الجزء الأول: النسوية والنشاط النسائي في العالم العربي
هل من ربيع سعودي على هامش الربيع العربي؟
وما موقع السؤال النسوي في هذا السؤال؟
فوزية أبوخالد
يتساءل كثيرون عما إذا كانت المملكة العربية السعودية بوصفها دولة أتوقراطية ومجتمعًا محافظًا ستكون بمنأى عما يقترحه الربيع العربي من تحولات، وفي حل مما يقتضيه من استحقاقات. وفي هذا تتعدد السيناريوهات التحليلية أو التأويلية. ويجري ذلك من منطلق محاولة البحث عن إجابة سؤال العلاقة الممكنة أو المتوقعة أو المستحيلة بين الواقع السعودي وبين ما صار يعرف عالميًا بالربيع العربي في صيرورته مصدرًا للاستلهام الشعبي والإبداعي معًا وفي تحوله إلى مضرب مثل على إرادة الحرية والعدل والمشاركة في نهضة الأوطان.
السعودية وأسئلة الربيع العربي وجهًا لوجه
نعمل في هذه الورقة على اختيار سؤالين محددين وهما السؤال السياسي والسؤال النسوي في علاقة المملكة بالربيع العربي، ويأتي هذان السؤالان بالصيغة الآتية:
السؤال الأول: هل من تأثير استحقاقي للربيع العربي على المملكة العربية السعودية؟
السؤال الثاني: ما موقع السؤال النسوي تحديدًا ببعده المدني والشرعي في استحقاقات الربيع العربي بالمملكة؟
المحور الأول:
الربيع العربي سعوديًا: تباين في المواقف ومحافظة على التحفظ
وفي ذلك نجد أن موقف النظام السعودي قد تعدد ليس فقط بحسب مد وجزر الربيع العربي من لحظة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر بالوطن العربي من نهاية عام ٢٠١٠ إلى مطلع ۲۰۱۲ وعلى امتداد اشتعالات ۲۰۱۱، بل إن ذلك جرى أيضًا بحسب تقدير النظام السعودي وقيادته لتأثيرات ذلك الموقف في الداخل السعودي من ناحية وفي الموقع الإقليمي للمملكة من الناحية الأخرى. ومع تعددية الموقف فقد تمسك النظام بثابت المحافظة السعودية المعهودة بما يضمن ألا تؤدي مرونته وبرجماتيته الطارئة في ملاحقة الحدث السياسي بالجوار إلى المساس بمسلمات موقفه المتحفظ على مفهوم الثورة بالمعنى الذي يطرحه الربيع العربي: أي مفهوم الشعب يريد. وقد تبدى ذلك في سلسلة مواقف المملكة عربيًا من أحداث الربيع العربي التي تتبعها أحد المحللين السعوديين وقام برصدها والتعليق عليها على النحو الآتي:
“أعلنت السلطة (السعودية) برنامجها العملي (من) الربيع العربي: هذه الثورات مرفوضة جملة وتفصيلاً، ويجب العمل على مواجهتها في الداخل والخارج. بدأت الأمور مع استضافة زين العابدين بن علي الذي رفضت استقباله كل دول العالم، ثم العمل بشكل كبير على منع إسقاط الرئيس المصري حسني مبارك، وجند الإعلام الرسمي وشبه الرسمي كل طاقاته لإجهاض محاولة التغيير في مصر، وتم التعامل مع الاحتجاجات في البحرين بطريقة مباشرة استدعت إرسال قوات درع الجزيرة لمواجهة المحتجين وحماية الأماكن الحيوية في البلاد من زحف المتظاهرين، وتجاهلت السعودية تمامًا الثورة الليبية ضد الخصم اللدود معمر القذافي إلى الدرجة التي جعلت منها البلد الوحيد الذي لم يعترف بالمجلس الوطني الانتقالي رغم سقوط القذافي رسميًا وهروبه مع أولاده، أما الموقف من اليمن فليس بعيدًا عن المواقف السابقة، إذ تبنت المبادرة الخليجية التي أرادت تقديم مخرج مريح للرئيس اليمني” (الظفيري، د. ص.).
وعليه، فالأقرب إلى توصيف الموقف السعودي في رأينا هو وصفه بالموقف“البرجماتي المتحفظ“، بما قد يناسبه مصطلح“المحافظون البرجماتيون!”. وهذا التوجه في توظيف البرجماتية بما يخدم“محافظة النظام النسقية” يبدو منسجمًا مع تحفظ النظام السعودي القائم تاريخيًا على الحساسية والجفول من كل مقاومة، فما بالك بالثورة من قبل الشعب. وإذا عرفنا أن مفهوم الشعب نفسه– بحسب الطبيعة الأبوية للدولة السعودية والطبيعة الرعوية لحكومتها – لم يتجاوز في الخطاب السياسي السعودي مفهوم الرعية، فمن المنطقي حينئذٍ استنتاج الموقف السعودي داخليًا إزاء استحقاقات الربيع العربي. إذن، يبقى النظر إلى الاستحقاقات في نطاق الأعطية التي يعود لتقدير الحاكم أمر منحها أو منعها.
استحقاقات الربيع العربي والرعوية الحكومية
أما إذا انتقلنا من قياس هذا البعد المتمثل في الموقف السعودي عربيًا من الربيع العربي وانعكاساته الداخلية إلى قراءة الموقف على المستوى المحلي، فإننا نجد أنه قد جرى التعامل مع استحقاقات الربيع العربي أو توقعات الإصلاح في الشارع السعودي بنفس رعوية الحكومة المعهودة التي تعود إلى مرحلة تأسيس المملكة العربية السعودية عام ١٩٣٢، ولا تزال مستمرة بتذبذب طفيف تفرضه سنة التغير الاجتماعي أنَّى كان التحكم في توجهاته. فتلك الرعوية بمرجعيتها القبلية كانت نشطة في تكوين الائتلافات الأولى حول الدولة السعودية، حيث شكلت الأعطيات والرضوات عامودًا فقريًا لها.
إذ فيما كان الشارع العربي يغلي بإعادة الاعتبار لقيمة الحرية والفعل الشعبي والمشاركة الوطنية جاء رد الفعل السعودي داخليًا بنفس الأسلوب“الرعوي” القائم على“الرضوات“. وهذه الكلمة – أي“الرضوات“- تستخدم في قاموس اللهجة السعودية الدارجة للتعبير عن فعل الاسترضاء الذي يلجأ إليه الزوج أو الأب في حالة تعكر العلاقة بينه وبين الطرف المقابل في العلاقة التي تعطي الرمز الذكوري– زوجًا أو أبًا– مقام صاحب اليد العليا القادرة على المنح،“هدية أو مكرمة“، بما يعيد المياه إلى مجاريها. وهكذا، اختزلت استحقاقات الربيع العربي في السعودية رسميًا في ثلاث اتجاهات متجانسة مع النسيج السياسي للدولة السعودية منذ التأسيس، وتتمثل في التعضيد الأمني، والتساند مع المؤسسة الرسيمة للدين (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ورفع سقف الكفاية الاجتماعية لما يعرف في الإعلام الرسمي السعودي باسم“المكرمة الملكية” وشعبيًا باسم الشرهة. وهذه الاتجاهات لا تخرج عن موجبات شرعية للدولة السعودية بحسب نبلوك، والمتمثلة في المحافظة على الطابع القبلي للدولة وفي الارتكاز على الأيديولوجية الدينية المحافظة المستمدة من الوهابية وفي اعتماد فلسفة الرفاه الاجتماعي التي تتيحها الوفرة النفطية (أنظر/ أنظري Niblok).
أما كيف كان رد فعل المواطن على هذا“النهج الرعوي” الطيب في تطييب الخواطر وتأليف القلوب بالأعطيات الريعية، بينما يرى أمامه شعوبًا بأسرها تخرج من إسارها إلى الساحات والميادين في عدة من عواصم الربيع العربي لتطلق العملاق، ولتطالب بالحرية والكرامة، ولتصرخ من نياط قلبها ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان وليس بالأمن وحده يستتب الأمن ويطلب الاستقرار (أنظر/ أنظري الخضر،“فتنة الاستقرار“)- فإننا نستطيع أن نرصد ثلاث تحركات مجتمعية جاءت على أثر الربيع العربي مطالبة باستحقاقاته في المجتمع السعودي:
1- بيانات الشباب للإصلاح السياسي
۲– عروض اليوتيوب النقدية بنوعيها الدرامي والكوميدي
3- الإضراب الطلابي والعمالي والوظيفي
المحور الثاني:
موقع السؤال النسوي السعودي في سياق استحقاقات الربيع العربي بالمملكة
1- الموقف الرسمي من السؤال النسوي إبان الربيع العربي:
ليس من المستغرب وقد انقضت عدة أشهر من اندلاعات الربيع العربي دون توجه رسمي يذكر على طريق الإصلاح السياسي المأمول بما يطمئن المجتمع السعودي إلى أنه لن يخرج من مولد الربيع العربي بلا“حمص“، أن يأتي قرار الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وبالتحديد مع نهاية الشهر التاسع من مخاضات الربيع العربي، بإقرار المشاركة السياسية للمرأة السعودية لأول مرة في تاريخ الدولة السعودية. قضى الأمر الملكي أن يعطي صاحب القرار الحق في ضم النساء إلى“العضوية بالتعيين في مجلس الشورى” وأن يسمح للنساء بالتمثيل في مجالس البلديات ترشيحًا وانتخابًا.
وفي هذا ما لبثت أن تكاثرت التساؤلات وتنوعت التأويلات في قراءة القرار. فهل القرار قرار تاريخي مثله مثل قرار تعليم البنات عام ١٩٦٠ (أنظر/أنظري البكر،“المرأة في الخطاب التعليمي“)، بما سيؤدي إلى إحداث نقلة نوعية في واقع المرأة السعودية ويراكم تجارب وتناقضات ستقود بدورها إلى المزيد من تعقيد أو تعضيد أوضاع النساء في المجتمع؟ أم أن القرار لن يكون إلا مجرد تغيير تكتيكي أو إجراء شكلي لن يقدم أو يؤخر لا في أوضاع النساء ولا في واقع المجتمع، ناهيك أن يكون له تأثير يذكر في العلاقة بين الدولة والمجتمع أو في بنية النظام.
قد يكون القرار مستغربًا لو أنه ذهب أبعد من المعتاد في علاقة الدولة بالمجتمع؛ فأدخل عليها أي نوع من التغيير أو التعديل الذي يضاهي مطالبات الربيع العربي (الحرية، المساواة، المشاركة السياسية الديموقراطية في إطار مدني لدولة القانون والعدالة والحقوق)، أو يضاهي مطالب بيانات الإصلاح التي شارك في كتابتها وتوقيعها الشباب السعودي وغير الشباب من الرجال والنساء، وكان من مطالبها الإصلاح الإصلاح الإصلاح لتصحيح ميزان القوى بين القوى بعضها البعض وبينها وبين الدولة والمجتمع.
أما وقد اقتصر الأمر على قرار دخول المرأة مجلس الشورى بمسمى مشاركتها السياسية فيما المجلس نفسه يفتقد إلى فعالية المشاركة السياسية؛ حيث إن طبيعة عمله أقرب إلى الصبغة الاستشارية التكنوقراطية منه إلى الأهلية السياسية، بالإضافة إلى افتقاده شرعية التمثيل الشعبي باعتبار الصيغة التعيينية للعضوية فيه، عدًا عن محدودية العمل في مجالس البلديات، فإن هذا يعني أن القرار قد جاء منسجمًا مع – ومعبرًا عن – نفس النهج السعودي“البرجماتي المتحفظ” الذي اتخذته السعودية تجاه الربيع العربي عربيًا ومحليًا، كما ذكرنا سابقًا. وهو في تطبيقاته المحلية مثل تلك اللعبة المدرسية التي كانت تسمى (تظاهر بالحركة واجمد).
غير أن هذا القرار القاضي بمشاركة المرأة في الخيار السياسي الوحيد المتاح والمحدود بطبيعته، يظل– بنظرة موضوعية– قرارًا يستحق التأمل. ومن مقارنة القرار بندرة ما سبقه من قرارات أو التفاتات (ملكية) تخص أوضاع النساء يظهر حجم القفزة النوعية التي مثلها القرار، وذلك ليس بالضرورة لأهميته النوعية بوصفه استحقاقًا، ولكن نظرًا لحجمه السياسي في مجمل موقف النظام المتحفظ إلى درجة التشدد في الإقدام على اتخاذ أي قرارات جريئة قد تخص المساس بتغيير معادلة القوى الاجتماعية والدولة في العلاقة بالسؤال النسوي وشأن المرأة السعودية. فمن غير الموضوعي عدم الاعتراف بما ينطوي عليه القرار من (مقاربة وتسديد) بين طبيعة النظام المحافظة وبين مستجدات اللحظة التاريخية التي يمثلها الربيع العربي بما تفرضه من ضرورات وما تتطلبه من سرعة بديهة.
أما إذا تأملنا الصيغة التي جاء عليها القرار من منطوق خطاب الملك أمام مجلس الشورى فسنجد أن من اللافت أنه لم يأتي كسواه من القرارات الملكية القطعية الآمرة، بل جاء محمولاً على محفة مُعضدة بخطاب فقهي مستنير، خالٍ لأول مرة من نغمة التشدد المعتادة في الخطاب الديني للسلطة. فقد استشهد الملك نفسه في القرار باستشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لأم سلمة رضي الله عنها في موقف صلح الحديبية. وبهذا، فقد يكون أهم من القرار نفسه هو ما يفتحه بصيغته الجديدة على الرؤية الفقهية الأحادية بالمملكة من أفق أو ما يشكله من ضوء أخضر لاختراقها، بما قد يحتمل التوسيع. إذ تقاربت تلك الصيغة، وإن بشكل نسبي بالطبع، مع الصيغ المتقدمة التي يجري نضال خط متنام من النسوية المستنيرة عليها عبر القارات، حيث تقوم نساء مسلمات بمحاولة تأصيل البحث في مجال الفقه التعددي فيما يخص الأحكام الشرعية والتقنينية للمرأة، مع فتح المزيد من أبواب الاجتهاد والتجديد لكسر حصار المرأة بين خيار التغريب الخارجي أو الاغتراب الداخلي، ولإفساح المجال أمام خيارات جديدة، بما يمكن المرأة العربية والمسلمة ألا تنعزل عن سياق الحضارة الإنسانية ومعطيات العصر، ولا تنكفئ على الذات في الوقت نفسه الذي لا تتعرض فيه للإكراه على الانسلاخ عن وعاء الهوية والحضارة الإسلامية. وربما يمكن للقرار بهذا الفهم، وبغض النظر عن مدى احتماله مثل هذه القراءة، أن يساعد في جعل الباب مواربًا وإن لم يكن مفتوحًا على مصراعيه للنساء السعوديات لما هو أهم من مجرد دخول مجلس الشوري، وذلك للخروج من أسر الرؤية الأحادية للفقه والسياسة معاً.
في الوقت نفسه، للقرار نواقص ونواقض تدور حول نقطتين: موقع المرأة داخل بنية النظام السياسي والاجتماعي معًا، أي موقعها المدني بوصفها مواطنة، والموقف الشرعي الرسمي في فرض الوصاية على المرأة بناء على ما يفترض تصريحًا أو تلميحًا من نقص في رشد المرأة وأهليتها، أي كينونتها بوصفها إنسانة. وربما لهذا، قوبل هذا القرار بعدم اكتراث، أو على الأقل ليس بالهجوم المحموم المعتاد من قبل أولئك الذين عادة ما يعتبرون أنفسهم حراس المحافظة على المرأة السعودية بسبب الرهان علي عدم جاهزية الجهاز المفاهيمي والجهاز القانوني والشرعي معًا لوضع قرار مثل قرار مشاركة المرأة السياسية تحت قبة مجلس الشورى موضع النفاذ الفعال.
وهذا المعنى معضد بالأمثلة المعيقة للمرأة في المجتمع السعودي، على نحو ما سجلته كاتبة سعودية بالكلمات الآتية:
“يبدو أنه في خضم الفرحة العارمة بالقرار الملكي القاضي بتمكين المرأة من تمثيل مكافئ للرجل في مجلس الشورى والمجالس البلدية، نسيت المرأة أن هناك جبالاً عاتية من العوائق والموانع لا تزال تقف في وجهها لتمنعها من ممارسة حقوق مبدئية وبديهية كحق التعليم والعمل – على سبيل المثال – دون موافقة ولي الأمر..! إلى جانب حقوق كثيرة مستلبة لا زالت تجعل من العادات والقيم المجتمعية البالية الحاكم بأمره في حياة المرأة السعودية..! ولعلّ الحكم – المنقوض– بجلد شيماء جستنية جزاًء وفاقًا على قيادتها للسيارة؛ ومحاكمة نجلاء حريري المقررة الشهر القادم للسبب ذاته تعيد المرأة السعودية إلى واقعها المرير والمأساوي، وتقرع الجرس قائلة لها إنه يتعين عليها النحت في الصخر والمشي في طريق طويل مليء بالأشواك لتنال أبسط حقوقها، كحق التنقل بعربتها على سبيل المثال.
ورغم أهمية مكتسبات هذا القرار في تهشيم الصورة النمطية المتكلّسة عن المرأة وفي اختراق الأنساق الثقافية التي تكرس دونية المرأة وتحقِّرها وتفتئت على مكانتها في الإسلام، إلا أن ثمرته – الثقافية – لن تؤتي أكلها إلا بالعمل الجاد على تجديد الخطاب الديني الثقافي، والخطاب التعليمي والإعلامي فيما يخص المرأة، والاشتغال على تفكيك البنى الثقافية المكرسة لدونية المرأة على كافة المستويات” (زاهد، د. ص.).
والمعنى أن هذا القرار الذي يحمل إقرارًا بحق المرأة في المشاركة السياسية على محدوديتها، قد يواجه صعوبة في التنفيذ في حالة بقاء حال النساء على ما هو عليه من عدم وجود اعتراف بمواطنتهن الكاملة وبأهليتهن غير منقوصة، مع وقوعهن تحت طائلة الوصاية الأبوية للدولة والوصاية الذكورية للأسرة والمجتمع، وبخاصة في حالة الاستمرار في تجاهل الحاجة السعودية الماسة إلى مواجهة وتفكيك مركب العوامل المسببة للتوتر الاجتماعي في السؤال النسوي والتسويف في فتح باب الاجتهاد نحو التجديد في التشريع الفقهي المتعلق بهذا السؤال في إطار المكان والزمان المعاصر.
٢– النساء في الحراك الاجتماعي إثر الربيع العربي
على هذه الخلفية، نستطيع أن نلمس أهمية حراك النساء على عفويته في التجرؤ، إثر الربيع العربي، على القيام بتحديد يوم 17/6/2011 يومًا لمعاودة الخروج إلى الشارع لقيادة السيارات (بعد محاولة 6/11/1990 بالرياض). ومع أن التجمع هذه المرة لم يأت بشكل موحد للانطلاق فقد جرى بمباشرة الخروج في عدة مدن رئيسة كجدة بالمنطقة الغربية، والخبر بالمنطقة الشرقية والرياض بالمنطقة الوسطي من اليوم نفسه. والملاحظ أن ذلك الحراك لم تثنه تجربة الإيقاف لعدة أيام التي تعرضت له المواطنة منال الشريف لإقدامها على قيادة سيارتها. على أن مدلول ذلك الحراك لم يزد لا في زخمه ولا في ناتجه على أن يكون مدلولاً رمزيًا ليس إلا، فقد شكل تذكيرًا باستمرار مطلب“حرية التنقل والحركة” باعتماد النساء على أنفسهن لا على الرجل، قريبًا أو سائقًا، لمن لا يتوفر لها الخيار الأخير، حيث المطالب لا تنطوي بتقادم العهد عليها.
