المنهجيات والمنظومات والمصادر
لدراسة النساء والثقافات الإسلامية
المداخلات في الأفرع المعرفية
الاستشراق
مقدمة
لا يوجد شك أن كتاب إدوارد سعيد الاستشراق (Edward Said, Orientalism 1978) قد أدى إلى حركة واسعة النطاق في مجموعة من المجالات، منها دراسات الجندر وما بعد الكولونيالية والدراسات الثقافية والأدبية، وبصفة أكثر عمومية في مجالات السينما والتصوير الفوتوغرافي والرسم. فقد أثارت فرضية سعيد الانتباه والإعجاب والنقد أيضًا، كما تم الاختلاف حولها بشدة وتبنيها أو التبرؤ منها، وتم الاقتباس منها مطولاً وفهمها أو إساءة فهمها، وتبسيطها وتأويلها على عدة أوجه حتى أصبحت مهمة تغطية أثر الاستشراق على دراسة النساء والثقافات الإسلامية أبعد ما تكون عن البساطة.
وعن طريق التساؤل حول الفرضيات الخاصة بالمنظومات الفكرية المتنوعة عن “الشرق” باعتباره نظامًا للتمثيل شكله كتاب أدب الرحلات والأكاديميون الغربيون والإمبراطورية الغربية، أوضح لنا إدوارد سعيد كيف كان الشرق صورة مرآة عكسية للـ. “آخر“، أي الغرب المتفوق. لقد كانت مقولته بأن التصوير لشرق أحادي ومتسق يؤدي إلى صور جوهرية ونمطيه، يصنف بها الشرق بصفته متخلفًا وغير قابل للتغيير وغير عقلاني ومهدد ويجب السيطرة عليه جنسيًا، وهي مقولة مثيرة للنقاش والتحدي قلم يسبق أن قدمت خيالات الحريم والحمام التركي، وهي مجازات رئيسية فى الخيال الأوروبي، كرموز جنسية نمطية للشرق المتخيل، بصورة أبرز من تلك التي قدمها سعيد. ومن أبرز النقاط بالنسبة لأغراضنا هنا أنه بالنظر إلى الروايات الأدبية وروايات الرحالة في القرن التاسع عشر، نجد أن سعيد قد عرض لموضوع الخيالات الذكورية الغربية: فقد كان على الشرق الأنثوي والضعيف أن يتعرض لغزو الغرب القوي والمسيطر جنسيًا. فعلينا أن ننسب إليه لفت أنظارنا إلى فكرة الاستعمار القائم على مفاهيم الجندر، ولكن من غير المؤكد أنه يجب النظر إلى عمل سعيد على أن يهتم أساسًا بمسائل الجندر في حد ذاتها، أو أن عمله يركز عن قصد على الحياة الجنسية (sexuality) وبناء الصورة. ومع ذلك، فإن مقولته الأساسية قد أعطت بالتأكيد دفعة للدراسات الأنثروبولوجية والتاريخية، وإلى إعادة التفكير في العلاقات المتشابكة للسيادة بين الشرق والغرب، حيث أدت نظرية سعيد إلى صقل المقاربات النسوية وتطوير الدراسات ما بعد الكولونيالية، فقد كان سعيد هو أول من ربط الخيالات الجنسية للرحالة بنزعة الهروب إلى الشرق. ونتج عن هذا الوعي إنتاج فكري مهم استعار منهجه من فوكو وتنظيره حول السلطة، وهدف إلى تفكيك الصور النمطية في البحوث التي تتناول مجتمعات المسلمين. وقد واصل الكثيرون ما بدأه سعيد من جهود، مثل ماري لويز برات، وبيتر هيوم، وهومي بابا، ورنا قباني وغياتري سبيفاك (Mills 1992, 2)، فمنذ ظهور كتاب الاستشراق ظهرت كمية مدهشة من الأعمال في شتى مجالات الإنسانيات. وركز الإنتاج الفكري ما بعد سعيد على التحيزات والترميزات الثقافية النمطية والافتراضات المسبقة حول هذا على الجندر في الفترة الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، وقد تم هذا على مستويين: من خلال التحليل النصي وفي الدراسات الأنثروبولوجية.
