص.

وقد أثر الفكر الماركسي وما بعد البنيوية على الدراسات الثقافية أيضًا، حيث أدى اهتمام الباحثات والباحثين الماركسيين باستكشاف ثقافة الطبقة العاملة إلى تشجيع الباحثين والباحثات النسويات على استكشاف ثقافة النساء. وقد ساهمت النظرة إلى المرأة باعتبارها تتمتع بالفاعلية والنشاط في دفع الباحثات والباحثين المتخصصين في الدراسات الثقافية في منطقة شرق وجنوب شرق آسيا إلى تتبع واستكشاف الطرق التي صاغت بها نساء المنطقة هوياتهن وثقافاتهن من خلال مقاومتهن للتصنيع والثقافة الرأسمالية (Stars 1996, Sen and Stivens 1998).وبينما ما زالت حقيقة اللامساواة في علاقات القوة بين الجنسين قائمة ولكنها توصف الآن بخاصية التحول والتغير في آلياتها. وقد أثر فكر ما بعد البنيوية أيضًا على المتخصصين في الدراسات الثقافية النسوية من منطلق فكرة بناء الذات، حيث ينقل الباحثون والباحثات النسويات هذه الفكرة إلى مفهوم بناء الجندر، وقد استعان بعض الباحثات والباحثين المهتمين بشرق وجنوب شرق آسيا بهذا المفهوم في سبيل فهم وضع النساء في المنطقة (Locher- Scholten and Nichof 1987, Atkinson and Errington 1990).وتكشف هذه المقاربة كيفية انعكاس علاقات القوة بين الجنسين على المستويين الأيديولوجي والخطابي حيث تتم صياغة ومناقشة الهويات والمعاني، وكذلك كيفية قيام الجندر بصياغة الحداثة ومعانيها وتداعياتها في المنطقة (Scars 1996, Sen and Stivens 1998).

وقد ساهمت الأنثروبولوجيا الثقافية بفكرة كون الثقافة عبارة عن شبكات من المعاني والرموز أو أشكال من البناء الخطابي المفروض على حقائق. وقد أدى الاهتمام النسوي بعلاقات القوى بين الجنسين وفاعلية النساء إلى تبني وجهة النظر التي ترى أن المعاني والرموز الثقافية هي أيضًا بنى أيديولوجية. ومن هذا المنطلق فإن أفكار الجندر التي تدور في ثقافة ما ليست مجرد جزء من آلية النظام السائد لإبقاء النساء في وضعهن القائم، ولكنها أيضًا جزء من الاستراتيجية التي تستخدمها النساء لمقاومة الهيمنة. وهكذا أصبح البحث الأنثروبولوجي حول نساء شرق وجنوب شرق آسيا يتناول كيفية تغير المعاني الثقافية في أثناء عملية التصنيع وكيف يتم توظيفها في الجهود الساعية إلى وقف جماح نشاط النساء في دعم الإنتاج الصناعي إضافة إلى جهود النساء في مقاومة هذه الهيمنة (Ong 1987).ومن الواضح أنه كان لهذه التطورات النظرية في الدراسات النسائية تأثير على الدراسات التي تتركز بشكل خاص على النساء المسلمات في المنطقة.

 

خلال تنفيذ دول شرق وجنوب شرق آسيا مشروعات التصنيع والتحديث في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، حدث انضمام فعال لأعداد كبيرة من النساء إلى لعمل والأسواق (Horton 1996)، وفي نفس الوقت كانت التغيرات الاجتماعية والثقافية الكاسحة التي جاء بها التصنيع والتطور الاقتصادي تساهم في تغيير المنطقة. وأصبحت النساء جزءًا من السياسات التي تدعم مشاريع التصنيع والتحديث التي تقودها الدولة، فكان الدور المهم الذي تلعبه النساء كمصدر للعمل الرخيص ولكن الضروري قد أدى بالدولة إلى تعبئة النساء وحشدهن ليصبحن من أعمدة مسيرة التصنيع. وقد تواكب هذا مع ضرورة منع النمو السكاني من عرقلة مكاسب التطور الاقتصادي. وعلى أرض الواقع تبنت كل دول منطقة شرق وجنوب شرق آسيا سياسات مماثلة، كما رعت هذه الدول برامج تنظيم الأسرة كما قامت من أجل دعمها بتنظيم إدارة شؤون الزواج والطلاق. وفي البلدان التي كان المسلمون يمثلون الأغلبية، مثل إندونيسيا وماليزيا، تسببت جهود الدولة في تنظيم الزواج والطلاق بموجب القوانين الوطنية في تعقيد المسألة الإنجابية. وقد ظهر فوق السطح وضع النساء في الإسلام كموضوع لمساءلة وتدخل الدولة في حياة النساء، وأصبح قضية لا يمكن التغاضي عنها في الدراسات التي تدور حول النساء في المنطقة.

