الجدال السياسي والقانوني حول التشويه الجنسي للإناث في مصر
بقلم:
الجدال السياسي والقانوني حول
التشويه الجنسي للإناث في مصر
خمس سنوات بعد مؤتمر السكان
قد يكون من الملائم بعد مرور خمس سنوات على انعقاد مؤتمر السكان والتنمية في القاهرة أن نتوقف قليلاً لنقيم أين وصلنا بملايين الفتيات المصريات اللاتي يمارس عليهن ختان الإناث أو طهارة البنات أو القطع الجنسي للبنات أو التشويه الجنسي للإناث. إذ بغض النظر عن الاسم الذي نطلقه على هذه الممارسة تظل هي نفسها: تهذيب الأعضاء الجنسية للإناث من أجل تكريس رسالة بعينها هى حق المجتمع في التحكم في الحياة الجنسية والمكانة الاجتماعية للنسـاء والبنات. أما النساء أنفسهن فيبدوا أنهن يدافعن عن هذه الممارسة بل ويلعبن دورًا فى ممارستها. ذلك لأن الأمر يتجاوز مسألة التشويه الجنسي إلي إدراك النساء لدورهن فى العالم. في مؤتمر السكان انتزعت المنظمات غير الحكومية لنفسها مكانًا فعبرت عن رأيها فى قضايا مثل الحقوق الإنجابية والإجهاض والتشويه الجنسي للإناث والتي كانت كلها موضوعات تحفز المناقشات والمناظرات الساخنة. منذ ذلك الوقت أصبحت قضية ختان الإناث قضية ذات طابع سياسي تعكس طيفًا من وجهات النظر الخاصة بوضع النساء والقضايا النسوية. وأصبحت قوة العمل المناهضة لختان الإناث مرجعًا للنشاط من أجل مناهضة ختان الإناث. إن نشاطنا قد اتخذ منحًا جديدًا إذ أصبحت حقوق الإنسان وحقوق المرأة قضايا مركزية مرتبطة بالأبعاد الصحية والتنموية المتعلقة بقضية ختان الإناث. طالما كانت ممارسة ختان الإناث واسعة الانتشار في مصر. قد تكون شهدت فترات من الانحسار أو الزيادة، كما كانت بعض المناطق الجغرافية التي لم تشهد أي تغيير بهذا الشأن تبعًا لموقع هذه المناطق وتأثرها بالمتغيرات السياسية والاجتماعية في البلاد.(1) بالإضافة إلى تلك الممارسات التي تتضمن استئصال بعض الأعضاء الجنسية نجد ممارسات أخرى في تونس والمغرب رغم أنها لا تتضمن استئصالاً فعليًا للأعضاء إلا أنها تستهدف في النهاية غرس نفس الفكرة في عقول البنات: إن أجسادهن خطيئة وخطيرة، وإنهن ملكية اجتماعية، وإن انصياعهن للقيم الاجتماعية السائدة مرتبط بإحساسهن وعلاقتهن بأجسادهن. إن بعض الأبحاث تشير إلى أن عددًا من الأمهات اللاتي لم يتم ختانهن شخصيًا ينوين أو قد قاموا بالفعل بختان بناتهن مما يشير إلى أن الممارسة قد شهدت تغيرات في معدلها في التاريخ المصري المعاصر. (٢) المعنى السياسي للتشويه الجنسي للإناث من الهام أن نعمل على تحليل التناقض الحاد الذي دار حول قضية التشويه الجنسي للإناث وذلك من خلال البحث في علاقته بوضع النساء في المجتمع والأسباب التي جعلت المجتمع محصنًا ضد الشعور بعنف هذه الممارسة ومن ثم قراره بالتعايش معها، بل وأحيانًا الدفاع عنها. ولئلا أعطي انطباعًا بأنني في حالة تصالح مع الممارسة أشعر أنه من الضروري في بداية هذه الورقة أن أؤكد أنني أدين ممارسة التشويه الجنسي للإناث وأعتبرها فعل عنف ضد النساء يسعى إلى التحكم في حياتهن الجنسية أو على الأقل يسعى إلى توصيل رسالة تحمل هذا التحكم والسيطرة. أتصور أنني أفهم أسباب انتشار هذه الممارسة ولكنني لا أقبلها بنفس المعنى الذي أرفض فيه عمالة الأطفال ولكنني لا أستطيع أن أدين العائلات التي ترسل أبنائها إلى العمل من أجل بعض قروش إضافية يقضون بها الحاجة ويحاولون بها التغلب على آلام الفقر والجوع. وأتصور أن هذه معادلة واضحة. لكن ما قد يبدو غير مفهوم في حالة التشويه الجنسي للإناث هو أن النساء أنفسهن يبدون وكأنهن يدافعن عن هذه العادة المؤلمة بل وقد يلعبن دورًا في ممارستها على الأخريات فيما يبدو حالة نكران كاملة للآثار العنيفة المترتبة عليها سواء جسديًا أو نفسيًا، ومن ثم فإن هناك من يصف التشويه الجنسي للإناث بأنه نوع من العنف تمارسه النساء على النساء. (3) لكن هذا هو حال كثير من العادات والتقاليد التي تتناقلها الأجيال عبر الزمان. لماذا تعرض النساء أنفسهن لهذه الآلام إلا لو كانت هناك أسباب محتجبة وراء هذا الانصياع المعلن للنسق الاجتماعي السائد.(٤) هل لهؤلاء النساء منطق هن الخاص بهن، منطق المضطهد الذي يحاول التعامل مع اضطهاده دون مواجهته؟ من الضروري أن نفهم تلك الآليات النفسية. كما يجب أن تكون هي بمثابة المؤشرات التي نهتدي بها حين نضع استراتيجيات لمقاومة هذه الممارسة. إن العمل مع النساء حول موضوع ختان الإناث قد أوضح لنا عددًا من التناقضات في المنطق الذي تستند إليه الممارسة. بعض الدراسات الميدانية التي قام بها مركز دراسات المرأة الجديدة في القاهرة تحضيرًا لمؤتمر السكان والتنمية (١٩٩٤)(٤) وكذلك تلك الدراسة التي شارك فيها نفس المركز حول إدراك النساء لحقوقهن الإنجابية (IRR – RAG)(3) تشير إلى سببين أساسيين تعطيهما النساء لتفسير ختان بناتهن، الأول هو أن ختان الإناث يقلل من الفورة الجنسية للفتيات ومن ثم يساعد البنت في الحفاظ على عذريتها لحين زواجها، والسبب الثاني هو أن ختان الإناث يعجل من نضج الفتيات ويساعدهن على اكتساب أنوثتهن كاملة. وتتفق معظم النساء على أن ممارسة ختان الإناث هي ممارسة شديدة الألم ومع ذلك فإنهن يعتبرونها من طقوس الدخول إلى مرحلة الأنوثة. أما الأسباب الأخرى فتضمنت اعتبارها عملية تجميل وأنها تحول دون كبر حجم البظر بحيث لا يصبح في حجم القضيب كذلك تعتقد الكثيرات أن الدين قد أمر بهذه الممارسة أو على الأقل أوصى بها، لكن ذلك السبب جاء في المرتبة الثانية من حيث الأهمية بعد العادات والتقاليد. إن هذا الدعم الاجتماعي لممارسة ختان الإناث يعكس عددًا من التعقيدات والمتناقضات جديرة بأن تلفت الانتباه. فالنساء يفترض فيهن كونهن الطرف الأضعف بين الجنسين والأكثر انصياعا للجنس الآخر ومن ثم فالمفترض أن يكونوا هم الأسهل في السيطرة عليهن والأقل مصدرًا للخوف منهن. ومع ذلك فما الداعي لكل هذه الرغبة في السيطرة على من هو فعليًا أضعف؟ وهل يتم قمع الأطراف الأضعف عن طريق ختان الإناث على اعتبار أنهن أقوياء؟ أم إنه من الضروري أن تبتر الأعضاء الجنسية الخارجية للمرأة في بداية حياتها، ذلك الكائن القوي قوة يمكنها أن تهدد السلام والاستقرار الاجتماعي، من أجل توصيل رسالة واضحة في سن مبكرة تقول للمرأة: يجب أن تتم السيطرة عليك والتحكم فيك. الغريب في الأمر إنه رغم أن المقصود بختان الإناث أن يحكم السيطرة على الحياة الجنسية للمرأة قبل الزواج، إلا أن نفس تلك المرأة ينتظر منها أن تتفاعل مع زوجها وأن تشبعه وتستمتع معه جنسيا بعد الزواج، بل إن النساء المصريات يشعرن بحقهن في المتعة على أزواجهن ويجد الرجال غير القادرين على ذلك أنفسهم في موقف شديد الحرج تجاه نسائهم. وقد ذكرت غالبية النساء اللاتي تناولهن بحثنا أنهن يستمتعن بعلاقتهن الحميمة مع أزواجهن بل إن نسبة كبيرة منهن يرفضن وجود أي فروق ما بين النساء المختنات وغير المختنات فيما يتعلق بالقدرة على الاستمتاع الجنسي. على الجانب الآخر قال عدد من الرجال إنه من الصعب إشباع رغبة المرأة غير المختنة ومن ثم فإنهم يفضلون الزواج من امرأة مختنة (5). مرة أخرى يطرح السؤال نفسه: من يخاف من من في مثل هذه العلاقة؟ رغم إن المفترض في ممارسة ختان الإناث أنه يحافظ على فضيلة البنات ويحمي النساء من فعل الخطيئة إلا أن الأمهات التي قابلناها في بحث الحقوق الإنجابية (۳) أكدن على أن ختان الإناث وحده ليس كافيًا لحماية بناتهن من الخطأ. فبالإضافة إلى ختان بناتهن تتخذ تلك الأمهات الإجراءات الخاصة بهن ويضعن ما يرين من القواعد لتربية بناتهن للتأكد من سلوك البنات بما يتضمنه ذلك من تحديد الملبس والحد من الاختلاط مع الجنس الآخر. ولا تطبق هذه القواعد بالنسبة للأولاد حيث إن العرف يقول بأن يجب التحكم في سلوك البنات على حين يصعب التحكم في سلوك الأولاد إذا ما استثيروا جنسيًا. مرة أخرى نجد أنفسنا أمام منطق يبدو متناقضًا مع الاعتقاد السائد بأن الرجال أكثر تحكمًا في مشاعرهم من النساء وأن قراراتهم ونسق تفكيرهم يتسم بموضوعية أعلى منهن. لكن حين يتعلق الأمر بالعذرية والعفة لا ينتظر المجتمع من الرجال أن يتحكموا في مشاعرهم أو سلوكهم وإنما يفضل في تلك الحالة أن تحمل المرأة مسئولية الحفاظ على تلك العفة ومقاومة محاولات الرجل التقرب منها. تناقض جديد: الطرف الأقوى غير قادر على التحكم في تصرفاته والطرف الأضعف عليه الأخذ بزمام الأمور. العجيب أن الرجال يقبلون هذا المنطق، رغم ما تتضمنه تلك الصورة الاجتماعية عن الرجال من إهانة بالغة لهم: صورة الإنسان الذي لا يستطيع التحكم في رغباته ويمكنه أن يتجاوز حدوده في أي لحظة إذا أثارته امرأة. إن قلة من الرجال هي التي ترى هذا الجانب من الصورة الاجتماعية المرسومة لهم. أم هل هي عدم الرغبة في التنازل عن حقوق مكفولة لهم منذ لحظة الميلاد؟ إن تحليل هذا المنطق الذي يخاف قوة الضعيف هو أمر هام في تناول قضية التشويه الجنسي للإناث. ذلك أن تلك الرغبة في السيطرة تفترض شيئين: أولاً، إن الختان يتحكم فعليًا في الرغبة الجنسية للمرأة، وثانيًا إنه من الواجب التحكم في هذه الرغبة الجنسية لأنها يمكن أن تكون مصدرًا للخطر. لو لم تكن النساء مضطهدات في أكثر من مجال آخر يدلل على تعامل المجتمع معهن كمواطنات من الدرجة الثانية لكاد هذا الخوف من خطر النساء أن يكون مصدرًا لفخرهن. لكن الأمر هنا لا يتعلق فقط بالحماية من الخطيئة لكنه أمر يتعلق بالحفاظ على الشرف وحين يتعلق الأمر بالشرف لا يقتصر دور النساء المصريات على موافقتهن أن يتحملن المسئولية فحسب بل قد يشعرن أيضًا بالفخر بأن أوكلت لهن تلك العهدة الغالية. وهن في ذلك لا يحافظن على شرفهن وحدهن بل هو أيضًا شرف عائلاتهن وقبيلتهن ووطنهن. من ناحية أخرى نجد أن قبول النساء لعملية التشويه الجنسي للإناث كثيرًا ما يرتبط بتفسيرات لهذه الممارسة تقاوم ما فيها من عنف وقهر، يحاولن من خلالها أن يُحسن من شروط تفاوضهن الاجتماعي مع الرجال. فقد قالت بعض النساء أن تقليل رغبتهن الجنسية تجعلهن أكثر قدرة على التعامل مع إخفاقات الزوج في إشباعهن جنسيًا. كما أنها تجعلهن لا يتأثرن كثيرًا بسلوك الزوج الجنسي في حالة البعد أو الهجر مثلاً. إن كونهن مختنات يجعلهن أكثر قدرة على التعامل مع هذه المواقف التفاوضية، خاصة وأنهن الحاملات لشرف الأسرة.(3) من الجدير بالاهتمام أن تلاحظ أن النساء التي تم ختانهن في الطفولة ثم التحقن عند الكبر بالحركة النسائية وأصبح لهن توجه نسوي، يدركن ختانهن بأثر رجعي على أنه فعل عنف شديد. إن في ذلك ما يشير مرة أخرى إلى أن ما نحن بصدده يتجاوز التشويه الجنسي وإنما يرتبط في الأساس بإدراك الإنسان لدوره الاجتماعي في الحياة وصورته الذاتية عن نفسه. إن تلك الصورة الذاتية عن النفس قد شهدت عددًا من التعديلات في العقود الأخيرة في مصر.لقد تبين لنا تعقيد العوامل التي تملي ممارسة التشويه الجنسي للإناث وتحافظ على استمرار تلك الممارسة في كل مرة كنا نعمل فيها على إقناع النساء بالتوقف عنها. فالنساء لهن منطقهن الخاص في ذلك الأمر. أنهن ضحايا لعنف لا يدركنه على أنه عنف ومن ثم لا يرين ضرورة في تغييره. ثم أنهن يرين أن إدراكهن وممارستهن في حياتهن الجنسية لا علاقة لها بالتشويه الجنسي للإناث، الذي تعرضن له كلهن تقريبًا، وإنما يتعلق بعلاقتهن بأزواجهن الذين يمارسون معهم تلك العلاقة الجنسية.
في تلك الأوقات التي نتصور أن ممارسة التشويه الجنسي للإناث قد انخفضت فيها، لم يختفِ فيها هذا النزوع نحو التحكم في الحياة الجنسية للنساء لكنه لم يكن أولوية ضمن القضايا النسائية المطروحة على المجتمع. فمنذ الخمسينات وحتى أوائل السبعينات كان غالبية المصريين ملهمين بمشروع وطني تقدمي كان يحتاج إلى جهد ومشاركة كافة المواطنين، رجالاً ونساء. في ذلك الوقت كان خطاب الدولة يتضمن حق النساء في المساواة كما كان يركز على دور المرأة في التنمية وفي تحقيق المشروع الوطني. أما التحكم في السلوك الخاص للنساء فقد ترك في أيدي الأسرة ولم تتناوله الدولة إلا في حدود ما كان يتماس مع السياسة العامة مثلما هو الحال في تشريعات الأحوال الشخصية. لم يكن السلوك الشخصي للنساء موضوعًا وطنيًا ذا أهمية ولم يكن مصدرًا للهوية الوطنية كما لم يكن موضوعًا للتناحر والجدال الدائم في وسائل الإعلام أو البرلمان أو فيما بين المؤسسات السياسية المختلفة.
وقتها كان المنطق الذي يتم به تناول التشويه الجنسي للإناث هو المنطق الصحي بمعنى التركيز على المخاطر الصحية للممارسة مثل النزيف والتلوث والألم. وكانت النساء، وأغلبهن مختنات، وأغلبهن يتمتعن بصحة جيدة للغاية، يجلسن في تلك الندوات ويستمعن إلى مخاطر النزيف والتلوث الخطير والولادات الصعبة والحياة الجنسية الباردة التي تنتظر الفتيات المختنات في مستقبلهن. لكنهن لم يتعرفن على أنفسهن في صور تلك النساء التي كان الحديث يدور بشأنهن. فحياتهن ليست كذلك، وقد يفسر ذلك استمرار انتشار تلك الممارسة رغم عقود من العمل الجاد من قبل العديد من الأفراد والمنظمات من أجل وضع حد لهذه الممارسة.
لقد كان مؤتمر السكان والتنمية الذي عقد في القاهرة في سبتمبر ١٩٩٤، نقطة تحول في منهج التعامل مع قضية التشويه الجنسي للإناث.
ففي الأعمال التحضيرية للمؤتمر كان موضوع التشويه الجنسي للإناث أحد الموضوعات التي أثارتها عدد من المنظمات غير الحكومية، بعضها تناولها من منظور صحي والبعض من منظور نسوي والبعض الثالث من منظور الحقوق الإنجابية ومنطق الحق في الاختيار. وقد كانت هذه أول مرة منذ عقود طويلة تتمكن فيها المنظمات غير الحكومية المصرية من العمل معًا وعقد الاجتماعات وتنظيم اللقاءات والمناقشات حول الموضوعات التي يعملون حولها بما في ذلك الموضوعات التي يختلفون بشأنها. وقد كانت هذه فرصة نادرة حيث إن المناخ السياسي في مصر لا يسمح في العادة بهذا التفاعل بين المنظمات غير الحكومية.