إن ما أثار اهتمام النسويات بالخيالات الجنسية هو تحليل سعيد المثير للتفكير في تناوله لكتابات الرحلات عند جيرار دي نيرفال وغوستاف فلوبير ورؤيتهما للأنوثة الشرقية ذات المنحى المروع، فهو يشير إلى أن الملاحظات الميدانية لفلوبير تنم عن ذوق منحرف وحيوانية زائدة ولكن برقي شديد (Said 1978, 184). وربما كانت علاقة فلوبير بكوتشك هانم الغانية، وحسيتها الخبيرة ورقتها و(وفقًا لفلوبير) خشونتها غير العابئة (Said 1978, 186- 187) هي ما أثار الاهتمام بالديناميكية الجنسية بين الشرق والغرب في عمل سعيد، فنظرة فلوبير إلى كوتشك هانم هي أنها ذات طبيعة جنسية غبية ومطلقة ولامبالاة عاطفية. إن كوتشك هي رمز مزعج للخصوبة، وشديدة الشرقية في طبيعتها الجنسية المرفهة المفرطة في ظاهرها (Said 1978, 187)، وهي المثال الذي رسم عليه فلوبير شخصية سالامبو. ويقول سعيد أن كلا من فلوبير ونيرفال قد أفصحا عن أذواق سادومازوكية وعن ولع بالمروع وبمفهوم عن المرأة القاتلة (femme fatale) وبالسرية والغيبيات، وهو سر انجذابهما إلى شخصيات مثل كليوباترا وسالومي وإيزيس (Said 1978, 180).
في أعقاب ما بعد الاستشراق جاءت حركة تفكيك هائلة تضمنت تحليل النص والدراسات التاريخية والاجتماعية والأنثروبولوجية أعادت التفكير في العلاقة ما بين الإمبراطورية والأمم الخاضعة للاستعمار. فقد انتقدت دينيز كانديوتي بعض أنواع دراسات ما بعد الاستشراق قائلة: “كثيرا ما تظل محبوسة في فئات المستعمرين مقابل الخاضعين للاستعمار، والشرق مقابل الغرب، والإسلام مقابل المسيحية، والذات الغربية مقابل الآخر المحلي، وذلك بطرق تثبت نظرتنا على هيمنة الغرب الخطابية. وعادة ما يحدث هذا بطريقة تضر بتحليل للثقافة والمجتمع يقوم على الرجوع إلى الذات وهو ما يجب أن يعتمد عليه النقد النسوي المحلي (Kandiyoti 1996, 10).
وقد امتد الجدل ليصل حتى إلى مخططي المدن وعلماء الاجتماع الذين نظروا إلى تخطيط المدن الاستعماري من منظور العلاقة الجدلية بين ما يسمى بـ. “المدينة الإسلامية” التقليدية في مقابل العمارة الحديثة المفتوحة والشبكية وتخطيط الشوارع الواسعة للمدينة الاستعمارية. فيشير كتاب زينب سيليك عن “الأشكال الحضرية والمواجهات الاستعمارية: الجزائر تحت الحكم الفرنسي” إلى الحسية المتخيلة والمتأثرة بالجندر الخاصة بالـ. “قصبة” في مدينة الجزائر، فقد أصبحت القصبة في الكتابات الاستعمارية الكولونيالية بالإضافة إلى كتابات المهندسين الفرنسيين والإداريين الاستعماريين، ترتبط بامرأة واحدة حسية وغير مميزة عن غيرها (Zeynep Celik, Urban Forms and Colonial Confrontations: Algiers under French Rule 1997, 22). ولعل هذه الصورة قد ارتبطت بصعوبة اختراق الفراغ الغامض لذلك الجزء القديم والمعذب من المدينة. وتشير زينب سيليك إلى أن المثقفين الفرنسيين والعسكريين والإداريين الرسميين قد جعلوا من المرأة الجزائرية “رمزًا أساسيًا للهوية الثقافية للمستعمرة” (Celik 1997, 22). ومن الأعمال التي اهتمت أيضًا بالخيال الخاضع للجندر كتاب مريناليني سينها عن “الذكورية الكولونيالية: الإنجليزي المسترجل والبنغالي المخنث فى أواخر القرن التاسع عشر“، حيث يبحث الكتاب في الصور النمطية الحادة التي خلقتها المواجهة الاستعمارية بين البريطانيين والبنغاليين خلال القرن التاسع عشر، حيث كان البريطانيون يروجون لمثال الذكورة الذي يرتبط بحب الرياضات مثل الصيد، واحتقار العكوف على القراءة، والاستعداد لكل شيء، أما الرجل (بابو) البتغالي فقد تم تصويره على أنه المقابل المضاد لهذه الصورة، فهو “مخنث ودؤوب على القراءة وهائج جنسيًا وهزيل الجسد ويفتقر إلى ضبط النفس“. وتؤكد مريناليني سينها في الكتاب كله على أن تقسيمات المستعمر والخاضع للاستعمار ليست ثابتة أو واضحة بذاتها (Mrinalini Englishman and the Effeminate Bengali in the Late Sinha, Colonial Masculinity: The Manly Nineteenth Century 1995, vii).