الحراك الثاني الذي كان من نفس نسيج هذا الحراك، وإن اختلفت نوعية المطالب، تمثل في عدة مظاهرات تكونت من النساء فقط. منها مظاهرة العاطلات عن العمل لعدة سنوات. ومن الواضح أنه على عفوية الحراك فإنه لم يكن مصادفة، إذ انطلق التظاهر في يوم واحد في عدة مدن بالمملكة، وهي تبوك وجدة والرياض، بالوقوف أمام وزراة الخدمة المدنية وإداراتها الفرعية. ومثلها في تواريخ مختلفة، كانت هناك مظاهرة معلمات محو الأمية أمام مديرية وزارة التربية والتعليم بتبوك، وكذلك ما سمي بمظاهرات أمهات المعتقلين السياسيين أمام وزارة الداخلية بالعاصمة. وفي السياق نفسه، كانت مظاهرات الطالبات وإضرابهن بجامعة الملك خالد بأبها جنوب المملكة. ليس من باب التخمين بل من باب الرصد الاجتماعي القول بأن هذه التظاهرات النسوية قد جاءت متأثرة بمناخ الربيع العربي، وبعضها اعتمد على ما يبدو كما في خروج النساء الأخير لقيادة السيارة، على وسائل الاتصال الاجتماعي نفسها التي اتبعها الشباب العربي في التنسيق. غير أن هناك عدة ملاحظات جوهرية لابد من وضعها في الاعتبار التحليلي عند الحديث عن هذا النوع من الحراك، وهو تميزه بالعفوية، فهو لا يجب أن يعطى حجمًا أكبر من حجمه في التعويل عليه أو النظر إليه بوصفه“حركة نسوية سعودية متبلورة أو منظمة“، ولكن في الوقت نفسه لا يمكن تقزيم أهميته في التعبير عن قضايا المرأة السعودية بصوتها.
الشكل الآخر للحراك النسوي بالسعودية تمثل في تصاعد الحملات الإلكترونية التي قام بإطلاقها نساء سعوديات وتوسعها في المطالب الوطنية والحقوقية للنساء، بحيث يربو عدد هذه الحملات على ٢٠ حملة إلكترونية عبر مواقع مستقلة أو عبر منابر التواصل الاجتماعي، وبخاصة الفيس بوك وتويتر. ومن الحملات التي تزامن انطلاقها مع الربيع العربي، على سبيل المثال لا الحصر، حملة“حقي كرامتي” التي تطالب بحق قيادة السيارة للمرأة، و” حملة بلدي” التي تسعى إلى التوعية بأهمية المشاركة السياسية للمرأة ومحاولة الدفع نحو إقرار الحقوق المدنية والسياسية للمرأة والرجل أيضًا وتوسيعها وتقنينها، وحملة“السعوديات الحقوقية” التي تتميز بطرح شامل ودقيق في تحديد الرؤية والهدف والمطالب مع تمسك وأضح بالإطار الوطني السعودي وبالمرجعية الشرعية الإسلامية مع إعلانها عن خروج صريح على الأطر التعصبية المناطقية والقبلية وعلى الطرح الفقهي الأحادي الذي يشرعن موقف انتقاص المرأة وحقوقها الشرعية.
المحور الثالث:
التحولات في مطلبية الإصلاح الوطني والرؤية النقدية للسؤال النسوي:
نلحظ ظهور كتابات نقدية صريحة تتضافر فيها مطلبية الإصلاح الوطني بحقوق النساء، ف
“فتح محاكم خاصة بالقضايا الأسرية، والبدء في التخطيط في فترة زمنية معقولة لإصدار (وثيقة سعودية لأحكام الأسرة والأحوال الشخصية)، تكون قابلة للمراجعة والتعديل بشكل دوري، وبمشاركة عدد من سيدات الوطن في مجال السياسات الاجتماعية والمدنية” (التركي،۱۷)
على سبيل المثال لنقرأ الفقرتين الآتيتين لكاتبين مختلفين:
“تم تقديم دخول المرأة مجلس الشورى والمجالس البلدية على أنه تعزيز لمشاركة المرأة السياسية، لكن الحقيقة أنه لا مشاركة سياسية في هذه المجالس للرجل أو المرأة، فغياب الصلاحيات والأسس الديمقراطية للانتخاب والعمل في هذه المجالس تجعل دخول المرأة تجميليًا بحتًا، وهنا نعود لذات السيناريو: تحتفل الصحف وكتابها الحكوميون، ويلتقط الغرب إشارة إصلاحية فيشيد بها، ولا يتغير وضع المرأة التي تفتقر لحقوقها الأساسية الإنسانية في المجتمع ويتم تغييبها وتهميشها عبر مقايضات مع الشريك السلفي المتشدد، ولا يتغير وضع المشاركة السياسية وصناعة القرار في مجالس التوصيات والاستشارات” (الإبراهيم، د. ص.).
” في خطة التنمية التاسعة (٢٠١٠–٢٠١٤) التي أقرتها الحكومة السعودية، ففي الفصل الثامن عشر المختص بالشباب والتنمية هناك غياب واضح لأي سياسات من شأنها تمكين الشباب السعودي من العمل السياسي، وكذلك في الفصل التاسع عشر المتعلق بالمرأة والأسرة هناك تهميش لذكر المشاركة السياسية والمدنية للمرأة” (سليس، د. ص.).
مما يسترعي الانتباه والاهتمام في الاقتباس الأول أنه يخوض في شأن نسوي نادرًا ما كان يجري طرحه بأقلام رجال حتى الملتزمين منهم بالقضايا الوطنية، خصوصًا بتلك اللمحة التفصيلية التي لا تكتفي في مضمونها بتناول المشاركة السياسية، بوصفه أحد الشواغل الذكورية عادة، بل وأيضًا تعنى بوضع الإصبع على بعد جوهري في السؤال النسوي في المجتمع السعودي وهو بُعد الحقوق الإنسانية الأساسية في مواجهتها لخطابات التشدد. كما أن ما يلفت النظر في الاقتباس هو استهلاله للسؤال النسوي بوصفه جزءًا من السؤال الوطني، حيث لا تتوفر أي آليات ديموقراطية للعمل بمجلس الشوري. وليس يخفى ما في لغة النقد من مباشرة وعدم توارٍ خلف المجاز اللغوي. فهناك تغير ملحوظ في لهجة طرح مطالب الإصلاح في القضايا الوطنية عامة وفي قضية المرأة بعد الربيع العربي؛ بما يخلق جبهات صغيرة لمقاومة كل السلوكيات المضرة بكرامة المواطن ومنها مقاومة تلك اللغة“الرشوية” التي كان بعض الكُتاب يضطر إليها، لتمرير مطلب صغير لمسئول أو صاحب قرار. ولهذا، نقرأ في العديد من الكتابات المطلبية والنقدية الراهنة توجهًا لخلق لغة موضوعية تستقرئ المستقبل وتحذر من مغبة الخطر حين لا يأتي الإصلاح إلا بخطوات شحيحة مترنحة أو بعد فوات الأوان.
أما إذا نقلنا البصر إلى الاقتباس الثاني فنجده أيضًا يتميز بمضمون نقدي ولغة تتميز بالشفافية؛ ففيه – عبر لغة لا تخفي احتجاجيتها – نقد وبحث عن الذات الشبابية وذات الأنثى ومطالبهما في خطط التنمية مثل الموقف من الخطة التاسعة ٢٠١٠–٢٠١٤. وهذا يمثل تحولاً عما كان عليه الموقف من خطط التنمية السابقة، فرغم أنها لم تكن تؤدي في طروحاتها التنموية للمرأة إلا إلى تكريس أدوار تقليدية وتكليسية، مع المحافظة على ثقافة الانتقاص من قدراتها وقدرها، فإنه نادرًا ما كانت تكون هناك محاسبة أو مراجعة لخطط التنمية في انشغالها المستديم بالتنمية“الرعائية” بمعناها الأبوي والرعوي. إذ كان ذلك يجري برضى أو على مضض (ما قبل تحدي الأنظمة الذي خلقه العام الأول للربيع)، في ظل الهيمنة المطلقة لذلك المنطلق التقليدي للدولة الذي يرى من تقدم لهم التنمية بمال النفط الريعي رعية وليسوا مواطنين بالمفهوم السياسي والمدني، مما لم يكن يترتب عليه إلزام متبادل بالشراكة في الخيارات الوطنية كخيار التنمية.
أما إيمان القويفلي فمن خلال تحليلها لعلاقة النظام السعودي بالسؤال النسوي، ترى في ثورة الشارع العربي بفضائيها الافتراضي والميداني قبسًا يستضاء بنوره وبحالة التأجج التي خلقها لإشعال فتيل التغيير، حيث تراه لحظة تاريخية حاسمة للتحولات ليس فقط للبلاد التي تفجر بها، ولكن لعموم المنطقة العربية، ومنها بطبيعة الحال السعودية، وذلك لإعادة تشكيل الطرح الإصلاحي وتحريك المشيئة من القبول بالقائم إلى اجتراح خيارات لم يكن من السهل الحلم بها بوصفها مثالاً ممكنًا لولا عنوان المرحلة العريض نحو إصلاح لا يكتفي بالترضيات المجتزءة بل يروم إصلاح الأنظمة نفسها. وهي تتناول هذا الموضوع على حساسيته السياسية والنسوية بتحليل نقدي؛ فبكلمات صريحة كتبت:
“في هذه المرحلة العربية التي يُمثل إصلاح الأنظمة السياسية عنوانها العريض، بات من الضروري أن تعيد النسوية السعودية تقييم خياراتها وتطلعاتها، فإما أن تنفتح على مطالب الإصلاح وتضخّ فيها طاقتها الكبيرة وزخمها؛ أو أن تواصل ربط مصيرها بالأبوية السياسية ومكافآتها الرمزية ومصيرها المجهول، وهو الارتباط الذي سيُفوّت عليها فرصة تكييف أجندة الإصلاح السياسي مبكرًا وبشكل قوي لصالح المرأة، لتجد نفسها في نقطة متأخرة نسبيًا إذا ما حانت استحقاقات الإصلاح” (القويفلي، د. ص.).
ومع أن القويفلي تقترح بعض الخيارات النسوية إلا أن ما يهمنا إضاءته في هذا السياق هو تلك الروح النقدية التي نفختها مناخات الربيع العربي في مضمون ولغة مطالب الإصلاح سواء تعلقت بالسؤال السياسي والاجتماعي العام أم بالسؤال النسوي.
الوجود المجازي لنسوية سعودية
إن الطلائع النسوية مما لم يشكل حركة نسوية بعد إلا بالمعنى المجازي، قد انخرطت في نقاش السؤال النسوي بشكل أكبر مما سبق وبقدر أكبر من الشفافية والرؤية وفي الدفع نحو حسم المواقف فيما يخص التعالق بين السياسي والنسوي في واقع المرأة السعودية وفي المُلح والمأزقي من قضاياه. غير أن المفارقة أن هذا النقاش لم يحم وطيسه إلى درجة تظهر أن هناك بدايات تباين في مواقف الجسد النسوي من داخله غير ذلك القائم“تاريخيًا” بين اتجاه متشدد وآخر“ليبرالي” إلا بعد أن أصدر الملك قرارًا يخول المرأة دخول مجلس الشورى ومجالس البلديات. فبدا النقاش فيه وحوله وإن كان في حقيقته يوغل في أسئلة مستقبلية أبعد من مرمى القرار.
على أننا قبل أن ننتقل إلى الكيفية التي ظهر بها هذا الفرز بما قد يشكل منعطفًا جديدًا في مسار السؤال النسوي في المجتمع السعودي، لا بد من وقفة نوضح فيها أن استخدام بعض المصطلحات“السيسيوسياسية” – أي الاجتماعية والسياسية– هنا مثل“متشدد” أو“ليبرالي” للتعبير عن الاتجاهات النسوية في السعودية هو استخدام مجازي ليس إلا. بل إن القول بوجود“حركة نسوية” هو نفسه قول مجازي فيه تكييف غير قليل للمصطلح ليناسب الحالة النسبية التي يطلق بها مسمى نسوية أو حركة نسوية على واقع لم ينتج بعد إلا أشكالاً“مبدئية” للنسوية بمعناها الحركي والمعرفي والمدني في المملكة العربية السعودية. لذا، فإن الجاري على أرض الواقع أقرب إلى ما يمكن اعتباره نوعًا من“النسوية الاجتهادية الافتراضية” إن جاز التعبير. فهي لا تتحرك في إطار عمل منظم ولا توجد في كيان موضوعي محدد، كما أنها لا تمتلك صفة التمثيل ولا التخويل لإقامة ضوابط العمل الجمعي، بالإضافة إلى افتقادها بوصلة العمل المدني من التوافق النسبي على الرؤية والأهداف وآليات العمل، بما يأتي سببًا ونتيجة لحجب مشروعية الحركة عنها في الحيز الميداني من جانب، والتشكيك في مشروعيتها المعرفية من الجانب الآخر. وهذا ما سمح بنجاح تحجيم نضالات النساء وتحويلها إلى نوع مهجن من“النسوية الاجتهادية الافتراضية“.
غير أن اللافت أن تلك الفجوة القانونية التي لم تسمح بوجود مشروع لنسوية سعودية مُستقرة، لم تمنع تناميًا مترامي الأطراف على امتداد مناطق المملكة لروح نسوية مناضلة يمكن أن تضيء عن بعد وإن لم تمسسها نار. وهي تتجه في تحركها بدرجات متفاوتة من وضوح الرؤية وقدرات العمل نحو أهداف عامة في المساواة بين النوع الاجتماعي والمشاركة السياسية والحصول على حقوق النساء الإنسانية.
والحقيقة أنه ليس من شواهد دامغة على بدايات تكوين هذا الاتجاه نحو انتزاع أهلية وهوية له في النسوية السعودية على مجازيتها إلا القليل من الاجتهادات والمواقف والكتابات. ومن أهمها تلك التي عبرت في سياق الربيع العربي وفي تفاعلها مع قرار الملك عبدالله بالمشاركة السياسية للمرأة عن مواقف نقدية ثلاثية الأبعاد. أولها، اتخاذ موقف نقدي تجاه“الذات الأنثوية“. وثانيها، اتخاذ موقف نقدي تجاه“الأداء النسوي“. وثالثها، تبني موقف نقدي وطني عام. وهي عبر كل تلك المواقف النقدية لم تتفرغ لنقد الاتجاه المتشدد كعادة الكثير من الطروحات النسوية، كما أنها وإن لم تجنح لاسترضاء الدولة في محاولة استمالتها كما جرت العادة أيضًا، فإنها لم تعمد إلى هجاء الدولة بل حاولت اجتراح وقفة نقدية للذات وللمحيط الموضوعي معًا.
عينة من مواقف النقد النسوي
1- خارطة طريق للمشاركة السياسية للمرأة
في شهر ديسمبر ۲۰۱۱، وبعد أقل من شهرين من صدور قرار الملك المعني، قام قسم الدراسات الاجتماعية للطالبات بجامعة الملك سعود بعقد ندوة لمدة يومين قدمت فيها عدة أوراق عمل في الحوار حول دخول النساء مجلس الشورى والبلديات. وربما توجز بعض ما خرجت به الندوة من توصيات مؤدى ذلك الحوار النسوي الخالص بين مجموعة مهتمة من الأكاديميات وطالبات الجامعة، بالإضافة إلى القطاعات النسوية الأخرى التي شاركت في اللقاء ممثلة في الجمعيات الخيرية والصحافة ومجموعة من كاتبات الرأي. وقد كان من أبرز التوصيات النقاط الآتية:
أن القرار يحتاج إلى عدة قرارات مساندة بعضها يتعلق بواقع النساء وبعضها يتعلق بوضع المجتمع.
أهمية أن يعود للمرأة أمر الوصاية على نفسها بحيث لا تحتاج إلى إذن رجل لإجابة نداء الواجب الوطني في الشورى أو البلديات.
أهمية حق الحركة والتنقل بالاعتماد على الذات.
وضع المشروع في خطة وطنية لمواجهة شتى أشكال التعصب المستشرية مثل التعصب القبلي والمذهبي، ومثل التعصب على هوية النوع الاجتماعي.
تصحيح الثقافة التي تكرس النظرة التقليلية من القيمة الإنسانية للنساء.
التسامح الديني والسياسي بما يسمح بالتعدد الفقهي في الأحكام الخاصة بأوضاع النساء الشخصية والأسرية والعامة.
العمل على التوعية الاجتماعية بما يجعل المرأة نصيرة للمرأة وكذلك الرجل.
٢ – الإصلاح في المجالين النسوي والوطني العام
يكشف البحث أن قرار الملك بمشاركة المرأة الساسية قد جرى تناوله على مستويين: مستوى مساءلة كيفية تطبيقات القرار، ومستوى مساءلة أساسيات القرار ومرجعيته السياسية. وبينما يكتفي الموقف الأول بتقديم مقترحات لكيفية تلافي نواقص القرار ونواقضه، فإن الموقف الثاني في رؤيته النقدية اليائسة من قدرة النظام السياسي القائم على تقديم تغيير جذري يتجاوز العلاقة الأبوية الرعوية تجاه المرأة، يقوم بنقد الموقف النسوي السعودي نفسه. ويذهب في نقده إلى القول بأن النسوية السعودية تسهم في المحافظة على موقف الدولة الأبوي بترضويته النخبوية على حساب القطاع العريض من النساء لأسباب قد يكون منها قصر النفس النخبوي أو الاحتماء من نار التشدد برمضاء النظام. فالنسوية بقبولها عطية السلطة أيًا كانت دوافع كل منهما تخلق وضعًا معيقًا على الصعيد السياسي والنسوي. فعلى الصعيد السياسي يجري تأجيل وتسويف أطروحة الإصلاح وتعطيلها بتشتيت قوى الضغط المعنية بأطروحة الاستحقاق الوطني الشامل في الإصلاح، كما أنها تعطي السياسي إحساسًا بنشوة الاحتواء، ومن ثم تفك عن رقبته أي ضغوط، بحله للقوى النسوية بوصفها كتلة حرجة وتحويلها إلى طاقة طيعة. أما على الصعيد النسوي فيجري إعطاء إحساس زائف بالإنجاز، قد يؤدي إلى عدم الاكتراث بالتحالفات الضرورية للضغط نحو إصلاح في المجالين النسوي والسياسي كما أنه قد يخلق نوعًا من الشقة بين الحاجات النخبوية وبين حاجات ومطالب القاعدة العريضة من النساء. بل إنه قد ينتج أيضًا شقة موقفية إن لم تكن جيلية أيضًا داخل الحراك النسوي. وذلك بتفجير الموقف بين الرؤية النسوية المسايرة للمستتب السياسي، الراضية بعطاياه القليلة التي لم تأت على شحها إلا بتراكم نضالات النساء في زمن الحرمان الفادح لعدة عقود وبين الرؤية النقدية للمسلمات بما فيها مسلمات الواقع السياسي والنسوي.
۳– نقد الطرح الفقهي السائد في الشأن النسوي
يحظى موقف الخطاب الفقهي من السؤال النسوي، وبخاصة في نسخته المتشددة“الصحوية بأوجهها” وكذلك في نسخته الرسمية السباقة في تأسيس وشرعنة ومأسسة القراءة الأحادية بالغة المحافظة (الخضر، السعودية سيرة دولة ومجتمع، ۳۲۰)، بنصيب الأسد في جدل المجتمع السعودي حول ذلك السؤال، مع أن القليل فقط من ذلك الجدل يجد طريقه إلى العلن بسبب المحظور السياسي والديني معًا. غير أن البحث يكشف أنه على الرغم من المآلات الفقهية المحافظة وصعود المد السياسي الديني في أعقاب الربيع العربي كما في تونس ومصر بما يشي باحتمال خسارات نسوية هناك، فإن مناخ الانتفاضات العام قد فتح في المجتمع السعودي، والوسط النسوي بخاصة، نافذة لحوارات ومساءلات نقدية وفقهية أجرأ وأكثر علنية نسبية من السابق.
وهناك عدة أمثلة لهذه المواقف النقدية من الخطاب الفقهي المتشدد تجاه المرأة، حيث تذهب أمل الفران مباشرة إلى توجيه النقد لعدد من الأسس التي يقوم عليها الموقف الفقهي المتشدد. وهي ادعاء عصمة الذات، الانتقاص من القيمة الدينية للآخر، أي كل من لا يتطابق مع الرؤية الفقهية المتشددة. التعالي المتمثل في رفض تقبل المساءلة والآراء المخالفة. الجمود برفض حركة الوقت وتحولات المكان وتطور الإنسان المتمثل في موقفه الانغلاقي من الاجتهاد. وتتخذ الفران موقفًا نقديًا على وجه التحديد من الطرح الفقهي الأحادي المتشدد بشأن النساء وبخاصة تلك التي تلجأ إلى“تكريه” من يخالفها عن طريق الوصم بمسميات اتهامية جاهزة، كالتغريب مثلاً.
وثمة بعض مما كتبته في هذا الصدد:
“المرأة من مشاكل الخطاب المتشدد الكبرى، فكتاب مثل“صيد الخاطر” يدسه بكل التبجيل بعض أصحاب هذا الخطاب في أيدي ناشئة يُتوسم فيهم الخير، لا يكاد يذكر المرأة إلا بسوء… ومأزق هذا التيار الحقيقي يكمن أيضًا في تعامله مع المرأة، فهو خطاب ذكوري أولاً، وهو يدرك أن منح المرأة حقوقها قوة للرجل وللمجتمع، وبالتالي فهو يقصيها، ويقصي أي رجل يطالب بحقوقها” (الفاران، ۲۳).
