البحث عن الذات

التصنيفات: أرشيف صحفي
الرئيس الراحل محمد انور السادات

في كتابهالبحث عن الذاتيسرد الرئيس الراحل أنور السادات سيرته الذاتية مارا بكل الأحداث التاريخية التي عاصرها وشارك فيها طوال حياته.

بدءا من عصر الملك فاروق وثورة ٢٣ يوليو مرورًا بالعدوان الثلاثي ونكسة ٦٧، الى أن وصل إلى حرب أكتوبر ٧٣ ومعاهدة السلام.

وسأخص بالعرض هذا فصلاً هامًا في الكتاب وليس له علاقة بالأحداث السياسية. الفصل الثالث بعنواننحو تحرير الذات – الزنزانة ٥٤ويحكي الرئيس السادات في هذا الفصل ما حدث له خلال فترة سجنه في سجن قره ميدان تحديدا في الزنزانة ٥٤ لمدة سنة ونصف، حيث لا سرير ولا مائدة ولا كرسي ولا نور .. فقط أرضية الحجرة المصنوعة من الأسفلت وفوق جزء منها برش من الليف الخشن بالكاد يكفي لكي يتمدد عليه الانسان لينام ملتحفا ببطانية قدرة إلى أبعد حدود القذارة، بالإضافة إلى حيطان الزنزانة التي ينشع منها الماء ليل نهار في الشتاء وفي الصيف تغطيها مع الماء جيوش من البق لا حصر لها.

تحرير الذات بالحب والإيمان بالله

يقول السادات أن هناك مكانين في العالم لا يمكن للانسان فيهما أن يهرب من ذاته، هما الحرب والسجن، وفي الزنزانة ٥٤ عاش السادات مع نفسه، تلازمه ويلازمها ليل نهار، وحدة رهيبة لم يكن الخلاص منها سوى أن يعيش مع نفسه، وعندما سمحوا له بالكتب والمجلات انكب عليها في نهم، ولم تقتصر قراءاته على توسيع آفاقه الفكرية والعاطفية فقط، بل ساعدته على التخلص من أزمة عصبية كان يعاني منها بسبب القبض عليه في الثانية صباحا في برد الشتاء القارس في كل من عامي سنة 42، 46 . لم يكن يدرك طبيعة هذه الأزمة ولكنه كان يشعر بها تعكر صفو سلامه الروحي، وعندما دخل السجن وعاش لفترة مع نفسه طافت هذه المعاناة على السطح تلقائيا. تخلص السادات من تلك الأزمة بفضل مقال قرأه لأحد علماء النفس الأمريكان، كانت خلاصة المقال أو النتيجة التي وصل إليها الطبيب النفسي بعد تجارب ٢٤ سنة هي أن الإنسان في أية مرحلة من مراحل حياته معرض لأن يصاب بصدمة تكون نتيجتها أن يحس أن كل شيء حوله مغلق، وكأنه في سجن لا باب له، وأول باب لهذا السجن أن يعرف الانسان ماذا يضايقه .. وثاني باب الايمان. والايمان هو أن ينظر الانسان إلى أي شيء كريه على أنه قدر لابد من مواجهته، وبعد ذلك يتغلب على الآثار الناجمة عنه. فيجب أن نفكر أن كل مشكلة لها حل، والذي يجعلك تفكر هكذا إيمانك بالله، وبأنه قد خلقك لأن عليك دور يجب أن تؤديه في هذه الحياة، وأن الإله الذي خلقك ليس شريرا على الإطلاق، كما يصوره لنا الشيخ في كتاب القرية، بالعكس فهر خير ومن صفاته الرحمة والعدل والحب، فالعلاقة المثلى بين الإنسان والله لا تبنى على الخوف والثواب والعقاب، بل على قيمة أسمى من ذلك وهي الصداقة فإذا اتخذت من الله صديقا منحك الاطمئنان، وتحت أية ظروف وفي جميع الأحوال تحبه ويحبك.

يقول السادات أن تحليل العالم النفسي لم يحل له العقدة فقط بل فتح امامه افاقا من الحب لا حدود لها في علاقته بالكون، بحيث أصبح الحب المنطلق الرئيسي لكل أفعاله ومشاعره، ومن أجل هذا ولأنه امتلأ باليقين والاطمئنان لم يهتز مرة واحدة طوال الأحداث المتقلبة التي واكبت حياته، ولم يخذله الحب مرة واحدة، بل كان دائما ينتصر في النهاية. ولهذا يرجع السادات سبب صداقته الطويلة والدائمة بجمال عبد الناصر، فطوال الثماني عشرة سنة التي لازمه فيها، كانت هناك أوقات لم يستطع السادات فهمه فيها أو الاقرار ببعض تصرفاته، ومع ذلك كانت مشاعره نحوه هي نفس المشاعر، الحب وحده.

أصبح الحب الذي منحه اليقين والثقة الكاملة في نفسه، هو الاحساس الذي أصبح جزءًا لا يتجزأ منه، فحبه للكون مستمد من حبه الله، ومادام الخالق صديقه فقيم الخوف من البشر ؟ فهو الذي يملك أمرهم وأمر الوجود كله.