ونجد في كتاب خيالات كولونيالية تأليف ميدة يغينوغلو (Meyda Yegenoglu, Colonial Fantasies 1998) دراسة غنية ومدهشة للتمثيل الثقافي للغرب لنفسه من خلال الآخر، فهي تبحث في الاستشراق وتعبيره عن الاختلافات الجنسية والثقافية، كما تحلل كلا من فئتي الجندر والاستشراق من أجل إعادة صياغة الخطاب الاستشرافي. وتركز على مفهومي الخيال والرغبة، وتربطها بالبناء التاريخي المحدد وبالعملية الجماعية، فهى تبحث بالتحديد في الطريقة التي تم بها النظر إلى الحجاب وممارسة التحجب والحريم في الخيال الغربي، بداية من ملاحظات فرانز فانون حول الحجاب في الجزائر. فقد كان ينظر إلى الشرق باعتباره تجسيدًا للحسية، وتم فهمه بمفردات أنثوية. أما الحريم فكان يمثل العالم الغامض للشرق والحيز الخفي والمحظور الخاص بالنساء. وتتساءل ميدة يغينوغلو حول كتابات الرحالة الغربيات من النساء وكيف أن كتاباتهن تدعم كتابات الرجال وتكملها بـ. “المعرفة من الداخل“.
أما كتاب تدجين الإمبراطورية (Clancy- Smith and Gouda, Domesticating the Empire 1998) فهو مجلد تم تحريره بحيث يتناول مجموعة من الموضوعات المختلفة المتصلة بالدراسات ما بعد الكولونيالية والجندر والاستشراق، ويتم فيه تقديم معالجة بديعة للحياة الجنسية والمخلطين (من عنصر أبيض وأسود) وصور الأنوثة والعلاقات بين الخدم الجاويين وبين النساء الهولنديات في الإمبراطورية. ويقدم الفصل الذى كتبته باميلا باتيناما مناقشة شيقة للحياة الجنسية المختلطة بين فردين ينتميان إلى عرقين مختلفين وذلك في رواية الروائي الكولونيالي الهولندي لويس كوبيروس عن “السلطة الخفية” (Louis Couperous, The Hidden Force) وهي من أشهر الروايات الهولندية التي تدور أحداثها في هولندا الهند الشرقية، وتحكي “غموض” العالم الشرقي. ونجد في قراءة باميلا باتيناما أن هذه الرواية تكشف عن خليط من الاستشراق والرغبة الجنسية الخفية وازدواجية الغرب، ويتم فيها التركيز على نموذج المرأة القاتلة المخلطة، فهي المرأة الهند – أوروبية الجميلة التي تمثل مصدر تهديد جنسي. أما كتاب سارا ميلز عن “خطابات الاختلاف” (Sara Mills, Discourses of Difference) فيدور حول مجموعة كبيرة من كتابات الرحالة البريطانيين من النساء في فترة “أوج الإمبريالية” في القرن التاسع عشر، وتركز سارا ميلز على ثلاثة أعمال من أدب الرحلات هي: كتاب ألكساندرا ديفيد – نيل “رحلتي إلى لهاسا” (Alexandra David- Neel, My Journey to Lhasa 1927)، وكتاب ماري كينغزلي “رحلات في غرب أفريقيا” (Mary Kingsley Travels In West Africa 1897)، وكتاب نينا مازوتشيللي عن “جبال الألب الهندية وكيف عبرناها” (Nina Mazuchelli, The Indian Alps and How We Crossed Them 1876). وتؤكد سارا ميلز أن الأطر الخطابية تختلف باختلاف الحالة الاستعمارية، فهي تحاول أن تضع النساء الرحالة داخل سياق كولونيالي بدلاً من رؤيتهن كأفراد في صراع مع التقاليد الاجتماعية للعصر الفيكتوري. وهي تجد إدوارد سعيد وميشيل فوكو ملهمين ولكنهما مخيبان للآمال بالنسبة للنسويات، فيما يتجاهلان الكاتبات في أعمالهما، حيث يذكر سعيد كاتبة واحدة فقط هي غيرترود بيل (Mills 1991, 13).