ويقوم عمل نقدي آخر، وهي دراسة بعض العوامل المؤثرة على حقوق المرأة المطلقة والمهجورة والمتغيب عنها زوجها، بالمشافهة بوجود تلك الإشكالية التي طالما أرقت الباحثين والمبحوثين معًا، وهي إشكالية النساء السعوديات عمومًا في مراجعة القضاء. وما يميز هذا النقد أنه يطرح هذه الإشكالية من زاوية تتعدى الطرح المعتاد على أهميته، في اقتراح بعض التعديلات الإجرائية داخل المحاكم كإيجاد حضور نسائي عامل في جهاز القضاء من الاستشاريات، ليذهب إلى بحث الجذور الفقهية التي قد تكون وراء تلك العلاقة الطاردة للنساء أو على الأقل غير المرحبة بوجود المرأة بوصفها صاحبة دعوى أو قضية في المحاكم السعودية.
ولهذا، يقوم أحمد الجنيدل في مرافعته النقدية بمراجعة موقع المرأة في كتب الفقه المعتمدة سعوديًا في التعليم الشرعي والقضائي باعتبارها المعين الذي تتشكل منه ليس فقط الرؤية الفقهية لبعض الشؤون النسوية بل النظرة الفقهية للمرأة بوصفها ذاتًا فردية واجتماعية. وهذا الموقف النقدي يملك من الشجاعة ألا يتمترس خلف ادعاء ترجيح فقهي مانع، وعلى الإعلان عن مرجعيته بوصفه جدلاً عقلانيًا يقوم ببحث تأثيرات الخطاب الفقهي في الأزمة المرئية بين القضاء وبين حضور النساء في فضائه. ومع أهمية التفاصيل والأمثلة التطبيقية في مرافعته، فإننا هنا نكتفي بذكر بعض الاستخلاصات المركزة التي تضيئ هذا الموقف النقدي مما يطبق في حق المرأة السعودية ليس فقط في حيز القضاء بل في معظم المجالات الحياتية من نزع ولاية المرأة على نفسها بوصفها راشدة بالغة ووضعها بيد رجل محرم (الأب، الزوج، الأخ أو الأبن) إلى نوعية التعليم، نوعية العمل، وقرارتها، ومساحة الحركة، بالإضافة إلى كل ما يخص قضايا الأحوال الشخصية من الزواج إلى الحضانة والنفقة أو الطلاق والميراث. ومن النقاط المهمة لهذه الاستخلاصات:
“أن تعاطي القضاة مع هذه الكتب (الفقهية المتشددة) بشكل مستمر ومتواصل أورثهم نوعًا من الجفوة مع المرأة ولم يستطيعوا الخروج عن (البراديغم) أو النموذج الفقهي الذي يعطي حقوق الرجل أولوية عليها“.
فنحن.. أمام مؤسسة فقهية أرادت أن تفرق بين ما ساوي بينه الله سبحانه فقال“ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف” (البقرة، ۲۲۸). فكل شيء للرجل يجب أن يثبت للمرأة من خلال هذه الآية، لكن المؤسسة الفقهية لم يكن يرضيها أن تتساوى المرأة مع الرجل فقامت بإدخال تفصيلات وتعليلات لتكريس التسلط الذكوري وأبرزت حقوق الرجل وتغافلت عن حقوق المرأة.
- “حينما نتحدث عن القضاء وأحكامه التي لا توفي المرأة حقها يجب ألا نغفل أننا نتحدث عن مؤسسة هي امتداد لمؤسسة فقهية اختارت في خطها العام أن تكرس هيمنة الرجل وحسر دور المرأة وحقوقها، ولا حاجة إلى أن نقول إن هذا ليس من الإسلام في شيء بل هي مجرد اجتهادات فقهية غير صحيحة والإسلام منزه عنها، ولنتذكر أيضًا أن يظلم المجتمع المرأة شيء وأن يظلمها القضاء – والأخطر التشريعات القانونية – شيء آخر” (الجنيدل، د. ص.).
4- نقد غياب المرجعية القانونية في الشأن النسوي
يشكل التقنين مطلبًا إصلاحيًا طالما طرحته القوى الوطنية على الدولة تعبيرًا عن طموحها بالتحول“السعودي” نحو نظام يقوم على سيادة العدل والقانون والمشاركة السياسية. ولذا، فإن المطلب النسوي بهذا الصدد لا يقل إلحاحًا نظرًا للغياب التام لأي منظومة قانونية وشرعية مكتوبة تحتكم لها النساء لعدم وجود مدونة للأحوال الشخصية أصلاً. وإذا أضيف إلى ذلك جدة الاعتراف بحق النساء في حمل إثبات شخصي بالهوية الوطنية حيث لم يقر الأمر إلا مطلع القرن الميلادي، مع استمرار تحفظ بعض القطاعات الخدمية على قبول هوية مستقلة، ما لم تكن في حمى وليِّ يملك ختم الولاية عليها أو مخفورة بُمعرف من المحارم، فإنه يصبح باديًا للعيان مدى تضرر المرأة من غياب منظومة قانونية تعترف بمواطنتها وإنسانيتها وتتحدد بها حقوقها وواجباتها في الأسرة والمجتمع.
وفي هذا الصدد، يُلحظ تكثيف المطالبات القديمة وتجديدها كاستحقاق من استحقاقات الربيع العربي بحقوق المرأة على ثلاث مستويات. المستوى الأول، يطالب بمساواتها مع الرجل في منظومة حقوق المواطنة التي ينص عليها النظام الأساسي للحكم والتي تنص عليها أنظمة العمل والمرور والتعليم والصحة وسواها من القطاعات الرسمية. مع التأكيد على ضرورة العمل بمنظومة التشريعات الدولية المقرة بالوثائق الدولية للأمم المتحدة التي وقعتها المملكة من حقوق المساواة وعدم التمييز السلبي ضد المرأة.
وترسم فوزية البكر صورة لا تخلو من مرارة السخرية لضعف تقنين حقوق المرأة وفجوة عدم المساواة وأثرها على هوية النوع الاجتماعي (gender) في المردود المالي والاعتبار الاجتماعي، حيث كتبت هذه المفارقة في عنوان يحمل روحًا شعبية مرحة من نوع المضحك المحزن“أنت حرمة.. لا قرض ولا أرض!”، ومما قالته:
“’”لا بد أن الكثير من الرجال في السعودية يسجدون لله كل يوم منّة وشكورًا على أنهم خلقوا ذكورًا مستقلين ذوا أهلية شرعية وقانونية يستطيعون بها أن يديروا أمورهم حتى لو لم يتمكن بعضهم لمحدودية علمه أو عقله أو لقصور في خلقه أو لعلات عقلية أو شخصية أن يفرق بين حرف الألف وعمود التلفون. المهم أنه قانونيًا يتمكن من التدبر والتعبير ويستطيع إن أوتي ذكاًء اجتماعيًا أن يستغل ما يتاح له من فرص حتى لو بدت محدودة دون أن توقفه عقبات جنسه فيما لو كان امرأة عاقلة وبالغة ومتعلمة وتملك وظيفة ودخلاً جيدًا وتدير بيتها وأولادها لكنها لا تملك من أمرها القانوني والرسمي شيئًا حتى لو كانت مستشارة في مجلس الشورى أو مديرة لجامعة” (البكر،“أنت حرمة“، د. ص).
المستوى الثاني هو الذي يركز فيه الجهد النسوي العمل على استصدار مدونة حقوقية للأحوال الشخصية الخاصة على غرار المدونة المغربية، على أن يكون ذلك صادرًا في ضوء واقع المجتمع السعودي في اللحظة المعاصرة وموقع المرأة فيها، القائم والمأمول. ومن الضمانات المطلوبة لعدلية مثل هذه المدونة المنشودة أن تكتب في ضوء مرجعية فقهية متعددة ومنفتحة ولا تعطى اليد الطولى فيها للقراءات الفقهية المتشددة. ومع أن الدعوة إلى العمل على كتابة وثيقة قانونية وشرعية للأحوال الشخصية والمطالبة بوجود محاكم متخصصة بالقضايا الأسرية دعوة تمثلت في كتابات الرأي والكتابات المطلبية منذ عقد التسعينيات الميلادية، فإن المطلب شهد حملات مكثفة ارتفع منسوبها في أوج الربيع العربي، ليس آخرها ما طالبت به هالة الدوسري المسئولين في وزارة العدل في المملكة في محاضرة عن قوانين الأحوال الشخصية والمرأة في العالم العربي:
“فتح محاكم خاصة بالقضايا الأسرية، والبدء في التخطيط في فترة زمنية معقولة لإصدار (وثيقة سعودية لأحكام الأسرة والأحوال الشخصية)، تكون قابلة للمراجعة والتعديل بشكل دوري، وبمشاركة عدد من سيدات الوطن في مجال السياسات الاجتماعية والمدنية” (التركي،۱۷)
المستوى الثالث يتمثل في الشراكة الوطنية بين النساء والرجال، بما يجعل مطلب التقنين والتشريع لتطوير الواقع العدلي بمنظومة قانونية وشرعية تتفق مع روح العصر مطلبًا إصلاحيًا عامًا سواء في المجال الاجتماعي والسياسي أو في المجال النسوي، حيث من الوهم أن يصلح جزء دون إصلاح النظام العام الذي يضم جميع مكونات المجتمع. وقد أكدت هذا المطلب أعداد غير قليلة من الناشطات النسويات بالسعودية ومن كاتبات الرأي، وإن تعددت صيغ المطلب، ومن ذلك ما كتبته هتون الفاسي، الكاتبة والناشطة، مؤكدة أن حصول المرأة على حق المشاركة السياسية يذكر بمشترك الحقوق والواجبات في المواطنة وفي البناء الوطني، وبخاصة في سياق مناخ حريات الربيع العربي، ومما قالته:
“عام التحولات السياسية والاجتماعية، عام الحرية والمساواة، عام الربيع العربي الذي كان للمرأة السعودية منه نصيب بقرارات بمشاركة المرأة السياسية، لا بد أن نتذكر أن المرأة السعودية ليست امرأة هينة ولا ضعيفة ولا صامتة مستكينة، هي امرأة تعرف حقها وتعرف ربها وتعرف أنها مكلفة ببناء مجتمعها وأن من حقها أن تكون مكانتها فيه على قدم المساواة مع أخيها الرجل الذي تبني معه هذا الصرح الذي خلق من أجله” (الفاسي، د. ص.).
ويصب بيان مجموعة تسمي نفسها“ثورة النساء السعوديات” نشر في شهر فبراير ۲۰۱۱ على تويتر وعلى الفيسبوك في ساقية المطالب الحقوقية نفسها المعنية بإيجاد منظومة حقوقية مكتوبة ومعمول بها في الشأن النسوي والعام. ونختم هنا بقائمة المطالب الحقوقية التي جاءت في البيان دون تفصيل البنود الدقيقة التي فصلت تفصيلاً ميدانيًا وعمليًا:
أولاً، حق التصرف وإدارة حياتها وحياة أطفالها والاعتراف بهويتها واعتبارها إنسانًا كامل الأهلية في كافة أمورها الحياتية.
ثانيًا، حق رعاية الدولة وضمان حماية حقوقها.
ثالثًا, حق التنقل.
رابعًا، حق الحماية.
خامسًا، المشاركة في إدارة الشؤون العامة.
سادسًا، تعديل الأنظمة والقوانين السعودية التي كرست التمييز ضد المرأة.
توصيات أخيرة في السؤال النسوي السعودي
الحاجة إلى مزيد من الدقة في التعرف على الذات النسوية، من هي؟ ما تعدداتها وتنوعها من حيث الكم والكيف أي قواها المتعارضة والمتوافقة وأطيافها، ومن حيث نسيجها الاجتماعي ومرجعياتها، موضوعها، قدراتها، أولوياتها، آلياتها وأهدافها؟ ومدى هذه الأهداف؟ ويدخل في تحديد معرفة الذات معرفة الواقع الموضوعي لحيز الذات والكشف عن إمكاناته الكامنة والمهمشة والغفل وتحديد الإمكانات الظاهرة أيضًا من حيث طبيعتها ومن حيث علاقتها بجدل الاستقرار والتغير. كما يعتمد على ما تقدم، معرفة قوى التحالفات ومداها القريب المتوسط والبعيد.
ضرورة الوقوف وقفة ذاتية صارمة مما تعانيه النسوية السعودية من تشتت مرجعيات الخطاب، وفي الوقت نفسه ما تحاول أن تخفيه من ذلك بالتمترس خلف خطابات جاهزة باتجاهاتها المتنافرة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. فالملاحظ أنها إلى الآن لم تطور ما يفي من رؤية متماسكة محددة الملامح ومستقلة. فهي لا تعمل لأسباب ذاتية وموضوعية معًا، (ولا يكفي التحجج بالموضوعي وحده)، في إطار رؤية تقدمية ليبرالية وفق المدارس الفكرية والنظرية المعاصرة، كما أنها لا تصدر عن رؤية إسلامية مستنيرة تستوعب المرجعية الشرعية بتعددها الفقهي وطاقاتها الاجتهادية، وتستلهم المنجزات الحضارية المعاصرة. فوضوح الرؤية أيًا كانت، وتعزيز المرجعية المعرفية بها أصبح ضرورة للنسوية السعودية لئلا تكرس حالات اللجوء في الطرح إلى خليط من الدفوعات الإنشائية والمواقف المرتجلة المحكومة بظروف لحظة الصراع السياسي أو الاجتماعي أو الديني.
العمل على مزيد من بلورة وتأصيل النقد النسوي من داخله على مستوى اللغة والفكر وأسلوب الطرح ومجمل الأداء النسوي. ومع الإقرار بأهمية عدم حرق المراحل والعمل على إنضاج التحولات إلا أنه ليس المطلوب إعاد اختراع العجلة. فهناك تراكم معرفي في المجال النسوي عربيًا وعالميًا وإسلاميًا، والمطلوب الإضافة عليه لا اجتراره. فمن غير المقبول أن تطرح القضايا النسوية بأساليب مقلدة ودون إتقان، كما يحدث عند تقليد شعارات مرحلة هدى شعراوي من مطلع القرن الماضي، ومن المستهجن أن نقرأ ونحن في الألفية الثالثة هجائيات ذاتية ومجتمعية فجة على غرار ركيك ليوميات امرأة لامبالية من سبعينيات القرن الماضي أيضًا.
ختامًا
ختامًا، الربيع العربي بعيون المجتمع السعودي: النسوية السعودية بين الاحتواء وأشواق الحرية
إذن، على هذا المستوى من البحث في سؤال الموقف السعودي الرسمي واستحقاقات الربيع العربي في ذاته وفي علاقته بالسؤال النسوي نجد أن الإجابة تتنوع وتتعدد. وهي في النهاية تخلق حالة من التموج التي قد لا تجعل السؤال ينتهي بإجابة قطعية واحدة بل قد تكون الإجابة وعكسها احتمالاً واردًا؛ فالعامل الحاسم ليس عاملاً وحيدًا ولكنه شبكة متداخلة ومعقدة من عوامل الذاتي والموضوعي في سجال جدلي بين المستتب والمتحول.
وفي هذا التماوج يمكن أن نبسط باختصار إجابتين وجدنا – كما تقدم في صلب البحث – أنهما تمثلان اتجاهين ليسا متطابقين تنوعًا في النظر إلى تفاعل السؤال داخل الواقع السعودي السياسي والنسوي. هناك الرأي بأن السعودية في الإجابة عن التساؤل أعلاه قد اكتفت باستجابات ترضوية على استحقاقات الربيع العربي لم يكف اختزالها ببضع تحسينات لحالة أفراد المجتمع ماليًا، مع رتوش إصلاحية لا تتعدى القشرة الخارجية للواقع، بل جرى بها توظيف السؤال النسوي توظيفًا دعائيًا وتجميليًا. وبحسب هذا الرأي، فإن ذلك يعطي السعودية ضمانتين ضد رياح الربيع؛ فهو من ناحية يخفف من صلابة الجدار العازل الذي يفصل بين عالم الرجال وعالم النساء في السعودية في عيون الإعلام الغربي تحديدًا، بوضع لمسة تجميلية لا تمس مُركب السؤال النسوي، في الوقت نفسه الذي يبقي المسافة الفاصلة بين الدولة والمجتمع بما لا يحقق أيًا من استحقاقات الربيع في التحول عن سياسة الاستفراد بالحكم إلى شراكة سياسية قائمة على العدل والمساواة (محاورة في برنامج أجندة مفقودة). كما أن اختصار استحقاقات الربيع العربي بذلك الشكل الاختزالي قد عمل على إرباك خيارات النساء وخلط أوراق المطالب المدنية والشرعية الجذرية بالأوراق السياسية الهشة (القويفلي، د. ص.).
مقابل ذلك، هناك رأي آخر يرى أنه كان من الصعب على السعودية دولًة ومجتمعًا تجنب استحقاقات الربيع العربي. ولهذا، فالاستحقاقات لا تقاس بعطايا الدولة ولا بأي درجة أخذت استحقاق الإصلاح مأخذًا جديًا، أو لماذا خرجت على محافظتها واختصرت استحقاقاته في قرار يمس سؤال النساء مع بقاء كل إشكالياته الشائكة، ولكنه يقاس بذلك الحراك الذي خلقه داخل القوى الاجتماعية وبخاصة القوى الوطنية ذات الطاقة والمصلحة في الإصلاح، ومنها قوى الشباب والنساء. وفي هذا يمكن القول إن الربيع العربي في أوج تأججه إبان عامه الأول على وجه التحديد قد تحول إلى حالة ملهمة للسعودية ولعموم المنطقة العربية نساًء ورجالاً، إلا أن ذلك ليس إلا النصف المليئة من الكأس، أما النصف الفارغة مما لا يمكن تجاهله فهو يتمثل في هاجس السؤال المؤرق تجاه ما أملنا أنه الربيع العربي، هل لا يزال الربيع العربي ربيعًا، وبمن، ولمن، وإلى أين على مستوى السؤال الوطني والسؤال النسوي بخاصة؟
المراجع العربية
“الحقوق السياسية للمرأة السعودية“. برنامج أجندة مفتوحة. مضاوي الرشيد وابتهال مبارك. بواسطة بي بي سي العربية. ۲۷ سبتمبر ۲۰۱۱.
<https://www.youtube.com/watch?v=nZzooAa74xY>.
الإبراهيم، بدر.”الربيع السعودي ٢٠١١“. موقع المقال. 31 أكتوبر ۲۰۱۱.
<https://www.almqaal.com/?p=823>.
البكر، فوزية.”المرأة في الخطاب التعليمي“. مجلة النص الجديد 6 و7 (إبريل ١٩٩٧): ص ص ٢١٥–٢٣١.
“أنت حرمة لا أرض ولا قرض” جريدة الجزيرة 14366 (٢٨ يناير ۲۰۱۲).
<https://www.al-jazirah.com/20120128/2012/ar2.htm>.
التركي، فاضل.”وثيقة سعودية لأحكام الأسرة والأحوال الشخصية“. جريدة الشرق ١٨٦ (٧ يونية ٢٠١٢): ص ۱۷.
الجنيدل، أحمد.”مشكلة القضاء مع المرأة وجذرها الفقهي“. موقع المقال. ۲۰ ابريل ۲۰۱۲.
<https://www.almqaal.com/?p=2118>.
الخضر، عبدالعزيز.”فتنة الاستقرار“. جريدة الشرق. 31 ديسيمبر ۲۰۱۱.
<https://www.alsharq.net.sa/67938/31/12/2011.
السعودية سيرة دولة ومجتمع. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ۲۰۱۰.
زاهد، أمل.”حتى يؤتي حراك المرأة السعودية أكله“. موقع المقال. 8 أكتوبر ۲۰۱۱.
<https://www.almqaal.com/?p=545>.
سليس، وليد.”التحولات الكبرى للشباب السعودي في المجال السياسي“. موقع المقال. ۲ اکتوبر ۲۰۱۱.
<https://www.almqaal.com/?p=497>.
الظفيري، علي.”السعودية وربيع العرب“. موقع المقال. ٢٧ يوليو ۲۰۱۱.
<https://www.almqaal.com/?p=369>.
العبد اللطيف، لطيفة. بعض العوامل المؤثرة على حقوق المرأة المطلقة والمهجورة والمتغيب عنها زوجها. الرياض: عمادة البحث العلمي بجامعة الملك سعود، ۲۰۰۹.
