التجربة

رقم العدد:

3

تاريخ النشر:

2015

اعداد بواسطة:

التجربة *

الظهور للعيان

ثمة مقطع في كتاب صامويل ديلاني Samuel Delany الرائع حركة الضوء في الماء The Motion of Light in Water،1 وهو عبارة عن تأملات في سيرته الذاتية، يثير هذا المقطع بشكل احتدامي قضية كتابة تاريخ الاختلاف، أي تاريخ تسمية الآخر، تاريخ إسناد خصائص لفئات من الناس تميزهم عن معيار مفترض مسبقًا (وغير مصرح به عادة).2 ديلاني (وهو رجل مثلي الجنسانية وأسود وكاتب خيال علمي) يحكي عن رد فعله إزاء زيارته الأولى للحمام العام سان ماركس (St Marks bathhouse)، عام 1963، وهو يصف وقفته على عتبة حجرة في حجم صالة تدريب رياضي مضاءة بخفوت بواسطة لمبات زرقاء. الحجرة ممتلئة بالناس، بعضهم واقف والبقية كتلة متماوجة من أجساد ذكور عارية ممتدة من جدار إلى الآخر“. يقول ديلاني: “كانت استجابتي الأولى عبارة عن اندهاش ينخلع له القلب، إحساس قريب جدًا من الخوف“. “لقد كتبت من قبل عن حيز من التشبع الشهواني (libidinal saturation)، لم يكن هذا ما أخافني وإنما أخافني أن التشبع لم يكن على صعيد الإحساس الحركي (kinesthetic) فحسب، بل كان كذلك تشبعًا مرئيًا (ص۱۷۳).

يؤسس هذا المشهد لديلاني وهو يتابعه حقيقة تقف في وجه التصورات السائدة عن مثليي الجنسانية في الخمسينيات (من القرن العشرين)، باعتبارهم شواذًا معزولین، ذواتًا ((subjects انحرفت عن المسار السليم، فيعطيه إدراكه للأجساد المحتشدة” (كما له أن يعطي، حسب قوله، أي شخص ذكرًا أو أنثى، من الطبقة العاملة أو من الطبقة المتوسطة“) “نوعًا من الإحساس بالقوة السياسية“:

ما أفصحت عنه هذه التجربة أن هناك قطاعًا من الناس المثليين الجنسانية ليسوا مجرد حفنة من أفراد معدودةليسوا مئات، ليسوا آلاف، وإنما ملايين من الرجال الذين يميلون إلى جنسهم (gay men) [ “gay” كلمة تعني بشكل عام مرحًا، بهيجًا، هانئًا، طروبًا، وأحيانًا مستهترًا. ومـن المؤكد أنه كان لهذا المحمل الأخير علاقة ببدء استخدامها للإشارة إلـى الأشخاص الـذين لهم نشاطات أو ميول جنسية مثالية، إلا أن المثليين شـرعوا منـذ العشرينيات مـن القـرن العشرين في استخدام الكلمة فيما بينهم للإشارة إلى أنفسهم.]، وان التاريخ قد انتهي فعليًا من أن يخلق لنا تشكيلات كاملة من المؤسسات الحسنة والسيئة، لتستوعب جنسنا، (ص١٧٤).

يجد ديلاني في هذا الحس بالإمكان السياسي خوفًا وانتشاءً، وهو يشدد لا على قيامه باكتشاف هوية ما، وإنما على نوع من الإحساس بالمشاركة في حركة؛ إنه، على وجه الخصوص، مدى اتساع نطاق هذه الممارسات الجنسية (وكذلك وجودها في حد ذاته) هو أكثر ما يهم في سرده. فالأعداد كتلة الأجساد المحتشدة – تكوّن حركة، وهذه حتى وإن كانت مستترة تفضح كذب الصمت المفروض حول نطاق الممارسات الجنسية وتنوعها. وإظهار التجربة للعين يحطم الصمت المحيط بها، ويتحدى المفاهيم السائدة، مثيرًا إمكانات جديدة للجميع. يتخيل ديلاني حتى من زاوية نظر عام ١٩٨٨لحظة طوباوية في المستقبل، حيث تتحقق ثورة جنسية حقيقية (“حالما يصبح مرض نقص المناعة المكتسبة – AIDS تحت السيطرة“):

سوف تأتي هذه الثورة بسبب تسرب لغة بينة ومفسَرة إلى داخل المساحات الهامشية من الاستكشاف البشري للجنس، كما يصفها هذا الكتاب من آنٍ لآخر، الآن حيث بدأ قطاع يعتد به من الناس يكِّون صورة أوضح، عما كان متاحًا في الماضي من تنويعات اللذة الجنسية، فإن مثليي الجنسانية وكذلك غيريي الجنسانية، إناثًا وذكورًا، سوف يصرون على المضي في استكشافها إلى مدى أبعد… (ص175)

لا يسعى ديلاني بكتابته عن الحمام العام، كما يقول، إلى تغليف هذا الزمن بالرومانسية محولاً إياه إلى مرتع من الوفرة الجنسية، وإنما – بالأحرى إلى تحطيم الصمت المُقرِّ تمامًا في المجال العامحول قضايا الممارسة الجنسية، حتى يكشف عن شيء كان قائمًا وإنْ ظل قيد القمع. إن بيت القصيد من وصف ديلاني بل ومن كتابه كله توثیق وجود تلك المؤسسات بكل تنوعها وتعددها، والكتابة عن ما بقى حتى وقتئذٍ مخبئًا متواريًا، ومن ثم إدخاله إلى التاريخ.

إن استخدام الظهور للعيان بوصفه مجازًا يرمز إلى شفافية حرفية هو أمر حاسم الأهمية في مشروعه. فالإضاءة الزرقاء كانت تنير مشاهد قد حضرها فيما مضى (دارت في شاحنات متوقفة على طول رصيف شحن أو في دورات مياه الرجال داخل محطات المترو)، ولكنها مشاهد كان يتم استيعابها بطريقة متجزئة، فكما يقول: “لم يتسنَ أبدًا لأحد أن يرى المشهد في تمامه” (ص١٧٤). أما مشهد الحمام العام فهو يعزو شدة وقعه إلى ظهوره للعيان أو كونه مرئيًا (its visibility): “كان بوسع المرء أن يرى ما يحدث في كل ركن من العنبر” (ص۱۷۳). تُمَكّنه المشاهدة – إذن من استيعاب العلاقة بين نشاطاته الشخصية وبين السياسة، يأتي أول إحساس مباشر بالقوة السياسية من الوعي بالأجساد المتكتلة“. كما يتيح له الحكيّ عن تلك اللحظة أن يشرح الغرض من كتابه، ألا وهو تقديم صورة واضحة ودقيقة ومتسعة النطاق عن مؤسسات جنسية عمومية (public) لا تزال باقية مستمرة، حتى يتسني للغير أن يعلموا بها ويقوموا باستكشافها. يتم، إذن، اكتساب المعرفة من خلال الرؤية، فالرؤية هي استيعاب مباشر، بلا وسيط، لعالم من الأشياء شفافة الوضوح. طبقًا لهذه الطريقة في تكوين مفهوم عما هو ظاهر للعيان أو عن المرئي (the visible)، فإن هذا الأخير يُمنح وضعًا متميزًا، بينما توضع الكتابة في خدمته.3 وتصبح الرؤية أو المشاهدة أصل المعرفة، أما الكتابة فهي إعادة إنتاج أو نقل التجربة؛ أي إيصال المعرفة المكتسبة عن طريق التجربة (البصرية visual، النابعة من الأحشاء visceral).

هذا النوع من التواصل، أو توصيل الرسالة، بات منذ زمن مهمة المؤرخين (أو المؤرخات) المشتغلين بتوثيق حياة هؤلاء الذين تم حذفهم أو إغفالهم من سجلات الماضي، مما أنتج ثروة من الشواهد والأدلة (evidence) الجديدة تتعلق بهؤلاء الآخرين والتي كان يتم تجاهلها سابقًا، وجذب الانتباه إلى أبعاد من الحياة والنشاط الإنساني تُعَدُّ – عادةً غير جديرة بالذكر في الإنتاج التاريخي التقليدي. الأمر الذي تسبب في أزمة للتاريخ التقليدي حين تضاعف عدد القصص وأيضًا الذوات (subjects) التي تكشف عنها القصص، وحين تم التأكيد على أن التاريخ يُكتب من منظورات ومواقع مختلفة في الأساس بل وغير قابلة للتوافق، ولا يمكن لأي منها أن يكون كاملاً أو حقيقيًاتمامًا. وقد وفرت تلك التسجيلات مثل مذكرات ديلاني الشواهد على وجود عالم من القيم والممارسات البديلة، يُكَذِّبُ وجودُه الصورَ المهيمنة التي تم إنشاؤها للعوالم الاجتماعية، سواء كانت هذه الإنشاءات (constructions) تمجد فكرة التفوق السياسي للرجل الأبيض، أو تماسك النفس ووحدتها، أو أن العلاقة الطبيعية الوحيدة لا بد أن تكون مع طرف واحد ومن الجنس الآخر(heterosexual monogamy)، أو حتمية التقدم العلمي والتنمية الاقتصادية. وقد وُصِفَ هذا التحدي للتاريخ المعياري بمفردات الفهم التاريخي المعتاد للشواهد بأنه توسيع للصورة أو تصحيح لأخطاء السهر الناجمة عن رؤية غير كاملة أو غير دقيقة. وأسند مطالبته بالمشروعية إلى السلطة المرجعية (authority) للتجربة. والتجرية تعني التجربة المباشرة للآخرين، وكذلك تجربة المؤرخ الذي يتعلم أن يرى وأن يلقي الضوء على حياة هؤلاء الآخرين من خلال نصوصه.