ويتناول كتاب رينا لويس عن “الاستشراق من منطلق الجندر” (Reina Lewis, Gendering Orientalism) دور نساء القرن التاسع عشر في الاستشراق البصري، مع التركيز على نوعين من الإنتاج الثقافي هما: اللوحات الاستشراقية للفنانة الفرنسية هنرييت بروون (Henriette Browne) التي كانت نشطة في الفترة ۱٨٥٥ – ۱۸۷۸م، وكذلك التصوير الاستشراقي غير المباشر للشخصية اليهودية باعتبارها تمثل الآخر من منظور استشراقي في رواية دانيل ديروندا الصادرة عام ١٨٧٦م من تأليف جورج إليوت (George Eliot, Daniel Deronda 1876). وتركز رينا لويس على العلاقة بين الإمبريالية والنساء والثقافة، إذ تناقش تعقيد وتعدد الروابط بين الجندر والعرق والذاتية، وخاصة كيف يتنوع وضع النساء، قائلة: “إن وصول النساء إلى مواقع الخطاب الإمبريالي المحكوم بالاختلاف والجندر قد أنتج نظرة على الشرق و“الآخر” الخاضع للاستشراق تتسم بأنها سجلت اختلافًا أقل انحطاطًا وأقل تعميمًا مما أشارت إليه صيغة سعيد الأصلية” (Lewis 1996, 4)، فاستشراق النساء يصعب تصنيفه كداعم أو معارض و إنما هو غير متماسك (مقتبس من: Liddle and Rai 1998, 499 ). إن كتاب لويس جذاب للغاية جماليًا، ويثريه التناقض بين لوحات براون وبين غيرها من الرسامين الرجال المعاصرين لها. وتسلط كل من ميلز ولويس الضوء على المواقف التعددية والمتنوعة داخل الخطاب الاستشراقي.
وفي كتاب “جسد أسود: النساء والكولونيالية والمكان“، تتأمل راذيكا موهانرام عملية إعادة التصنيف المستمرة التي مرت بها في الولايات المتحدة وفي نيوزيلندا، فقد تم تصنيفها أحيانًا باعتبارها مواطنة هندية وباعتبارها “سوداء” في نيوزيلندا، وباعتبارها “بنية” في أمريكا، مما دعاها إلى التفكير في عملية التمثيل في علاقتها بمفاهيم الهوية الغربية. فيركز كتابها على نظريات الهوية في سياق المكان والطبيعة، ولكي تفعل هذا تقوم بالبحث في الجسد الأنثوي ومفاهيم التجسيد محاولة ربط مفهوم المكان/ الطبيعة بدراسات ما بعد الكولونيالية التي تتضمن “سياسات المكان/ التهجير، ومفهوم هوية الشتات في مقابل هوية الموطن الأصلي، وهوية المرأة في الأمة والبناء المكاني للأنوثة، وهوية الجسد الأسود وعلاقته الطبيعية بالطبيعة في مقابل هوية الجسد الأبيض وعلاقته بالمعرفة (Radhika Mohanram, Black Boch: Women, Colonialism, and Space 1999, xv).