وقد نتج عن مشروعات التصنيع في شرق وجنوب شرق آسيا في العقدين الماضيين سجلات تتعلق بعدد الإناث بين سكان المنطقة، وتشمل هذه السجلات إحصائيات صاحبت عمليات المسح والتعداد الدوري العام للسكان والبيانات الخاصة بالبرنامج الوطني لتنظيم الأسرة. وقد استفاد كل من الباحثات والباحثين النسويين من هذه المصادر كما استخدموا أيضًا الخطابات المتنوعة، الرسمية منها وغير الرسمية، المتعلقة بالنساء. وتشمل هذه المصادر الوثائق التي تحتوي على تصريحات رسمية عن دور النساء في عملية التصنيع إضافة إلى العملية الأوسع أي بناء الأمة. وفي بعض دول المنطقة أدت الجهود لتنظيم ممارسات الزواج والطلاق إلى تشريع قوانين يمكن استخدامها كمصادر للتحليل، ففي إندونيسيا تشمل المصادر مجموعة القوانين الإسلامية التي استخدمت كمرجع في المحاكم الإسلامية، أما الدول التي تعمل فيها المحاكم الإسلامية فنجد أن سجلات المحاكمات المتعلقة بالزواج والطلاق متوفرة للباحثات والباحثين المهتمين بجوانب معينة من أوضاع المرأة المسلمة في المنطقة. وتقدم التصريحات غير الرسمية للزعماء الإقليميين المحليين مصادر لتحليل كيفية تكوين وترسيخ صورة المرأة، كما أتاح استخدام الدين الاستعانة بالخطابات الدينية بما تساهم به من بناء العلاقات القوى بين الجنسين.

ويواصل الأنثروبولوجيون العاملون في المنطقة في إسهاماتهم من خلال عملهم الأنثروبولوجي، كما يستفيد باحثو الدراسات الثقافية، رجالاً ونساءً، من خطابات الثقافة الرائجة والشعبية ومن الإعلام في تحليل آليات دخول النساء إلى مجال الحداثة وثقافة الاستهلاك في المنطقة، بينما يقوم المؤرخون والمؤرخات بإنتاج التاريخ الشفاهي.

ولكن لابد من ملاحظة أن مصادر دراسة النساء المسلمات في دول شرق وجنوب شرق آسيا حيث يشكل المسلمون أقلية من مجموع السكان ما زالت مصادر نادرة. وقد تمت الإشارة أنه في الصين مثلاً، حيث توجد أقلية مسلمة مهمة، فلم ترد المعلومات عن النساء سوى من خلال تقارير صحفية متفرقة لا تخلو من الانحياز الذكوري (Pillsbury 1982)، وعلى المهتمين بالحصول على قدر أعمق من المعرفة اللجوء إلى العمل الميداني.

وقد استفاد علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا المهتمون بتوثيق التغيرات الاجتماعية والثقافية في جنوب شرق آسيا من المصادر المتوفرة بشكل مثمر (Karim 1992, Jones 1994)، حيث يستعين غافن جونز على سبيل المثال بشدة بالإحصاءات والمسوحات وسجلات الزواج والطلاق المتاحة في جنوب شرق آسيا في كتابه عن الزواج والطلاق في جنوب شرق آسيا الإسلامية (Gavin M. Jones, Marriage and Divorce in Islamic South -East Asia)، فقد استخدم طرقا إحصائية لتحليل التغيرات التي طرأت على أنماط الزواج والطلاق في المنطقة منذ الخمسينات إلى الثمانينات من القرن العشرين. وطبقًا لتحليل جونز يبدو أن النساء المسلمات في جنوب شرق آسيا حصلن على أسلوب حياة أفضل خلال مرحلة التصنيع والتحديث، ولم تعد المراهقات في الثمانينات يخضعن لسيطرة أبوية شديدة ولا لزيجات تقليدية كما كان الحال في الخمسينات، حيث أصبح في إمكانهن تأجيل الزواج أو حتى تجاهله تمامًا. وقد انخفضت معدلات الطلاق بسبب سياسيات الدولة وضغوط التجمعات النسائية، كما انخفضت حالات تعدد الزوجات بسبب تعقيد إجراءات الطلاق. وقد قلت حالات الطلاق للنساء في سن الإنجاب ممن عانت غالبيتهن من الصعوبات الاقتصادية.