النجاح الداخلي والنجاح الخارجي

تعلم السادات في الزنزانة ٥٤ أن العاقل هو من يحرص على النجاح الداخلي لأنه سيظل متوازنا داخل ذاته صادقا مع نفسه، والصدق مع النفس يعني الصدق مع الناس، وبذلك أصبح لا يهمه النجاح الذي يراه الناس فيه بل النجاح الذي يراه هو في نفسه، ذلك النجاح الذي يعتمد على معرفة الذات ولذلك فمن يؤمن، يحاسب نفسه قبل محاسبته للغير وهو لا يأخذ في الاعتبار ما يناله من مكاسب مادية، فالنجاح الداخلي قوة دائما مطلقة لا تخضع لأي مؤثرات خارجية على عكس النجاح الخارجي الذي يهتز ويتغير من وقت إلى آخر حسب الظروف والعوامل الخارجية فقيمته دائما نسبية. ويقول السادات إن أغلب الناس يبهرهم النجاح الخارجي، وما يصلون إليه من مراكز ومناصب أو مال وسلطان، باختصار صورتهم في نظر الغير، ولذلك اذا تغيرت هذه الصورة لسبب أو آخر اهتزوا وأصابهم الانهيار. ويقول ان الاعتماد على النجاح الخارجي يبعد الانسان عن ذاته، والجهل بالذات هو أسوأ ما يمكن أن يصيب المرء إذ تنتشر الظلمة داخل النفس، وبانتشارها يفقد الانسان الرؤية وتضيع عنه معالم الطريق، فيصبح سجينا داخل نفسه، منعزلا عن كل ما عداه، وبهذا يفقد كيانه كإنسان.

الرسالة

يقول السادات إن الله أفرد للإنسان دورا تميز به عن جميع الكائنات. ففي التوراة يقول تعالى:”إن الله قد خلق الانسان على صورتهوفي القرآن:”نفخ فيه من روحه” .. وأن كل هذا يحتم على الانسان أن تكون له رسالة وإلا انتفى المعنى لوجوده .. فالأصل في هذا الوجود هو حمل الأمانة التي كلفه الله بحملها. قد تختلف الرسالة من شخص إلى آخر، ولكنها في جميع الأحوال تهدف إلى ما أراد أن يحققه الله من حمل الأمانة، فإذا خلت حياة الإنسان من رسالة يؤديها كان هذا معناه إنه قد خان الأمانة. وفي هذا إذا أراد الإنسان أداء الرسالة، يجب أن يستمد كيانه من ذاته لا من عوامل خارجية.

عالم جديد بدأت الروابط التي تربط السادات بمطالب الحياة تنقطع الواحدة تلو الأخرى، وبذلك تخففت الروح من أثقالها وتحرر الذات، ووجد عالما جديدا لم يعرفه من قبل، عالم أرحب وأغنى من الحياة التي ألفها، فيها تحرر الذات وهذا التحرر تحول إلى حب وسلام، ووجد سعادة تفوق كل ما يمكن أن يسعد به على هذه الأرض.

وبهذا أصبحت الستة أشهر الأخيرة في السجن أسعد أيام حياته، وأرجع هذا إلى الخلو مع النفس والعيش معها، والمعاناة التي قربت بينه وبين العالم الجديد الذي عرف فيه السلام الروحي. ويجد السادات مثالاً على وهو غدر الصديق، الذي كان يسبب له ألما يفوق كل الآلام، وحين كان يقرر الاستغناء عن صديق لغدره، يشعر أن جزءًا من كيانه قد انسلخ عنه. ولكن كان العالم الجديد فتحا حقيقيا بالنسبة له، فيه عرف صداقة الله عز وجل، والذي لا يمكن أن يخونه أو يتخلى عنه. وبذلك تغير السادات كثيرًا، فلم يعد يغضب أبدًا إلا في الحق، وزادت قدرته على التحمل مهما كانت الأمور والمشاكل، وصار أهم هدف له هو إسعاد الآخرين، ولم يعد للانتقام أو الحقد أي مكان في نفسه، وزاد إحساسه بالحب والجمال. ويقول السادات إن أكثر ما عاناه في السجن هو شعوره بالفراغ العاطفي، فهو يرى أن الرجل لكي يكون مكتملا لابد أن تكون له رفيقة تحبه ويحبها.

الغذاء

يقول السادات إن الانسان عقل وروح وجسد، ولابد من الغذاء لكل هذه العناصر كي يتحقق السلام الروحي، فلجأ إلى المعرفة والقراءة ينهل منها كغذاء للعقل، وبالإيمان الذي ليس له حدود روض روحه، أما الجسد فكان غذاؤه المشي يوميا على الأقدام أربعة كيلو مترات. وبهذا يتحقق السلام الروحي الذي هو ضروري لأداء الرسالة. ويقول أيضًا البعض قد يظن أن التصالح مع النفس الذي هو ثمرة السلام الروحي، يعني الاستسلام للأمر الواقع، ولكن هذا غير صحيح، فهو لا يقبل بالأمر الواقع بل يحاول تطويعه والسمو به إلى ما هو أفضل.

السياسة

ينهي السادات هذا الفصل برأيه في السياسة فيقول إنه لم يدرس السياسة التي يصفها البعض على إنها فن، وهي في رأيه فن بناء المجتمع الذي يحقق إرادة الله من خلق هذا الكون وهي العمران، وفي هذا المجتمع تكون حرية الفرد مطلقة لا يحدها سوى قيم إنسانية أصيلة تنبت من ثمار حضارته، والحرية نفسها أجمل هذه الثمار وأقدسها، فلا يجب أن يشعر الفرد في هذا المجتمع أنه تحت رحمة آية قوة من قوى القهر، أو أن إرادته مرهونة بما يريده الغير.

شارك:

اصدارات متعلقة

استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم
قائمة المصطلحات Glossary
مطبوعات
مطبوعات