إن إحدى نتائج تفكيك الاستشراق هي ظهور أصوات بديلة وتعددية نابعة من الآخر الخاضع للاستعمار، ومن المهم هنا أن نذكر أعمال غياتري سبيفاك (Gayatri Spivak 1985) التي تساءلت عن مدى إمكانية استعادة الأصوات التابعة، بما فيها أصوات النساء. ومن جهة أخرى، سهل الوعي المتزايد بتعددية الأصوات فتح محالات جديدة للمعرفة. ففي دراسات ما بعد الكولونيالية ازدهر التحليل النصي لأدب الإمبراطورية من منظور جدلي، كما نوقش خطاب المستعمر/ المستعمر (بفتح الميم وكسرها على التوالي) المتعاكس وتمثيلاته، وتم صقل مفهوم التفاعل ما بين الجندر والعرق والهجين. كما اشتركت مجموعة من الأصوات في مناقشة ظهور حداثيات بديلة، فقد درست سينثيا نيلسون وشهناز روس حياة ثلاث نساء من ثقافات مختلفة (إحداهما مصرية وهي درية شفيق، وجاهنارا شاهناواز وحميدة أختر حسين من شبه الجزيرة الهندية)، وتؤكدان على أن “المرأة الآخر الخاضعة للاستعمار تولد في مواجهتها مع الحداثة أشكالاً متعددة من الصراع وطرقًا للحديث تعبر عن التناقضات التي تنتجها الحداثة وتشتبك معها” (Nelson and Rouse 2000, 97)، فالتناقضات التي تحويها الحداثة تخلق تعددًا في الأصوات وتولد لغات مختلفة ومصطلحات تعبر النساء من خلالها عن كفاحهن من أجل الحقوق (Nelson and Rouse 2000, 97). وعلى نفس المنوال حررت هدى الصدة. كتابًا بالعربية هو كتاب أصوات بديلة يحتوي على مجموعة من المقالات المترجمة لمفكرات مهتمات بالدراسات النسوية ودراسات التبعية في العالم الثالث، ومنهن غياترى سبيفاك وميرفت حاتم ودينيز كانديوتي وأفسانه نجمبادي وآن ماكلينتوك وأوما نارايان وغيرهن، وهو كتاب يشهد على زيادة الاهتمام بدراسات ما بعد الكولونيالية ودراسات التبعية في الشرق الأوسط. أما مقال سينثيا نيلسون الممتاز نبيذ قديم وزجاجات جديدة: انعكاسات وإسقاطات بشأن البحوث حول النساء في الشرق الأوسط” (Cynthia Nelson, Old Wine, New Bottles) فيقدم بانوراما ممتدة للدراسات الأنثروبولوجية السابقة، فالمشاكل والأمور التي تواجهها دراسة النساء في الشرق الأوسط تشير إلى التحولات التي حدثت منذ أواخر الستينات وما بعدها في العلوم الاجتماعية الغربية.
أما كتاب ليلى أبو لغد عن إعادة تشكيل النساء (Lila Abu- Lughod, Remaking Women) هو كتاب آخر يتأمل مسائل الحداثة وبناء الدولة القومية وما بعد الكولونيالية في علاقتها بتاريخ النسوية فى الشرق الأوسط. وفي إعادة طرح لمسألة المرأة في الشرق الأوسط ينصب اهتمام ليلى أبولغد على النظر إلى كيفية “إنتاج وإعادة إنتاج مفاهيم الحداثة من خلال وضعها في مقابل ما هو غير الحداثي في ثنائيات تتراوح بين الحداثي/ البدائي في الفلسفة والأنثروبولوجيا، وحتى الحداثي/ التقليدي في النظرية الاجتماعية الغربية وفي نظرية التحديث، إلى جانب ثنائية الغرب/ اللاغرب المتضمنة في معظم تلك الثنائيات” (Abu- Lughod 1998, 7).
الأصلي مقابل “الغربي؟”
يمكننا أن ننظر إلى الجدل الدائر حول الحداثيات البدينة باعتباره استمرارية للنقاش القديم حول تحرير الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية من الإطار الاستعماري الكولونيالي ومحاولة تأصيل العلوم الاجتماعية. وقد تعرض هذا النقاش إلى مجال علم اجتماع المعرفة، فتم التساؤل حول أوضاع ومجالات إنتاج المعرفة. وقد أثار علماء الاجتماع في الأعوام الأخيرة بعض الأسئلة التي تتصل بالصراع في هذا المجال ما بين الباحثات والباحثين المحليين من جهة والعالميين من جهة أخرى، كما تمت مناقشة أي الطرفين يمكن الاعتداد بمعرفته أكثر والجدال حول أي الطرفين يعرف الحقيقة بصورة أفضل. وقد تم تحليل الجدل حول تأصيل العلوم الاجتماعية كخطاب ما بعد كولونيالي، بالإضافة إلى تحليل القوى المختلفة المتصارعة داخل مجال علم الاجتماع، في أعمال كل من سهير مرسي وسينثيا نيلسون وريم