وطبقًا لجونز، فإن تأخير زواج المسلمات في المنطقة أدى إلى انخفاض في عدد أطفال النساء المسلمات. وقد أصبح التعليم العالي للفتيات يعني وظائف مجزية واستقلالاً، كما أن وجود فرص لمتابعة مستقبلهن العملي كانت مسؤولة جزئيًا عن عزوف بعضهن عن الزواج. ومع هذه التغييرات يشير جونز إلى ظهور أنماط جديدة مثيرة للجدل من التفاعل بين الجنسين، حيث أن طول فترة المراهقة على سبيل المثال قد أنتج نمطًا أكثر تحررًا في علاقات الشباب والشابات وميلاً إلى قيام علاقات جنسية قبل الزواج. وتزداد صعوبة النساء الحاصلات على شهادات عليا في الحصول على أزواج ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنهن يصبحن أكثر تأنيًا في اختيار الأزواج، ولأن الرجال ما زالوا يفضلون زوجات أقل تعليمًا، كما أن صعوبة الحصول على الطلاق تجعل الخلاص من زواج غير مرغوب مشكلة كبيرة للمرأة، ومع ذلك فنجد عمومًا في دراسة جونز أن النساء المسلمات في جنوب شرق آسيا قد بدأن منذ الثمانينات في التمتع بحياة أفضل اجتماعيًا واقتصاديًا من تلك التي عاشتها جداتهن.

 

يرسم كتاب جونز صورة شاملة حية للتغيرات الاجتماعية الواسعة التي طرأت على أوضاع النساء المسلمات في جنوب شرق آسيا خلال مسيرة التصنيع. ولكن معظم الباحثات والباحثين الذي يتبنون موقفًا نسويًا قاموا بهجر ذلك التوجه الموضوعي، حيث أدى الاهتمام النسوي بعلاقات القوى بين الجنسين ومفاهيم الفاعلية وصياغة الجندر إلى إثراء تحليل المسيرة الاجتماعية للتصنيع والتحديث وتأثيرها على النساء، وذلك بإضافة البعد الخاص بالمعنى، والذي يؤدي إلى دراسة ماهية المرأة الحديثة وفي حالات كثيرة المرأة الحديثة المسلمة – في الدول التي تسير على طريق التصنيع في شرق وجنوب شرق آسيا. كما يؤدي إلى تحليلات تبرز علاقات القوى سابقة الوجود والمتعددة بين الجنسين والتي بزغت مع عملية تصنيع دول المنطقة. وتبين هذه التحليلات أنه بخروج نساء المنطقة للعمل في المصانع والشركات وللشراء في الأسواق وللانضمام إلى الجهاز البيروقراطي للدولة إنما يدخلن ضمن بنى وعلاقات القوى الخاصة بثقافاتهن وبالنظام الرأسمالي الصناعي، حيث يفرض الأخير نفسه على السابق ويعمل على تغييره. وتتناول تلك الدراسات مختلف الطرق التي تم بها إدماج النساء في بنى وعلاقات القوى هذه بالتركيز على التغييرات التي طرأت على الإدراك العام والخاص، وبتحليل أيديولوجيات الأسرة والحياة المنزلية في علاقتها بعمل المرأة خارج البيت (Scars 1996, Sen and Stivens 1998). إن تتبع الخطابات الخاصة بمختلف مواقع الحداثة البيت والاستهلاك والإعلام والمصانع والدولة والطبقة الاجتماعية – يكشف أن وضع الأنثى في المنطقة في عصر التحديث ما زال يشوبه التناقض والتشويش.

ومن هنا فإننا ندرك في هذه التحليلات أنه بينما تتعامل المنطقة مع قلق التحولات الاجتماعية والثقافية، فإن النظرة إلى النساء اللواتي يتحركن إلى أماكن العمل ما زالت النظرة العامة إليهن تراهن حاملات القيم التراثية القومية. وفيما يلعبن دور الحافظات لعملية التصنيع الذين تقوده الدولة فهن يحملن في نفس الوقت أعباء كونهن راعيات للأسرة التقليدية والقيم الثقافية أثناء إعادة تعريفها وتحديدها، وبالتالي مهدداتبتشكله عملية التحديث. إن مجتمع الوفرة الجديد الذي حررهن من قيود التقاليد وسمح لهن بالتمتع بالرفاهيات الحديثة قد جاء بهن أيضًا إلى عالم البضاعة، حيث تستخدم أجسادهن كوسائل لترويج هذه البضائع. كما أن تبني الاقتصاد الرأسمالي قد حرم الكثير من نساء المنطقة من أشكال الدعم الاجتماعي الذي تمتعن به سابقًا. وفي نفس الوقت، ومع التعليم العالي والاستقلال الاقتصادي، أصبحت نساء المنطقة أكثر قدرة على فهم أوضاعهن والمشاكل التي تواجههن. إنهن الآن أكثر قدرة على التعبير عن أفكارهن وتأكيد ذواتهن، وفي استطاعتهن إلى حد ما مقاومة القيود الاجتماعية والثقافية المفروضة عليهن.

