الثورة تبدأ من البيت
مواجهة العنف في العلاقات العاطفية داخل مجتمعات النشطاء(*)
العلاقات العاطفية هي مساحة الراحة والأمان التي نتوق إلى وجودها ونهرب إليها من مشاق الحياة؛ لنجد فيها الدعم، والحماية، والشغف، أو هكذا يُفترض الأمر أن يكون، في بعض الحالات يصبح العنف جزءًا لا يتجزأ من العلاقة، بل وعاملًا فعالاً في تشكيل آلياتها. وللعنف أشكالٌ عدةٌ: نفسي، وجسدي، وجنسي. لكن أشكال العنف جميعها تسير على نهج واحد، لتصل إلى نتيجة واحدة: مُعتدي يعاني من خلل نفسي، أو ذهني، أو جنسي، يتخذ لنفسه ضحيًة يمارس عليها شتى أشكال الاعتداء، ويستمد قوته ويستعيد توازنه من ضعفها، وفقدانها لاتزانها واستقلاليتها، بل وتقديرها لذاتها. حيث إن الضحية هي الكيان الذي يمص المُعتدي دمه وطاقته، ويهدر مشاعره في سبيل استمراريته. يصبح الخروج من العلاقة صعبًا وخطرًا، وقد يصل إلى الموت، فالمُعتدي يرفض التخلي عن ضحيته، والضحية المُستنزفة قد لا تجد في نفسها القوة، والطاقة، والحيلة؛ للهرب، وإن استجمعت قواها، قد لا تجد نظامًا دعمًا يُؤمِن لها الحماية، ويوفر لها المتطلبات الأساسية، التي تمكنها من بدء حياتها من جديد.
بدأ الوعي يزداد – مؤخرًا، بخطورة العنف في العلاقات، وبكيفية مقاومته والتصدي له، بل والحد منه، عن طريق التوعية بالأنماط السلوكية للشريك الذي قد يمارس العنف.
من هنا تأتي أهمية الكُتب التي تتمحور حول هذا الموضوع، ومنها:”الثورة تبدأ من البيت“، والمكون من 368 صفحة، والذي يقدم مجموعة من القصص الحقيقية على لسان ناجيات من علاقات عنيفة، وكذلك بعض الإرشادات النفسية، والنصائح للتعامل مع المواقف الحرجة، لكن ما يميز هذا الكتاب – هو السياق الذي تدور فيه القصص والتجارب التي يقدمها، وهو مجتمعات النشطاء. بشكل عام، يُنظر إلى النشطاء على أنهم الأبعد عن ارتكاب الجرائم والتعديات، التي يقاومونها، وعلى أنهم الأقرب إلى الضحايا، والأكثر دراية بحجم الضرر الذي يسببه العنف؛ لذا يُستبعد أن يكونوا طرفًا في علاقة مؤذية. لكن مِمَّا يَرد في الكتاب، نجد أن ظاهرة تنتشر بين النشطاء كغيرهم من المجتمعات البشرية، وهذا ما يجعل السرد مثيرًا، ومرعبًا، ومحزنًا في آن واحد.
أين تذهب عندما تكون أنت الجهة المنوط بها دعم وحماية ضحايا العنف؟ ماذا لو كان المُعتدي شريكًا في المقاومة، وشخصية معروفة تحضر الفعاليات والأحداث، التي تحضرها أنت كجزء من حركة المقاومة؟
تحاول النَّاجِيات مواجهة مثل هذه الأسئلة الشائكة والإجابة عليها من خلال تجاربهن الشخصية، الأمر الذي يُعد بمثابة الدخول إلى حقل ألغام، أو عشٍ للدبابير؛ فهناك شبكة متشعبة من الاعتبارات الاجتماعية، والنفسية، والجندرية، بل والقانونية، التي تزيد الطين بِلة عندما يكون المعتدي أو الضحية ناشطا أو ناشطة.