فالمجتمع المدني المصري تتحكم فيه قوانين وقواعد إضافة إلى الحالة الدائمة من فرض قوانين الطوارئ ووهي كلها تمثل عائقًا حقيقيًا في سبيل خلق حركة مستقلة في المجتمع المدني. ويمكن القول إن الحكومة المصرية اضطرت للسماح بهذه المساحة من الحركة للمنظمات غير الحكومية في أثناء التحضير للمؤتمر حيث إنها كانت حريصة على انعقاد ذلك المؤتمر الدولي في مصر في محاولة لإحياء الحركة السياحية في البلاد ولتحسين صورة مصر، خاصة وأن الحكومة المصرية كانت تشعر إن تلك الصورة قد تم تشويهها بواسطة الإعلام الغربي وتقاريره عن النشاط الإرهابي في البلاد.
لقد كانت الحكومة المصرية عاقدة العزم على عقد مؤتمر ناجح متحدية كل ادعاء بأن البلاد مهددة بالإرهاب كما أنها كانت عاقدة العزم على جذب الدعم الخارجي لمساعدتها على تطبيق سياساتها السكانية. ورغم أن ممثلي الحكومة المصرية قد شاركوا أيضًا في النقاشات الساخنة. التي دارت حول قضايا الحقوق الإنجابية إلا أن اهتمامهم كان في الأغلب مركزًا على المعونة التنموية والالتزامات المالية والعقبات التي تواجه تطبيق السياسة السكانية للبلاد.
كذلك كانت هناك أطراف أخرى تعمل تحضيرًا لهذا المؤتمر. فقد شن الأزهر وهو أكبر مؤسسة إسلامية في العالم الإسلامي ومقره القاهرة، شن حملة شديدة على لا أخلاقية الموضوعات التي سوف يتناولها مؤتمر السكان بل والتقى مع الفاتيكان في أكثر من موقف بخصوص هذه القضايا مجسدًا شكلاً جديدًا للتضامن بين المؤسسات الدينية الرسمية في مواجهة الحقوق الإنجابية للمرأة.
لقد كان مؤتمر السكان والتنمية فرصة للدخول في مناقشات حول القضايا واستراتيجيات التنمية سواء على المستوى القومي أو على مستوى المجتمعات المحلية. وتحققت في هذا السياق بعض الإنجازات. فيما يخص مركز دراسات المرأة الجديدة كان المؤتمر فرصة هامة لتقديم وجهة نظره بشأن قضايا النساء في السياق المصري ولم يقتصر ذلك التصور على دور العادات والتقاليد والآثار المترتبة على صعود تيار الإسلام السياسي بل تناول أيضًا تأثير السياسات السكانية على النساء وقضايا المجتمع المدني المصري.
لقد كانت موضوعات مثل الحقوق الإنجابية والإجهاض والتشويه الجنسي للإناث موضوعًا للنقاشات الساخنة وفي بعض الأحيان المواجهات العنيفة أثناء المؤتمر. ففي كل جلسة كان عنوانها يتضمن كلمة ” الإنجابي ” كان عشرات من الناس، رجال ونساء، يتوافدون على القاعة ويهاجمون لا أخلاقية المتحدثين. لقد كان خطابهم يهاجم ” مؤامرة اختراق لعاداتنا وتقاليدنا وثقافتنا وأعرافنا من قبل أجندة غربية تسعى إلى إلغائنا كأمة. ” لسنا بحاجة للقول إن تلك كانت اللغة التي كانت أكثر جذبًا لوسائل الإعلام وخاصة الإعلام الغربي. فلم يحتاج الأمر سوى إلى رجل ملتحٍ أو امرأة ترتدي الحجاب، يقف أيهما حاملاً يافطة تقول ” لا للإجهاض ” ليكون ذلك كافيًا لجذب نصف دستة من الصحفيين يرغبون في إجراء الأحاديث أو التصوير. وكان من الملفت للنظر أن هؤلاء ” النشطاء ” المحافظين كانوا على أتم الاستعداد للتعاون مع نفس الشياطين الغربية الذين كانوا يهاجمون تدخلهم في شئوننا في خطبهم داخل القاعات.
في هذا الجو المشحون جاء فيلم (السي. إن. إن) مصورًا ختان فتاة مصرية صغيرة، حيث تم التصوير في أثناء أسبوع المؤتمر ذاته. في اليوم السابق على ذلك قامت الحكومة المصرية ممثلة برئيسها ووزير الصحة وقتها بتصريح يفيد بأن ختان الإناث ممارسة نادرة في مصر وأنها في طريقها إلى الاختفاء. إن الدافع وراء عرض الفيلم يظل حتى هذه اللحظة محاطًا بالعديد من علامات الاستفهام بالنسبة لنا، لكن إذاعة الفيلم في ذلك الوقت كانت بمثابة إحراج كبير للحكومة المصرية ومن ثم اضطرت إلى عمل تصريح برفض الممارسة والوعد بالتشريع ضدها. لكن هذه الوعود لم تكن موجهة للرأي العام المصري بقدر ما كانت موجهة للمجتمع الدولي حيث كان الاحتياج الملح في تلك اللحظة هو كسب دعم المجتمع الدولي وتحسين صورة مصر على المستوى العالمي.
إن ذلك التشريع الموعود به لم يكن محل اتفاق ما بين المنظمات النشطة في مقاومة التشويه الجنسي للإناث في مصر أو تلك العاملة في مجال الحقوق الإنجابية أو حقوق المرأة. فالتشريعات الصادرة من جهات حكومية، خاصة إذا ما مست الحياة الشخصية للناس قد تستدعي من العداوة أكثر مما تستدعي من احترامك القانون خاصة في ظل المستوى المنخفض من الثقة القائم بين الشعب المصري وحكومته. ومن ثم فقد كانت فترة ما بعد مؤتمر السلام شاهدًا على ردة فعل عنيفة لبرنامج المؤتمر، زاد من حدتها ذلك العنصر الغربي الموجود في المؤتمر والذي كان بمثابة الحجة المستخدمة دومًا للحول دون تحقيق أي تقدم على جبهة الحقوق الإنجابية للمرأة.