النصوص الإسلامية

إن الباحثات والباحثين النسويين المسلمين في المنطقة تبنوا إلى حد ما الأساليب التحليلية التي تطورت ضمن الدراسات النسائية وقاموا بتطبيقها على النصوص الإسلامية، ومنها القرآن والحديث ونصوص التراث الديني الإسلامي وخاصة في مجال الفقه (Hasyim 1999).وقد قاموا في تحليل النصوص القرآنية بتطبيق استراتيجية تأكيد الصورة المتناقضة للمرأة في القرآن، حيث يتم أحيانًا تصوير النساء باعتبارهن أدنى مرتبة من الرجال وأحيانًا مساويات لهم أو حتى أفضل منهم، وبالتالي يكشفون كيف أن الاجتهاد الإسلامي قد أكد على التصوير القرآني لدونية المرأة مع تجاهل صورة المساواة. وقد أظهر التدقيق النقدي باستخدام مصطلحات بناء الجندر في الاجتهادات القانونية في الشريعة الاسلامية وجود قوالب للعلاقات بين الجنسين في مجال الأسرة والبيت بما يشجع الأزواج على قهر زوجاتهم. وتبين هذه التحليلات التحيز الطبقي والجنسي للباحثين الذكور والمتضمن في الاجتهادات التي يقدمونها. أما التحليل المماثل للحديث النبوي، مع الاستعانة بالمنهج التاريخي، فيكشف أيضًا عن وجود حالة لم يسمح فيها النبي محمد (ص) بتعدد الزوجات. كما يبين هذا التحليل أن السماح بأربع زوجات في بداية الإسلام إنما كان وسيلة من أجل تنظيم الزواج والطلاق بهدف حماية كرامة النساء، وهكذا يمكن القول بأن تعدد الزوجات ليس فرضًا إلهيًا لا رجعة فيه، بل ضرورة اجتماعية يمكن تبنيها إذا كانت فيها مصلحة للنساء. وهذا هو الهدف النهائي الذي يجب أن يستخدم اليوم كأساس لتقرير مدى الحاجة إلى استمرار تعدد الزوجات من عدمها.

الكتابات الأنثروبولوجية

إن الكتابات الأنثروبولوجية تتكامل مع تلك التحليلات المختلفة للنصوص الإسلامية وذلك باستكشاف معنى تجربة المرأة المسلمة مع الحداثة في المنطقة. وقد بين نموذج واحد للتحليل الأنثروبولوجي للنساء المسلمات في الصين وتايوان كيف أنهن اضطررن إلى التكيف مع الصعوبات والمطالبات الناشئة من تقاطع الإسلام والنزعة الأبوية والتواجد ضمن أقلية في الأزمنة الحديثة (Pillsbury 1982).كما يوجد عملاً آخر يتناول بالتحليل السرديات الشخصية للنساء المسلمات الجاويات، ويبين كيف أن القرارات الشخصية التي تتخذها هؤلاء النساء بشأن ارتداء الحجاب تؤثر في تشكيل حداثة إندونيسيا (Brenner 1996)، حيث يرد في هذه الدراسة استخدام النساء للحجاب كطريقة للتعبير عن هوياتهن وسط طوفان التغيرات الثقافية والاجتماعية، كما أنهن يعتبرن الحجاب أيضًا وسيلة للمشاركة في الجهود المبذولة لتشكيل الحداثة في إندونيسيا حسب الشروط الإسلامية. ويمثل التحجب بالنسبة لهن مرآة لالتزامهن بالإسلام كقوة لكسر التقاليد وكأساس لبناء مجتمع جديد، حيث تتحدد رؤيتهن لهذا المجتمع الجديد باعتباره حديثًاولكن بمعنى يناقض النموذج الغربي، أي أنها حداثة تتصف بخاصية التدين العميق. وهكذا فإن القرارات التي تتخذها نساء جاوا المسلمات في الحيز الخاص تساهم في الجهود المبذولة لخلق الحيز العام للحداثة من منطلق فهم معين للإسلام في إندونيسيا.