الفاران، أمل.”أفكارهن رهن الإقامة الجبرية“. جريدة الشرق 66 (8 فبرایر ۲۰۱۲): ص ۲۳.
الفاسي، هتون.”المرأة السعودية في العهد الجديد مواطنة“. جريدة الرياض 15805 (٢ أكتوبر ۲۰۱۱).
<https://www.alriyadh.com/02/10/2011/article671737.html>.
القويفلي، إيمان.”النسوية السعودية والإصلاح السياسي“. موقع المقال. ۲۱ اکتوبر ۲۰۱۱.
<https://www.almqaal.com/?p=724>.
“500 امرأة سعودية يرفعن خطابًا لولاة الأمر“. صيد الفوائد. ٢٠٠٥.
المراجع الإنجليزية
Niblok, Tim. Saudi Arabia: Power, Legitimacy and Survival. New York: Routledge, 2006.
الإمكانات والمعوقات: دور الفاعلية النسائية الإسلامية في تلبية احتياجات
النساء العربيات
يولي بروزان– يورجينسين (Julie Pruznan-Jorgensen)
مقدمة
ما هو الدور الذي تلعبه الفاعلية النسائية الإسلامية في تلبية احتياجات النساء في العالم العربي؟ بشكل أدق، ما هي الطاقات الكامنة داخل ذلك النوع من الفاعلية النسائية التي يمكن أن تؤدى إلى الدفع بعملية تمكين النساء إلى الأمام، والسعي بقوة نحو تقويم الممارسات الأبوية المتسلطة في المنطقة؟
لا يهدف هذا الفصل من الكتاب إلى تقديم إجابة جامعة أو مفصلة عن هذه الأسئلة الكبيرة، ولكنه يهدف إلى تقديم نظرة شاملة على تلك الظاهرة الحيوية والمتنوعة وعلى بعض إمكاناتها الكامنة وبعض المعوقات التي تواجهها. وبناء على البحث الذي قمنا به عن مصر والأردن والمغرب، يهدف هذا الفصل إلى ثلاثة أهداف: الهدف الأول هو عرض مقدمة عامة عن ظاهرة متنامية ومتعددة الأوجه وهي الفاعلية النسائية الإسلامية في العالم العربي. أما ثاني الأهداف فيتمثل في إلقاء الضوء على بعض أهم الإمكانات التي تحملها تلك الظاهرة فيما يتعلق بتلبية احتياجات النساء. ويتمثل الهدف الثالث في إبراز أهم مخاطر وتحديات تلك الفاعلية مثل عملية الإقصاء التي تمارس بحق أصوات ومناهج أخرى. وننهي الفصل بخاتمة قصيرة تتناول كيف يمكن تجنب تلك المخاطر من أجل تحقيق انطلاق الطاقات الكامة للفاعلية النسائية الإسلامية وتحقيق المساهمة في مجال تمكين النساء العربيات وتقويم الممارسات الأبوية المتسلطة.
تعريفات
تشير عبارة الفاعلية النسائية“الإسلامية” (Islamic) إلى مجال واسع من النشاطات يقوم بها فاعلون محليون (سواء رجال أو نساء) واضعين لنشاطاتهم تلك إطار مرجعي ديني (إسلامي في تلك الحالة). وأشير إلى تلك الفاعلية بوصف“إسلامية” (وليس“مسلمة“Muslim) لكي أؤكد على اهتمامي بالفاعلات اللاتي يعتمدن بصورة واضحة على الإسلام في نشاطاتهن، ويستخدمنه ويتخذنه مرجعًا. وبينما تتخذ هؤلاء الناشطات الإسلاميات جميعهن الإسلام مرجعًا، فعلينا التأكيد على أنهن يفعلن ذلك على تفسيرات واسعة الاختلاف للنص الإلهي (القرآن) وللحديث الشريف والسنة وللتشريعات المستقاة منهما. وتمضي هؤلاء الناشطات في منهجهن مسترشدات ومتأثرات بمواقعهن الاجتماعية والثقافية والمبنية على الجندر في المجتمع، كما سوف نوضح بتفصيل أكثر فيما بعد.
وفيما يتعلق بقضية“فاعلية النساء” (women’s activism) فإنني أتبنى فهمًا واسعًا ومفتوحًا للنشاطات التي تسعى إلى تمكين النساء بأشكال مختلفة، أو تلك التي تساهم في تقويم عدد كبير من المعطيات الاجتماعية والثقافية والقانونية، وبذلك تقف في وجه الممارسات الأبوية المتسلطة. وتشير كلمة“تمكين” (empowerment) بصورة محددة إلى التغيرات التي تدعم مشاركة النساء وفاعليتهن وسلطاتهن في مواقف متعددة وقطاعات شتى في الحياة.
وقد تعمدت هنا ألا أشير إلى تلك الفاعلية بمصطلح“النسوية الإسلامية” (Islamic Feminism) (أنظر/ أنظري أبو بكر Abu-Bakr، 104، وبدرانBadran, “Islamic Feminism”، ومير حسینی (5-1,Mir-Husseini) إذ تبقى فكرة النسوية الإسلامية حتى الآن فكرة مثيرة للجدل، لأسباب عديدة منها أنها تمثل إقحامًا لأيديولوجية غربية علمانية وذات نزعة فردية على الناشطات الإسلاميات، (أنظر/ أنظري على سبيل المثال لاتا– عبد الله Latte-Abdallah،13-32 ولكن ما زال بإمكاننا ضحد الكثير من هذه الانتقادات بأن نقول في المقام الأول إن النسوية ليست مصطلحًا“غربيًا” أو“مناهضًا للإسلام” (أنظر/ أنظري عزت Ezzat).
وفي الواقع، فبينما تمثل الاتجاهات النسوية الليبرالية/العلمانية تيارات تاريخية مختلفة في العالم العربي (أنظر/أنظري أحمد Ahmed)، فمن غير المجدي اعتبار تلك التيارات منفصلة انفصالاً تامًا أو أنها ينفي بعضها البعض. فعلى سبيل المثال فقد أوضحت مارجو بدران Margot Badran في أبحاثها التي تتناول مصر أن الاتجاهات السابقة التي ترى في“النسوية” أمرًا“غريبًا وواردًا من الخارج” (بوصفها كما يدّعي الكثيرون اتجاهًا غربيًا ولا دينيًا) هي اتجاهات مغرقة في التسطيح، وذلك لأن الكثير من الحركات النسوية ظهرت في مصر وانجلترا في نفس الوقت، كما أن تلك الحركات النسوية في مصر كانت من صنع نساء مصريات. وهكذا فقد تزامنت النسوية“العلمانية” مع النسوية“الدينية” وتطورتا تطورات كبيرة، ولا تزالا حتى الآن منخرطتين في الحوار والتأثير المتبادل (أنظر/ أنظري بدران (Badran, Feminism in Islam). وبالرغم من أنا يجب أن ندرك أهمية التفرقة بين المفاهيم التي يستخدمها الفاعلون وتلك التي يستخدمها المحللون، فإنني لا أركن إلى استخدام مصطلح“النسوية الإسلامية” الذي لم يفتأ في كثير من المناسبات يثير ردود أفعال سلبية لدى النساء اللواتي أجريت معهم مقابلات ونقاشات.
وهكذا فإنني أشير بمصطلح“فاعلية النساء الإسلامية” إلى نمط من الفاعلية مبني بصورة واضحة على إطار مرجعي إسلامي، ويساهم بأشكال مختلفة في تمكين النساء المسلمات سواء عن طريق تدعيم مساهماتهن وفاعليتهن وسلطاتهن، أو عن طريق المساعدة في تحقيق إصلاحات متعددة في الجوانب الاجتماعية والثقافية والقانونية تجابه الممارسات الأبوية المتسلطة.
المصادر والقيود
هذا الفصل مبني على دراستي عن فاعلية النساء الإسلامية في الوطن العربي والتي ظهرت مؤخرًا (أنظر/ أنظري بروزان – يورجينسين (Pruzan-Jorgensen, Islamic Women’s Activism) والتي نتجت عن رحلة شخصية مفعمة بالتحديات والإنجازات في آن واحد. فقد كان لي الحظ الوفير الذي مكنني من إجراء أكثر من 50 مقابلة شخصية على مدى عامين مع مسلمين متدينين (وبصفة رئيسية مع مسلمات متدينات) في مصر والأردن والمغرب، والذين يعملون بأشكال مختلفة في مجال تحسين أوضاع النساء في مجتمعاتهن داخل إطار ديني. وقد أجريت تلك المقابلات مع باحثين وناشطين وعاملين في مجال الرفاه والأعمال الخيرية، ووعاظ من الناس العاديين وسياسيين ورجال دولة. وينتمي هؤلاء إلى مؤسسات مختلفة وخلفيات أيديولوجية متعددة، بالرغم من أن معظمهم ينتمي إلى نخبة الطبقة الوسطى في المدن في تلك البلاد الثلاث.
وليس بمقدور المادة التي أعرضها هنا أن تقدم فهمًا جامعًا أو نهائيًا للأشكال المتعددة والمعقدة لظاهرة فاعلية النساء الإسلامية في الوقت الحاضر في تلك الدول الثلاث، ناهيك عن العالم العربي ككل باختلافاته الاجتماعية والثقافية والسياسية. ولكن يحدوني أمل متواضع في تقديم تحليل مبدأي لبعض الخصائص العامة لتلك الظاهرة الواسعة والمعقدة، وللطرق المختلفة التي تلبي بها احتياجات النساء العربيات.
وعلى صعيد آخر، ففي المرحلة التي فصلت بين الزيارات الميدانية والبدء في كتابة هذا الفصل، مرت المنطقة ولا تزال تمر بتغيرات سياسية كبيرة، حيث تؤدي الانتفاضات الشعبية إلى تسييس المجتمع في المنطقة كلها، وذلك بعد أن نجحت في إزاحة حكام شموليين ظلوا في الحكم لعقود طويلة. وبالرغم من أن هذه التغيرات لا ترتبط جميعها بفاعلية النساء الإسلامية فهي لا تزال تساهم بقوة في تغيير السياق العام الذي تحدث فيه هذه الفاعلية. وللأسف فلا يزال الوقت مبكرًا لتقييم وقع تلك التغيرات الدرامية التي لا تزال في طور الحدوث على الوضع العام للنساء، وبصورة خاصة على الجهود التي تقوم بها الناشطات الإسلاميات أو الليبراليات / العلمانيات العاملات في مجال قضايا النساء في هذه المجتمعات. ولكننا على أية حال يمكن أن نؤكد على أهمية فهم فاعلية النساء الإسلامية في سياق يشهد صعود تيار الإسلام السياسي بأشكاله المختلفة في المنطقة.
من هن”الناشطات الإسلاميات”؟
كما ذكرنا آنفًا، تمثل الفاعلية الإسلامية النسائية رقعة واسعة ومتنوعة من النشاطات التي تسعى بطرق متعددة لتمكين النساء وتضغط من أجل إصلاح الممارسات الأبوية المتسلطة، معتمدة في ذلك على إطار مرجعي إسلامي. ولكننا نجد تباينًا كبيرًا في أيديولوجيات الناشطات الإسلاميات أو في بؤر اهتماماتهن أو في جمهورهن وسياقاتهن الجغرافية أو في نشاطاتهن الملموسة، أو الكثير غير ذلك من النقاط التي تميزهن عن بعضهن البعض.
فعلى سبيل المثال، نجد بين الفاعلات الإسلاميات ناشطات ينتمين إلى مهن مختلفة وسياقات مؤسسية متعددة، فمنهن الباحثات والناشطات في مجال الرفاه والأعمال الخيرية، والناشطات الدينيات والناشطات السياسيات. وبالنظر إلى بؤر اهتمامهن، نجدها تتراوح بين القضايا ذات الخصوصية والحميمية المتعلقة بالمجال الشخصي، والتحديات العالمية التي تمثل عقبات أمام النساء العربيات والمسلمات. وبناًء على ذلك، نجد هؤلاء النساء يتنوعن كثيرًا بالنظر إلى سياقاتهن الجغرافية وبؤر اهتمامهن ما بين جماعات معنية بأمور محلية صغيرة، ومنظمات عالمية تشارك في رسم السياسات وحملات الضغط التي تهدف إلى صياغة أجندات عالمية.
كما تتباين آراء الناشطات الإسلاميات تباينًا ملحوظًا حول القضايا الواجب إثارتها، فنجد اختلافات واضحة بينهن حول فهم ما تريده وتحتاجه النساء العربيات أو ما يشكل العوائق والتحديات الرئيسية التي تحول دون تلبية تلك الاحتياجات. فعلى سبيل المثال بينما تدرك بعض الناشطات الإسلاميات أهمية توجيه الاهتمام نحو مشكلات النساء بشكل خاص، ترفض أخريات (خصوصًا الناشطات العاملات في منظمات وجماعات إسلامية) فكرة أن النساء يواجهن في مجتمعاتهن مشكلات خاصة بهن يجب التعامل معها بشكل منفصل وتتطلب اهتمامًا خاصًا. ونجد هؤلاء النساء يؤكدن على أن المشكلات الرئيسية التي تواجهها النساء هي مشكلات عامة تواجه الرجال والنساء على حد سواء، مثل الفقر والجهل والظلم. وتبعًا لهذا الرأي، فقد تكتسب تلك التحديات المشتركة صيغة مدموغة بالجندر أو منظور النوع (كأن ينفث الزوج المحبط المقهور غضبه على زوجته)، ولكن تبقى مواجهة السبب الأصلي لتلك التحديات والمتمثل في المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية العامة هي الطريقة المثلى للتعامل معها.
هناك كذلك المأزق المتمثل في سؤال التعاون مع النظم القمعية وهل من الأجدر تقبلها أم معارضتها بصورة واضحة. وتتصل هذه القضية بسابقتها حيث نجد الناشطات اللاتي يضعن في الأولوية القضايا الخاصة بالنساء يجنحن بصفة عامة نحو إقامة تعاون مع الأنظمة القائمة من أجل تحقيق غاياتهن، بينما نجد هؤلاء المعنيات بالجذور السياسية الأعمق يجنحن نحو عدم الوثوق بالتعاون مع الدولة طالما كانت الأنظمة التي يواجهنها أنظمة قمعية.
ويتمثل أهم الحدود الفاصلة بين الناشطات الإسلاميات في مقارباتهن التفسيرية للنص الإلهي، وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بما لو كان التفسير حرفيًا أم معتمدًا على رؤيتهن للسياق التاريخي والاجتماعي للنص. فعلى سبيل المثال، يؤثر ذلك على مقارباتهن لقضايا العلاقات بين الجنسين. ويمكننا أن نضع الناشطات الإسلاميات على سلسلة تمتد بين هؤلاء اللاتي يعتبرن العلاقات بين الجنسين أمرًا خاضعًا للصياغة الاجتماعية، وهن اللاتي يدعون في الوقت ذاته إلى المساواة بين الجنسين، وهؤلاء اللواتي يعتبرن فكرة النوع (الجندر) مبنية على الحتمية البيولوجية ولهذا نجدهن يدعون لمجرد التكامل بين الرجال والنساء. ويمكننا وضع الكثير ممن يسمين“النسويات الإسلاميات” على أحد طرفي تلك السلسلة الممتدة بينما نضع أتباع الأفكار الإسلامية السلفية والمحافظة على الطرف الآخر.
أفكار أساسية مشتركة
ولكننا نجد فيما وراء هذه الاختلافات وغيرها أن الناشطات الإسلاميات تجمعهن مبادیء وطموحات أساسية مشتركة، من أهمها أنهن متفقات على فكرة مركزية ترى أن الإسلام لا يشكل مشكلة للنساء، بل يمنحهن الحقوق والامتيازات. وتبعًا لذلك فإن هدفهن الأعم يتمثل في نشر التعريف بتلك الحقوق والعمل على احترامها وتطبيقها من قبل الجميع. بمعنى آخر، فإن سبب معاناة النساء لا يكمن في الإسلام ولكن في الجهل به وفي التفسيرات الخاطئة له. وهكذا فالتحدي بالنسبة للناشطات الإسلاميات لا يتمثل في تحرير النساء من الإسلام ولكن في استعادة حقوقهن وامتيازاتهن التي منحها أياهن الإسلام.
ومن ضمن الحقوق التي منحها الإسلام للنساء، والتي أكدت عليها الكثيرات ممن أجريت معهن مقابلات، حق المرأة في الحماية من قبل أبيها أو زوجها. كما أن للمرأة الحرية في استخدام ما ترثه وما تكسبه كما تشاء وليس مفروض عليها إنفاقه على أسرتها. وقد اتفقت كذلك معظم من أجريت معهن المقابلات على أن للمرأة الحق في القيام بدور اجتماعي فعال. في واقع الأمر فقد أكدت الكثيرات على أن للإسلام دور رئيسي في دفعهن نحو المشاركة الفعالة في المجتمع. ولكن ينبغي أن تتم هذه المشاركة في إطار لائق دينيًا. وفي هذا الصدد تشير الكثيرات ممن أجريت المقابلات معهن إلى الحجاب الإسلامي كممارسة تكفل حماية النساء وتتيح لهن المشاركة والمساهمة في الحياة العامة بصورة آمنة ومحترمة.
كما أكدت العديدات ممن أجريت معهن المقابلات على فكرة أن الإسلام يمنح النساء حقوقًا مساوية وليست مماثلة لحقوق الرجل. فالإسلام يرى أن الرجال والنساء متكاملون لا متساوون ومتماثلون، كما يخصص لكل فريق أدوارًا وإمكانات والتزامات متباينة. على سبيل المثال يعول الزوج أسرته بينما تقع على الزوجة مسئولية تنشئة الأطفال. وتنعكس هذه الصورة التكاملية على تشريعات الميراث المعقدة. وتبعًا لذلك نجد معظم (وليس كل) الناشطات يدعون إلى الإنصاف وليس“المساواة“. وترى الكثير ممن أجريت معهن المقابلات أن الحقوق والالتزامات متبادلة، فالإسلام لا يكتفي بمنح النساء حقوق ولكنه يضع عليهن بعض الالتزامات: التزامات دينية، والتزامات برعاية أسرهن، والتزامات بالمشاركة والمساهمة المجتمعية (إذا وجدن لديهن الطاقة اللازمة لذلك).
وكما ذكرنا آنفًا، تؤمن الكثيرات من الناشطات الإسلاميات بأنه بالرغم من أن الإسلام يمنح النساء حقوقًا واضحة، تبقى المشكلة الكبرى متمثلة في أن تلك الحقوق لا يتم تطبيقها على أرض الواقع. وقد أشارت معظم من أجريت المقابلات معهن إلى أن الجهل والتفسيرات“الخاطئة” (حتى تلك التي تصدر عن علماء بارزين) هي الأسباب الرئيسية للمشكلة. وتبعًا لذلك تحاول الكثيرات منهن بطرق متعددة وعن طريق النشاطات المختلفة التي يقمن بها مجابهة الجهل والممارسات المحافظة بهدف ضمان حقوق النساء المسلمات والامتيازات والحماية المستحقة لهن.
وكمثال، فقد أشارت الكثيرات ممن أجريت معهن المقابلات إلى قضية الميراث المعقدة. فتبعًا للقرآن ترث النساء من الوالدين نصف ما يرث أشقائهن من الرجال. ولطالما اعتبر ذلك دليلاً على أن الإسلام دين أبوي سلطوي يمارس القهر على النساء. ولكن ترى هؤلاء النساء أن ذلك تفسير خاطئ لأن تلك المبادئ القرآنية تعطي النساء امتيازات أكبر. فبينما تقع إعالة الزوجة والأطفال على عاتق الرجل (بالإضافة لأقاربه المعوزين من النساء، مثل الأرامل المسنات) نجد الابنة تتمتع بحرية التصرف في نصيبها من الإرث، إذ انها غير ملزمة بالإنفاق على أسرتها ولا بالعمل خارج البيت إذا لم تكن ترغب في ذلك. ولكننا نجد على أرض الواقع أن الرجال غالبًا لا يحترمون هذه القواعد القرآنية، إذ نرى النساء أحيانًا مرغمات على المشاركة في نفقات البيت من مواردهن الشخصية، كما نرى أحيانًا رجالاً لا يلبون التزاماتهم المادية تجاه زوجاتهم وأفراد عائلاتهم. وتبعًا لتفسيرات النساء اللاتي أجريت معهن المقابلات فإن تلك المشكلات ليست ناجمة عن الإسلام الذي يتعهد بحماية النساء، ولكن مصدرها يتمثل في قصور المعرفة والتفسيرات والممارسات (السلطوية الأبوية)”الخاطئة“.