سعد وهانية شلقامي (Morsy, Nelson, Saad, and Sholkamy 1991). وفي الدراسات النسوية أثار هذا النقد مناقشات حول تحيزات الإثنوغرافيا الغربية في تناول “الآخر” كموضوع للدراسة، كما دارت في مقدمة هذا الجدل مسألة مكانة المراقب الداخلي/ الخارجي و“الخارجي في الداخل” والمراقب “المحلي الأصلي” (وهي أنثى في الغالب) تدرس مجتمعها ولكن مع كونها من خلفية طبقية وثقافية مختلفة. وكانت واحدة من أولى الدراسات التي تم بها توسيع مجال الدراسات الأنثروبولوجية للجيل التالي كتاب عن “النساء العربيات في الميدان: دراسات مجتمعك” الذي حررته كل من ثريا التركي وكاميليا فوزي الصلح (Soraya Altorki and Camillia Fawzi El-Solh, eds., Arab Women in the Field: Studying Your Own Society).أما كتاب نادية العلي عن “العلمانية والجندر والدولة في الشرق الأوسط” (Nadje Al- Ali, Secularism, Gender, and the State in the Middle East) فهو عمل أخر تكشف فيه المؤلفة عن اتساع خطاب الناشطات ذوات التوجه العلماني في مصر، وذلك عن طريق تفكيك ثنائيات مثل الشرق والغرب، والأصلي والغربي. وفي الوقت الذي تعبر فيه نادية العلي عن إعجابها بكتابي إدوارد سعيد الاستشراق والثقافة والإمبريالية إلا أنها تأمل في تخطي خطاب الاستشراق (AL- Ali 2000a 22)، فهي تستعير كثيرًا من إدوارد سعيد وليلى أبو لغد وغياتري سبيفاك في تقديمها لنقد مصطلح ما بعد الكولونيالية، مشيرة إلى الأدبيات الكثيرة التي تتجادل حول هذا المفهوم كما يطبق على لحظات تاريخية متنوعة. إن التقسيم إلى فترات تاريخية واستخدام عبارة “ما بعد” يوحي بأن مرحلة الكولونيالية قد انتهت. وبالإضافة إلى ذلك تقوم بنقد باحثي ما بعد الكولونيالية بسبب “اشتراكهم في النظرية العليا الغربية ولتوطنهم فى مؤسسات أكاديمية غربية” (AL- Ali 2000a, 22).
وفي مقال مفيد حول موقع دراسات الجندر الآن، تتناول لبنى أبو لغد مسألة تأثير كتاب إدوارد سعيد الاستشراق على دراسات الجندر، فتقول إن “الانتعاش التاريخي للنسوية في الشرق الأوسط والذي ينبع من تلك الوفرة الجديدة في البحوث قد دفع بدوره إلى إعادة بحث ذلك السؤال المركزي في الاستشراق، أي قضايا الشرق/ الغرب” (Abu- Laghod 2001, 101)، وينصب تركيزها على الشرق الأوسط في علاقته بما بعد الاستشراق، كما تشير إلى أعمال سينثيا نيلسون وفاطمة مرنيسي وليلى أحمد ومارغو بدران وزهرة أرات وأفسانه نجمبادي وإليزابيث فيرنيا وزيبة مير – حسيني ودينيز كانديوتي وأخريات.
إن كتاب دينيز كاندبوتي جندرة الشرق الأوسط (Deniz Kandiyoti, Gendering the Middle East) هو دراسة مهمة تقدم مجموعة كبيرة من المناقشات بما فيها الجدل الدائر حول تأثير ما بعد الاستشراق على دراسات الجندر. وتحليل دينيز كانديوتي هو تحليل غني، يوضح أن البحث النسوي فى الغرب ودراسات النساء في الشرق الأوسط مجالان يشتركان في بعض المساحات. كما توضح أن الطريقة التي بها إدماج الدراسات النسوية في دراسات الشرق الأوسط كانت جزئية وانتقائية (Kandiyoti 1996, 18).
ومن أمثلة تفكيك الصور التمثيلية هو تحليل هدى الصدة لتمثيل عائشة، صغرى زوجات النبي (ص)، عند كل من المستشرقين من ناحية والمفكرين والباحثين “المحليين” من ناحية أخرى، رجالاً ونساء. وتركز هدى الصدة على ستة أعمال من كتابات السير والتراجم في القرن العشرين لكل من نبية أبوت وزاهية قدورة وعباس محمود العقاد وعائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) وفاطمة مرنيسي وغسان أشا. ورغم أن هذه الصور التمثيلية مختلفة إلا أنها تشترك في مؤشر واحد: فكل تلك الأعمال تنظر إلى حياة عائشة من أجل اشتقاق اتجاه تسلكه المرأة المسلمة في القرن العشرين (Elsadda 2001, 44) وتهدف هدى الصدة إلى بحث العلاقة بين كل من السلطة، وتمثيلات الهوية باعتبارها معرفة، والنزعة القومية.