 

لابد أنه قد وضح الآن أن مصادر دراسة النساء المسلمات في شرق وجنوب شرق آسيا أصبحت متوفرة في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين في الدول التي يشكل المسلمون فيها أغلبية، وخاصة في إندونيسيا وماليزيا. ولكنها نادرة في بقية دول المنطقة. إن أساليب الدراسات النسائية والتي تطورت من تقاطع المفاهيم النسوية الخاصة بالسلطة والفاعلية والذات مع الاهتمام بجوانب من الحداثة في المنطقة هي أساليب تم تطبيقها على تحليل هذه المصادر حيثما توفرت، إضافة إلى النصوص الإسلامية، مما نتج عن تحليلات ثرية تتناول أوضاع المسلمين وتعقيداتها. وتجابه أساليب التحليل هذه التحيز المتضمن في المصادر، سواء بسبب الجنس أو الطبقة أو الأصل أو العرق أو الدين.

كما أن مفهوم بناء الجندر مفيد كذلك في حل مشكلة أصالة الصوت. ويصدق هذا بشكل خاص على الباحثات والباحثين غير المحليين (الغربيين) حيث يشكك في أهليتهم للحديث عن نساء المنطقة. إن مفهوم بناء الجندر في الواقع يمثل إشكالية لمفهوم الأصالة، حيث أن فكرة كون المرأة كيانًا مبنيًا هي فكرة تلغي أي ادعاء بوجود وضع أنثوي جوهري يمكن الحديث منه باعتباره جوهرًا أصيلاً. وهو أمر يوضح أن أهمية الصوت لا ترجع إلى كونه صوت امرأة وإنما لأنه يكشف أسلوب عمل الأيديولوجيا الذكورية الخاصة بالهيمنة. ويعتبر الصوت نسويًا حين يقوض مثل هذه الأيديولوجيا والبنى الرمزية والاجتماعية التي تهمش النساء.

 

J. M. Atkinson and S. Errington (eds.), Power and difference. Gender in Island Southeast Asia, Stanford, Calif. 1990.

S. Brenner, Reconstructing self and society. Javanese Muslim women and “the veil,” In American Ethnologist 23: 4 (1996), 673 – 97.

S. A. Chipp and J. J. Green, Introduction. Women’s changing roles and status,” In S. A. Chipp and J. J. Green (eds.), Asian women In transition, University Park, Pa. 1980, 1- 11.

S. Errington, Recasting sex, gender, and power, In J. M. Atkinson and S. Errington (eds.), Power and difference. Gender in Island Southeast Asia, Stanford, Calif. 1990, 1- 58.

S. Hasyim (ed.), Measuring the value of women [in Indonesian], Jakarta 1999,

S. Horton, Women and industrialization in Axia, London 1996.

A. Ibrahim, S. Siddique, and Y. Hussain (comps.), Readings on Islam in Southeast Asia, Singapore 1985.

G. M. Jones, Marriage and divorce In Islamic South-East Asia, Kuala Lumpur 1994.

W. J. Karim, Women and culture. Between Malay Adat and Islam, Boulder, Colo, 1992.

E. Locher-Scholten and A. Niehof (eds.), Indonesian women in focus. Past and present notions, Dordrecht 1987.

A. Ong. Spirits of resistance and capitalist discipline Factory women in Malaysia, Albany, NY. 1987.

B. L. K. Pillsbury, Being female in a Muslim minority in China, in L. Beck and N. Keddie (eds.), Women In the Muslim World, Cambridge, Mass. 1982, 651- 73.

L. J. Sears (ed.), Fantasizing the feminine in Indonesia, Durham, N. C. 1996.

K. Sen and M. Stivens (eds.), Gender and power In affluent Asia, London 1998.

شارك:

اصدارات متعلقة

النسوية الإلغائية في فلسطين
نصائح من اجل بيئة عمل آمنة للنساء
نصائح للنساء لضمان السلامة خلال الحمل والولادة والوقاية من كوفيد19
الإجهاض القسري في نيجيريا وسؤال العدالة الانجابية
اغتصاب وقتل طفلة رضيعة سودانية في مصر
نحو وعي نسوي : أربع سنوات من التنظيم والتعليم السياسي النسوي
شهادة 13
شهادة 12
شهادة 11
شهادة 10