يتبنى الكتاب نظرية العلاج عن طريق الحكي حيث يسمح الحكي للضحية بترتيب فوضى التجربة، واستخلاص العبرة منها. من هنا يأتي الاستخدام المكثف لضمير المتحدث، وللزمن الماضي في سرد الأحداث، وكذلك نبرة الاعتراف. من أبرز نقاط القوة في هذا الكتاب هو الشجاعة التي تواجه بها النَّاجيات أنفسهن أولا، ثم القارئ، كان من يكون، عند الخوض في دهاليز تجاربهن القاسية. فنجد شرحًا تفصيليًا لمشاعر الخوف والألم، والتردد بل والتشكيك في النفس، التي تنتج عن التواجد في علاقة مضطربة. إحدى النَّاجيات والتي فضلت ألا تفصح عن هويتها– تروي أنها كانت تساورها الشكوك حول كفائتها المهنية كمعالجة نفسية، بعد تعرضها للعنف في إحدى علاقاتها؛ لأنها فشلت في قراءة العلامات، وحماية نفسها من التعرض للأذى، فكيف لها أن تساعد أخريات؟ هنا تكمن خصوصية التجارب التي ترد في الكتاب، وتختلف عن غيرها من حالات العنف المتعارف عليها. أشكالية الشرطة، وموقف القانون – هما مثال آخر على التعقيدات التي تكتسب أبعادًا جديدة في حالة الناشط، أو الناشطة.
تصف إحدى النَّاجيات الصعوبة التي وجدتها في اللجوء إلى الشرطة لحمايتها من شريكها؛ وذلك لأنه في المَسِيرات والفعاليات التي تشارك بها، تكون الشرطة في الجهة المقابلة، أي الخصم. كونها ناشطة جعل هذه السيدة تشعر أن عليها اللجوء إلى الخصم لحمايتها. من هنا نجد أن التعامل مع العنف في مجتمعات النشطاء يفرض آليات جديدة ومختلفة؛ حتى لا يتعارض مع مبادئ الناشط، أو الناشطة. وهذا لا ينطبق على الشرطة فحسب، بل وعلى الجهات القانونية أيضًا. هناك ثغرات قانونية لم تتم تغطيتها بعد، وتسمح للمعتدي بالنجاة بفعلته، منها على سبيل المثال، ما ذكرته إحدى المشاركات في الكتاب من وقوع ضرر لم يُذكر بعينه في نص القانون. فإذا كانت الضحية مصابة بمرض مزمن مثل: أمراض القلب، وتعمد المُعتدي تعريضها لضغط نفسي هائل؛ أدى إلى أن تسوء حالتها، لن تتمكن من مقاضاته؛ لأنه لم يتعرض لها بالضرب المباشر. في هذه الحالة، إثبات الأذى النفسي الذي أدى إلى ضرر جسدي، سيستغرق أضعاف الوقت والجهد لإثباته؛ مما يهدد حياة الضحية.
يعتمد السرد على الكتابة الحُرة، وتيار الوعي حيث تحاكي اللغة مشاعر المتحدث ولا تصفها فحسب. فنجد توظيفًا مكثفًا لخاصية التكرار، الذي يعبر عن أمور عدة منها: الدوران في دائرة العنف المغلقة، والقهر تحت طبقات من اللزمات (التيمات) اللفظية المهينة. تقول إحدى النَّاجيات:
“Everything I was, everything I wanted, was wrong wrong wrong wrong”.
“كل ما كنته، كل ما أردته، كان خطأ، خطأ، خطأ، خطأ” (ص 22) تكرار كلمتي“كل“، و“خطأ” يجسد مناخ العلاقة الخانق القائم على إصدار الأحكام، ونفي القيمة عن كل ما يتعلق بالضحية بدءا من هويتها، ووصولًا إلى رغباتها وتطلعاتها، للتكرار في هذا المثال وقع وإيقاع يحاكي الضربات المتكررة، التي تَلقتها الضحية على المستوى النفسي، وألحقت بها بالغ الضرر.