عندما انتهى المؤتمر عادت المنظمات غير الحكومية إلى روتين عملها اليومي وإن كانت لا تزال متأثرة بروح التفاعل وحرية الحركة النسبية التي ميزت الأنشطة التحضيرية للمؤتمر وفترة انعقاده. لكن على جبهات أخرى عديدة لا بد من ترتيب البيت من الداخل. بالنسبة للحكومة كان يجب لهذه المساحة التي سمح لها للمنظمات غير الحكومية قبل وأثناء المؤتمر أن تختصر مرة أخرى لتعود إلى ما كانت عليه وقد عملت الحكومة المصرية جاهدة في هذا الاتجاه.
بالنسبة للمؤسسات الدينية كانت فترة ما بعد المؤتمر فرصة لتسوية الحساب مع الحكومة حول عدد من التصريحات التي صدرت عن الأخيرة، ولاختبار قوتها من أجل التأكيد على مساحة جديدة اكتسبتها أثناء المؤتمر. وقد كانت المنظمات الإسلامية حريصة على وجه الخصوص على ألا تنجز المنظمات النسائية أي نجاح قد يلهم النضال من أجل إحراز نجاحات أخرى في مجال حقوق النساء.
ومن ثم فقد شنت حملة متعددة الأطراف ضد أي محاولة للقضاء على عادة التشويه الجنسي للإناث. وقد كانت تلك الحملة عنيفة في شجبها لتلك المحاولات كما كانت مشحونة عاطفيًا بشأن الثقافة والعادات والتقاليد والقيمة الدينية لختان الإناث. وذلك رغم أن الأزهر ووزير الصحة يعلمون جيدًا أن ممارسة ختان الإناث لا تستقي جذورها من الدين الإسلامي حيث إنها تمارس من قبل المصريين جميعًا مسلمين وأقباط. ومع ذلك فقد تم تصوير ختان الإناث على اعتبار أنه عادة تمثل مكونًا هامًا من الهوية المصرية، إلى جانب كونها جزءًا من ميثاقنا الأخلاقي في مواجهة النسق الأخلاقي ” المفروض ” علينا من الغرب. ومن ثم كانت المعركة بين نمطين نظريين من وحي الخيال غير متحققين في الواقع.
وقد كانت تلك الحملة مليئة بالتناقضات، يأتي على رأسها التناقض الكامن في نظرية ” الغسيل القذر ” والهوية الغالية. ذلك أن بعض المدافعين عن عادة ختان الإناث كانوا يشيرون إليها على إنها التزام ثقافي واجتماعي وديني يريد ” الآخرون ” القضاء عليه ومحوه. لكنهم في نفس الوقت يتهمون من يتناولون هذه القضية بأنهم يكشفون “غسيلنا القذر” على الآخرين الذي لا بد وأن يظل مستورًا. بل إن واحدًا من أطباء أمراض النساء والولادة المصريين المعروفين أولى بتصريح للصحافة قال فيه إن الحديث علانية عن ختان الإناث هو انتهاك للنسق الأخلاقي للمجتمع. إن هذا التناقض بين تحميل هذه الممارسة كل هذه القيمة الأخلاقية من ناحية ومن ناحية أخرى السعي إلى التستر عليها لا يحتاج إلى تعليق.
لكن الأزهر والمنظمات الإسلامية الأخرى كانت تدرك التأثير القوي لهذا الخطاب على الرأي العام، خاصة فيما يتعلق بالدفاع عن التقاليد والهوية. إن أحد العناصر المركزية في ذلك الخطاب هو اضطهاد وحجب النساء، وقسرهن داخل منازلهن وإخلائهن من الحياة العامة بل وحتى تعنيف أجسادهن.. كل ذلك كان يتم تقديمه على اعتبار أنه أحد سيل مقاومة الهيمنة والسيطرة الغربية.
بعد ذلك بعام جاءت نتائج المسح الصحي الديمغرافي لعام ١٩٩٥ لتفيق الجميع وتعلن للمرة الأولى أن ۹۷% من النساء المصريات المتزوجات ما بين سن ۱۰ و49 مختنات (2) مما أعطى قضية النشوة الجنسي للإناث بعدًا قوميًا بدلاً من كونها ممارسة هنا أو هناك. وقد كانت تلك النتائج بمثابة حافز لعدد من المنظمات لإعادة النظر في المدخل الذي تتناوله في مقاومتها لختان الإناث. فلم يعد الأمر يتعلق بممارسة خاطئة وإنما بممارسة شاملة تكاد تكون هي القاعدة.
أما بالنسبة للأصوليين فقد كان خطابهم العلني يقول بأن الحفاظ على ممارسة ختان الإناث بمثابة نوع من مقاومة الهيمنة. لكننا نتصور إن ذلك التوجه كان له بعد غير معلن. الحكومة تقول إننا سوف نقضي على ختان الإناث والمؤسسات الإسلامية تقول بل لا بد وأن يستمر ولا أتصور أن المعركة بينهما كانت في الحقيقة تدور حول ختان الإناث أصلاً، وإنما حول مدى تأثير خطاب كل منهما ومن له الكلمة المسموعة في البلاد. وقد كان اختيار أرض تلك المعركة اختيارًا ذكيًا، حيث أنها تمت على أرض ممارسة لا يمكن تغييرها بالقرارات أو القوانين ولأن أي خسارة في تلك المعركة ما كانت لتصبح خسارة فادحة ثم إن الغالبية العظمى من المواطنين لم يكونوا على علم من الأصل بمؤتمر السكان والتنمية ولا ما يدور فيه ومن ثم فإن نتاج المعركة سوف يكون بمثابة رسالة موجهة للأطراف المتصارعة فحسب.