وهناك فكرة أخرى تعتنقها الكثيرات من الناشطات الإسلاميات وهي أن القضايا المتعلقة بوضع النساء يجب أن تنبني على حلول مقبولة محليًا. وترى بعض الناشطات أن ذلك لا يتعارض مع اتخاذ“اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على كافة أشكال التمييز ضد النساء” والمعروفة باسم“سيداو” CEDAW مرجعية لهن، بينما تختلف ناشطات أخريات (وبخاصة هؤلاء اللاتي يتبعن حركات إسلامية) بشدة مع“فرض” عالمية مفاهيم“غربية” كمفهوم“الجندر” و“المساواة” و“النسوية“، والتي يعتبرنها أفكارًا واردة من الخارج تشكل تهديدًا للهوية الثقافية العربية وللأعراف الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، تنتقد الكثيرات من الإسلاميات اللاتي نجري معهن مقابلات مفهوم“الجندر” لأنه يتجاهل الفروق والتكاملية بين الرجال والنساء، في حين تذهب بعضهن إلى حد اعتبار ذلك وسيلة لشرعنة المثلية الجنسية، بل وحتى فرضها فرضًا.
وتهتم الكثيرات من الناشطات الإسلاميات بمقارنة الحقوق التي أسبغها الإسلام على النساء بالقيم والممارسات الغربية والتي يعتبرنها ضارة بالنساء وبأسرهن وكذلك ضارة بالدين. ويرتبط هذا النقد بمعارضة واضحة للتبني الأعمى“للقوالب” الأوروبية. ويوجه البعض (مرة أخرى، وليس الكل) ذلك النقد إلى اتفاقية“سيداو“، والتي قد أضحت حلبة أساسية للجدل، حيث تشير إليها الكثيرات ممن أجريت معهن مقابلات كمثال لما هو إشكالي ومثير للجدل. ويبدو لنا أن“سيداو” شأنها في ذلك شأن مفاهيم إشكالية أخرى مثل الجندر والنسوية، قد اكتسبت طبيعة خاصة بها كرمز للمنهج الغربي المعتمد على النزعة الفردية والذي يتبنى فكرة التطابق بين الرجال والنساء مشجعًا بذلك على الخلافات والصراعات بين الجنسين. ويوضع ذلك في مقابل الأفكار الإسلامية التي تعد الأسرة وليس الفرد الوحدة الأولية التي ينبغى حمايتها، والتي تسعى إلى تحقيق التكامل وليس التطابق.
كما تحاول النساء اللاتي أجريت معهن المقابلات ضحد الصور النمطية السلبية المنتشرة عن الإسلام في الغرب، ويرفضن فكرة وجود حقوق علمانية“كونية” للنساء، حيث يعتبرن تلك الفكرة تجليًا لوجهة نظر غربية عدوانية تتعارض مع الإسلام وتجابهه. وبينما ترى بعضهن أن الغرب محق أحيانًا في القول بأن النساء العربيات يعانين من بعض المشكلات الخاصة بهن، فمن الخطأ افتراض أن تلك المشكلات مرتبطة بالإسلام أو ناجمة عنه. ولهذا أعربت معظم النساء اللاتي أجريت معهن المقابلات عن رفضهن لأية أجندة غربية تُفرض عليهن، وبخاصة فيما يتعلق بدور النساء ومكانتهن في المجتمع. وعلاوة على ذلك ترفض الكثيرات من الناشطات الإسلاميات أفكار وممارسات الناشطات الليبراليات/العلمانيات، سواء کن عالميات أو محليات، إذ ينتقدن تبنيهن منهج وخطاب احتكاري متعال يعكس منحى الإمبريالية الجديدة.
“إضفاء صبغة نسائية” على الإسلام
أقوم في الأجزاء التالية من هذا الفصل بعرض لبعض الإمكانات الرحبة المتاحة أمام الفاعلية النسائية الإسلامية والتي تتعلق بتمكين النساء العربيات من خلال الضغط لتحقيق إصلاحات في الممارسات الأبوية المتسلطة، سواء كانت ثقافية أو اجتماعية أو قانونية. وتظهر أولى تلك الإمكانات المتاحة أمام الفاعلية النسائية الإسلامية في مجال إصلاح الإسلام وإضفاء صبغة نسائية عليه. ينتج عن ذلك ظهور دراسات دينية معرفية جديدة وتفسيرات جديدة للقرآن والحديث والفقه عن طريق تطبيق مناهج تفسيرية إسلامية مثل الاجتهاد والتأويل، إلى جانب أدوات تفسيرية أخرى. كما تعني تلك الإمكانات بتحديد الفارق بين الأفكار التي صاغها البشر والأصول الفقهية المتأثرة بالسياق التاريخي والثقافي الذي كان المفسرون يعيشون فيه من ناحية، والصراط الأبدي الأزلي للشريعة والذي أوحي به الله للنبي محمد من الناحية الأخرى. ويمكن الاستفادة من هذا المسعى، إلى جانب أدوات أخرى، في تفكيك تفسيرات الآيات التي اصطلح على استخدامها لشرعنة التسلط الذكوري. كما يتمثل جانب آخر من جوانب هذا العلم الإسلامي المعني باعتبارات النوع (الجندر) في أنه يعيد قراءة النصوص الدينية بطريقة تبرز المبدأ العام المتعلق بالمساواة بين المؤمنين والمؤمنات، بدلاً من الآيات ذات المرجعية المحددة التي تؤكد على الاختلاف في النوع (الجندر) وغياب المساواة بين الرجال والنساء، والتي اتخذت على مر القرون ذريعة لتبرير غياب التكافؤ في العلاقات بين الرجال والنساء. ويتمثل جانب آخر من هذا التحليل الجديد الذي يولي أهمية خاصة لاعتبارات الجندر، والذي نراه آخذًا في التشكل، في إلقاء الضوء على الأدوار التي قامت بها شخصيات مرموقة من النساء على مر التاريخ الإسلامي في الحياة العامة، مثل صحابيات النبي.
ومن بين الإمكانات المتعددة لهذه النوعية من الأبحاث الجديدة أنها تمهد الطريق لتنمية دور النساء في التفسير في المجال الديني، مثل حقهن في الصلاة في المساجد أو الاقتراب من الكعبة خلال الطواف، كما أنه يدعم مواقع النساء كفقيهات ومرشدات وداعيات و(ربما) أئمة في الصلاة (على الرغم من أن هذه النقطة تبقى إشكالية ومثيرة للجدل الشديد). ولهذه الفاعلية في الناحية البحثية والعلمية إمكانات كبيرة تؤدي إلى تأسيس علاقات جديدة بين الناشطات والفقهاء الذين نجد أغلبيتهم من الرجال. ومن الممكن أن يؤدي ذلك إلى دفع بعض هؤلاء العلماء الرجال إلى الخروج بتفسيرات وزوايا رؤية جديدة فيما يتعلق بالعلاقات بين النساء والرجال وبقضايا النساء.
وسوف يكون للتفسيرات البحثية الجديدة المعنية بقضايا الجندر في الإسلام تأثيرات إيجابية على صياغة أطروحات وأدوات جديدة تمكن النساء العربيات من تغيير أحوالهن الشخصية وأوضاعهن في المجالين العام والخاص. فعلى سبيل المثال، قد تحقق مشاركة النساء في الحلقات الدراسية النسائية التمكين للنساء وتمنحهن الفاعلية ووسائل جديدة للتطور الذاتي، كما قد تمكنهن من صياغة حجج قوية تمكنهن من تغيير أدوارهن وأوضاعهن بناء على تواصلهن مع مشاركات أخريات أو تطوير وعيهن بجوانب تلك المعرفة الجديدة، مثل دور وفاعلية صحابيات النبي في الحياة العامة.
وتتيح تلك المعارف الجديدة ظهور حجج وأدلة مفيدة ومعلومات مهمة تتعلق بمجموعة كبيرة من الإصلاحات على أصعدة مختلفة، ما بين حميمية المجال الخاص (حيث نجد مثلاً أنه من الممكن أن تستخدم النساء المعاصرات من مواقعهن كإبنات وأخوات وزوجات الإشارات الواردة عن حياة صحابيات النبي كحجج تدعم مطالبتهن بممارسات عائلية جديدة وبتغييرات في حياتهن الاجتماعية) إلى المجال السياسي والقانوني على المستويات المحلية وعلى مستوى الدولة بل وعلى المستوى العالمي (مما سيدفع مثلاً بالإصلاحات في مجال الأحوال الشخصية والقوانين الجنائية والدساتير والتشريعات التمييزية الأخرى). وبالرغم من أن محاولات إصلاح قوانين الأسرة الإسلامية تبقى محفوفة بمخاطر الجدل والشقاق، إلا أنها في الحقيقة سوف تشكل أحد المجالات التي يمكن أن تحقق فيها الفاعلية النسائية الإسلامية تغييرات هامة في أوضاع النساء في المجتمع – هذا لو أخذنا في اعتبارنا الأسس الدينية لقوانين الأسرة والممارسات التشريعية الخاصة بالأمور الأسرية (كالزواج والطلاق والميراث وحضانة الأطفال).
تخطي المأزق الراهن وإحياء المناقشات من جديد
تساهم فاعلية النساء الإسلاميات كذلك في عملية تخطي المأزق الراهن المتعلق بما يسمى“المرأة المسلمة المقهورة” وهو المأزق الذي اكتسب على مدار السنين مكانة شديدة الرمزية والإشكالية في آن واحد في سياق الخطاب الاستعماري. ولهذا فقد أصبحت القضية أحد أهم الطروح التي تساق في الوطن العربي في مواجهة الإمبريالية الثقافية ومن أجل حماية الهوية الأصلية والخصوصية الثقافية. وقد تسبب التوتر الذي تخلَّق عن هذا الصراع في رفض واسع من داخل الوطن العربي لأي تغيير أو إصلاحات تتعلق بوضع النساء، حيث كان ينظر إلى تلك المحاولات بوصفها تحقيق لأجندة نيو إمبريالية وضرب للهوية الثقافية والدينية الأصلية.
سنجد أن الفاعلية النسائية الإسلامية يمكن أن تقدم حلاً لهذا الصراع بتقديمها مناهج للتعامل مع قضايا حقوق النساء وتمكينهن مستمدة من الجذور الثقافية مما يجعلها أكثر قبولاً. وهنا لذلك المنهج دور مؤثر في إحداث إصلاحات في الممارسات الأبوية المتسلطة على المستوى المحلي والتي طالما بررتها الطروح القومية والمعادية للإمبريالية. كما تؤدي هذه الفاعلية المستمدة من الجذور الثقافية إلى كسر حدة الصور والأفكار النمطية الغربية عن النساء المسلمات والتي تصورهن في صورة الضحية التي تعاني من الإسلام الذي هو في جوهره دين معاد للمرأة ومرسخ للسلطة الأبوية (عزتEzzat, “The Silent Ayesha”،184-196).
جذب جمهور جديد والحث على المشاركة
نجد في القطاعات المحافظة اجتماعيًا أن الفاعلية النسائية الإسلامية تحظى بقبول اجتماعي أكثر من ذلك الذي تحظى به النشاطات غير الدينية التي تقوم بها النساء، مما ينجم عنه جذب قطاعات جديدة في المجتمع وتشجيع أفراده على المشاركة في فاعلية النساء، وهو ما يؤدي في النهاية إلى ازدياد أعداد الناشطات والداعمين/الداعمات لهن.
فعلى سبيل المثال نجد في المنظمات الإسلامية الاجتماعية والخيرية في الوطن العربي، مثل جمعية“المركز الإسلامي الخيري” بالأردن، أو جمعية“رسالة” الخيرية المصرية، أن المشاركة في مثل تلك الجمعيات تمثل سبيلاً شرعيًا تستطيع ملايين النساء المسلمات من خلاله المشاركة في نشاطات تتخطى المجال الخاص والخروج من حيز المنزل وإقامة شبكات اتصال وتنمية خبراتهن ومهاراتهن. ثم أن ذلك يتيح أمامهن الحصول على بعض الدخل والعائدات المادية وهو الأمر الذي يؤدي بدوره إلى تدعيم استقلالهن وتنمية فاعلياتهن، لأن العمل التطوعي في هذه المنظمات الإسلامية غالبًا ما يعد أكثر احترامًا للنساء اللاتي تفضلن تجنب الاختلاط مع الجنس الآخر، سواء لأسباب دينية أو لأسباب تتعلق بالعادات المحافظة لعائلاتهن (بيترسون وبروزان – يورجينسين Petersen and Pruzan-Jorgensen، يصدر قريبًا).
كما تساهم الفاعلية الإسلامية في مجالات الرفاه والأعمال الخيرية في تمكين النساء في الجانب الآخر من المعادلة (مثل النساء ضعيفات الحال كمن ينتمين إلى أسر فقيرة والأرامل والمطلقات)، إذ تكتسب الكثيرات منهن مهارات جديدة (مثل القراءة والكتابة أو التدريب المهني) مما يفتح أمامهن فرصًا جديدة لتأمين سبل الحياة لهن ولأسرهن. كما يمنحهن ذلك فرصًا مشروعة للالتقاء بنساء أخريات وتوسيع شبكات علاقاتهن.
سبل جديدة لتحقيق التمكين الذاتي
تتيح الفاعلية النسائية الإسلامية سبلاً جديدة لتحقيق التمكين الذاتي، حتى لو كان ذلك على مستوى شخصي وخاص. فعلى سبيل المثال، تحصل الكثيرات من النساء غير المتعلمات على سلطات أكبر وتتاح أمامهن مساحات أرحب عندما يقمن بدور الداعيات وعندما يشاركن في حلقات ودروس دينية نسائية التي ظهرت بكثافة مؤخرًا. وتكتسب هؤلاء النساء صوتًا جديدًا بفضل جهودهن المشتركة، كما تصبح في متناولهن أدوات جديدة لممارسة حقوقهن أو المطالبة بها، إذ يرون تلك الحقوق منصوصًا عليها في الإسلام.
وتشير صبا محمود Saba Mahmood في الدراسة التي أجرتها حول“حركة المساجد” في مصر أنه حتى النساء اللاتي يحضرن الدروس السلفية المغرقة في التزمت يتمتعن بنوع من أنواع التمكين والتطور الذاتي، روحانية أعمق، وتطور أكبر لصوتهن ومكانتهن الواضحين داخل عائلاتهن ومجتمعاتهن. وبهذا ترفض الباحثة اتهامات النسويات الليبراليات/ العلمانيات القائلة بأن المشاركات في حركة المساجد هذه هن نساء مقهورات يعدن إنتاج الأبوية المتسلطة. وعلى العكس، ترى الباحثة أن هؤلاء النساء يخترن بمحض إرادتهن طبيعة المشاركة التي يقمن بها، وبهذا يقوضن الافتراضات الليبرالية والعلمانية التي تقول بوجود جوهر دفين داخلهن يتوق إلى الاستقلال في واقع الأمر (محمود Mahmood, 1-39).
أمثلة جديدة للسلطة النسائية
تتيح الفاعلية الإسلامية أمام النساء العربيات فرصًا واسعة لإضفاء الشرعية على النفوذ الجديد الذي يكتسبنه، سواء كن داعيات أو فقيهات أو سياسيات أو في أي موقع آخر من مواقع النفوذ. وتصبح هؤلاء النساء ذوات النفوذ بدورهن أمثلة جديدة تحتذى ومصادرًا لإلهام نساء أخريات قد يبقين منفصلات عن الشئون العامة لو لم يتعرفن على هؤلاء النساء.
وعلى سبيل المثال نجد العضوات في“جماعة العدل والإحسان” المغربية منخرطات في أشكال من الفاعلية البحثية تعد من بين الأكثر تقدمًا و(كما يراها البعض) الأكثر جدلاً في العالم العربي، سواء من ناحية دعم النساء الباحثات أو دعم نتائج جهودهن في إعادة التفسير. ويدعم قسم النساء في“جماعة العدل والإحسان” الجهود الرامية إلى تعليم الفقيهات واللاتي يصبح من حقهن ممارسة الاجتهاد حال حصولهن على مؤهلات أكاديمية ملائمة. وقد تخرج عدد من هؤلاء الفقيهات بالفعل وتلعب الكثيرات منهن أدوارًا محورية في الحركة، وبخاصة في لجنة العلماء.
وتحمل المبادرات العالمية إمكانات كبيرة لدعم سلطات النساء العربيات وتشجيع إدخال الإصلاحات على الممارسات الأبوية المتسلطة، سواء في مجال تفسير القوانين الشرعية أو الضغط المجتمعي أو الإصلاح. ومن بعض أمثلة تلك المبادرات شبكتا“مساواة” MUSAWAH (وهي عبارة عن حركة عالمية تدعو للمساواة والعدالة داخل الأسرة المسلمة) و“وايز” WISE (“المبادرة الإسلامية النسائية للإحسان والمساواة“، وهي عبارة عن برنامج عالمي وشبكة تواصل اجتماعي وحركة شعبية داعية للعدالة الاجتماعية تتزعمها نساء مسلمات). وتدعم هذه الأشكال العالمية فاعلية النساء وتعزز من نفوذهن، في الوقت الذي تتيح لهن سبلاً جديدة لمجابهة الفقهاء الإسلاميين التقليديين وما ينتجونه من معرفة إسلامية، بأن يتم الإحالة إلى والاستفادة من تجارب وطروحات تنتمي إلى سياقات أخرى.
إصلاح الحركة الإسلامية من الداخل
بإمكان الفاعلات المنتميات إلى الحركة الإسلامية والعاملات فيها أن يحدثن تغييرات في واقع الاحتكار الذكوري لأدوار القيادة وفي البنى الأبوية المتسلطة المحافظة وتحويلها باتجاه إنتاج تفسيرات واتجاهات جديدة في ما يتعلق بمواقع النساء وإمكاناتهن، سواء داخل الحركة نفسها أو في المجتمع الأرحب. كما تنطوي الفاعلية النسائية الإسلامية على الكثير من الإمكانات التي يمكن أن تستخدم في مواجهة المجال السياسي الرسمي، والذي يعد بصفة عامة مجالاً ذكوريًا في الكثير من الدول العربية. ويمكن أن تفتح الناشطات السياسيات الإسلاميات، بفضل مكانتهن كمسلمات محجبات يحظين بالاحترام اجتماعيًا، الباب أمام النساء للدخول في مجال السياسة الرسمي، بوصفهن مواطنات لهن حق الانتخاب ومتطوعات ومترشحات وكذلك مسئولات في مناصب سياسية.
وتعد الأردنية نوال الفاعوري Nawal al-Fa’ouri مثالاً بارزًا للمرأة التي استطاعت الاستفادة من الفرص المتاحة لكي تجعل لنفسها صوتًا مسموعًا داخل الجناح الأردني لجماعة الإخوان المسلمين، والحزب السياسي التابع لها جبهة العمل الإسلامي. ولكنها انتهى بها الأمر لترك كل من الإخوان المسلمين والجبهة بسبب التضييقات التي كانت تمارسها عليها القيادات من الرجال نظرًا لكونها امرأة. وقد أصبحت نوال الفاعوري مع بدايات القرن الحالي إحدى المشاركات في تأسيس حزب الوسط الإسلامي الذي يمثل اتجاهًا أكثر اعتدالاً وأقل سعيًا للمواجهات وأكثر إقدامًا على العمل التشاركي. وقد اجتذب“ملتقى الفكر والحضارة الإسلامية المعتدلة” التابع للحزب العديد من الأعضاء من بين النساء. ويرى الملتقى أن النساء“شقائق الرجال ونظيراتهم“، كما يؤكد على الحاجة للإجتهاد الصحيح وللابتكار الذي يأخذ في اعتباره التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يمر بها المجتمع الأردني (أنظر/ أنظري الفاعوري al-Fa’ouri، وأبو هنية Abu Haneih).
تخطي الحواجز والتكامل مع فاعلية النساء العلمانيات
وأخيرًا بإمكان الفاعلية النسائية الإسلامية أن تساهم في تخطي الحواجز الكبيرة التي تفصل بين الناشطات العلمانيات والناشطات ذوات المرجعية الدينية، وبصفة خاصة هؤلاء اللواتي ينتمين للحركة الإسلامية. ونجد في بعض الحالات أن تلك الحواجز ما هي إلا مسألة ناتجة عن محدودية المعرفة المتبادلة، بينما نجدها في حالات أخرى مبنية على خلافات أيديولوجية كبيرة ترتبط بقضايا عديدة من بينها قضية جدوى اتباع مرجعية دينية. كما ترتبط تلك الأيديولوجيات كذلك بالغايات التي تسعى فاعلية هؤلاء النساء لتحقيقها. فعلى سبيل المثال، هل ينبغي أن يكون السعي من أجل العدالة والتكاملية، أم من أجل المساواة؟ كما ترتبط كذلك بقضايا معينة مثل قضية مساواة الرجال والنساء في الميراث، أو قضية حظر تعدد الزوجات وقضية الطلاق من طرف واحد.