وعلى مستوى آخر، يصبح مفهوم النسوية ذاته مصدرًا للخلاف، ففي أثناء بحثها الميداني بين النساء المصريات أدركت نادية العلي أن مصطلح “النسوية” مصطلح إشكالي ومحمل بالأيديولوجيا، ولهذا فهي تفضل استخدام مصطلح “نشاط النساء” (women’s activism)، حيث أن النسويات في أمريكا الشمالية يتمثلن في أعين كثير النساء المصريات باعتبارهن کارهات للرجال وعدوانيات ومهووسات بالجنس. وهي تصنف تلك التمثيلات للنسوية والنظر الغرب بصفتها الوجه الآخر للعملة، أي “الاستغراب” (Al- Ali 2000b).
أما جوانا ليدل وشيرين راي (Joanna Liddle and Shirin Ray 1998) فقد بحثتا كيفية تمثيل “المرأة الهندية” في كتابات كاتبتين من أمريكا الشمالية، وذلك من أجل إظهار كيفية تناولهما لجوانب من الخطاب الإمبريالي.
وتستخدم ميرفت حاتم (Mervat Hatem 1999) مقاربة تفكيكية على نهج فوكو في تناول معنى وتطبيق السلطة، وذلك من أجل إعادة التفكير في الديناميكيات والتفاعلات المعقدة في العلاقات بين الأم والابنة في مصر، ومن خلال التركيز على التفاعلات الصغرى للسلطة في حياة عائشة تيمور تقترح ميرفت حاتم قراءة بديلة لعلاقة عائشة تيمور بكل من والدتها ووالدها، ثم علاقتها المأساوية فيما بعد بابنتها التي ماتت في سن مبكرة.
تتبع عزة كرم نقد إدوارد سعيد للدراسات الغربية، بل وتذهب إلى أبعد من ذلك من حيث المنظور في سبيل إبراز نقطتين. أولاً، يتم التعامل مع المؤسسة الأكاديمية الغربية بقسوة بسبب آليات التفاعل غير المتكافئة فيها لإنتاج المعرفة. فالفكرة الرئيسية التي تؤكدها عزة كرم هي وجود علاقات أوى غير متسقة بين المؤسسة الأكاديمية الغربية وبين الباحثات والباحثين “الأصليين” أو المحليين. فعن طريق التركيز على سياسات البحث الاجتماعي، وكيف ولماذا تتم كتابة نصوص بعينها، وكيف يتم إنتاج أشكال معينة من المعرفة، تهدف عزة كرم إلى التنديد بالنسوية الغربية وبالأكاديميات والأكاديميين الذين يبقون متأثرين بالمركزية الأوروبية. وهي تؤكد على حقيقة أن عمليات “خلق الآخر” التي تقوم بها الأكاديميات والأكاديميون الغربيون في مواقع القوى يمكن لها أن تأتي بنتائج عكسية، كما تعبر عن الغضب والقلق الشديد بشأن التبادل غير المتساوي بين البحوث الغربية والمحلية، موضحة أن كثيرًا من الباحثات والباحثين المحليين يتعرضون لعمليات “نزع الشرعية” عن أعمالهم من قبل المؤسسات الأكاديمية الغربية، فلكي يتم الاعتراف بهم في أوطانهم يجب عليهم المرور أولاً عبر دوائر إنتاج المعرفة الغربية والحصول على مباركتها، وهي عملية لا تخلو من الأخطار. حيث ترى عزة كرم أنه كثيرًا ما يتم التقليل من قيمة أعمال الباحثة أو الباحث المحلي وتهميشها، بالإضافة إلى “نفي الإنسانية” (dehumanized) عن الهويات الأكاديمية. ويتم إنجاز عملية تقليل القيمة هذه “عن طريق الإنكار الصريح لموضوعية الباحث أو الباحثة، أو ببساطة عن طريق تجاهل الإنتاج البحثي الكبير بل وأحيانًا تجاهل الحضور الفعلي للباحثة المحلية غير الغربية أو الباحث، وفي أمثلة أخرى يتم السطو ونسب بعض جوانب أعمال الباحثة أو الباحث المحلي إلى الغير. حيث أن آليات القوى الحالية تجعل الشكوى من هذه العملية أقرب إلى مخاطرة بالتعريض بسمعة وصيت أساتذة لهم وضعهم المعروف في مواجهة سمعة باحثة أو باحث مبتدئ لم يتم تثبيته في وظيفته بعد” (Karam 2000, 6).