بات توثيق تجارب الآخرين بهذه الطريقة استراتيجية ناجحة بصورة كبيرة ومحدِدة في آنٍ واحد بالنسبة إلى مؤرخي الاختلاف (historians of difference) – وكان سبب نجاحها أنها بقيت على راحتهافي الإطار التخصصي للتاريخ، تعمل وفقًا لقواعد تسمح بالتشكيك في السرديات (narratives) القديمة في حال اكتشاف شواهد جديدة. إن وضعَ الشواهد بالنسبة إلى المؤرخين مبهمٌ بطبيعة الحال، فهم من ناحية يقرون بأن الشواهد تعد شواهد، ويُعترف بصفتها هذه فقط بالنسبة إلى سردية محتملة، بحيث يمكن القول بأن السردية تحدد الشواهد بالقدر نفسه الذي تحدد به الشواهد السردية“. 4 وهم على الجانب الآخر، في معاملتهم للشواهد معاملة بلاغية وفي استخدامهم لها لإثبات خطأ التفسيرات الشائعة، إنما يعتمدون عمليًا على مفهوم للشواهد يذكر أنها لا تعكس شيئًا سوى ما هو حقيقي.5

وحين تكون الشواهد المطروحة هي تلك القائمة على التجربة، فإن ذلك يعزز ادعاء المرجعية؛ إذ ما الذي يكون أكثر صدقًا من رواية الذات عينها لما قد عاشته؟ إنه هذا الارتكان إلى التجربة بوصفها تعكس شواهد لا يمكن الطعن فيها وبوصفها نقطة البدء في التفسير أي الأساس الذي سوف يقوم عليه التحليل هو بالضبط ما يضعف تواريخ الاختلاف على صعيد قوة النقد ونفاذه. إن بقاء هذه الدراسات داخل الإطار المعرفي للتاريخ المتعارف عليه يفقدها إمكان اختبار تلك الافتراضات والممارسات التي قد استبعدت من الأصل اعتبارات الاختلاف. فهي تنظر إلى هويات من تُوَثِّقُ تجربتهم على أنها بديهية، بينة بذاتها، وهكذا تقوم بمعاملة مسألة اختلافهم بوصفها وضعًا طبيعيًا. وتحدد هذه الدراسات موقع المقاومة (resistance) بوصفها خارج الإنشاء الخطابي لها (discursive construction)، كما تقوم بتشييء (to reify) [reification مصطلح يشير إلى معاملة فكرة مجردة كما لو أنهـا ذات وجـود مـادي، أي التجسيد الذهني لشيء. ويُستخدم المفهـوم عـادة ليحيل إلـى فكـرة تجميـدالعلاقـات والعمليات الاجتماعية ومعاملتها معاملة الأشياء الثابتـة والقائمـة بصـرف النظـر عـن دورنا في وجودها أو استمرارها.] مفهوم الفاعلية البشرية على أساس أنها من الخصائص الداخلية المتأصلة في الأفراد، وبالتالي تنزعها من سياقها. حين تعامَل التجربة بوصفها منشأ المعرفة، قاعدة فإن رؤية الذات (الشخص صاحب التجربة أو المؤرخ الذي يرويها) تصبح قاعدة متينة من الشواهد يُبني عليها التفسير، أما الأسئلة عن طبيعة إنشاء التجربة، وكيف يتم من الأصل تكوين الذوات بوصفها ذواتًا مختلفة، وكيف يتم تشكيل رؤيتنا، وما يتعلق باللغة (أو الخطاب) والتاريخ، فهذه الأسئلة كلها تترك جانبًا. وتصبح الشواهد المستمدة من التجربة شواهد على واقع الاختلاف، بدلاً من كونها وسيلة لاستكشاف كيفية تأسيس الاختلاف، وكيفية عمله، وكيفية تكوين ذوات ترى وتتصرف في هذا العالم، وباية وسائل يحدث هذا التكوين.6

بصياغة أخرى، تقوم الأدلة القائمة على التجربة سواء أدركناها من خلال الظهور للعيان بوصفه صورة مجازية (metaphor of visibility) أو من خلال أية طريقة أخرى تُعامل المعنى بوصفه شيئًا شفافًابإعادة إنتاج الأنساق الأيديولوجية المطروحة بدلاً من تحديها، تلك الأنساق التي تفترض أن وقائع التاريخ تتحدث عن نفسها، وتلك التي ترتكن فيما يتعلق بتواريخ (النوع) – إلى فكرة وجود تضاد طبيعي أو تضاد مستقر بين الممارسات الجنسية والأعراف الاجتماعية، وبين الجنسانية المثلية والجنسائية الغيرية. إن التواريخ التي توثق العالم الخفيللجنسانية المثلية على سبيل المثال، تُظهر أثر الصمت والكبت في هؤلاء الذين تتأثر حياتهم بهما، وتُبرز إلى النور تاريخ القمع والاستغلال المُمارس ضدهم، ولكن مشروع إظهار التجربة للعيان يحول دون النظرة النقدية إلى سير النظام الأيديولوجي نفسه، وفئاته التمثيلية (مثلي/ غيري، رجل/ امرأة، أبيض/ أسود، بوصفها هويات ثابتة لا تقبل التغير)، كما يحول دون النظرة النقدية إلى فرضياته الأساسية المتعلقة بمغزى هذه الفئات وكيفية عملها، وكذلك مفاهيمه عن الذات والأصل والعلة.

إن مشروع إظهار التجربة للعيان لا يدع مجالاً لتحليل تفاعلات هذا النظام وتحليل تاريخيته، وإنما يقوم على العكس بإعادة إنتاج مفرداته. فنحن نتوصل إلى إدراك عواقب التكتم الذي يُحاط به مثليو الجنسانية، وننظر إلى القمع بوصفه فعلاً مرتبطًا بعلاقات القوة أو السيطرة، ونصبح كذلك على دراية بسلوكيات ومؤسسات بديلة، ولكننا نظل لا نملك وسيلة لإدراج تلك البدائل في إطار أنماط الجنسانية السائدة (والعارضة تاريخيًا historically contingent)[ “العارضة تاريخيًاأي التي لا تحـدث مـن منطلـق الضـرورة المنطقية، أيْ: كان مسلة الممكن أن تسير تاريخيًا على نحو آخر، وبالتالي فهي لا تصلح أساسًا للتعميم.] ولا في إطار الأيديولوجية التي تدعمها. فنحن ندرك أنها هذه البدائل موجودة، ولكننا لا نعرف كيف تم إنشاؤها؛ نعرف أن وجودها يطرح مراجعة نقدية للممارسات المعيارية، ولكن لا نعرف مدى هذه المراجعة. إن إظهار تجربة جماعة مختلفة يكشف وجود آليات قمع، ولكن لا يكشف كيفية عملها ولا منطقها الداخلي؛ نعرف أن الاختلاف موجود ولكننا لا ننظر إليه بوصفه تَكَوِّنَ داخل علاقة، أي بالنسبة إلى شيء آخر. في هذا السبيل يتعين علينا الالتفات إلى العمليات التاريخية التي تُمَوقع الذات وتنتج تجربتها من خلال الخطابات. فالأفراد لا يمتلكون التجربة وإنما هم ذوات تتكون من خلال التجربة. وبهذا التعريف لا تصبح التجربة أصل التفسير الذي نتولاه، ولا هي الدليل الذي له الكلمة (بوصفه شيء شهدناه أو أحسسنا به)، والذي يُكَوِّنُ أساس ما تتم معرفته، هي – بالأحرى الشيء الذي نسعى إلى تفسيره، الشيء الذي يتم إنتاج المعرفة به. ويعني التفكير في التجربة على هذا النحو تناولها في سياق تاريخي، هي والهويات التي تنتجها. ويشكل هذا النوع من التأريخ ردًا على العديد المؤرخين (أو المؤرخات) المعاصرين الذين يقولون بأن التجربةكما هي بدون معاملتها بوصفها إشكالية، هي أساس عملهم. إن التاريخ على هذا النحو يقتضى ضمنًا النظرة النقدية لجميع الفئات التفسيرية التي تُعامل عادة بوصفها أمورًا مفروغًا منها، بما فيها التجربة“.

 

يُعَدُّ التاريخ بشكل عام خطابًا تأسيسيًا (foundationalist)؛ أعني بذلك أن تفسيراته تبدو مستحيلة التصور لو لم تكن تسلم مسبقًا ببعض الأسس أو فئات التصينف أو الافتراضات الأولية. هذه الأسس المعطاة أو الأسس اليقينية (foundations) (مهما كان تنوعها وأيا كانت في لحظة معينة) لا تتعرض لسؤال التصنيف ولیست موضع شك، فهي تُعَدُّ دائمة ومنزهة أو متعالية (transcendent)، وعلى هذا تخلق أرضية مشتركة للمؤرخين ولموضوعات دراستهم عن الماضي، ومن ثم فهي تسبغ السلطة والمشروعية على التحليل، كما أن التحليل يبدو فعليًا غير قادر على قدمًا بدونها7. وفي ذهن بعض التأسيسيين تبدو الفوضوية والعبثية والتخبط الأخلاقي البدائل الأكيدة لهذه المعطيات التي لها مكانة الحقائق الأبدية (إن لم يكن التعريف الفلسفي بها).

ما برح المؤرخون يلجئون إلى أنواع عديدة من الأسس، التي يندرج بعض منها في المذهب التجريبي (empiricist) بشكل أوضح من غيره. أما ما يلفت النظر حقًا في هذه الآونة فهو اعتناق بعض المؤرخين (أو المؤرخات) فئة تفسيرية مُشيَّئة (reified) ومنزَّهة (transcendent)، ودفاعهم الصارخ عنها، وهم الذين قد استخدموا دروسًا مستفادة من سوسيولوجيا المعرفة، أو علم اللسانيات البنيوية (structural linguistics) أو النظريات النسوية، أو الأنثروبولوجيا الثقافية (cultural anthropology) لاستحداث وتوجيه نقد حاد إلى المدرسة التجريبية. إن هذا اللجوء إلى أسس مسلم بها، حتى من قبل معادين للمدرسة التأسيسية يبدو كأنه باستخدام توصيف فريدريك جيمسون Fredric Jameson – “شكل حاد من أشكال عودة المكبوت“.8

إن التجربةهي إحدى الأسس المسلم بها التي أعيدَ إدخالها إلى الكتابات التاريخية غداة حركة نقد المدرسة التجريبية، إذ إنها على خلاف الواقع الخامأو الحقيقة البسيطةلها دلالات أكثر تنوعًا ومراوغة، فضلاً عن أنها مصطلح نقدي

أبدَى ظهوره في الجدال بين المؤرخين (أو المؤرخات) حول حدود التفسير، وخصوصًا استخدامات النظرية ما بعد البنيوية فيما يخص التاريخ، وحدود هذه الاستخدامات.