ولكننا نجد المنهجين مكملين لبعضهما البعض إلى حد ما، وخصوصًا في مسألة صداهما لدى الناس، إذ أن كليهما قادر على الوصول إلى أناس مختلفين وإلى قطاعات مختلفة من المجتمع. وبالرغم من أن هذين التيارين لا يعملان بنفس الطريقة، ولا يتفقان على مرجعية أو أهداف واحدة، فإن كلاً منهما يساهم في تقوية الوعي بوضع النساء في مجتمعاتهن.
وفضلاً عن ذلك، نشهد عملية تعلم متبادل بين هذين المنهجين المختلفين. وحتى في المواقع التي تبدو لنا فيها العلاقة متوترة أو حتى عدائية واضحة بين الناشطات الإسلاميات والعلمانيات، نجد أن عمليات تعلم متبادل تتم على التوازي، وهي عمليات مهمة وإن كانت إلى حد كبير غير مرئية وغير معترف بها. ويمكننا على سبيل المثال ملاحظة تلك الظاهرة أثناء عملية إصلاح قوانين الأسرة في المغرب، حيث عكست تجارب العلمانيات / الليبراليات وتجارب الإسلاميات بعضها البعض إلى حد كبير، واستطاع كل جانب التعلم من تجارب الآخر. على سبيل المثال، تعلمت النساء الليبراليات/العلمانيات قيمة الاقتراب من الواقع المعاش والتواجد الميداني وتضمين طروحات دينية في خطاباتهن. وعلى الجانب الآخر، فقد تعلمت نظيراتهن الإسلاميات أهمية استخدام خطابات حقوقية ومعنية بقضايا الجندر، وكذلك أهمية تأسيس منظمات نسائية مستقلة (أنظر/أنظري بروزان يورجينسين –(Pruza –Jorgensen
مخاطر التأصيلية (essentialism)
لقد عمدت حتى الآن إلى وصف الملامح العامة للفاعلية النسائية الإسلامية وكذلك وصف إمكاناتها المتعددة في مجال تمكين النساء والضغط من أجل تحقيق إصلاحات لمواجهة الممارسات الأبوية المتسلطة. ولكن الفاعلية النسائية الإسلامية تواجه كذلك العديد من المعوقات والمخاطر والتحديات الهامة التي تتعرض لها النساء العربيات، وتعد أولاها عملية تأصيل وتثبيت الهوية.
تواجه الفاعلية النسائية الإسلامية مخاطر التعتيم على الفروق والاختلافات في الهوية، سواء كانت تلك الفروق والاختلافات دينية أو سياسية أو عرقية أو اجتماعية أو غير ذلك. كما تواجه خطر اختزال هويات النساء المسلمات داخل هوية واحدة فقط، وهي الهوية الإسلامية. ولهذا فهي تهدد بتجاهل الفروق بين هوياتهن الأخرى واختياراتهن الفردية وهويات واختيارات أزواجهن ومن يتعاملن معهن والمجتمع الأكبر (أنظر/ أنظري تادروس (Tadro. وعلاوة على ذلك، وكما جاء في كتابات دي كات de Kadt، فإن «”أخذ الدين مأخذ الجد قضية مهمة، ولكن الأمر يصبح معقدًا وخطيرًا عندما يروج له على أنه الهوية الوحيدة التي يجب أن نقيم لها اعتبارًا، مهملين بذلك مكونات أخرى للهوية تظهر بوضوح في مواقف مختلفة، مما يتسبب في إعاقة صياغة مفهوم أوسع عن الذات” (٧٨٤). وهنا نجد أن فاعلية النساء المسلمات التي يمارسنها عن طريق الأعمال الخيرية وحلقات الدرس وغيرها من النشاطات تؤكد بصورة ما على شرعية وأصلية المنهج الإسلامي في التعامل مع قضايا الجندر والأسرة (بل وحتى احتكاره الكامل للتعامل مع تلك القضايا).
إقصاء غير المسلمين والأقليات الأخرى
يبقى الإسلام، مثل كل الديانات الأخرى، منفتحًا على تفسيرات رحبة ومستمرة. وتستند الكثيرات من الناشطات الإسلاميات على تفاسير تولي قضايا الجندر اهتمامًا خاصًا، فيما يقمن به من نشاط. ولكن لو تأملنا الإطار الديني الذي تعمل هؤلاء النساء داخله من منظور غير ديني، فسوف نرى أن ذلك الإطار يملي على فاعليتهن تضييقات كثيرة. وتتعلق هذه التضييقات بقضايا عديدة، فمثلاً تحجم الكثير من الناشطات عن المطالبة بإصلاحات فعالة لقوانين الميراث نظرًا لأن تلك القضية تحظى بوصف مفصل في القرآن نفسه، مما يجعل إدخال أية تعديلات في هذا المجال أمرًا مثيرًا للجدل (أنظر/ أنظري مقدم (Moghadam. وهناك مثال آخر للتضييقات التي تواجه الناشطات الإسلاميات يأتي متمثلاً في المتلقي، إذ أن ذلك النوع من الفاعلية غالبًا ما يلقى صدي لدى المسلمين دون سواهم.
يواجه أي منهج منبني على الدين سواء الدين الإسلامي أو أى دين آخر) ومستخدم في تمكين النساء مخاطرًا ناجمة عن عملية وصمه أو تنميطه أو عملية إقصاء أصوات ومناهج تتبناها أقليات غير مسلمة أو تتبناها العلمانيات من المسلمين. وقد يأتي هذا الإقصاء في صور عديدة تتراوح بين الجهل بالمشكلات والتحديات الخاصة التي تواجهها النساء من الأقليات غير المسلمة وبالنساء اللاتي يفضلن استخدام منهج غير إسلامي، وفرض المتطلبات والأعراف الإسلامية على الجميع، وهو ما قد يعيق تطور مناهج وخطابات بديلة (أنظر/ أنظري مقدم (Moghadam.
وقد يدفع ذلك الإقصاء (أو الخوف منه) الناشطات من بين الأقليات أو النساء العلمانيات للاستناد إلى استخدام منهج مبني على الدين (الإسلامي) بهدف إضفاء الشرعية والاحترام المجتمعي أو جلب التمويل على فاعليتهن. وقد نجد على سبيل المفارقة أن تلك الضغوط لا تنبع فقط من المتطلبات“المحلية” ولكنها قد تأتي كذلك من جانب آخرين من خارج السياق يرغبون في دعم الفاعلين“المحليين“. وتسوق لنا تادروس مثالاً جيدًا لناشطة مصرية مخضرمة كانت تشارك في اجتماع نظمته بعض الجهات الأوروبية المانحة، حيث طلب منها ألا تعرض بحثها الذي يتناول قضايا المرأة لأنها لا ترتدي الحجاب، مما يجعلها غير“ممثلة” للنساء المصريات (تادروس Tadros، 1-9). وبالرغم من ذلك علينا أن نؤكد على وجود مخاطر في الجانب المقابل، إذ أن بعض منظمات النساء العربية الليبرالية / العلمانية قد أقصت نساء مصريات متدينات من نشاطاتها وفاعلياتها.
ترسيخ السلطة الأبوية
إن إضفاء الشرعية على منهج ديني يحدو بالناشطات الإسلاميات نحو مخاطر ترسيخ مفاهيم السلطة الأبوية. فعلى سبيل المثال، نجد معظم العمل الاجتماعي والخيري الذي تقوم به النساء، أو ذلك الموجه للنساء لا يسعى إلى تغيير النموذج الراسخ لدور النساء في الأسرة والمجتمع، بل نجده يعيد إنتاج النماذج القائمة. وبنفس الطريقه، نجد معظم العظات والتأملات التي تدور في حلقات الدروس الدينية لا تجابه البنى الأبوية المتسلطة السائدة ولا تقسيم الأدوار المنبثق منها. فمثلاً نجد العديد من الواعظات السلفيات يروجن للآراء التي ترى أن البيت هو مكان المرأة اللائق وأن دورها يتمثل في العناية بأسرتها فقط.
وينطوي التوجة إلى السلطة الدينية على مخاطر أخرى. فعلى سبيل المثال فإن الاستعانة بفقيه بغرض إقرار أفكار أو أنشطة جديدة في سياق معين يفتح الطريق أمام النساء لمزيد من المشاركة والفاعلية والسلطة. ولكن في نفس الوقت يمكن أن يمثل السعي نحو إشراك الفقهاء سلاحًا ذا حدين، إذ أن هؤلاء لا تزال آراؤهم عن دور ومكانة النساء تأتي مغلفة بأفكار محافظة وأبوية. كما يؤكد السعي نحو إشراك الفقهاء على تفردهم وتفرد مؤسساتهم الرسمية بالشرعية، وهي مؤسسات غالبًا ما تتصف بالتقليدية والأبوية.
التوظيف السياسي غير المقصود
تواجه الفاعلية النسائية الإسلامية كذلك مخاطر إزكاء الخلافات السياسية المحلية القائمة، وأن يتم توظيفها سياسيًا بصورة غير مقصودة. فعلى سبيل المثال نجد أن المنظمات والأحزاب الإسلامية غالبًا ما تجنح إلى توظيف وجود النساء فيها بغرض كسب جمهور أكبر وجلب أعضاء جدد وأصوات انتخابية أكثر، بينما نجد أن وجود النساء هذا نادرًا ما ينعكس عمليًا في صورة تأثير قوي على السياسة العامة لتلك الأحزاب والمنظمات (أنظر/أنظري كلارك وشفيدلر Clark and Schwedler وتراكي Taraki).
وبينما تقدم لنا بعض الإسلاميات اللاتي أجرينا معهن المقابلات تفسيرات عدة لهذه الظاهرة (على سبيل المثال الصعوبات التي تلاقيها النساء في الوفاء بالتزاماتهن الأسرية أو“الشرف” واللياقة أو التقاليد الأبوية المتسلطة أو المقاومة التي يواجهنها من السياسيين الكبار من الرجال، إلخ)، تبقى حقيقة أن عددًا قليلاً جدًا من النساء العضوات في منظمات وأحزاب إسلامية في مصر والأردن والمغرب قد استطعن شغل مواقع مهمة ومعنية باتخاذ قرارات داخل هذه الأحزاب والمنظمات. وعلينا الانتباه إلى أن نفس الملاحظة تنطبق على الكثير من الأحزاب الليبرالية / العلمانية في الدول الثلاث، وهو ما ينم عن مشكلة واسعة تواجه الأحزاب السياسية العربية والمجال السياسي العام في الوطن العربي تتمثل في أن الرجال يسيطرون عليه إلى حد كبير (أنظر/أنظري برنامج الأمم المتحدة للتنمية UNDP).
ونجد مثالاً آخر في الناشطات الإسلاميات اللاتي يعملن في مؤسسات رسمية في دول قمعية سواء كان ذلك في وزارات أو مؤسسات أو مجالس رسمية أخرى تعني بقضايا النساء في الإسلام. وقد تتاح للنساء جراء عملهن من داخل تلك المؤسسات فرصًا فريدة للتأثير في سياسات الدولة وفي التشريعات، ولكنهن يواجهن في الوقت ذاته مخاطر إضفاء مزيد من الشرعية على تلك الأنظمة القمعية، إلى جانب الإضرار بقضية النساء بتقديمها في صورة حركات استحوذت عليها الدولة. ويذكرنا ذلك بالمأزق الذي أشرنا إليه سابقًا والذي تواجهه الكثير من الناشطات في المنطقة العربية، وهو استخدام منهج منبني على الدين. ويتمثل المأزق في السؤال التالي: أيهما الأجدى، التعاون مع الدولة القمعية (وبذلك دعم شرعيتها) أم مواجهتها (وبذلك التعرض للاضطهاد والتهميش)؟
وأخيرًا، فمن الممكن أن توظف الدولة الفاعلية النسائية الإسلامية توظيفًا مباشرًا من أجل الاستحواذ على الفاعلية الدينية والتوجه الديني في صفوف المواطنات والسيطرة عليه. فعلى سبيل المثال، اتخذت وزارة الأوقاف الأردنية خطوات واضحة لدعم تعليم الداعيات وتوسيع رقعة مشاركتهن تحت رقابة شديدة من جانبها. وعلى نفس المنوال، نجد نشاطًا ملحوظًا في الفاعلية النسائية الإسلامية التي ترعاها الدولة في المغرب، وهو الأمر الذي دفع العديد من المراقبين لاعتبارها“نسوية إسلامية تابعة للدولة” (إدوادا وبيبيسيلليEddouada and Pepicelli,, 87-100).
وحتى الآن يعد الخطاب الذي ألقاه الملك محمد الخامس في العاشر من أكتوبر للعام ۲۰۰۳ أوضح تعبير عن الفاعلية النسائية الإسلامية، حيث أعلن في هذا الخطاب عن الأطر الرئيسية لقانون الأسرة الجديد والذي يطلق عليه“المدونة“. وقد قدم في هذا الخطاب طرحًا دقيقًا يدعو إلى أهمية إصلاح قوانين الأحوال الشخصية بناًء على إطار مرجعي ديني، واستطاع إيجاد حلول وسط لعدة قضايا إشكالية (مثل الطلاق وتعدد الزوجات والولاية) بناًء على إطار مرجعي ديني، مدعومًا في الوقت ذاته بحركة اجتهاد واضحة تتخطى حدود المذهب المالكي السائد في دول المغرب العربي (أنظر/أنظری بروزان– يورجينسين (Pruzan- Jorgensen. وهناك أمثلة أخرى لتبني الدولة في المغرب للفاعلية النسائية الإسلامية، نجدها في دعم وجود النساء وتوسيع سلطاتهن في المجال الديني عن طريق التوسع في تأهيل المرشدات والعالمات الدينيات. وقد سمحت الدولة كذلك للنساء بإلقاء المحاضرات الدينية خلال شهر رمضان (الدروس الحسنية)، كما سمحت بقبول عضوية النساء في المجالس العلمية المحلية، وألحقت مجموعة من المدرسات بدار الحديث الحسنية، وهي المعهد الراقي لدراسة العلوم الدينية.
وفيما يتعلق بالمخاطر التي تكمن في هذا النوع من الفاعلية النسائية الإسلامية التي تدعمها الدولة، فقد أشارت النساء المغربيات اللاتي أجرينا معهن مقابلات (دون ذكر الأسماء) إلى أن تلك المساعي الجديدة تهدف للترويج لما هو مجرد واجهة تعكس تأنيث الأنظمة السياسية والدينية، وهو الأمر الذي يضفي الشرعية على النظام في المغرب وبخاصة أمام صانعي القرارات والمانحين في الغرب المهتمين بمجابهة التفسيرات الدينية المتطرفة والساعين نحو خلق دور أقوى للنساء.
خاتمة
كنت قد أوردت في المقدمة تساؤلاً عن كيف تلبي الفاعلية النسائية الإسلامية احتياجات النساء في العالم العربي فيما يتعلق بتعزيز مشاركاتهن والضعط من أجل إصلاح الممارسات الأبوية المتسلطة. ويبدو لنا أن الفاعلية النسائية الإسلامية تنطوي على الكثير من الإمكانات فيما يتعلق بمشكلات النساء المعاصرة، كما أنه بإمكانها إثراء النقاشات الدائرة حول أوضاع النساء والتحديات التي تواجههن لأنها تفتح طريقًا للهروب من مأزق وضع ما بعد الاستعمار، كما أنها قد تجذب جمهورًا جديدًا وتشجع مشاركة هذا الجمهور في نشاطات معنية بقضايا النساء. وعلاوة على ذلك، يمكن أن تؤدي الفاعلية النسائية الإسلامية إلى“إضفاء صبغة نسائية” على الإسلام عن طريق فتح مجالات جديدة أمام اضطلاع النساء بمزيد من السلطة والقيادة، كما أنها قد تساعد في حركات إصلاحية قادمة تعنى بقضايا النساء من داخل الحركة الإسلامية ذاتها، وبذلك تتخطى الفواصل القائمة بينها وفاعلية النساء العلمانيات، بل وتصبح مكملة لها.
ولكن تأتي هذه الإمكانات مصاحبة بعدد من المخاطر والتحديات. فالجدير بالذكر أن الفاعلية النسائية الإسلامية تواجه خطر تأصيل وتثبيت مفهوم الهوية الإسلامية وإطاراتها المرجعية، وكذلك عملية وصم أو إقصاء لأصوات ومناهج أخرى مثل أصوات ومناهج العلمانيات وغير المسلمات وغيرهن من الأقليات. وقد يدفع ذلك الوضع تلك الجماعات نحو تبني مناهج منبنية على الدين (الإسلامي في تلك الحالة) بغية تجنب تهميشهم. كما تواجه الفاعلية النسائية الإسلامية خطر المساهمة في الدعم غير المتعمد لشرعية السلطات الأبوية، كما أنها يمكن أن تقع في فخ التوظيف السياسي من قبل الدولة والمنظمات الدينية على حد سواء.
ومن أجل مواجهة تلك المخاطر والتحديات، ولضمان تحقيق الإمكانيات الكثيرة التي تعد بها الفاعلية النسائية الإسلامية، يجب أن تقاوم الناشطات الإسلاميات والداعمين لهن عملية صياغة هوية إسلامية جامدة، وذلك بتبني منهج منبني على الدين، ولكنه في ذات الوقت منفتح على تفسيرات وأصوات واتجاهات متنوعة، ومحتو لها، يسعى نحو الإصلاح وتمكين النساء بصفة عامة. ومن المأمول أن يتغلب هذا المنهج على ما ذكرناه سابقًا من مخاطر الإقصاء، بل ويتيح فرصة أكبر لإقامة جسور الفهم المتبادل.
المراجع الإنجليزية
كنت قد أوردت في المقدمة تساؤلاً عن كيف تلبي الفاعلية النسائية الإسلامية احتياجات النساء في العالم العربي فيما يتعلق بتعزيز مشاركاتهن والضعط من أجل إصلاح الممارسات الأبوية المتسلطة. ويبدو لنا أن الفاعلية النسائية الإسلامية تنطوي على الكثير من الإمكانات فيما يتعلق بمشكلات النساء المعاصرة، كما أنه بإمكانها إثراء النقاشات الدائرة حول أوضاع النساء والتحديات التي تواجههن لأنها تفتح طريقًا للهروب من مأزق وضع ما بعد الاستعمار، كما أنها قد تجذب جمهورًا جديدًا وتشجع مشاركة هذا الجمهور في نشاطات معنية بقضايا النساء. وعلاوة على ذلك، يمكن أن تؤدي الفاعلية النسائية الإسلامية إلى“إضفاء صبغة نسائية” على الإسلام عن طريق فتح مجالات جديدة أمام اضطلاع النساء بمزيد من السلطة والقيادة، كما أنها قد تساعد في حركات إصلاحية قادمة تعنى بقضايا النساء من داخل الحركة الإسلامية ذاتها، وبذلك تتخطى الفواصل القائمة بينها وفاعلية النساء العلمانيات، بل وتصبح مكملة لها.
ولكن تأتي هذه الإمكانات مصاحبة بعدد من المخاطر والتحديات. فالجدير بالذكر أن الفاعلية النسائية الإسلامية تواجه خطر تأصيل وتثبيت مفهوم الهوية الإسلامية وإطاراتها المرجعية، وكذلك عملية وصم أو إقصاء لأصوات ومناهج أخرى مثل أصوات ومناهج العلمانيات وغير المسلمات وغيرهن من الأقليات. وقد يدفع ذلك الوضع تلك الجماعات نحو تبني مناهج منبنية على الدين (الإسلامي في تلك الحالة) بغية تجنب تهميشهم. كما تواجه الفاعلية النسائية الإسلامية خطر المساهمة في الدعم غير المتعمد لشرعية السلطات الأبوية، كما أنها يمكن أن تقع في فخ التوظيف السياسي من قبل الدولة والمنظمات الدينية على حد سواء.