وهناك أيضًا، الكتابة الإبداعية كما في قصيدة“Infestation” والتي قد تترجم إلى“ابتلاء“، لكنها تحمل أيضًا معنى العدوى الطفيلية في وصف بَليغ للمُعتدي، والعلاقة المؤذية ككل. تلك القصيدة جديرة بتحليل مفصل مطول، لا تسنح له الفرصة هنا، لكنني سأشير إلى أحد أهم عناصرها، وهو التحول في موقف المتحدث/ الضحية من الخنوع والألم، إلى المواجهة والقصاص، في بداية القصيدة تقول الكاتبة:
“our predators lie in sheep’s clothes” أو” يتخفى المعتدون علينا في زي خراف“، كناية عن المظاهر الخادعة. يكتسب هذا الوصف بعدًا خاصًا عند الأخذ في الاعتبار أن الكتاب يتمحور حول مجتمعات النشطاء، أي المجموعات المنوط بها الحماية والدعم ثم تصف الكاتبة حال الضحية قائلة:
She weeps, heart drumming itself into shock.
Weeps, streetlamp saint she
She weeps, as angels splatter against the windshield In
Rush hour traffic
She did not ask for this martyrdom
She was unaware.
تبكي، يقرع القلب طبوله حد الصدمة.
تبكي، قديسة تحت عمود إنارة
تبكي، بينما تضرب أجنحة الملائكة الزجاج الأمامي في زحام ساعة الذروة
لم تطلب أن تكون شهيدة
كانت غافلة
يظهر ثانية، التكرار كعنصر بلاغي في كلمة” تبكي” للتعبير عن الحزن العميق. كما توظف الكاتبة صورًا دينية مثل: الملائكة والقديسات، والاستشهاد لتصوير معاناة الضحية البريئة. ولا مجال هنا لغبط الضحية على هذه المكانة؛ لأنها لم تطلبها، لم تطلب هذه الشهادة. لكن هذه الحال تنقلب رأسًا على عقب في النصف الثاني من القصيدة، حيث تتحول اللغة والصور إلى العنف والسباب، فنجد أبياتًا تقول:
I don’t care who the fuck you are!
You don’t have any right to be
an asshole
a sexual predator
Fuckhead
rapist
Pillager
Thief-
a poser fronting as a partner in the cause-
You sack of limp balls and groping claws swaggering around
Young flesh.
We will
Exterminate the infestation.
لا يعنيني بالمرة من تكون!
ليس لك أي حق في أن تكون
أحمق،
معتدي جنسي،
أَخْرَق،
مُغتصب،
ناهب،
لص،
مخادع يتظاهر بأنه شريك في القضية –
يا كتلة الخصي الرخوة، والمخالب الجارحة، التي تتبختر حول
الأجساد الشابة
سوف ترفع عنا هذا الابتلاء.
يتضح في هذه السطور، كيف تتحول اللغة إلى أداة لرد الهجوم والمقاومة، حيث إن الهدف من قائمة الصفات السلبية تلك – هو تكثيف النفور من المُعتدي عند القارئ. فالكاتبة تستخدم لوصف المُعتدي مستوى اللغة الذي يليق به، وهو ذلك الذي يعالج بالإهانات، والعنف، وكأنها تحاوره بلغته التي قد لا يفهم سواها.
بالقراءة المتأنية أيضًا، نجد أن القصص تترابط داخليًا؛ لتحقق ما يُسمى بالوحدة العضوية، أي ترابط الأفكار والصور على مستوى أعمق من المستوى السطحي. فبالرغم من أن الكتاب يجمع نصوصًا من كاتبات مختلفات، إلا أن تجربة الألم والمعاناة تتحول إلى مركز الجاذبية، الذي يوحد رسالة الكتاب. نجد في الأبيات السابقة، على سبيل المثال، أن كلمة“أي” في“ليس لديك أي حق في أن تكون” هي الرد على كلمة“كل” التي أوردتها كاتبة أخرى في سياق مختلف، حين قالت:”كل ما كنته، كل ما أردته، كان خطأ، خطأ، خطأ، خطأ” (ص 22). وكأن الشاعرة تنفي عن المعتدي كل الأعذار والتبريرات، التي قد يصورها له ذهنه، و كأنها تعيد صياغة جملة رفيقتها في الألم؛ لتقول للمُعتدي ما فعلته وتفعله“خطأ، خطأ، خطأ” لكن على طريقتها الخاصة.