ويبدو أن استدعاء التجربةمن قبل مؤرخين ملتزمين بتفسير اللغة والمعنى والثقافة يحل لمناهضي التجريبية مشاكل التفسير، مع أنه يعيد فرش أرضية من الأسس المعطاة. ولهذا السبب، من المثير للاهتمام أن نختبر استخدامات التجربةمن قبل المؤرخين (أو المؤرخات)، إذ يسمح لنا هذا الاختبار بالتساؤل عما إذا كان للتاريخ أن يوجد بدون أسس يقينية وماذا يصبح شكله وقتها.

يرسم ریموند ويليامز Raymond Williams في كتابه كلمات مفتاحية Keywords صورة سريعة لأوجه الاستخدامات البديلة لمصطلح التجربة في إطار التقليد الأنجلوأمريكي،9 وهو يلخصها على النحو الآتي: ( أ ) معرفة تم جمعها من أحداث ماضية، سواء عن طريق الملاحظة المتعمدة أو عن طريق دراسة الأمور والتفكير المتروي؛ و(ب) نوع معين من الوعي، يمكن في بعض السياقات تمييزه عن العقل أو المعرفة (ص ١٢٦). ويقول ويليامز إنه حتى مطلع القرن الثامن عشر كانت التجربة والاختبار (experience and expperiment) مصطلحين وثيقي الاتباط، يشيران إلى كيفية الوصول إلى المعرفة عبر الاختبار والملاحظة (المجاز البصري له أهميته هنا). وفي القرن الثامن عشر، ظلت التجربة تتضمن مفهوم التفكير أو التأمل في الأحداث التي نلاحظها، أو فكرة الدروس المكتسبة من الماضي، ولكنها أصبحت كذلك تشير إلى نوع معين من الوعي. وقد صار هذا الوعي في القرن العشرين يعني إدراكًا كاملاً ونشطًامتضمنًا الشعور وكذلك الفكر. ويقول ويليامز إن مفهوم التجربة بما هي شهادة ذاتية (subjective witness) “يتم طرحه لا بوصفها الحقيقة، وإنما بوصفها أكثر أنواع الحقائق أصالة، بوصفها أرضية لكل (ما يلى من) تفكير عقلي وتحليل” (ص ۱۲۸). طبقًا لويليامز، اكتسبت التجربة مدلولاً آخر في القرن العشرين، مغايرًا للفكرة الموجودة عن الشهادة الذاتية على أساس أنها مباشرة وحقيقية وأصلية. لقد صارت في هذا الاستخدام الجديد تشير إلى مؤثرات من خارج الأفراد ظروف اجتماعية، مؤسسات، أشكال من الاعتقاد أو الإدراك أشياء حقيقيةخارجهم يحدثون رد فعل عليها، وهي لا تشمل فكرهم أو تَدَبِّرَهم.10

إن التجربة في الاستخدامات المختلفة التي يصفها ويليامز سواء يُنظَر إليها على أساس أنها تحدث على صعيد داخلي أو خارجي، ذاتي أو موضوعيتؤسس الوجود المسبق للأفراد. وحين تُعرَّف على أنها داخلية، فهي تُعَدُّ تعبيرًا عن كينونة الفرد أو وعيه؛ وبصفتها خارجية، فهي المادة التي يعمل عليها الوعي. يؤدي بنا الكلام عن التجربة على هذه الصورة إلى معاملة الفرد بوصفه أمرًا مفروغًا منه (التجربة هي شيء لدى الناس) بدلاً من التساؤل عن كيفية إنتاج التصورات المدرَكة عن النفس (عن الذوات وهوياتها).11 تعمل التجربة في إطار إنشاء أيديولوجي من شأنه عدم الاكتفاء بجعل الفرد نقطة بدء المعرفة وإنما أيضًا يحول فئات مثل رجل، امرأة، أسود، أبيض، غيري الجنسانية، مثلي الجنسانية، إلى ظواهر طبيعية من خلال التعامل معها بوصفها خصائص معطاة للأشخاص. ويوضح التعريف الجديد الذي قدمته تيريزا دي لورتس Teresa de Lauretis عن التجربة، كيف تعمل هذه الأيديولوجية:

إن التجربة هي السيرورة التي يجري عبرها إنشاء الذاتية (subjectivity)، لدى كل الكائنات الاجتماعية. فمن خلال هذه العملية يضع الواحد نفسه، أو يتم وضعه، في الواقع الاجتماعي. وبالتالي يرى ويستوعب بوصفها مسألة ذاتية (أي تحيل إلى الواحد نفسه، وتنبع منه) – تلك العلاقات المادية والاقتصادية والشخصية بين الناس وبعضهم التي هي في الواقع اجتماعية، وأيضًا تاريخية من منظور أوسع.12

تلك العملية التي تصفها تيريزا دي لورتس تقوم بعملها في الأساسمن خلال عملية التفريق أو صنع الاختلاف[ أي صنع الاختلاف أساسه عن طريق وصف أو معاملة الغير أو النفس على أنها مختلفـة اختلافًا طبيعيًا” (هي والفئة التي تنتمي إليها على أساس الطبقة أو (النوع) أو العرق أو الميـل الجنسيإلخ).] (differentiation) ويكون أثرها أن يتم تكوين الذوات على أساس أن لهم صفة الثبات والاستقلال، واعتبارهم مصادر يُعتمد عليها للمعرفة التي تأتي من قدرتهم على النفاذ إلى الحقيقة متوسلين تجربتهم13. حين نتحدث عن المؤرخين وطلاب العلوم الاجتماعية، من المهم أن نضع في الحسبان أن الذات المشار إليها هي في الوقت نفسه موضوع البحث أي الشخص الذي ندرسه (أو ندرسها) في الحاضر أو في الماضي، وكذلك من يقوم بالتحري نفسهأي المؤرخ (أو المؤرخة) الذي ينتج معرفة متعلقة بثقافات أخرى مبنية على تجربتهبوصفه ملاحظًا مشاركًا.

إن مفاهيم التجربة كما يصفها ويليامز تحول مقدمًا دون التحري عن عمليات إنشاء الذات، وتتجنب بحث العلاقة بين الخطاب والإدراك الذهني والواقع وعلائقية موقع الذات بالمعرفة التي تنتجها، وكذلك تأثيرات الاختلاف في المعرفة. فلا تبرز تساؤلات، مثلاً، عما إذا كان التاريخ يتأثر، على نحو ما بمن يكتبه، رجلاً كان أم امرأة، من البيض أم من السود، من ذوى الجنسانية المثلية أم تلك الغيرية. وبدلاً من ذلك، يتم تأسيس سلطة المرجعية للذات التي هي موضوع/ مصدر المعرفة، عن طريق إزالة كل ما يتعلق بالمتحدث (أو المتحدثة)”14. كما يتم منح الشرعية لمعرفته تلك التي تبدو كأنها تعكس شيئًا منفصلاً عنه، ويتم طرح هذه المعرفة بوصفها كونية (universal) ومتاحة للجميع. ويغيب عن هذه المفاهيم المتعلقة بالمعرفة والتجربة أي اعتبار لعلاقات القوة أو السياسة.

يمكننا أن نجد مثلاً على الطريقة التي تؤسس بها التجربةسلطة المرجعية للمؤرخ في فكرة التاريخ The Idea of History من تأليف ر.ج. کولنجوود.R.G Collingwood، وهو عمل كلاسيكي ظهر عام 1946، وصار جزءًا من القراءات المقررة على عدة أجيال من الطلبة في دراسات التاريخ. بالنسبة إلى الكاتب، ترتبط قدرة المؤرخ على إعادة تمثيل تجارب الماضيباستقلاليته، وأعني بالاستقلالية، أن الشخص هو مصدر السلطة بالنسبة إلى ذاته، وأن يدلي بأقواله ويتخذ أفعاله من منطلق المبادرة الشخصية لا من منطلق أن هذه الأقوال أو الأفعال مسموح بها أو مرشَّحة من قِبل أي شخص آخر15. ولا يدخل النقاشَ إطلاقًا أيُّ سؤال عن موضع/ موقف المؤرخ – أيْ من هو، وكيف يتم تعريفه بالنسبة إلى الآخرين، وماذا يمكن أن يكون شكل الآثار السياسية لتاريخه. وبالفعل، يبدو تحرر كولنجوود من هذه الأسئلة مرتبطًا بتعريفه للاستقلالية، وهي قضية تبدو حيوية بالنسبة إليه حتى أنه ينبري في خطبة لاذعة بشأنها بصورة لم تُعهد عنه من قبل، فيصر كولنجوود على أنه يجب على المؤرخ في سبيله إلى اليقين ألاّ يدع الآخرين يشكلون له رأيه، إذ سوف يعني ذلك:

التخلي عن استقلاليته بوصفه مؤرخًا والسماح لشخص آخر أن يقوم نيابة عنه بما لا يمكن إذا كان مفكرًا علميًا أن يقوم به سواه. وما من ضرورة لأن أقدم للقارئ أي دليل على صدق هذه المقولة، لأنه (أي القارئ) إذا كان لديه أي إلمام بالعمل في التاريخ، فهو يعرف بنفسه من واقع تجربته أن هذا حقيقي. وإذا كان لا يعرف بالفعل أنه حقيقي فمعنى ذلك أنه ليس لديه إلمام كاف بالتاريخ ليقرأ هذه المقالة بصورة تحقق له أي نفع، وبالتالي من الأفضل أن يتوقف هنا والآن. (ص ٢٥٦)

من الحقائق المقررة بالنسبة إلى كولينجوود أن التجربة هي مصدر يعتمد عليه للمعرفة لأنها تقوم على الصلة المباشرة بين إدراك المؤرخ الحسي والواقع (حتى وإنْ كان المؤرخ يضطر بسبب مرور الزمن إلى استخدام خياله في تجسيد وقائع الماضي). أن يفكر الشخص بنفسه يعني أن يجعل أفكاره ملكه، وعلاقة التملك أو نقل الملكية إلى الذات (appropriation) هذه، تضمن استقلالية الفرد وقدرته على قراءة الماضي بصورة صحيحة، وتضمن سلطة المرجعية للمعرفة التي ينتجها. ان ما يطالب به ليس استقلالية المؤرخ فحسب بل أصالته الإبداعية أيضًا، في هذا السياق، تشكل التجربةأساس الهوية التي يكتسبها الباحث بصفته مؤرخًا.