وقد كانت تلك الرسالة واضحة للغاية بالنسبة للحكومة. فقد استجاب وزير الصحة عندئذ لهذا الجدال بأن جمع لجنة من الخبراء أصدرت بيانًا قويًا بشأن مخاطر التشويه الجنسي للإناث، خاصة على أيدي غير المتخصصين أو المدربين. واستنادًا إلى هذا التصريح أصدر وزير الصحة لأول مرة في تاريخ مصر قرارًا يسمح بممارسة التشويه الجنسي للإناث بأيدي الأطباء تحت دعوى أن ” تطبيب ” ختان الإناث سوف يؤدي في النهاية إلى وضع حد له ورغم المقدمة الطويلة التي سبقت القرار والتي عددت مضار ختان الإناث إلا أن ذلك القرار كان تراجعًا عن الموقف السابق المعلن من قبل الحكومة.
جدير بالذكر أن المؤسسة الطبية تعد من أكثر المؤسسات محافظة في مصر. فالأعداد الهائلة من الأطباء غير المدربين تدريبًا كافيًا والذين يعانون من انخفاض أجورهم والإمكانيات التي يعملون في إطارها تكاد لا تملك الوقت ناهيك عن الرغبة في أن تولي أي اهتمام بحق النساء في اتخاذ القرار بشأن أجسادهن أو إنجابهن أو صحتهن. ثم أنه حين يكون شغل الطبيب الشاغل هو زيادة دخله فإن ذلك القرار يصبح مواتيًا جدًا لإضافة مصدر جديد للدخل على حساب النساء ذلك أن القرار كان يحدد أتعاب الطبيب بعشرة جنيهات مصرية لكل ختان للإناث.
بالنسبة لوزير الصحة كان القرار بمثابة حل للمخاطر الصحية المترتبة على ختان الإناث وذلك باستخدام التخدير والمضادات الحيوية. ومع ذلك فإن وفاة عدد من الفتيات اللاتي تم ختانهن في المستشفيات أثار حملة عنيفة ضد القرار الوزاري وفي خلال شهور تم التراجع بهدوء عن ذلك القرار.
بعد ذلك بشهور تم إلغاء وزارة التنمية والسكان وأسندت مهامها إلى وزارة الصحة وعين وزير جديد. وقد توجهت المنظمات غير الحكومية إلى الوزير الجديد مطالبة إياه باتخاذ موقف صارم من ممارسة ختان الإناث ومن ثم فقد أصدر قرارًا جديدًا يمنع ممارسة ختان الإناث سواء بواسطة الأطباء أو من هم من خارج المهنة. وقد تم مقاضاة الوزير بشأن هذا القرار من قبل بعض الأطراف الإسلامية الذين ادعوا أن قراره غير دستوري ويتجاوز سلطاته كوزير للصحة. ورغم أن الوزير قد خسر قضيته في المستوى القضائي الأول إلا أنه كسب استئنافه ومن ثم تم تنفيذ هذا المنع منذ عام ١٩٩٧.
لقد كان حكم الاستئناف هزيمة كبيرة بالنسبة للمدافعين عن ختان الإناث فقد ورد في الحكم أن القانون المصري يتضمن فعليًا من النصوص ما يجرم ختان الإناث ومن ثم فلا توجد حاجة لمزيد من القوانين بهذا الشأن وهو الموقف الذي كانت أعلنته قوة العمل المناهضة لختان الإناث في إعلانها الذي أصدرته يوم ١٠ ديسمبر ١٩٩٦. ومع ذلك فإن القرار الوزاري الجديد لا زال يحمل في نصه ثغرة خطيرة حيث يسمح لرؤساء أقسام أمراض النساء والولادة بالسماح بإجراء ختان الإناث في الحالات التي تستدعيها الضرورة. وحيث إنه لا توجد أي ضرورة طبية تستوجب ممارسة التشويه الجنسي للإناث فإن هذه الثغرة لا زالت تسمح بهذه الممارسة.
لقد أصبحت قضية ختان الإناث منذ مؤتمر السكان والتنمية قضية عالية التسييس ويعكس الموقف منها طيفًا واسعًا من المواقف السياسية من القضايا النسائية والنسوية. فبالإضافة إلى مواقف الحكومة والأطباء والمؤسسات الدينية المحافظة هناك عدد من الأفراد والمنظمات العاملة في مقاومة هذه الممارسة يطرحون تفسيرًا متقدمًا للنص الديني يرفض تلك الممارسة ويبرز ختان الإناث على اعتبار أنه انتهاك لحقوق الإنسان وحقوق المرأة. ومن أجل التنسيق فيما بين هذه الجهود قام هؤلاء الأفراد والجماعات بتأسيس قوة عمل لمناهضة ختان الإناث وكان ذلك في عام ١٩٩٤.
” منذ الخمسينات كانت هناك جهود متفرقة تعمل على مقاومة هذه الممارسة لكننا نعلم أن الجهود المتفرقة لا تؤتي النتائج المطلوبة.. وشعرنا أنه ما لم نعمل على خلق حركة تتوجه إلى القضايا الأساسية المرتبطة بالموضوع فإن شيئًا لن يتغير “.(6) وكانت ماري أسعد هي منسقة قوة العمل، وهي نشيطة ومناضلة مثابرة من أجل القضاء على عادة التشويه الجنسي لختان الإناث لعدد كبير من السنوات حيث انخرطت في أعمال البحث والتوعية العامة وتنظيم الحملات والتشبيك والتدريب على كيفية تناول الموضوع. وقد قامت قوة العمل بتأسيس مركز للموارد بشأن موضوعات ختان الإناث والعنف ضد النساء وكان المركز مفتوحًا لكل من يرغب في الحصول على معلومات بشأن هذه القضايا أو يرغب في الاتصال بنشطاء آخرين ومن ١٩٩٤ أصبحت قوة العمل المناهضة لختان الإناث بمثابة مظلة تنسيقية ونقطة مرجعية للعمل في مناهضة ختان الإناث في مصر.(7)
بعد مؤتمر السكان اتخذ تناول قضية ختان الإناث اتجاهًا جديدًا، إذ أدرج فيه منظور حقوق الإنسان وحقوق المرأة في ترابط مع المنظورين الصحي والتنموي، ولم يكن هذا التغيير في التوجه بالأمر السهل ذلك أنه تضمن مجهودًا من أجل التحليل المعمق في أسباب الممارسة والدوافع وراءها. إن المعارضين لنشاطنا لم يكن دافعهم الوحيد هو الحفاظ على التقاليد بل كانوا أيضًا يعملون بعد من أجل الحول دون أي تغيير إيجابي في موازين القوى القائمة، سواء بين الحكومة والمنظمات غير الحكومية أو بين الجماعات الدينية والعلمانية أو بين الرجال والنساء. وكانوا يسعون إلى الحفاظ على علاقات الهيمنة السائدة وإنكار كل حق للنساء في تقرير مصير حياتهن.