ومن أجل مواجهة تلك المخاطر والتحديات، ولضمان تحقيق الإمكانيات الكثيرة التي تعد بها الفاعلية النسائية الإسلامية، يجب أن تقاوم الناشطات الإسلاميات والداعمين لهن عملية صياغة هوية إسلامية جامدة، وذلك بتبني منهج منبني على الدين، ولكنه في ذات الوقت منفتح على تفسيرات وأصوات واتجاهات متنوعة، ومحتو لها، يسعى نحو الإصلاح وتمكين النساء بصفة عامة. ومن المأمول أن يتغلب هذا المنهج على ما ذكرناه سابقًا من مخاطر الإقصاء، بل ويتيح فرصة أكبر لإقامة جسور الفهم المتبادل.
التحديات التي تواجه مساعي النسوية الإسلامية لإصلاح قانون الأحوال الشخصية: منظمات النساء غير الحكومية في مصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الدولي لحقوق الإنسان
مروة شرف الدين
يقدم هذا الفصل تحليلاً لنوع معين من النسوية الإسلامية، ظهر نتيجة عمليات الاحتكاك والتواصل بين القانون الإسلامي والقانون الدولي لحقوق الإنسان في إطار مساع تقوم بها المنظمات غير الحكومية المصرية من أجل إصلاح قانون الأحوال الشخصية في مصر خلال الفترة بين ٢٠٠٦ و ٢٠١٠. ويقدم الفصل طرحًا يرى أنه رغم الإمكانات الخلاقة التي يحملها الخطاب الإسلامي النسوى والتي يمكن أن تؤثر في عملية إصلاح قانون الأحوال الشخصية، فلازال هذا الخطاب يواجه تحديات مهمة يمكن أن تعوق نجاحه في توفير بدائل قانونية أفضل للنساء والرجال المسلمين في الأسر المصرية في الوقت الراهن. وتتعلق تلك التحديات بكل من منهج ذلك الخطاب ومحتواه، بالإضافة إلى قنوات الفاعلية التي يعمل من خلالها، وبشكل أكثر تحديدًا، قنوات المنظمات غير الحكومية.
قانون الأحوال الشخصية هو القانون الذي ينظم علاقات الأسرة في مصر، بما فيها الزواج والطلاق وحضانة الأطفال. ولأن هذا القانون مؤسس على ما يرى المشرعون أنه القانون الإسلامي، نجد أنه من الصعب تناوله بصورة نقدية بقصد إصلاحه، إذ يصبح ذلك مرادفًا لتناول الإسلام ذاته بصورة نقدية، بالرغم من كونه قانون وضعي مبني علي فهم بشري خاص لرسالة الاسلام. ولكننا نجد في الوقت ذاته أن هذا القانون يمثل أحد المجالات الرئيسة التي تتشكل فيها البنى المتعلقة بمفاهيم إسلامية مثل الولاية والقوامة، فتستمد قوتها وتأثيرها عبر قانون الدولة، مما يستتبع التزام الزوجة بالطاعة والتزام الزوج بالإنفاق وحقه في تأديب زوجته، إلى جانب حقه في التطليق من جانب واحد حين يشاء. وتتولد مشكلات عدة عن هذه البنود القانونية في المجتمع المصري في الوقت الحاضر، وذلك بحسب ما ترى المنظمات غير الحكومية التي يتناولها البحث هنا. ففي سعيها إلى التعامل مع تلك المشاكل وإصلاح قانون الأحوال الشخصية تقوم المنظمات غير الحكومية بعمليات استعارة ومزج وتطوير انتقائية لمكونات مختلفة من القانون الإسلامي والقانون الدولي لحقوق الإنسان.2
ويقوم هذا الفصل بتوضيح الفرضيات القانونية الإسلامية التي يمكن أن تساعد في فهم هذا المسعى، ثم يتطرق إلى مناقشة المرجعيات القانونية الرئيسة التي تبنى المنظمات غير الحكومية عليها طروحها لإصلاح قانون الأحوال الشخصية. ثم يركز الفصل على المنهج الذي تستخدمه تلك المنظمات، وهو استخدام المرجعيات الدينية ومرجعيات حقوق الإنسان في خطاب يدعم مطالبها بإصلاح قانون الأحوال الشخصية. ويسوق الفصل أمثلة مادية على تطبيق هذا الخطاب النسوى على بعض الحقوق والواجبات الزوجية، ثم ينتهى بتحليل موجز للإمكانات المتاحة أمام هذا الخطاب الجديد، والتحديات التي تواجهه في السياق المصرى.3
وقد قمنا في هذا الفصل بدراسة خمس عشرة منظمة غير حكومية، بعضها أعضاء في شبكة المنظمات غير الحكومية المعنية بإصلاح قانون الأحوال الشخصية التي شاركت في تأسيسها عام ٢٠٠٥. أما المنظمات الباقية فلم تكن أعضاء في هذه الشبكة، ولكنها منظمات لها مشاريع خاصة بها وتعمل في مجال إصلاح قانون الأحوال الشخصية. وقد تضمن العمل الميداني إجراء مقابلات شخصية وملاحظات بالمشاركة حول مساعي المنظمات غير الحكومية المشاركة في هذه القضية، سواء كانت مساع منفردة أو جمعية. كما قمت بتحليل الوثائق التي صدرت عن كل تلك المنظمات والتي حملت المطالب المختلفة التي اقترحتها تلك المنظمات من أجل الإصلاح. وقد كان من النادر إيجاد اتفاق بين من أجريت معهم المقابلات حول أي موضوع من موضوعات إصلاح قانون الأحوال الشخصية. ولكن رغم ذلك يمكن الإشارة إلى اتجاهات عامة وأغلبية الآراء حول موضوعات معينة أتناولها هنا.
قانون الأحوال الشخصية
يختص هذا القانون بقضايا الأسرة في مصر، بما فيها الزواج والطلاق والنفقة والحضانة والولاية. ويمثل مصطلح ’قانون الأحوال الشخصية‘ ضربًا من الخداع؛ لأنه يشير إلى عدة قوانين، وليس قانونًا واحدًا، تنظم الأحوال الشخصية، مثل القانون ٢٥ لعام ١٩٢٥، والقانون ٢٥ لعام ١٩٢٩، والقانون ١٠٠ لعام 1985، على سبيل المثال. وقد تعاقبت على هذا ‘القانون’ سلسلة من التعديلات التدريجية منذ عشرينيات القرن العشرين، وهو ما يشير إلى الصعوبة التاريخية التي تلاقيها محاولات تغيير القانون كليًا، وذلك بسبب الرفض المجتمعي (برنار– موجيرو Bernard-Maugiron, 5) وتعد القداسة التي يصطبغ بها القانون، والتي تنبع من ارتباطه بالدين، أحد الأسباب التي تخلق ذلك الرفض المجتمعي لتغييره. تنبني قوانين الأحوال الشخصية دائمًا على ما يعتبره الكثيرون القانون الإسلامي وعلى أولوية الرجال على النساء في الأمور الزوجية (فوزی Fawzy، 38-9).
أما الفلسفة الكامنة خلف كل تلك القوانين فهي أن الرجال، الذين لهم القوامة والولاية، عليهم الإنفاق على زوجاتهم، وبالتالي فمن حقهم مطالبتهن بالطاعة وأن يكون لهم عليهن سلطة. وعليه، تكون العلاقة بين الزوجين مقننة بوصفها علاقة تكاملية وليست مساواتية (اللجنة الإسلامية العالمية للنساء والأطفال (The International Islamic Committee for Women and Children، لا يتوافر رقم الصفحة).
ويتجلى هذا المفهوم الخاص بسلطة الرجال على النساء في قانون الأحوال الشخصية في السهولة التي يمكن أن يحصل بها الرجال على الطلاق وصعوبة ذلك على النساء، إلى جانب إمكان تعدد الزوجات بالنسبة إلى الرجال، والتزام الزوج بإعالة الأسرة، والتزام الزوجة بطاعة الزوج، وقبول حق الزوج في تأديب زوجته، والسماح للرجال بالزواج من مسيحيات ويهوديات وعدم السماح للنساء بالزواج من الرجال غير المسلمين، وحق الآباء التلقائي في الولاية على الأبناء وحرمان الأمهات من ذلك.
وترى المنظمات غير الحكومية أن تلك المفاهيم إشكالية؛ فبعضها لم يعد مناسب للسياق المصرى الحالي، إذ تظهر صعوبتها في مجال التطبيق، حيث نجد الأدوار والمسئوليات داخل الأسرة المصرية تمر بتغيرات واضحة (فوزی، ۳۱). علاوة على ذلك، نجد تلك المفاهيم تتعارض مع المفاهيم والرؤى المعاصرة المتعلقة بالمساواة والعدالة، كما تتعارض مع التزامات مصر القانونية بوصفها إحدى الدول الموقعة على اتفاقية إنهاء كافة أشكال العنف ضد المرأة (CEDAW).
توضیح مختصر لبعض المبادئ القانونية في الإسلام
يفرق ناثان براون (Brown) وبرنكلي ميسيك (Messick) وتيموثي ميتشيل Michel)) بين الشريعة والقانون الإسلامي، حيث يرون أن الشريعة مفهوم أكثر عمومية يحوى بداخله القانون الإسلامي، كما تتضمن الشريعة إجراءات وممارسات ومؤسسات معينة ينبني عليها القانون الإسلامي. يذهب براون إلى أن“الشريعة تتضمن ما هو أكثر من القانون – اذا اخذنا معني“القانون” في المفهوم الأوروبي والأمريكي الراهن. ولكن في الوقت ذاته يتزايد اقتناع الباحثين بأن الشريعة تختلف عما سواها نظرًا لارتباطها بعمليتين بعينهما تتعلق إحداهما بدراسة واستنباط القوانين والثانية بالفصل في النزاعات” (٣٦٣). كما يحذرنا ميسيك من أن نتقبل دون تفكير ذلك الخلط بين المفهومين، إذ إنه يعتبر الشريعة نوعًا معينًا من أنواع الخطاب“الجامع” الذي نجد فيه تعبيرًا عن المؤسسات الدينية والقانونية والأخلاقية والثقافية والسياسية في آن واحد (۳).
ويرى هؤلاء الباحثين أن التطورات التاريخية هي التي أدت إلى اعتبار الشريعة والقانون الإسلامي شيئًا واحدًا. ومن المؤكد أن كل النشطاء الذين أجريت معهم المقابلات هنا وخصومهم يستخدمون مصطلحى الشريعة والقانون الإسلامي باعتبارهما شيئًا واحدًا. ولكنني أحاول هنا، وأنا أتبع التحذير الذي أطلقه ميسيك، أن أحذو حذو النشطاء الذين أجريت معهم المقابلات بأن أعكس ذلك الأسلوب الرائج في التفكير والتعبير. ولهذا، فعندما أشير إلى أى من الشريعة أو القانون الإسلامي فإنني أشير بصفة خاصة إلى الجانب القانوني من الإسلام، وليس الجوانب الأخلاقية أو الاقتصادية أو السياسية أو المؤسسية، على الرغم من تداخل تلك الجوانب مع الجانب القانوني.
أجد من الأفضل البدء بقصة على بن أبي طالب الشهيرة. كان على يواجه تمرد الخوارج 4، الذين قاموا فيما بعد باغتياله، والذين كانوا يرون أنه لا يقيم حكم الله في مسألة سياسية معينة ولكن يقيم حكم الناس. وفي رده على ذلك:
جمع علي الناس وأمسك مصحفًا كبيرًا بيده طالبًا منه أن يتكلم (أي أن يخبر الناس بما حكم به الله). فاندهش الناس من حوله وسألوه عما لو كان يسخر بهم، فالمصحف ورق ومداد، ولكن الناس هم من يتحدثون به. هنا قال علي إن القرآن مكتوب في سطور بين غلافين وهو لا يتكلم بنفسه ولكن يحتاج إلى مفسرين، والمفسرين ما هم سوى بشر.” (أبو الفضل Abou El Fadl، ٢٤).
ويعني ذلك أن الله بيَّن للناس“الطريق“، أي الشريعة، من خلال الوحي الذي أوحاه للنبي في القرآن، وفي ممارسات النبي، وكلاهما تم توثيقه ليصبح“نصًا“. وبذلك يصبح الله والقرآن وممارسات النبي وأقواله السلطات والمرجعيات الرئيسة هنا. ولكن لكي يتمكن البشر من فهم“الطريق” وما يمليه عليهم، يجب أن يتدخلوا مستخدمين عقولهم بوصفها وسائط لترجمة ذلك إلى قوانين وقواعد. ويؤكد الفقه الإسلامي الكلاسيكي أن السلطة هي سلطة الله وكتابه والنبي، ولكنها لا تؤول بشكل تلقائي لفهم الفقهاء البشر للنصوص الإسلامية، وهي القرآن والسنة، وترجمتهم لذلك في صورة قواعد قانونية تعرف باسم الفقه (أبو الفضل ٢٤–٢٦).5
هكذا يصبح التعامل مع الفقه بوصفه منتجًا بشريًا، حيث تشرح لنا جوديث تاكر (Tucker) أنه“لم يتفق كل المفسرين على المعاني والتداعيات المتعلقة بالسلوك الإنساني التي يضعها القرآن، ولهذا ظهرت التباينات في آراء الفقهاء منذ العصور المبكرة” (۱۲). وتستطرد تاكر قائلة:”يمكن أن نعزو الحيوية، بل والمرونة التي يتمتع بها القانون الإسلامي، جزئيًا، إلى أن الشريعة لم تكن على مر معظم فترات التاريخ ميثاقًا قانونيًا جامدًا ومكتوبًا (في صيغة قانون مثل القوانين الحالية)، حيث ظلت عملية تفسير القرآن والحديث والاستعانة بالإجماع والقياس عمليات مفتوحة على احتمالات كثيرة” (١٤، أضيف الخط تحت الكلمات بواسطة كاتبة المقالة). وتؤكد كيشا علي (Ali) على هذه النقطة بقولها بأنه لم يوجد على مر تاريخ الإسلام القانوني“قانون واحد موحد“، وبخاصة فيما يتعلق بالمعاملات (١٦٧).6
ومن أوضح الأمثلة على ذلك وجود المدارس المختلفة في الفقه، أي المذاهب، التي أنتجت معانى متعددة من نصوص الإسلام الأصلية (كمالي Kamali 68, تاكر ١٤). وكان الفقهاء يستعينون بعدد هائل من المناهج الفقهية لتساعدهم على استنباط المعاني والقواعد من النصوص الإسلامية نفسها، وهو ما أدى حتميًا إلى ظهور معانٍ مختلفة وقواعد قانونية مختلفة. وقد كانت هناك اختلافات بين المدارس الفقهية وحتى داخل المدرسة الواحدة فيما يتعلق بفقه المعاملات. ويعد هذا الاختلاف وتباين الآراء“وبصفة خاصة بين الخبراء في القانون الإسلامي، أمرًا معترفًا به وظاهرة طبيعية في التراث الإسلامی” (مسعود Masud 65). ويؤكد حلاق (Hallaq) كذلك على أن التغير والتباين أمور أساسية في الفكر القانوني الإسلامي عبر العصور (۲۳۲). وقد كان الاختلاف دائمًا موجودًا بين الفقهاء حول قضايا ترد في القرآن والسنة وكذلك حول قضايا غير موجودة فيهما (مسعود ٦٨). وقد نتجت تلك التعددية كذلك عن الإطار المعرفي للقانون الإسلامي الذي وضع في اعتباره تعدد المؤشرات التي يعطيها لنا الله من جانب، ومن جانب آخر رفض منح مؤسسة واحدة دون المؤسسات الأخرى السلطة لكي تقرر من طرف واحد ما هو القانون الذي وضعه الله (أبو الفضل ٣٨). وفى حالات عديدة، كان الفقهاء حين يظهر بينهم خلاف ينهون أطروحاتهم بعبارة“والله أعلم“، التي تشير إلى إدراكهم واتفاقهم على أن العقل البشرى غير قادر على فهم القانون الذي وضعه الله وسبر أغواره دون خطأ (علي (Ali) ١٦٧).
وهكذا، يتضح لنا أن الفقهاء القدامى كانوا يدركون ويتقبلون ويمارسون فكرة المرونة والتباين في استنباط المعني والأحكام. وعلى قدر ما ينفتح ذلك الطريق أمام إمكانات وليدة لإنتاج معان وأحكام متعددة بإمكانها أن تستوعب سياقات وظروفًا متباينة، فهو في ذات الوقت يحمل إمكانات الفوضى والضرر.
وهنا، يرى وائل حلاق أن“غياب التيقن في المسائل القانونية يؤدي إلى صعوبة تحقيق الاتساق في الإجراءات القضائية. ونحن نرى من خلال مئات الكتب المهمة التي بين أيدينا أن خطاب الفقهاء كان منشغلاً انشغالاً كبيرًا بهذه القضية: أيُّ الآراء أقوى حجية، أو ذات سلطة مرجعية؟” (١٢٦؛ أضيف الخط تحت الكلمات بواسطة كاتبة المقالة). ويبقى هذا التساؤل مهمًا إلى اليوم، وبالأخص فيما يتعلق بإصلاح قانون الأحوال الشخصية، وهو ما يحدونا أن نناقش الموضوع مناقشة وجيزة.
أيُّ الآراء أقوى حجية؟
كما ذكرت سابقًا كان التحدى الحقيقي الذي يواجه الفقهاء هو استكشاف شريعة الله وأوامره كما هي متضمنة في نصوص الإسلام الأصلية. ولكن كيف لآراء هؤلاء الفقهاء أن تكتسب الحجية؟ هناك معياران رئيسان وضعهما الفقه الإسلامي ويتعين تحقيقهما: المنهج المستخدم لإنتاج ‘المعاني’ أو الأحكام من النصوص الإسلامية الأصلية، والمؤهلات التي يجب توافرها في هؤلاء الذين يتولون إنتاج تلك المعرفة. وبناًء على هذين المعيارين تنسحب الحجية على حكم/ معني ما دون الآخر. وفيما يلي توضيح للفارق بين هذين المعيارين.
بالنظر إلى المنهج، فهناك خطوات عديدة يجب أن تتم قبل الوصول إلى حكم ما. أولاً، التأكد من أن الله أو الرسول قد أمرا بأمر ما وأن ذلك الأمر لم يأت من مصدر آخر. فهل لهذا الأمر مرجع في النص؟ هل له أصل في آيات القرآن، أو في أقوال أو أفعال النبي؟ أم هل يأتي هذا الأمر عن مصدر آخر أضعف حجية ومصداقية؟ ثانياً، التأكد من ‘معنى’ ذلك الأمر وهو أمر متعلق بالتفسير في المقام الأول. هل ‘تعنى’ حقًا تلك الآية، أو ذلك القول أو الفعل النبوى أن هذا الأمر واجب، أم هل تعنى شيئًا آخر مختلفًا عن هذا الأمر أو تلك القاعدة؟ ثالثًا، تحديد طريقة تطور صياغة ذلك المعنى حتى وصوله إلى مرتبة القاعدة القانونية التي يمكن تطبيقها في الحياة الدنيا. على سبيل المثال، لو كان لأحد الأوامر وجود في المصادر الإسلامية التي سبقت الإشارة إليها، وإذا كان هناك إلزام على المسلمين بفعله، فما هو هذا الأمر على وجه التحديد، وكيف يمكن تنفيذه، وما العقوبات التي تقع على المسلم لو لم يفعله؟ يجب أخذ كل ذلك في الحسبان قبل أن يصبح لفكرة الحجية أية قيمة أو أثر فعلى علي الفقه البشري المُنتَج (أبو الفضل ٢٥–٢٦).
وبتطور الفقه الإسلامي، تطورت كذلك داخله بعض المعايير المنهجية التي منحت نفوذًا وسلطة لأحكام/آراء/قواعد فقهية بعينها دون الأخرى. ويذهب أبو الفضل إلى أن تلك المعايير كانت: الاتساق، والمرجعية القوية، والقدرة على الاستشراف. وبمرور الوقت، أضحت الكتب الفقهية والأحكام التي أنتجها كل مذهب مصادر للشرعية في الفكر الفقهي. وأصبحت المناهج التي تتضمن“استخدام التفكير المنطقي والمرجعية التطبيقية مناهج مريبة. وأصبح الرجوع إلى الممارسات المعتادة أو العُرف أو المفاهيم العامة المتعلقة بالتفضيل أو الاستحسان بمثابة أمور كفيلة بأن تفتح الباب لما رُؤيَ انه أأحكام ذاتية يسهل انجرافها نحو الأهواء الشخصية” (أبو الفضل 35).7 وقد كانت تلك المناهج العقلية تعتبر أساسًا مناهج إجرائية تستخدم في عملية تفسير النص الالهي، الذي هو بدوره الوعاء الرئيس الذي يحوى السلطة الإلهية على الأرض، ولم يكن ينظر إليها على أنها مصادر شرعية قائمة بذاتها (35). كما أصبح الاعتقاد السائد يرى أن الآراء التي ترسخ لاستمرارية مبدأ معين متعارف عليه كما هو في الفقه هي آراء ذات شرعية وحجية أكبر من تلك التي تخلق قطيعة مع المبادئ الراسخة والمتعارف عليها فقهيًا (36). ولهذا، نجد أن فكرة الاستقرار والتغيير الحريص والتدريجي قد أوليت أهمية كبيرة.8
أما بالنسبة إلى المعيار الثاني للحجية، فقد رأى الفقهاء أنهم يمثلون الوسيط الذي تنتقل عن طريقه تعاليم الله إلى البشر. وذهبوا إلى أنه حتى ولو كان البشر بصفة عامة خلفاء الله على الأرض، فإن القدرة الحقيقية على الوساطة بين الله والبشرية تظل مقصورة على هؤلاء الذين لديهم القدرة والاستعداد لأن يفهموا تعاليم الله (أبو الفضل ٢٧).