وثمة استخدام مختلف تمامًا للتجربةنجده في كتاب ثومبسون EP. Thompson بعنوان صنع الطبقة العاملة الإنجليزية Making of the English Working Class، وهو الكتاب الذي أحدث ثورة في دراسات التاريخ الاجتماعي وتاريخ العمال. اعتني ثومبسون على وجه التحديد بتحرير مفهوم الطبقةمن التصنيفات المتحجرة في البنيوية الماركسية، وكان لمفهوم التجربةدور محوري في سياق هذا المشروع. فقد انضم مفهوم ثومبسون عن التجربة إلى مفاهيم عن المؤثرات الخارجية وعلاقتها بالمشاعر الذاتية، عن البعد البنيوي وعلاقته بالبعد السيكولوجي، مما وفر له عاملاً مؤثرًا وسيطًا بين البنية الاجتماعية والوعي الاجتماعي. تعني التجربة بالنسبة إلى ثومبسون كينونة اجتماعية” (Social being) ؛ أي الوقائع المعيشة في الحياة الاجتماعية وبخاصة المجالات الشعورية المتعلقة بالأسرة والدين، وأبعاد التعبير الرمزية. ويقوم هذا التعريف بفصل البعد الشعوري والرمزي عن البعد الاقتصادي والعقلاني، فيقول ثومبسون إن الناس لا يعيشون تجربتهم على هيئة أفكار – أي داخل إطار الفكر وإجراءاته، فـ هم يعيشون تجربتهم أيضًا على هيئة شعور…”.16 وتمنح هذه المقولة أهمية للبعد النفسي في التجربة، وتسمح لثومبسون بأن يجد مكانًا لفاعلية الفرد. يؤكد ثومبسون أن الشعور يعالجثقافيًا في هيئة أعراف والتزامات أسرية عائلية،وقيم، أو في إطار الفن والمعتقدات الدينية، وفي الوقت نفسه يأتي الشعور سابقًا على هذه الأشكال من التعبير، وعليه فهو يهيئ مهربًا من التحديد البنيوي (structural determination) الشديد. يؤكد ثومبسون أنه بالنسبة إلى أي جيل حي، في أية آنية، تتحدى طرق تعامل الناس مع تجاربهم أية قدرة على التنبؤ وتستعصي على أي تعريف ضيق أو مصیر مقرر” (ص۱۷۱).17

ومع ذلك، فإن التجربة كما يستخدمها ثومبسون، ولأنها في النهاية تتشكل بعلاقات الإنتاج، فهي تصبح ظاهرة توحيدية، تتسيد أنواع التعدد الأخرى. وبما أن علاقات الإنتاج هذه مشتركة بين العمال من خلفيات عنصرية ودينية وإقليمية ومهنية مختلفة، فإنها توفر بالضرورة قاسمًا مشتركًا، وتتجلى بوصفها محدِّدًا للتجربةأكثر بروزًا من أي عامل آخر. إن التجربة في استخدام ثومبسون لهذا المصطلح، هي بداية سيرورة تكتمل بتحقق الوعي الاجتماعي وبالتعبير عنه، وفي هذه الحالة يعني ذلك هوية طبقية مشتركة، وهي أي التجربة تؤدي وظيفة إدماجية، إذ تصل بين الفردي والبنيوي، وتضع معًا مجموعات مختلفة من الناس داخل ذلك الكل المتماسك (والإجمالي)، والذي هو بمثابة حس طبقي قائم بوضوح (ص170 – 171).18

يستبعد هذا الوجه التوحيدي للتجربة عوالم كاملة من النشاط الإنساني ببساطة عن طريق عدم الاعتداد بها بوصفها تجارب، على الأقل ليس بأية صورة لها تبعات على صعيد التنظيم الاجتماعي أو على صعيد السياسة. فحين تصبح الطبقة هوية حاكمة لغيرها، فإن المواضع الأخرى للذات، تلك المتعلقة بـ (النوع) على سبيل المثال (أو بالطبقة والعنصر والعرق والجنسانية، كما يحدث في نماذج أخرى لهذا النوع من التاريخ)، تُبتلع داخلها، وتتم معاملة مواقع الرجال والنساء وعلاقاتهم المختلفة بالسياسة بوصفها انعكاسًا لترتيبات مادية واجتماعية بدلاً من كونها نتاج سياسات طبقية في حد ذاتها.

إن الطبقة في سرد ثوميسون هي في النهاية بمثابة هوية تجد جذورها في علاقات بنيوية موجودة من قبل السياسة. وما يحجب ذلك العملية المتناقضة والمتنازع عليها، التي من خلالها يتكون مفهومنا عن الطبقة في حد ذاتها والتي عن طريقها يتم تخصيص أنواع متعددة من مواقع الذات (subject positions)، ويتم الشعور بها، ومنازعتها أو اعتناقها. ونتيجة لذلك، فإن دراسة ثومبسون اللامعة عن تاريخ الطبقة العاملة الإنجليزية – التي كانت تهدف أصلاً إلى تأريخ مفهوم الطبقة” – ينتهي بها الأمر إلى إحالتها إلى جوهر ثابت أو ماهية“. وقد يبدو أن أرضية النقاش والتفسير قد تزحزحت من البنية (structure) إلى الفاعلية (agency) بفضل التأكيد على طبيعة التجربة إذ تتسم بذاتية الشعور بها، ولكن يبقى أن المشكلة التي حاول ثومبسون التصدي لها لم تُحَلَّ في حقيقة الأمر. إذ إن تجربةالطبقة العاملة أصبحت الآن أساس الحالة الوجودية أو الأنطولوجية (ontological) لهوية الطبقة العاملة ولسياساتها وتاريخها. ۱۹

ويظل للتجربة في هذا النهج من الاستخدام، مكانتها نفسها بوصفها أساسًا يقينيًا إذا استبدلنا بالطبقة العاملة في العبارة السابقة النساء أو الأمريكيين الأفارقة، أو المثليين، النساء منهم والرجال. فعلى سبيل المثال، ساعدت التجربةالمؤرخات النسويات على إضفاء المشروعية على نقدهن لادعاءات الموضوعية في التقارير التاريخية التقليدية. فقد تمثل جزء من مشروع بعض المؤرخات النسويات في كشف كل مزاعم الموضوعية على حقيقتها بوصفها غطاءً أيديولوجيًا للانحياز الذكوري، وذلك عن طريق إبراز أوجه القصور، والنقص، والإقصاء في التاريخ الرسمي. وقد أنجزن مهمتهن عبر توفير مادة توثيقية عن النساء في الزمن الماضي تقوم بالتشكيك في التأويلات القائمة، التي تم تكوينها دون أخذ (النوع) في الحسبان. كيف نجيز المعرفة الجديدة إذن، ما دام إمكان آية موضوعية تاريخية قد أصبح موضع سؤال؟ عبر اللجوء إلى التجربة، التي تحيل في هذا النهج من الاستخدام في آن معًا إلى الواقع وإدراكه بصورة ذاتية أي تجربة النساء في الماضي وكذلك النساء المؤرخات اللاتي يتعرفن على بعض ملامحهن في أسلافهن.

المؤرخة الأدبية، جوديث نبوتون Judith Newton وهي تكتب عن إهمال النسوية من جانب المشتغلين بالنظرية النقدية (critical theorists) المعاصرين تحاجي قائلة إن النساء أيضًا قد توصلن إلى القيام بنقد الموضوعية، وهو الأمر الذي يرتبط عادة بالتفكيكية (deconstruction) أو بالتاريخانية الجديدة (new historicism) وهذا النقد النسوي يبدو أنه ينبع مباشرة من واقع قيامنا بالتأمل في تجربتنا، أي(في) تجربة النساء، ومن التناقضات التي شعرنا بها بين الطرق المختلفة التي يتم تمثيلنا عبرها حتى أمام أنفسنا، ومن أمثلة الإجحاف التي طالما عشنا تجربتها داخل أوضاعنا“.20 حين تلجأ جوديث نيوتون إلى التجربة يبدو أنها تقوم بالالتفاف حول قضية الموضوعية (بعدم إثارة السؤال عما إذا كان العمل النسوي نفسه بوسعه أن يكون موضوعيًا)، في حين تقف بثبات فوق أساس بديهي (التجربة). وفي سياق كتابة جوديث نيوتون يتم تمثيل العلاقة بين التفكير والتجربة بوصفها شفافة الوضوح (تمتزج الاستعارة البصرية بالغريزية)، وبالتالي تتسم بإمكان النفاد إليها مباشرة. ويحدث الأمر نفسه مع تأكيد كريستين ستانسیل Christine Stansell على أن الممارسات الاجتماعيةبكل فوريتها – وبرمّتها تؤلف نطاقًا من التجربة الحسية” (أي واقعًا سابقًا على الإنشاء الخطابي prediscursive reality، يُحس ويُرى ويُعرف بصورة مباشرة) لا يمكن أن يندرج تحت اللغة“.21 ومن ضمن تأثيرات هذه المقولات التي تنسب إلى تجربة النساء أصالة لا ريب فيها، أنها تؤسس بصورة غير قابلة للدحض هوية النساء بوصفهن أفرادًا لهن فاعلية. كما أنها تعمم الهوية النسائية، وبالتالي تقيم ادعاءات المشروعية لتاريخ النساء على أساس التجربة المشتركة بين مؤرخات النساء وأولئك النساء اللاتي تقوم المؤرخات بسرد حكاياتهن، فضلاً عن أن هذه المقولات تعادل حرفيًا البعد الشخصي بالبعد السياسي؛ إذ تنظر إلى تجربة النساء المعيشة وكأنها تؤدي مباشرة إلى مقاومة القهر، واعتناق النسوية؛22 فيبدو إمكان الانخراط في السياسة مستندًا إلى تجربة نسائية موجودة سلفًا، ونابعة منها.