أما النقطة الثانية التي تتناولها عزة كرم فهي القول بأن عملية خلق الآخر غالبًا ما تتجاهل الظاهرة المهمة الخاصة بالنسويات الإسلاميات وناشطات الإسلام السياسي، وهي الأجندة والبرنامج البحثي الذي قررت أن تتبناه. وملاحظات كرم مهمة من حيث إنها يمكن أن تولد أسئلة جديدة عن العوامل المتنافسة (المحلي مقابل الغربي) ومواقعها (العمل في المدن الغربية مقابل العالم الثالث، على سبيل المثال) في التقسيم الدولي للعمل في السوق الأكاديمية. ولعل السؤال الآخر هو هل نجحت الأصوات البديلة في إيجاد مساحة واعتراف بها، وهل سيؤدي ذلك إلى مزيد من العلاقات الأكثر عدالة؟
هدى الصدة (تحرير)، أصوات بديلة، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ٢٠٠٢.
L. Abu- Lughod, Remaking women Feminism and modernity in the Middle East, Cairo 1998.
-, Orientalism and Middle East feminist studies, in Feminist Studies 27: 1 (spring 2001), 101- 13.
L. Ahmed, Women and gender in Islam Historical roots of a modern debate, New Haven, Conn. 1992
N. Al- Ali, Secularism, gender and the state in the Middle East The Egyptian women’s movement, Cambridge 2000a.
-, Women’s activism and occidentalism In contemporary Egypt, in Civil Society. Democratization in the Arab World 9: 100 (April 2000b), 14- 19.
S. Altorki and C. F. El-Solh, Arab women in the field Studying your own society, Cairo 1988.
Z. Celik, Urban forms and colonial confrontations Algiers under French rule, Berkeley 1997
J. Clancy- Smith and F Gouda (eds.). Domesticating the empire, Race, gender and family life in French and Dutch colonialism, Charlottesville, Va. 1998.
H. Elsadda, Discourses on women’s biographies and cultural identity. Twentieth- century representations of the life of “Aisha Bint Abi Bakr, in Feminist Studies 27: 1 (spring 2001), 37- 65.
M. Hatem, The microdynamics of patriarchal change in Egypt and the development of an alternative discourse on mother- daughter relations, in S. Joseph (ed.), Intimate selving in Arab families. Syracuse, N. Y. 1999, 191– 208.
R. Kabbani, Europe’s myths of Orient, London 1986.
D. Kandiyoti, Gendering the Middle East. Emerging perspectives, London 1996.
A. Karam, The dilemma of the production of knowledge in Western academia and Islamist feminists, paper given at a seminar on Sufism jointly organized by CSIC and IMIR, Sofia, Bulgaria May 2000 (<www.artsweb.bham.ac.uk/mdraper/transnatsufi/research papers/Karam.htm>, 36).
R. Lewis, Gendering Orientalism. Race, femininity, and representation, London 1996.
J. Liddle and S. Rai, Feminism, imperialism and Orientalism. The challenge of the “Indian Woman,” in Women’s History Review 7: 4 (1998), 495- 519.
S. Mills, Discourses of differences. An analysis of women’s travel writing and colonialism, London 1991.
R. Mohanram, Black body. Women, colonialism, and space, Minneapolis, Minn. 1999.
S. Morsy, C. Nelson, R. Saad, H. Sholkamy, Anthropology and the call for Indigenization of social science in the Arab world, in E. L. Sullivan and J. S. Ismael (eds.). The contemporary study of the Arab world, Edmonton, Canada 1991, 88- 111.
C. Nelson, Old wine, new bottles, reflections and projections concerning research on women In the Middle East, in E. L. Sullivan and J. S. Ismael (eds.), The contemporary study of the Arab world, Edmonton, Canada 1991, 127- 52.
C. Nelson and S. Rouse, Gendering globalization. Alternative languages of modernity, in C. Nelson and S. Rouse (eds.), Situating globalization. Views from Egypt, Bielefeld 2000.
E. W. Said, Orientalism, New York 1978.
M. Sinha, Colonial masculinity The “Manly Englishman” and the “effeminate Bengali” In the late nineteenth century, Manchester, U. K. 1995.
G. C. Spivak, Can the subaltern speak? Speculations on widow-sacrifice, in Wedge 7:8 (1985), 120-30 and C. Nelson and L. Grossberg (eds.), Marxism and the interpretation of culture, Urbana, III. 1988, 271- 313.
M. Ye’eno’lu, Colonial fantasies. Towards a feminist reading of Orientalism, Cambridge 1998.