ثم إن عددًا من المنظمات النسائية المصرية اتخذ موقف الصمت إزاء القضية برمتها تحت دعوى أن هناك جبهات سياسية أخرى أكثر أهمية يجب النضال بشأنها. لكننا نرى أن الصراع السياسي الذي دار حول قضية ختان الإناث أصبح يحدد موقع الأطراف من قضايا المرأة في مصر. فهو يتضمن النضال من أجل تحقيق مكاسب ديمقراطية للبدايات الجديدة للحركة النسائية في مصر، التي هي في أشد الحاجة إلى التعبير عن منظورها الخاص عن الأشياء وأن تقول كلمتها بشأن العادات والتقاليد بدلاً من أن يملى عليها تلك المواقف من قبل قوى سياسية أخرى، وهو ما تدفع النساء أنفسهن ثمنه في النهاية من لحمهن الحي، سواءً عن طريق الانصياع أو المقاومة.
ختان الإناث من منظور
حقوق الإنسان وتقرير المصير
لسنا بحاجة لأن نقول إن تناول القضية من هذا المنظور يحتاج إلى كافة أشكال الدعم والتضامن. ومع ذلك فإن الدعم الخارجي في هذا الشأن يجب أن يدعم الجهود المحلية لا أن يعوقها أو يهددها أو أن يمثل عبئًا إضافيًا عليها.
لا نتصور أن قضية واحدة قد حازت اهتمام المجتمع المدني العالمي مثل قضية التشويه الجنسي للإناث وهو أمر نرحب به ونقدره.، لكن الأمر لم يخلُ في بعض الأحيان من بعض الأشكال ” الغريبة ” للتعبير عن هذا التضامن.
قد يكون مرجع الغرابة لبعض أشكال التضامن هذه كامنًا في الطبيعة المعقدة للموضوع نفسه والذي قد يبدو خاليًا من أي منطق بالنسبة لمراقب من الخارج. لكن بعض التصريحات العالمية ومحاولات التدخل العالمي قد أضعفت أكثر مما دعمت جهود مناهضة ختان الإناث في مصر.
إن النضال ضد ختان الإناث من وجهة نظرنا يتضمن تحسين وضع النساء وتمكينهن من حقهن في اتخاذ القرار بشأن حياتهن ولا يتضمن الدخول في حرب مع هؤلاء النساء اللاتي يقمن بختان بناتهن. ذلك أن هؤلاء النساء، سواء اللاتي يختن أو اللاتي لا يختن بناتهن هن جيش هذه المعركة. فهن في كل يوم يقمن بعمل اختيارات تستند إلى احتياجاتهن هن، اختيارات تسمح لهن بالتعايش الاجتماعي تبعًا لما يملكونه من دعم اجتماعي وسياسي في أثناء اتخاذهن هذه الاختيارات.
ومن ثم فإننا طوال الوقت نبذل جهدًا من أجل التوضيح للآخرين أن النساء اللاتي يختن بناتهن لسن نساء متوحشات أو مصاصي دماء، وأن مهاجمة هؤلاء النساء لن يترتب عليه سوى ردة فعل دفاعية لدى هؤلاء النساء بل وقد تجعلهن يصرون على الاستمرار في هذه الممارسة ولو من باب معاندة هؤلاء الذين لا يفهمون ظروفهن الاجتماعية ويصرون على إصدار الأحكام جزافًا. بل إنني أجد نفسي أحيانًا في ذلك الموقف العجيب الذي يبرر لممارسة ختان الإناث وهو الموقف الذي تستثيره بعض الدوائر الغربية التي تصر على تبسيط الأمر وتسطيحه وعرضه بكثير من الإثارة وعدم الفهم.
مشكلة أخرى تواجهنا مع بعض التناول العالمي لقضية ختان الإناث يرتبط بمصداقية هذه الجهات في استخدام خطاب حقوق الإنسان. ذلك أن المنظمات الدولية التي ترغب في دعم الجهود المصرية في مقاومة ختان الإناث يجب أن يكون لها موقف منسجم من كافة قضايا حقوق الإنسان المطروحة في مصر ولا يجوز لها أن تتعامل مع الأمر بانتقائية مع ما تود أن تطرحه وما ترغب في تجاهله. فليس بالموقف المتسق على سبيل المثال أن تشعر بعض الجهات الدولية بقلق بالغ إزاء قضية ختان الإناث دون أن يقلقها السياسات الصحية العامة التي تحرم فقراء النساء، وهن الغالبية من نساء مصر، من حقهن الأساسي في الحصول على الرعاية الصحية الأولية في حدودها الدنيا. فالمنظمة التي تدعم خصخصة الخدمات الصحية في مصر تكون في موقف ضعيف جدًا إذا اعترضت على التشويه الجنسي للإناث من منظور حقوق الإنسان.
المثال التالي يتعلق بهذا التهديد الدائم بقطع المعونة عن مصر من باب عقاب الحكومة المصرية على استمرار ممارسة ختان الإناث. إن ذلك لن يدفع ثمنه الشعب المصري فحسب بل سوف يضيف دليلاً جديدًا على صحة ما يزعمه الأصوليون والمؤسسات الأصولية بأن ختان الإناث إنما هو جزء من الهوية المصرية التي يجب الحفاظ عليها ضد العالم الغربي الذي يسعى إلى الهيمنة عليهم. إن هذا الشكل من ” التضامن ” الدولي في قضية ختان الإناث يؤدي في الواقع إلى دعم الممارسة ويزيد من الهيمنة والتحكم في مصائر النساء بشكل عام حيث ينخرط الناس في معركة وهمية من أجل الهوية.