تكتب دنيس رايلي Denise Reiley قائلة: “بسبب توجه النسوية نحو حشد النساء سياسيًا، فإن النسوية ليس في قدرتها مطلقًا أن تُقدم بنية خالصة على فك مفهوم تجربة المرأة، مهما كان قدر ما يحدث من دمج بين ما يُنسَب إلى هذه التجريةوما يُفرَض عليها وما يعاش منها، وإحاطة الخليط الناتج بنظرة تقديس.23

إن تبني هذا النوع من الحجج للدعوة إلى تاريخ للنساء (وإلى سياسة نسوية) – الذي تنتقده الكاتبة يغلق المجال أمام التحري بشأن الطرق التي من خلالها يتم إنتاج الذاتية الأنثوية (female subjectivity)، تلك الطرق التي تجعل فاعلية المرأة ممكنة، الطرق التي تتقاطع من خلالها عوامل العنصر والجنسانية مع (النوع)، الطرق التي تقوم السياسة عبرها بتنظيم التجربة وتأويلها، الطرق التي تصبح من خلالها الهوية أرضية نزاع، ومحل ادعاءات متعددة ومتصارعة. وبعبارات دنيس رايلي، مرة أخرى: “إنها – أي هذه الحجج تخفي رجحان أن… (التجارب) قد تجمعت لدى النساء لا بفضل كينونتهن بوصفهن نساءً فحسب (their womanhood)[راجعي المقدمة حيث تشير المترجمة إلـى مشـكلة غياب المقابل العربي لهذه الكلمة (womanhood).]، وإنما يوصفهن آثارًا دالة على علاقات السيطرة، طبيعية كانت أو سياسية” (ص ٩٩). ولي أن أضيف أيضًا أنها تقوم بإخفاء واقع الإنشاء الخطابي بوصفه طابعًا لهذه التجارب.

غير أن هذا الطابع الخطابي للتجربة هو – على وجه التحديد ما يثير انزعاج بعض المؤرخين (أو المؤرخات)؛ حيث إن عزو التجربة إلى الخطاب يبدو وكأنه على نحو ما ينكر مكانتها بوصفها أساسًا للتفسير لا يخضع للتساؤل. ويبدو هذا حال جون توز John Toews، إذ يكتب مقالة نقدية طويلة في المجلة الأمريكية للنقد التاريخي The American Historical Review عام 1987، بعنوان التاريخ الفكري بعد الثورة اللغوية: استقلالية المعنى وعدم قابلية التجربة للاختزال” “Intellectual History after the Linguistic Turn: The Autonomy of Meaning and the Irreducibility of Experience”. 24 إن مصطلح الثورة اللغوية” (“Linguistic Turn”)[ يلجأ أيضًا بعـض الكتـاب أو المترجمين إلـى استخدام الثورة اللسانيةأو الثورة الألسنيةأو المنعطف اللغويفي الإشارة إلى مصطلح “”Linguistic Turn.] هو مصطلح شامل يستخدمه توز ليشير إلى مقاربات لدراسة المعنى تستعين بعدد من فروع المعرفة لاسيما نظريات اللغة بما أن الوسيط الأول للمعنى من الواضح أنه اللغة” (ص٨٨١). والسؤال الذي يُعْنَى به توز يخص المدى الذي قطعه التحليل اللغوي بالفعل والمدى الذي يجب أن يقطعه، وبخاصة في ضوء التحدي الذي فرضه مذهب ما بعد البنيوية على مذهب التأسيسية.

يقول توز إن التاريخ هو بالتعريف معنى بالتفسير؛ فهو ليس نزوعًا إلى هرمنيوطيقا (hermeneutics) راديكالية، وإنما محاولة لبيان أسباب أصل معانٍ بعينها وظروف نشأتها، واستمراريتها، واختفائها في أزمنة معينة وفي ظروف اجتماعية ثقافية محددة“( ص ۸۸۲). بالنسبة إلى توز يستوجب التفسير الفصل التجربة والمعنى، فالتجربة إنما هي ذلك الواقع الذي يتطلب استجابة ذات معنى. وتُعَامَل التجربةفي نهج استخدام توز لها بوصفها بديهية ودالة على ذاتها إلى درجة أنه لا يُقدم مطلقًا على تعريف هذا المصطلح. (ولذلك دلالة كاشفة في مقالة تصر على تأسيس أهمية التجربة واستقلالها وتعذر اختزالها؛ إذ إن انعدام وجود تعريف للتجربة يسمح لها بأن تتخذ أصداءً عديدة من المعنى، في الوقت الذي يسمح لها أيضًا بأن تُوظف بوصفها فئة مفهومة على صعيد كوني؛ فالكلمة بدون تعريف لها تخلق حسًا بالإجماع عبر إسناد معنى إليها، مفترض وثابت ومشترك).

إن التجربة بالنسبة إلى توز هي مفهوم تأسيسي. وبينما يقر بأن المعاني تختلف، وأن مهمة المؤرخ هي تحليل المعاني المختلفة المنتَجة عبر المجتمعات وعبر الزمن، نجده يحمي التجربةمن هذا النوع من النسبية. وهو إذ يفعل ذلك يؤسس لإمكان وجود معرفة موضوعية، وبالتالي لإمكان التواصل بين المؤرخين، مهما تعددت مواقفهم وآراؤهم، ولهذا الأمر تبعات منها إعفاء المؤرخين من التعرض لنظرة نقدية بوصفهم منتجين فعليين للمعرفة.

لأنه يمكن طبقًا للمنطق السابق تحليل ظاهرة التجربة في حد ذاتها خارج المعاني المعطاة لها، يصبح ممكنًا أن يبدو الموقع الذاتي للمؤرخ وكأنه لا علاقة له بالمعرفة التي يقوم بإنتاجها. هكذا، توفر تجربةتوز موضوعًا للمؤرخين يمكن معرفته بمعزل عن دورهم بوصفهم صانعي المعنى، ومن ثم فهي لا تضمن موضوعية معرفتهم فحسب وإنما أيضًا قدرتهم على إقناع الآخرين بأهميتها. ولا يهم هنا إنْ كان ثمة تنوع وخلاف بين مجتمع المؤرخين، فهو مجتمع يغدو متجانسًا بفضل موضوعه (تجربته) المشترك (ة). غير أنه – كما أوضحت إلين روني Ellen Rooney بشكل ناجع من الممكن وجود هذا النوع من التجانس بسبب استبعاد إمكان وجود مصالح متعذرة الاختزال على الصعيد التاريخي، تقوم بتوزيعالمجتمعات ورسم حدودها…”. 25 إن هذا التضمين في شمل واحد (inclusiveness) يتحقق عبر إنكار كون ممارسات الإقصاء والاستبعاد (exclusion) أمرًا لا مفر منه وكون الاختلاف يتأسس عبر الإقصاء، وكون الاختلافات الأساسية التي تصاحب التفاوتات في القوة/ السلطة وفي الموقع الاجتماعي لا يمكن التغلب عليها من خلال مجرد الحث على ذلك. في مقالة توز، لا يمكن أن يتسع المجال أمام أي خلاف حول معنى مصطلح التجربة، حيث إن التجربة نفسها تقع بطريقة ما خارج دلالتها. وربما من أجل هذا السبب لم يضع توز تعريفًا لها.

وحتى بالنسبة إلى هؤلاء المؤرخين (أو المؤرخات) الذين لا يشاركون توز في كل أفكاره عن الموضوعية أو خاصية استمرارية التاريخ، فإنهم يتبعون أسلوبه نفسه حين يكتبون مدافعين عن التجربة، فنجد التجربة تقيم عالمًا من واقع موجود خارج الخطاب وتخول سلطة للمؤرخ الذي يملك سبيلاً إليه. وتعمل شواهد التجربة بوصفها أساسًا يقينيًا يوفر في آنٍ واحد نقطة بداية ونوعًا من التفسير الحاسم لا يوجد بعده حاجة أو إمكان لأسئلة كثيرة. بيد أن هذه الأسئلة المستبعدة سلفًا – أسئلة عن الخطاب، وعن الاختلاف، وعن الذاتية، وكذلك عما له أن يدخل في عداد التجربة، وعمن له أن يتولى هذا التحديد هي التي تمنحنا القدرة على تأريخ التجربة، والتفكير النقدي في التاريخ الذي نكتبه عنها، بدلاً من اتخاذها أساسًا مفترضًا نرسي فوقه هذا التاريخ.

كيف لنا أن تبرز الطابع التاريخي للتجربة؟ كيف لنا أن تكتب عن الهوية بدون معاملتها بوصفها جوهرًا ثابتًا؟ بمقدور الإجابة عن السؤال الثاني الإشارة إلى الإجابة عن السؤال الأول؛ نظرًا لأن الهوية مرتبطة بالمفاهيم الخاصة بالتجربة، كما أن الهوية والتجربة كلتيهما فئة تُعَامَلُ عادة بوصفها أمرًا مفروغًا منه، بطريقة لا يجدر وجودها طبقًا لما أقترحه. وبعبارة جاياتري سبيفاك Gayatri Spivak يجدر بالمؤرخات (أو المؤرخين) أن يعملن على جعل عملية تخصيص مواقع الذات عملية ظاهرة، لا بمعنى الإمساك بحقيقة الأشياء التي نراها، ولكن بمعنى محاولة فهم سيرورة العمليات الخطابية المعقدة والمتغيرة التي يتم من خلالها تعيين هويات، ومقاومتها، أو احتضانها، والتي هي عمليات غير ملحوظة، وتحقق تأثيراتها بفضل كونها تحدث دون أن تسترعي الانتباه.26 في هذا السبيل، يبدو من المطلوب القيام بتغيير موضوع البحث تغييرًا ينظر إلى ظهور المفاهيم والهويات بوصفها أحداثًا تاريخية تحتاج إلى تفسير. وليس معنى ذلك أن نصرف النظر عن تأثيرات مثل هذه المفاهيم والهويات، وألا نقوم بتفسير مظاهر السلوك في إطار تفاعلاتها، وإنما يعني افتراض أن ظهور هوية من نوع جديد أمرٌ ليس له صفة الحتمية أو القدرية، ليس شيئا كان دومًا موجودًا فقط في انتظار التعبير عنه، وليس شيئًا سوف يظل إلى الأبد موجودًا على الشكل الذي أعطِيَه في سياق حركة سياسية معينة أو في فترة تاريخية بعينها. فكما يقول ستوارت هول (Stuart Hall):