من مميزات الكتاب – أيضًا – عدم تدخل المحررات بالتعليق أو الشرح للقصص بل ترتيبها على التوالي وبشكل مباشر، الأمر الذي يأخذ القارئ/ ة إلى داخل الحدث مباشرة، ومنه إلى الحدث التالي، وكأنها جلسة حكي علاجي. كما يرد في الجزء الأخير من الكتاب دليل للتوعية بالعلامات التي تنذر بأن شخصًا ما قد يصبح شريكًا عنيفًا في العلاقة، وبكيفية التعامل مع الوضع حال حدوث العنف، بما يحافظ على سلامة الضحية النفسية، والجسدية. رغم أهمية الموضوعات التي يطرحها الكتاب والمساحات الجديدة التي يخترقها، إلا أن استقباله في المجتمعات العربية والإسلامية قد يتعثر بعض الشيء؛ لتصويره علاقات مثلية، أو لأشخاص عابرين للجنس. وهنا نجد أن شبكة العلاقات المتداخلة، التي هي بمثابة متاهة تضيع فيها حقوق الضحية، ويحاول الكتاب رسم الطريق للخروج منها، نجدها تتعقد من جديد بفعل متغيرات جديدة منها: البعد الجغرافي، والثقافي، والديني. مع ذلك، يمكن الاستفادة من التجارب الواردة في الكتاب لفتح النقاش حول مجتمعات النشطاء في مجتمعاتنا على اختلافها. حيث نجدنا أمام أسئلة شديدة الأهمية والخطورة، تمس واقعنا وحياتنا اليومية: هل تشعر الضحية بالأمان عند تقديم شكوى للشرطة أو المحكمة؟ هل يختلف الوضع إذا كانت الضحية ناشطة نسوية، أو سياسية، أو غير ذلك؟ هل يجرؤ الرجل على التحدث عن تعرضه للإساءة في علاقة زوجية، أو عاطفية؟ هل تمنح الأسرة، أو دائرة المقربين الدعم الكافي للضحية وتجيد الإنصات إليها؟ أم أن هناك ميل للسكوت عن الحق، لا سيما لدى المجتمعات التي لا تتقبَّل فكرة الطلاق، أو الانفصال، لأسباب اجتماعية، أو دينية، أو حتى اقتصادية بحتة؟ هل تجرؤ مجتمعات النشطاء على الاعتراف بأي تجاوزات قد تحدث داخلها ومواجهتها؟ وقد تستمر القائمة إلى ما لا نهاية.
بشكل عام، هذا كتاب مهم، وهادف، وَمِوات للحظة، وصادم، ومثير للجدل في ذات الوقت. إنه تجربة ممتعة – على مستوى الشكل والمضمون – وإن كان مرهقًا نفسيًا لما يعرضه من تفاصيل مؤلمة. تتجلى أهمية الكتاب بشكل خاص في خلقه لقنوات تواصل، ترفع الحرج ووصمة العار عن النشطاء، والمعالجين، الذين كانوا أو ما زلوا في علاقات مسيئة. إن أحد أهم الدروس المستفادة من القصص الواردة هنا، هو أنه ليس هناك من هو معصوم، أو منزه عن أن يصبح معتديًا أو ضحية، حتى هؤلاء الذين يدينون المُعتدين ويساعدون الضحايا. جُل ما نصبو إليه، بحسب ما ورد في مقدمة الكتاب، هو خلق دوائر دعم منزلية (أي داخلية) بحيث لا تضطر الضحية للهرب، أو هجر منزلها، أو الانتقال إلى مكان جديد؛ للخروج من دائرة الاعتداء. الثورة تبدأ من البيت.
داليا يوسف: مدرسة مساعدة بقسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة وباحثة – مترجمة.
(*) Ching-In Chen, Jai Dulani, Leah Lakshmi Piepzna-Samarasinha. Eds. The Revolution Starts at Home: Confronting Intimate Violence Within Activist Communities. AK Press; Second edition (August 30. 2016)