إن مدخل حقوق الإنسان لا مكان فيه لازدواجية المعايير والأحكام المسبقة. فمصداقية الموقف والمحاسبية هي عناصر استراتيجية في هذا النضال وهي الشروط التي سوف نقبل الدعم والتضامن على أساسها. إن منظمات التضامن في الشمال يجب أن تعي الدرس الذي تعلمناه من ردة الفعل التي تلت مؤتمر السكان. فقد اضطرت شعوبنا إلى دفع الثمن باهظًا لتتعلم أن خطاب حقوق الإنسان، في غياب الاتساق وانسجام الموقف. يصبح كاريكاتير يسهل تجاوزه ووصفه بالنفاق.
درس آخر قاسٍ تعلمناه هو أن نساء الشعوب هي عادة من يدفع ثمن إفقار تلك الشعوب وحرمانها من حقها في تقرير المصير، خاصة إذا ما ارتبط ذلك بانعدام القدرة على الدفاع عن النفس. فانعدام القدرة على التحكم في مصير البلاد عادة ما يستبدل بالتحكم في مصير النساء مصحوبًا بتمسك هستيري بهوية زائفة عادة ما تترجم في شكل ملكية أكبر للرجال على أجساد النساء وحياتهن. فإذا أراد أصدقاءنا في الشمال أن يقدموا لنا العون فليضغطوا على حكوماتهم بشأن السياسات الاقتصادية التي تفرضها تلك الحكومات على شعوبنا وليشرحوا لهم ما يترتب على ذلك من حياة بالنسبة للنساء.
لقد كانت تلك السنوات الخمس في حياة قوة العمل المناهضة لختان الإناث مليئة بالدروس عن العمل المشترك حول موضوع شائك. أهم تلك الدروس كان أهمية الشعور بالتضامن والاشتراك في الهدف الواحد رغم اختلاف المداخل والأنشطة. فقد كانت المساحة التي وفرتها قوة العمل المناهضة لختان الإناث مفتوحة لطيف واسع من المنظمات والأفراد اتفقوا على مناهضة ختان الإناث بغض النظر عمن يقوم به. ورغم اشتراكهم في هدف واحد إلا أنهم كانوا أيضًا أحرارًا في تقرير كيفية تناول هذا الموضوع، كل في موقعه وسياقه. إن ذلك الاحترام للخلاف والشفافية وخصوصية كل موقع سواء كان ذلك الموقع هو المحافظة أو القرية أو قطاع سكاني قد خلق لدى أعضاء قوة العمل شعورًا بالأمان والثقة، ولم يجبر طرف على اتخاذ موقف يكون غير قادر على الدفاع عنه. لم تكن هناك وصفة جاهزة للتدخل من أجل مناهضة ختان الإناث وكانت المنسقة العامة ومركز الموارد يخدمان الجميع بقدر الإمكان. ثم إن انسجام واتساق موقف قوة العمل المناهضة لختان الإناث قد دعم مصداقيتها لدى جمهورها سواء في لحظات الانتصار أو لحظات الفشل، وكان سببًا وراء اكتساب قوة العمل لاحترام كافة الأطراف المعنية حتى تلك الأطراف التي لم تكن مستعدة للمشاركة في العمل بشأن هذه القضية.
هذه المقالة مراجعة وتطوير لورقة قدمت أولاً باللغة هي العربية في ندوة نظمتها ثلاث منظمات غير حكومية في مصر في نوفمبر ١٩٩٤. أتوجه بالشكر الخاص للأستاذة ماري أسعد، منسقة قوة العمل المناهضة لختان الإناث للمناقشات الغنية التي أثرتني بها وأعضاء المجموعة الاستشارية لقوة العمل المناهضة لختان الإناث وكافة المنظمات غير الحكومية التي تبادلت الخبرة بشأن عملها في مناهضة التشويه الجنسي للإناث خلال الخمس سنوات الأخيرة وأخص بالشكر كل امرأة مصرية تحدثت معها بهذا الشأن ولم تبخل ببذل كل الجهد من أجل توضيح وجهه نظرها حول أهمية ممارستها لهذه العادة.
للمراسلة:
عايدة سيف الدولة، القاهرة، مصر
فاكس: ٣٤٤٤٤٢٩ (٢٠٢)
بريد إليكتروني:
mail to:[email protected]
1 – نادية واصف، ۱۹۹۸ ده من زمان، الجدال الماضي والحالي بشأن التشويه الجنسي للإناث في مصر. مؤسسة فريدريش ايبرت.
2 – المسح الصحي الديمغرافي المصري، ۱۹۹5 المجلس القومي للسكان، ماريلاند الولايات المتحدة الأمريكية.
3 – روز باتشيسكي وكارين جاد، ۱۹۹۸ التفاوض حول الحقوق الإنجابية. حالة مصر ص ٦٩ – ۱۰۷ کتاب زد، لندن (بالإنجليزية ).
4 – مركز دراسات المرأة الجديدة، ١٩٩٤ سياسات سكانية في مواجهة حقوق إنجابية، تقرير المنظمات غير الحكومية لمؤتمر السكان حالة والتنمية، القاهرة، سبتمبر ١٩٩٤.
5 – مناقشة بؤرية في الإسكندرية، ۱۹۹۸.
٦ – حديث خاص مع أ. ماري أسعد، منسقة قوة العمل المناهضة لختان الإناث، ۲۳ أكتوبر ۱۹۹۷.
7 – هنا أود توجيه الشكر للدعم المادي والفني الذي قدمته مؤسسة فورد في القاهرة حيث دعمت نشاط قوة العمل المناهضة لختان الإناث دون أي شروط أو تدخل من جانبها.