الواقع أن فئة السودهي الأخرى، لم تكن موجودة. فقد كانت دائمًا هوية غير مستقرة، نفسيًا وثقافيًا وسياسيًا، فهي الأخرى سردية، أو حكاية، أو تاريخ. شيء أنشئ، أخبر عنه، قيل، وليس مجرد شيء تم اكتشاف وجوده. إن الناس تتكلم الآن عن المجتمع الذي جئت منه في صور غريبة على تمامًا. فهم يقولون إن جامايكا هي طبعًا مجتمع من السود. في الواقع، إنها مجتمع مكون من ناس سود وناس سمر عاشوا على مدى ثلاث أو أربع مائة عام من غير أن يكون في استطاعتهم الإشارة إلى أنفسهم بوصفهم سودًا، تلك هوية وَجَبَ تعلمها، وأصبح ممكنًا تعلمها فقط عند لحظة معينة. بالنسبة إلى جامايكا، هذه اللحظة كانت زمن السبعينيات من القرن العشرين.27

أن نتخذ تاريخ الهوية السوداء لأهل جامايكا موضوعًا للتحري في هذا الإطار يعني بالضرورة أن تقوم بتحليل عمليات تحديد مواقع الذات بصفتها تمت جزئيًا – على الأقل بفعل الخطابات التي وضعَتْ جامايكا في سياق اقتصاد سياسي عنصري دولي، زمنه أواخر القرن العشرين؛ أي أن تقوم بتأريخ تجربةالسواد.28

إن التعامل مع ظهور هوية جديدة بوصفه حدثًا خطابيًا ليس معناه أننا نقدم شكلاً جديدًا من الحتمانية اللغوية (Linguistic determinism)، أو أننا نحرم الذات من صفة الفاعلية، وإنما يعني أننا نرفض الفصل بين التجربةواللغة، وأننا نؤكد في المقابل خاصية الخطاب الإنتاجية. من الصحيح أن الذات تتكون خطابيًا، ولكن ثمة صراعات بين النظم الخطابية، وثمة تناقضات داخل كل منها، ومعانٍ متعددة، واردة للمفاهيم التي تقوم باستخدامها ونشرها.29 من الحق أن الذوات لديها/ لديهم فاعلية (agency)، وإن كانوا ليسوا بأفراد يتصفون بوحدة النفس والاستقلالية، ويقومون بممارسة إرادتهم الحرة، وإنما هم ذوات يتم خلق فاعليتها من خلال مواقف ومكانات تُسْبَغُ عليها. أن يكون الشخص ذاتًا (subject) يعني أن يكون عرضة (subject) لشروط وجود محددة، شروط للتمتع بالفاعلية، وشروط ممارسة“.30 هذه الشروط تُفَعِّل خيارات، وإن كانت هذه الخيارات ليست غير محدودة. تتكون الذوات عبر الخطاب، كما أن التجربة حدث لغوي (فهي لا تحدث خارج معانٍ متأسسة) ولكنها أيضًا ليست مقيدة إلى نظام ثابت للمعنى، وبما أن الخطاب هو بالتعريف شيء مشترك فالتجربة شيء جمعي هي شيء فردي. التجربة في تاريخ ذات، واللغة موقع تَمَثل التاريخ. وعلى ذلك، لا يمكن للتفسير التاريخي أن يفصل بين الاثنين، التجربة واللغة.

يصبح السؤال إذن هو: كيف نقوم بتحليل اللغة؟ وهنا كثيرًا ما يصطدم المؤرخون (وإن كان ليس دائمًا وليس بالضرورة) بحدود تخصص معرفي التاريخأنشأ نفسه بالتعارض مع الأدب. (تتعلق هذه الحدود بتكوين مفهوم مرجعي عن اللغة، أي الإيمان بوجود علاقة مباشرة بين الكلمات والأشياء). ولا يذهب نوع القراءة الذي أعنيه إلى افتراض وجود تقابل مباشر بين الكلمات والأشياء، ولا يحصر نفسه في معانٍ أحادية، ولا يهدف إلى إيجاد حل للتناقض. وهو لا يحول السيرورة (process) إلى مسار مستقيم، أو يجعل التفسير مرتكزًا إلى علاقات سببية بسيطة أو متغيرات أحادية، إنما بالأحرىله أن يُفرد للبعد الأدبي” (“the literary”) مكانة كاملة، لا يمكن اختزالهاirreducible. إن التسليم بمثل هذه المكانة للبعد الأدبي لا يعني جعله من الأسس المعطاة وإنما يعني إفساح المجال أمام إمكانات جديدة في تحليل الإنتاجات الخطابية للواقع الاجتماعي والسياسي بصفتها سيرورات معقدة ومتناقضة.

وتُعَّد القراءة التي طرحتها لكتاب ديلاني في بداية هذا المقال مثالاً على نوع القراءات التي أريد تجنبها، وأود الآن تقديم قراءة مختلفة، اقترحتها علىَّ الناقدة الأدبية كارين سوان Karen Swann بوصفها طريقة للإشارة إلى ما قد يدخل في تاریخ مفهوم التجربة، وهي أيضًا طريقة لإظهار اتفاقي مع قول كارين سوان بــ أهمية البعد الأدبيبالنسبة إلى المشروع التاريخي، 31 وتقديري له.

بالنسبة إلى ديلاني، كان حضور مشهد الحمام العام (“كتلة متماوجة من أجساد ذكرية عاريةمرئية تحت إضاءة زرقاء خافتة) حدثًا يسجل في ضوء إحدى القراءات ما يمكن أن نطلق عليه الوصول إلى الوعي بذاته، أيْ التعرف على هويته الأصيلة، هوية كانت دائمًا مشتركة، وسوف تظل دائمًا مشتركة بينه وبين آخرين مثله. إن قراءة من نوع آخر، أقرب إلى انشغال ديلاني بالذاكرة وبالنفس في هذه السيرة الذاتية، لا ترى هذا الحدث اكتشافًا للحقيقة (مدرَكة بوصفها انعكاسًا لحقيقة سابقة على الإنشاء الخطابي)، وإنما تراه يقوم بإحلال تأويل من التأويلات محل آخر. يقدم ديلاني هذا الاستبدال بوصفه تجربة تحوُّل، لحظة هداية، يبدأ بعدها في الرؤية (أي الفهم) بصورة مختلفة، إلا أنه ما أوسع البون بين الإدراك الواضح على صعيد ذاتي وبين الرؤية الشفافة! إذ ليس بالضرورة أن أحدهما يستتبع الآخر، حتى وإن طُرِحَت الحالة الذاتية مجازيًا بوصفها تجربة بصرية. وفضلاً عن ذلك (وهذه نقطة كارين سوان)، فإن خواص الوسط الذي يظهر عبره الشيء المرئي – وهو هنا الإضاءة الزرقاء الخافتة التي تُحدِث بفعل خواص التحريف والانكسارتأرجحًا في ما هو مرئي، تجعل من المستحيل ادعاء أية شفافية غير مُوَسَّطة (Swann 4)، بدلاً من ذلك، تسمح الإضاءة المتأرجحة برؤية ما وراء المرئي، رؤية تحتوى على إسقاطات تخيلية عن ملايين من الرجال مثليي الجنسيةالذين من أجلهم قد انتهى التاريخ بالفعل من خلق تشكيلات كاملة من المؤسساتهي أساس التوحد في هوية سياسية مشتركة (Delaney 174). “في هذه النسخة من الحكاية” – كما تلاحظ كارين سوان – “لا ينبع الوعي والقوة السياسية من تجربة يُفترض أنها مباشرة بلا وسيط لهويات مثلية يُفترض أنها حقيقية، وإنما ينبعان من وعي بخواص الوسط التمثيلي الموحية بالتحرك والتمايز (differencing) – حركة الضوء في الماء” (ص 4).

إن مسألة التصورات التمثيلية مسألة مركزية في مذكرات ديلاني. وهي مسألة تخص الفئات الاجتماعية والفهم الشخصي واللغة، وكلها أمور مرتبطة ببعضها، ولا يُعَدُّ أيًا منها ولا يمكنه أن يكون انعاكسًا مباشرًا لغيره، يتسائل ديلاني عما يعنيه أن يكون الشخص أسود، مثلي الجنسانية وكاتبًا، وهل من الممكن وجود نطاق للهوية الشخصية بمعزل عن التقييدات الاجتماعية؟ الإجابة هي أن البعدين الاجتماعي والشخصي يتداخل أحدهما في الآخر كما أن الاثنين متغيران تاريخيًا، إذ تتغير معاني فئات الهوية وتتغير معها إمكانات تصور النفس.

في ذلك الوقت لم تكن بداية كلمتي أسودو“gay” موجودتين بالمعاني والاستخدامات والتاريخ الذي لهما حاليًا، كان عام 1961 لا يزال حقيقة جزءًا من الخمسينيات. لم يكن الوعي السياسي الذي قدر له أن يتشكل في أواخر الستينات جزءًا من عالمي. فقد كان هناك فقط الزنوج (negroes) والشواذ/ المثليّون (homosexuals)،[ اخترت أن أترجم Homosexuals هنا إلى الشواذ/ المثليين لأن كلمة مثليينمصطلح أدخل حديثًا لتأويل الكلمة الإنجليزية، على سبيل الترجمة بشكل أكثر دقة، وبوصفه نوعًا من التصحيح للدلالة التحقيرية والحكم الأخلاقي/ الاجتماعي الذي تفصح عنه كلمة شواذ، بيد أن كاتب العبارة المقتبسة يقصد أن يشير إلى ما كان سائدًا وقتها من الدلالة التحقيرية والحكم الأخلاقي على هذه الفئة، بغض النظر عن دقة الإشارة باللغة الإنجليزية، وبالرغم من أن الكلمة نفسها أصبحت تحمل دلالة أكثر حيادية مع تغير النظرة في مجتمعات الغرب إلى هذه الفئة.] وكان كلاهما – ومعهما الفنانون له قيمة منخفضة على سلم التراتب الاجتماعي. ان الحديث عن هذا العالم أمر شاق. (Delaney 242)

لا تفي فئات التصنيف الاجتماعي المتاحة بالغرض في حكاية ديلاني. فمن الصعب إن لم يكن من المستحيلاستخدام سردية مفردة لتغطية كافة جوانب تجربته، وهو يستعيض عن ذلك بتدوين مدخلات في دفتر؛ بحيث يسجل في الوجه الأمامي ما يتعلق بالأشياء المادية، وفي الظهر ما يتعلق بالرغبة الجنسية. ويصف ذلك بأنهما سرديتان متوازيتان في عمودين متوازيين“. ولكن بالرغم مما يبدو من أن إحداهما تتعلق بالمجتمع، بالجانب العام أو السياسي، وأن الأخرى تتعلق بالجانب الفردي والخاص أو النفسي، فإن كلتيهما في الواقع تاريخيتان بشكل لا مفر منه؛ إنهما عبارة عن إنتاجات خطابية عن المعرفة بالنفس، وليستا انعكاسًا لحقيقة خارجية أو حقيقة داخلية. “أما أن يُفرض على العمودين أن يمثل أحدهما الماركسي والآخر الفرويدي العمود المادي وعمود الرغبة فما ذلك إلا بتحيز حداثي، إذ إن استقلالية كلٍّ منهما تفسدها التجاوزات نفسها، والحدة نفسها” (ص ۲۱۲). ان العمودين يدخل كل منهما في تكوين الآخر، بيد أن العلاقة بينهما صعبة التحديد. هل هو الجانب الاجتماعي والاقتصادي الذي يحدد مصير الجانب الذاتي؟ وبالنسبة إلى الجانب الخاص، هل هو منفصل نهائيًا عن العام أم أنه متداخل تمامًا فيه؟ يعبر ديلاني عن رغبته في إيجاد حل لهذه المسألة: “مؤكد أن أحدهما هو الكذبة التي يلقي الضوءَ عليها صدقُ الآخر” (ص ۲۱۲). ثم ينفي ديلاني إمكان وجود حل؛ إذ لا توجد أجوبة عن هذه الأسئلة بمعزل عن الخطابات التي تنتجها.

إذا كان الشق الحيز الموجود بين العمودين (أحدهما متألق وجلي بكتابات الشرعية، والآخر مظلم ومجوف بأصوات الخارجين عن الشرعية) – هو ما يُكوِّن الذات، فإنه فقط بعد إحاطة الخاصبنظرة رومانسية تعظمه وتسويه بـ الذاتي، يصبح من الممكن أن نحدد موقع هذا الشق. ذلك المكان، ذلك الهامش، ذلك الشق في حد ذاته، في البدء يُجيز، وبعدها يتطلب، الاستحواذ على اللغة منطوقة حينًا، مكتوبة حينًافي كلا الاتجاهين، فوق الفجوة. (ص۲۹۳۰)

وفي النهاية يمكن للمرء أن يقوم عبر تعقب طريق الاستحواذ على اللغةفي الاتجاهين، فوق الفجوة، وعبر تحديد موقع تلك اللغة وسياقها بتأريخ المفردات التي يتم تمثيل التجربة من خلالها، ومن ثم تأريخ التجربة في حد ذاتها.

لا تبدو لي القراءة التي تلتفت إلى البعد الأدبي قراءة غير مناسبة لهؤلاء الذين يتخصصون في دراسة التغيير؛ أي دراسة التاريخ. بيد أنها لا تمثل النوع الوحيد من القراءة الذي أنادي به، وإن كانت أيضًا الوثائق التي كتبت بأيدي شخصيات أدبية ليست هي وحدها القابلة لهذا النوع من القراءة. فما أدعو إليه هو – بالأحرى طريقة لتغيير محور وفلسفة التاريخ الذي نكتبه، من نزعة تنحو إلى إضفاء صفة الطبيعية على التجربةعبر إيمان بوجود علاقة مباشرة بلا وسيط بين الكلمات والأشياء، إلى أخرى تُعَامِلُ جميع فئات التحليل بوصفها موجودة داخل سياق، وبوصفها محل نزاع، وبوصفها عارضة (contingent). كيف تأتي لفئات التمثيل والتحليل مثل الطبقة، العنصر، (النوع)، علاقات الإنتاج، البيولوجيا، الهوية الذاتية، الفاعلية، التجربة، وحتى الثقافة أن تصل إلى مكانة الأسس المسلم بها؟ وماذا كانت تأثيرات طرق صياغتها؟ وماذا تعلى دراسة الماضي بمعطيات هذه الفئات بالنسبة إلى المؤرخين؟ ما العلاقة بين بروز هذه الفئات في وقتنا الحالي ووجودها في الماضي؟ تفتح هذه الأسئلة المجال للنظر في ما يشير إليه دومينيك لاكابرا Dominick La Capra بالعلاقة التحويلية (transferential) بين المؤرخ والماضي، أي تُهيئ فرصة النظر في العلاقة بين قوة الإطار التحليلي للمؤرخ أو المؤرخة والأحداث التي هي موضوع دراسته أو دراستها، كما أن هذه الأسئلة تقوم بتأريخ طرفي هذه العلاقة من خلال نفي ثبات وتعالي أي شيء يتضح أنه يعمل على أساس يقيني، إذ تُحول الاهتمام إلى تاريخ المفاهيم التأسيسية في حد ذاتها. بذلك يصبح تاريخ هذه المفاهيم (التي ندرك أنها محل نزاع وأنها متناقضة) بمثابة الشواهد التي عن طريقها يتم الإمساك بالتجربة واستيعابها، ومن خلالها تتم بلورة علاقة المؤرخة بالماضي الذي تكتب عنه. هذا هو ما يقصده فوكوه بممارسة الجنيالوجيا أو دراسة نسب الأفكار وأصولها (genealogy)[الجنيالوجيا مصطلح استخدمه فوكو ليشير إلى عملية البحث ليس عن أصول كما قد يبدو مـن المعنى الشائع للكلمة وإنما إلى التاريخ متعدد الجوانب وأحيانًا المتناقض الـذي يحـيط بمفاهيم وأشياء قد تبدو وكأنها بلا تاريخ (الجنسانية مثلاً)، بهدف الكشف عن آثار القوة/ السلطة في إنشاء معناها والتحكم فيها.]:

لو كان التأويل كشفًا بطيئًا عن معنى مختبئ داخل أصل أو منَشأ، فإن فلسفة ما وراء الطبيعة (metaphysics) تصبح وقتها القادرة وحدها على تفسير تطور الإنسانية. أما إذا كان التأويل هو الاستيلاء العنيف والمستتر على نظام من قواعد ليس له في حد ذاته معنى جوهري، من أجل فرض اتجاه، من أجل تطويعه لإرادة جديدة، من أجل إرغامه على الاشتراك في لعبة جديدة، ومن أجل إخضاعه لقواعد ثانوية، عندئذ يصبح تطور الإنسانية سلسلة من التأويلات. ويصبح دور عملية التأصيل بمثابة تسجيل تاريخها: تاريخ التعاليم الأخلاقية، المثاليات، المفاهيم الميتافيزيقية، تاريخ مفهوم الحرية، أو مفهوم حياة الزهد. وبما أنها تحتمل ظهور تأويلات مختلفة، فلا بد من أن نجعلها تتضح بصفتها أحداثًا على مسرح السيرورة التاريخية.32

ليست التجربة بالكلمة التي يمكننا الاستغناء عنها، رغم أن فكرة هجرها تمامًا تبدو مغرية في ضوء ما تتعرض له من طرق استعمال تحيل الهوية إلى جوهر ثابت (أو ماهية“) وتؤدي إلى تشييء الذات. تدخل التجربة في لغتنا اليومية وتتداخل في سردياتنا إلى حد يبدو معه من العبث محاولة طردها. فهي تستخدم بوصفها وسيلة للحديث عما حدث، بوصفها طريقة لتأسيس الاختلاف والتشابه، ولادعاء معرفة تمتنع على الهجوم“.33 وفي ضوء ما للتجربة من وجود مهیمن، ما أحرانا أن نتعامل معها، أن نحلل سيروراتها، وأن نعيد تعريف معناها. ويستلزم ذلك أن نركز النظر في عملية إنتاج الهوية، وأن نؤكد طبيعة التجربةبما هي إنشاء بفعل الخطاب، كما نؤكد الجانب السياسي الذي يحيط بعملية إنشائها. التجربة فعل تأويلي وشيء يحتاج إلى التأويل على الدوام، في آنٍ معًا. إن ما يُعَدُّ تجربة ليس أمرًا دالاً على ذاته ولا هو بالأمر المباشر في وضوحه، بل هو دومًا محل نزاع، ومن ثم فهو دومًا سياسي، لذا، يجب على دراسات التجربة أن تثير الاعتراضات على مكانة التجربة بوصفها نقطة البداية في التفسيرات التاريخية. وسوف يتحقق ذلك حين يرى المؤرخون (أو المؤرخات) أن مشروعهم، ليس القيام بإعادة إنتاج معرفة يقال إن التجربة كانت سبيل التوصل إليها، وإنما تحليل ظروف إنتاج تلك المعرفة في حد ذاتها. إن هذا التحليل من شأنه أن يشكل تاريخًا لا يرتكز إلى أسس معطاة، تاريخًا يحتفظ بقوته التفسيرية وباهتمامه بالتغيير، ولكن دون الارتكاز إلى مفاهيم أو فئات تصنيف تعامل وكأنها طبيعية ودون إعادة إنتاج هذه الفئات، 34 وهو أيضًا لا يقدم ضمانًا عن حياد المؤرخ، إذ إن اختيار الفئات المطلوب تأريخها هو أمر سياسيلا محالة، وهو أمر يرتبط باعتراف المؤرخ بما له من مصالح في عملية إنتاج المعرفة. ليست التجربة في هذه المقاربة، مَنشأ التفسير، وإنما هي الشيء الذي نسعى إلى تفسيره. هذا النوع من المقاربات لا يضرب السياسة من خلال نفي وجود الذوات، وإنما يقوم بالتحقيق في عمليات خلقها وإنشائها. وبذلك يعيد تصور التاريخ ودور المؤرخ، ويقوم بشق طرق جديدة للتفكير في مسألة التغيير.35

* Joan W. Scott, “Experience,” in Women, Autobiography, Theory: Reader, ed. Sidonie Smith and Julia Watson (Wisconsin: The University of Wisconsin Press, 1998), 57- 71.

** تأريخ التجربة هنا بمعنى وضعها في سياق تاريخي أو مقاربتها من منظور تاريخي.

__________________________________________

1 – Samuel R. Delany, The Motion of Light in Water: Sex and Science Fiction Writing in the East Village, 1957-1965 (New York: New American Library, 1988).

الأقوال المقتبسة من الكتاب مبينة في النص مع رقم الصفحة بين قوسين.

2 – Martha Minow, “Foreword: Justice Engendered,” Harvard Law Review 101 (November 1987): 10 -95.

3 – حول الفرق بين المشاهدة والكتابة في أشكال صياغة الهوية، انظر/ انظري:

Homi K. Bhabha, “Interrogating Identity,” in Identity: The Real Me, ICA Documents (London) 6 (1987): 5-11.

4 – Lionel Gossman. “Towards a Rational Historiography.” Transactions of the American Philosophical Society 79, no. 3 (1989): 26.

5 – حول النمـوذج التسجيلي “documentary أو الموضـوعاني “objectivist الـذي يستخدمه المؤرخون، انظر/ انظري:

Dominick LaCapra, “Rhetoric and History,” in LaCapra, History and Criticism (Ithaca: Cornell University Press, 1985), 15-44.

6 – عن أن الرؤية ليست تأملاً سلبيًا، انظر/ انظري:

Donna Haraway, “Situated Knowledges,” typescript, 9, and Donna Haraway, “The promises of Monsters: Reproductive Politics for Inappropriate/d Others,” unpublished paper, summer 1990.9.

انظر/ انظري أيضًا:

Minnie Bruce Pratt. “Identity: Skin Blood Heart,” in Yours in Struggle: Three Feminist Perspectives on Anti-Semitism and Racism (Brooklyn, NY: Long Haul Press, 1984).

وانظر/ انظري كذلك التحليلات التي تناولت مقالة برات عن سيرته الذاتية:

Biddy Martin and Chandra Talpade Mohanty, “Feminist Politics: What’s Home Got to Do with It?” in Teresa de Lauretis, Feminist Studies/Critical Studies (Madison: University of Wisconsin Press, 1986), 191- 212.

7 – أدين لجوديث باتلر Judith Butler بفضل مناقشات حول هذه النقطة.

8 – Fredric Jameson, “Immanence and Nominalism in Postmodern Theoretical Discourse, in Postmodernism, or, The Cultural Logic of Late Capitalism (Durham: Duke University Press, 1991), 199.

9 – Raymond Williams, Keywords (New York: Oxford University Press, 1983), 126- 29.

يعتمد النقاش في هذه الفقرة على تعريف ويليامز مصوغًا بعباراتي، والعبارات المستشهد بها مـن النص الأصلي ترد بين قوسين في هذا النص.

10 – حول الطرق التي ترى المعرفة بصفتها تجميعًا لتصورات سليمة، انظر/ انظري:

Richard Rorty, Philosophy and the Mirror of Nature (Princeton: Princeton University Press, 1979), especially 163.

11 – يصوغ هومي بابا هذه المسألة على النحو الآتي: “أن نرى شخصًا غائبًا، أو أن ننظـر إلـى الغياب عن النظر، يعني أننا نشدد على مطلب الذات العابر أو الانتقـالـي بموضـوع مباشـر للتأمل الذاتي؛ نقطة حضور لها أن تحتفظ بموضعها المتميز المتكلم بصفته ذاتًا، ص 5 مـن المصدر المذكور أعلاه في هامش رقم 3

Homi Bhabha, “Interrogating Identity”.

12- Teresa de Lauretis, Alice Doesn’t (Bloomington: Indiana University Press, 1984), chapter 6 “,Semiotics and Experience,”159.

13 – تصف جاياتري سبيفاك ذلك بأنه بمثابة metalepsis، أي إبدال النتيجة بالسبب. انظر/انظري:

Gayatri Spivak, In Other Worlds: Essays in Cultural Politics (New York: Routledge 1987) 204.

14 – Michel de Certeau, “History: Science and Fiction,” Heterologies: Discourse on the Other, trans. Brian Massumi (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1986), 218.

15 – R. G. Collingwood, The Idea of History (New York: Oxford University Press, 1956), 274- 75.

العبارات المقتبسة ترد أرقام صفحاتها بين قوسين.

16 – E. P. Thompson, Making of the English Working Class (New York: Vintage, 1963), 171.

17 – يتناول نقاش ریموند ويليامز عن البني المشاعريةبعض هذه القضايا بقدر أكبر من الإسهاب. انظر النظري كتابه:

(Raymond Williams, The Long Resetastion, New York: Columbia,University Press 1961)

، وكذلك المقابلة الشخصية التي جرت بشأنها:Raymond Williams

Politics and Letters: Interviews with New Left Review (London Verso, 1989), 156- 74.

أعبر عن امتناني لتشون لین Chun Lin الذي دلني على هذه النصوص.

۱۸ حول الدور الذي تقوم به التجربة في تحقيق الاندماج في كل واحد، انظر/ انظري:

Judith Butler, Gender Trouble: Feminism and the Subversion of Identity (New York: Routledge, Chapman and Hall, 1990), 22-25

19 – للاطلاع على قراءة أخرى لما كتبه ثومبسون عن التجربة، انظر/انظري:

William Sewell, Jr., “How Classes Are Made: Critical Reflections on E. P. Thompson’s Theory of Working-Class Formation,” in E. P. Thompson: Critical Perspectives, ed. Harvey J. Kaye and Keith McClelland (Philadelphia: Temple University Press, 1990): see also Sylvia Schafer, “Writing about Experience: Workers and Historians Tormented by Industrialization,” unpublished paper, May 1987.

20 – Judith Newton, “History as Usual? Feminism and the Cultural Critique 9 (1988): 93.”New Historicistm”,

21 – Christine Stansell, “Response,” International Labor and Working Class History 31 (Spring 1987): 28.

غالبًا ما يعود هذا النوع من استحضار التجربة إلى تجربةالجسـد العضـوية أو البيولوجية. انظر/ انظري مثلاً المقولات المطروحة عن الاغتصاب والعنف في المرجع الآتي:

Mary Hawkesworth, “Knowers, Knowing, Known: Feminist

Theory and Claims of Truth,” Signs 14, no. 3 (Spring 1989): 533- 57

22 – هذا أحد معاني شعار الشأن الشخصي شأن سياسي، فتصبح المعرفة أو الخبرة الشخصية (أي التجربة) المتعلقة بوضع القهر هي مصدر المقاومة ضده. للاطلاع على نقد لوجهة النظـر هذه، انظر/ انظري:

Chandra Talpade Mohanty, “Feminist Encounters: Locating the Politics of Experience,” copyright 1 (Fall 1987): 32; and Katie King, “The Situation of Lesbianism as Feminism’s Magical Sign: Contests for Meaning and the U.S. Women’s Movement, 1968-1972,” Communication 9 (1986): 65- 91.

إن عمل كاترين ماكينون Catharine MacKinnon يعد على الأرجح أفضل مثال على استخدامات التجربة بالطرق التي ننتقدها أنا وتشاندرا موهانتي وكيتي كينج. انظر/ انظري كتابها الآتي:

Catharine MacKinnon, Feminism Unmodified: Discourses on Life and Law (Cambridge: Harvard University Press, 1987).

23 – Denise Riley, “Am I that Name?” Feminism and the Category of “Women” in History (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1988), 100.

24 – John Toews, “Intellectual History after the Linguistic Turn: The Autonomy of Meaning and the Irreducibility of Experience,” American Historical Review 92, no.4 (October 1987): 879 – 907.

25 – Ellen Rooney, Seductive Reasoning: Pluralism as the Problematic of Contemporary Theory (Ithaca, NY: Comell University Press, 1989), 5-6.

26 – Gayatri Spivak, “A literary Representation of the Subaltern: A Woman’s Text from the Third World,” In Other Worlds, 241.

27 – Stuart Hall, “Minimal Selves,” in Identity: The Real Me, ICA Documents (London) 6. (1987): 45. See also Barbara J. Fields, “Ideology and Race in American History,” int Region, Race and Reconstruction, ed. J. Morgan Kousser and James M. McPherson (New York: Oxford University Press, 1982), 143 – 77.

إن مقالة باربرا فيلدز تعرف بتناقضاتها، فهي مثلاً تؤرخ العنصر في حين تقوم بتطبيع الطبقة وبتجاهل (النوع) بالكامل.

۲۸ نجد مثلاً ممتازًا عن تأريخ تجربةالنساء السود في المرجع الآتي:

Hazel Carby, Reconstructing Womanhood: The Emergence of the Afro-American Woman Novelist (New York: Oxford University Press, 1987).

29 – للاطلاع على نقاشات عن كيف يحدث التغييـر مفعولـه داخـل الخطابـات وفيمـا بينها, انظر/ انظري:

James Bono, “Science, Discourse, and Literature: The Role/Rule of Metaphor in Science,” in Literature and Science: Theory and Practice, ed. Stuart Peterfreund (Boston: Northeastern University Press, 1990), 59-89. See also Mary Poovey, Uneven Developments: The Ideological Work of Gender in Mid-Victorian England (Chicago: University of Chicago Press, 1988), 1-23.

30 – Parveen Adams and Jeff Minson, “The Subject of Feminism,” m/f 2 (1978): 52.

حول تكون الذات، انظر/ انظري:

Michel Foucault, The Archaeology of Knowledge (New York: Harper and Row, 1972), 95- 96; Felicity A. Nussbaum, The Autobiographical Subject: Gender and Ideology in Eighteenth-Century England (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1989); and Peter de Bolla, The Discourse of the Sublime: Readings in History, Aesthetics, and the Subject (Oxford and New York: Basil Blackwell, 1989(.

31 – تم تقديم تعليقات کارن سوان عن هذه الورقة في ندوة The Little Three Faculty Colloqium تحت عنوان الإنشاء الاجتماعي والسياسي للحقيقةفي جامعة وسليان Wesleyan University 18 – 19 يناير ۱۹۹۱. التعليقات موجودة في نسخة مطبوعة لم يتم نشرها، والعبارة المقتبسة هنا تقع في صفحة رقم 5 من هذه النسخة.

32 – Michel Foucault, “Nietzsche, Genealogy, History,” Language, Counter- Memory, Practice, ed. Donald F. Bonchard and Sherry Simon (Ithaca, NY: Cornell University Press, 1977), 151- 52.

33 – Ruth Roach Pierson, “Experience, Difference and Dominance in the Writings of Women’s History,” unpublished paper, 1989, 32.

34 – أسهمت نقاشات مع كريستوفر فينسك Christopher Fynsk في إيضاح هذه النقاط أمامي.

35 – للاطلاع على محاولة مهمة لوصف تاريخ ما بعد بنيوي، انظر/ انظري:

Peter de Bolla, “Disfiguring History,” Diacritics 16 (Winter 1986): 49- 58.

اصدارات متعلقة

استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم
قائمة المصطلحات Glossary
مطبوعات
مطبوعات