ولكن كيف لنا أن نحكم على تلك القدرة وذلك الاستعداد؟ يرى أبو الفضل أنه بحلول القرن الثاني عشر كان لدينا نظام يحتم على المرء أن يقضى أكثر من خمسة عشر عامًا في الدراسة قبل أن يصبح مؤهلاً ليصبح فقيهًا. وكان يجب على المرء لكي يصل إلى هذه الدرجة:
أن يتقن القرآن، يحيط بمعرفة الآيات الناسخة والمنسوخة، وعلوم تفسير القرآن وأسباب النزول والإلمام بعلوم الحديث. كما كان من المطلوب منه أن يكون قادرًا على تحقيق وتنقيح المصادر ووزن مجموعة من العوامل القانونية المتعلقة باستنباط القوانين، ثم القدرة على ترجيح الأكثر قوة من بين تلك العوامل. (۳۷)
ولهذا، فحتى ولو كان فهم“طريق الله” متاحًا للجميع، ولو على المستوى النظرى، فإنه من الواضح أن هناك أناسًا بعينهم أكثر قدرة على خوض التدريب الشاق الذي يؤهلهم لذلك وعلى النجاح فيه.
ويجدر الالتفات إلى أن سلطة الفقهاء لم تأت مما يسميه أبو الفضل قدرات فوق– عقلية، إذ إنهم لا يملكون سلطة منح الغفران أو المباركة، كما أنهم بالتأكيد لا يحتكرون الحقيقة، كما ذكرنا من قبل في سياق الحديث عن مبدأ الاختلاف. ولكن سلطتهم تلك قد جاءت من قدرتهم على الإلمام بكم كبير من المعرفة عن طريق استخدام منهج معروف يوضحونه للناس حتى يدرأوا عن أنفسهم أي اتهام باتباع الأهواء (50-51). وقد وضع الفقهاء ثقلاً كبيرًا على أهمية ووجوب اقتفاء الدقة واتباع مناهج متفق عليها، وذلك لأن الإسلام السني لا ينطوي على كيان مؤسسي وحيد يتولى إصدار حقائق موحدة عن الدين (48). بالإضافة إلى ذلك، يقدم أبو الفضل تلخيصًا لخمسة شروط يجب توافرها حتى يمكن القول بحجية الفقيه: الأمانة، الدقة، الإلمام، التعقل، والتحكم في النفس (54-56). ودون الخوض في تفاصيل كل من تلك الصفات، فمن المهم هنا أن نلتفت إلى أن الفقه الإسلامي كان يتوخى الحرص الشديد في منح الحجية التي تمكن الفقيه من إنتاج المعنى، وأنه كان يتعين على هؤلاء الفقهاء أن يقتفوا تعليمًا ومنهجًا معينين، وأن يتصفوا بالنزاهة على المستوى الشخصى قبل أن تصبح لما ينتجونه أية حجية أو سلطة.
علينا أن نأخذ في اعتبارنا هذه المقدمة التي توضح مرونة الفقه الإسلامي والمعايير التي وضعها للحجية ونحن نناقش الدراسة الحالية، وهي كيف تتعامل منظمات النساء غير الحكومية المصرية مع كل من القانون الإسلامي والقانون الدولي لحقوق الإنسان (متمثلاً هنا في CEDAW)، وذلك في مساعيهم نحو إصلاح قانون الأحوال الشخصية المتأسس على فهم الدين.
الأطر المرجعية
في خلال سعيها إلى إصلاح قانون الأحوال الشخصية، ارتأت المنظمات غير الحكومية أنه من المهم تعيين مرجعيات لمساعيها نحو تلك الإصلاحات القانونية، الأمر الذي قد يؤدى إلى تحجيم المطالب التي تتقدم بها هذه المنظمات غير الحكومية، وبخاصة أن الأمر يتعلق بإصلاح قانون يعتبره معظم الناس في العصر الراهن قانونًا سماويًا. فعلى سبيل المثال، نجد أنه لو اتخذت المنظمات غير الحكومية مرجعيتها من نطاق حقوق الإنسان فسوف يحول ذلك دون مطالبتها بأن يكون للنساء الحق ‘المساواتي’ في تأديب أزواجهن جسديًا، ولكنه سوف يتيح لهن المطالبة بالمساواة بين الرجال والنساء فيما يتعلق بالحق في الحماية الجسدية. كما أنه في حين لن تعطى أية مرجعية إسلامية ‘تقليدية’ للمنظمات غير الحكومية مساحة للمطالبة برفض وجوب طاعة الزوجة لزوجها، قد تسمح ما يطلقون عليه مرجعية إسلامية ‘مستنيرة’ بذلك. ولهذا، نجد أن اختيار المنظمات غير الحكومية لمرجعياتها أمر أساسي لأنه سوف يضع معايير المطالب التي تستطيع هذه المنظمات التقدم بها وقدرتها على إقناع الأطراف المعنية بها.
وقد عينت معظم المنظمات غير الحكومية التي قمت بإجراء مقابلات معها ثلاث مرجعيات تحدد إطار خطتها المقترحة للإصلاح:
1- الواقع المعيش للنساء والأسر المصرية.
۲– خطاب إسلامی قانونی مستنیر.
۳– اتفاقيات ومواثيق حقوق الإنسان الدولية.
بالنسبة إلى المرجعية الأولى، ‘مرجعية الواقع المعيش’، فقد ظهر جليًا من خلال عمل المنظمات غير الحكومية اليومى التي تقوم فيه بتقديم خدمات قانونية وغيرها للجمهور أن هناك مشكلات كبيرة تواجه النساء بسبب القانون. من هذه المشكلات المساحة الضيقة المتاحة للمرأة لكي تطلب الطلاق مقارنة بالرجل، وطول مدة التقاضي في حالة رفع المرأة دعوى تطليق (قد تصل إلى سبع سنوات)، وصعوبة إثبات وقوع الضرر من أجل الحصول على الطلاق، وأن القانون لا يسمح للمرأة بطلب مستحقات النفقة سوى عن السنة التي تسبق رفعها دعوى التطليق، وليس من وقت امتناع الزوج عن النفقة، بالإضافة إلى عدم تنفيذ أحكام النفقة التي تستفيد منها النساء، وسوء استخدام نص القانون الخاص بالطاعة رغم أن المرأة تكون قد طلبت التطليق بالفعل، وعدم قدرة الأمهات على إجراء أية تعاملات مالية بالنيابة عن أطفالهن حتى ولو كانت الأم هي مصدر المال، والصعوبات الاقتصادية التي تواجهها النساء اللاتي لا يتمكن من بيوتهن أو لا يستطعن الحصول على النفقة بعد انتهاء فترة حضانتهن للأطفال مما يجعلهن يواجهن الحياة دون دخل أو مأوى.
وهنا يجب التأكيد على أن المشكلات التي تواجهها النساء بسبب القانون هي السبب الذي دفع المنظمات غير الحكومية إلى التحرك في المقام الأول. فقد كانت معاناة النساء بسبب القانون توضح بجلاء ضرورة إصلاحه. كما تجدر الإشارة إلى أنه بالنسبة إلى معظم المنظمات غير الحكومية هنا فإن الحملات التي بدءوها لإصلاح قانون الأحوال الشخصية لم تأتِ نتيجة موقف أيديولوجي يلتزم بالمساواة تتخذه تلك المنظمات، ولا من مبدأ نظرى صارم يهدف إلى تحقيق التزام أفضل بالقانون الإسلامي أو بالقانون الدولي لحقوق الإنسان، ولكنه جاء بغرض التعامل مع مشكلات قد شهدوها على أرض الواقع في إطار تحركاتهم اليومية ونشاطاتهم في تقديم الخدمات للجمهور. وعليه، فقد قامت تلك المنظمات بإعداد عدة دراسات تهدف إلى جمع الإحصاءات والبيانات التي تعكس معاناة النساء والثمن الذي يدفعه المجتمع كله نظير ذلك، وذلك بهدف تعزيز الطروح التي يقدمونها وإكساب مساعيهم مزيدًا من الشرعية.9
وقد جاء اتخاذ الواقع إطارًا مرجعيًا بمثابة قوة داعمة للمنظمات غير الحكومية، أما فيما يتعلق بالإطارين المرجعيين الآخرين وهما الدين وحقوق الإنسان، فلم يكن هناك توافق على تبنيهما. فقد كانت المنظمات غير الحكومية التي أدرسها هنا على وعى بأن العلاقات الأسرية والزوجية للمسلمين في مصر، سواء من الناحية الاجتماعية أو القانونية، محكومة في المقام الأول بما يظنه معظم الناس القانون الإسلامي، وذلك بحسب نص القانون (المادة 3 من القانون 1 للعام ۲۰۰۰).10 وهكذا، يصبح لزامًا على أية محاولة لإصلاح هذا القانون أن تتعامل مع الدين رغم حساسية هذا الموضوع. وكذلك، فقد كانت هناك نساء من بين من أجريت مقابلات معهن يعتبرن أنفسهن مسلمات ملتزمات يحترمن مبادئ الإسلام ولا يجدن تعارضًا مع مواثيق حقوق الإنسان أو يرين مشكلات في أن تحكم مبادئ الدين العلاقات الأسرية.
ومع بداية انطلاق الحملات الهادفة إلى إصلاح قانون الأحوال الشخصية التي أشرت إليها لاحقًا وذلك عام ۲۰۰۷، جرت المناقشات بين أعضاء المنظمات غير الحكومية حول مرجعياتهم الرئيسة في إطار عملهم المشترك من أجل إصلاح قانون الأحوال الشخصية: هل تقتصر المرجعية على المواثيق الدولية لحقوق الإنسان– كما كان الأمر خلال الفترة المبكرة التي تلت تكوين هذه الشبكة من المنظمات عام ٢٠٠٥– أم هل تتسع المرجعية لتضم الدين؟ وقد كانت بعض المنظمات ترغب في جعل حقوق الإنسان مرجعها، بينما رأت منظمات أخرى أن ذلك سوف يشكل عائقًا أمامها، بسبب الوصمة التي يحملها مفهوم حقوق الإنسان في المجتمع المصرى والذي يربطه بالغرب/الاستعمار. كما أن البعض ارتأى أن ذلك خيار غير واقعي لأن القانون ذاته مبنى على مبادئ دينية. وقد هددت إحدى المنظمات غير الحكومية بالانسحاب من المجموعة لو تم استبعاد المرجع الديني، حيث رأت المنظمة أن الشبكة بذلك ستكون بمثابة من يقذف بنفسه في النار، معرضة نفسها لمخاطر كبيرة من جانب الدولة والمجتمع. وفي الوقت ذاته حذرت منظمات غير حكومية تتخذ موقفًا معارضًا بأنه“من غير المفيد أن نخلق الوحش ثم نخيف أنفسنا به” (بمعنى أنه من غير المفيد أن نتجنب الإشارة إلى حقوق الإنسان بسبب افتراضنا أن الإشارة إليها لن تكون مقبولة على وجه العموم).11 وبعد الكثير من النقاشات، تم التوصل إلى تسوية مفادها أن تكون حقوق الإنسان والتفسيرات ‘المستنيرة’ للدين هما المراجع معًا.
ومع ذلك لم تجر نقاشات حول تعريف كلمة ‘مستنير’. وعندما سألت ذلك السؤال أثناء المقابلات الشخصية، وجدت أن معظم ممثلين المنظمات غير الحكومية اعتبروا الكلمة تعنى بصفة عامة التفسيرات الإسلامية التي تأخذ قضايا (الجندر) أو النوع في الاعتبار، ولكن تبقى التفاصيل دون اتفاق واضح. ويبدو أن الجميع قد افترض في ذلك الوقت وجود اتفاق على معنى ‘مستنير’، ولكن عندما حان الوقت لهذه المنظمات فيما بعد لصياغة مسودات مفصلة لاقتراحها بإصلاح القانون ظهر جليًا وجود تفاوتات في فهم موقف الدين ‘المستنير’ تجاه قضايا شائكة مثل تولى النساء الولاية المالية على الأطفال، والطاعة، والميراث، وحظر تعدد الزوجات حظرًا واضحًا.
وقد يكون أحد أسباب هذا الغموض ما وصفه بودوان دوبريه وديان سينجرمان (Baudouin Dupret and Diane Singerman) بنزعة القانون الإسلامي نحو التغير وتوليد المعاني الجديدة بتغير الزمان والمكان والأشخاص. فقد تعني ‘مستنير’ أشياء مختلفة لأشخاص مختلفين ويستطيع كل منهم دعم فهمه للكلمة دعمًا واضحًا من الآيات القرآنية العديدة، ومن تفاسير تلك الآيات، ومن الآراء الفقهية الكثيرة المحيطة بها.
ونتيجة لذلك، لم يتضح أي إطار مرجعى ستكون له الأولوية لو حدث خلاف في مسار عمل المنظمات غير الحكومية المشترك. فمثلاً، ماذا لو أعطت مواثيق حقوق الإنسان النساء حقوقًا سلبها منهن الدين، حتى ولو كنا نشير إلى الدين المستنير، والعكس صحيح. فهناك مثلاً قضية حقوق النساء المثليات، التي عارضها معظم من أجريت معهم المقابلات لأسباب دينية وثقافية في المقام الأول. وقد جاءت قضية غياب المساواة بين الرجال والنساء في توزيع الميراث التي تستمد جذورها من الآيات القرآنية مثالاً آخر على القضايا الخلافية التي لم تسعَ معظم المنظمات غير حكومية إلى تغييرها. يبدو إذن أن الافتراض الضمني كان مفاده أن الدين ‘المستنير’ سوف يكون بديهيًا ويأتي متسقًا مع مواثيق حقوق الإنسان، وأن احتمالات وجود تعارض بين الاثنين محدودة.
وهنا ظهرت نقطة مهمة أخرى، وهي أنه رغم تأكيد المنظمات غير الحكومية في كتاباتها وخطابها على مبدأ المساواة والتشارك في المسئولية بين الأزواج والزوجات، فهي لم تدعم جميعها المساواة دائمًا بين الرجال والنساء. فكما كان الحال مع كلمة ‘مستنير’، جاء تعريف ‘المساواة’ مراوغًا واختلف من شخص إلى آخر. فقد بدت المساواة التي تسعى إليها مواثيق حقوق الإنسان أحيانًا متعارضة مع مفاهيم المساواة التي يعتنقها بعض النشطاء العاملون في منظمات غير حكومية في ضوء ما يرون أنه الدين. وقد رأي بعضهم أن طبيعة المساواة التي يدعمها خطاب حقوق الإنسان تنطوي على نقاط قد تضر بالنساء المصريات الفقيرات. فعلى سبيل المثال، يوضح صمت المنظمات غير الحكومية حيال قضايا معينة سوف يأتي عرضها لاحقًا– مثل إلزام الزوج بالنفقة، والمطالب الداعية إلى الحد من تعدد الزوجات وليس إلغاء تعدد الزوجات– الغموض المفاهيمي المنبني داخل مفهوم تلك المنظمات لمصطلح ‘المساواة’. ففي هذه الحالات كان التزامها بالمساواة الواضحة سوف يحتم عليها المطالبة بالتشارك في مسئولية الإنفاق بين الزوج والزوجة بالإضافة إلى الرفض الواضح لتعدد الزوجات، وهو ما لم تطالب به تلك المنظمات.
ويوضح لنا ذلك أيضًا أننا لا ينبغي أن نقصر الحكم على الدين أو حقوق الإنسان على موقفهما من المساواة، فقد كان لكل مرجع مساهمته وأهميته وقيمته للمنظمات غير الحكومية، كما جاء كل مرجع مرهونًا بتمشيه مع الظروف الاقتصادية – الاجتماعية ومع المفاهيم المجتمعية والدينية السائدة، التي دعت إلى تبني ذلك المرجع.
وختامًا، فقد أوضحت تلك المناقشات التي خاضتها شبكة المنظمات غير الحكومية حول مسألة المرجعيات وعى تلك المنظمات بأن المرجعية المتبناة سوف تملى عليها المطالب التي تتقدم بها لإصلاح قانون الأحوال الشخصية، إلى جانب المبررات التي سوف يكون عليها تقديمها لمقترحاتها بالإصلاح، والقضايا التي ينبغي ألا تتحدث فيها، والصورة التي سوف يكونها المجتمع والدولة عن هذه المنظمات، والقبول المجتمعي العام لهذه المطالب.
وقد جاءت هذه المناقشات كذلك مهمة؛ لأنها أبرزت نظرة نشطاء المنظمات غير الحكومية إلى المرجعيات التي يتخذونها. فقد أشار الكثير منهم إلى ما يسمى بواقع المصريين المعيش بوصفه مسوغًا أساسيًا لإجراء ذلك النوع من الإصلاح. وعلى مدار المقابلات الشخصية أشارت المنظمات غير الحكومية إلى الضرورة الملحة للتعامل مع مشاكل الواقع المعيش التي تنجم عن الانفصال بين الواقع والقانون المستقى من فهم معين للدين. وفيما يتعلق بالمرجع الديني، فقد بدا أن المنظمات ترى أن الدين يخلع مصداقية أكبر من تلك التي يخلعها مرجع حقوق الإنسان على مطالبهم، إذ تبدو حقوق الإنسان وكأنها لا تحظى بالمصداقية التي يحظى بها الإطار المرجعي الديني، سواء بالنسبة إلى المجتمع المصرى بصفة عامة أو إلى بعض نشطاء المنظمات غير الحكومية بشكل شخصي. ولكن مرجع حقوق الإنسان يقدم لتلك المنظمات طريقة تفكير جديدة ومجموعة جديدة من الإمكانات في مجال العلاقات الزوجية. وعلاوة على ذلك، فقد رأى معظمهم أن الإطار الديني التقليدي، مقارنة بالإطار الديني ’المستنير‘، أقل قدرة على تحقيق الإصلاحات التي يدعون إليها. وهكذا، فقد خلص الكثير منهم إلى أهمية القيام بمجهودات أكبر في سبيل إعادة تفسير وفهم المصادر الإسلامية بصورة مختلفة عن تلك التي يقدمها الفقه التقليدى. ولكن معظم المنظمات غير الحكومية اتفقت على أنه ما من مفر من الاشتباك مع قضايا دينية في إطار مساعيها لإصلاح قانون الأحوال الشخصية.
الخطاب الديني: النسوية الإسلامية
عند سؤالي كل من أجريت معهم مقابلات عن توصيف الخطاب الديني الذي يشيروا إليه في سياق مساعيهم لإصلاح قانون الأحوال الشخصية، بدا كل المشاركين وكأنهم يتحدثون عن ‘النسوية الإسلامية’ دون الإشارة إليها بالضرورة بهذا الاسم. وهنا أعرّف ‘النسوية الإسلامية’ في أوسع معانيها، مدركة تمام الإدراك أنها تحمل معاني مختلفة لفاعلين مختلفين وفي أماكن مختلفة. أجدني أتفق مع تعريف زيبا مير– حسینی (Ziba Mir-Hosseini) في مقالتها عن النسوية والقانون الإسلامي (“Islamic Legal Tradition and Feminism”) النسوية بأنها الوعي بالظلم الواقع على النساء جراء كونهن نساًء، وإرادة فعل شيء ما حيال ذلك، سواء في شكل إنتاج معرفي جديد أو موقف دعم ومساندة أو الاثنين في الوقت ذاته. وهنا أعنى بكلمة إسلامي أن تلك المساعي تجد دافعًا ومسوغًا لها من داخل الإسلام وخطابه، مسترشدة في ذلك بمبادئ العدل والمساواة والحفاظ على الكرامة الإنسانية التي نجدها في القرآن وفي سيرة النبي.12 وهو أيضًا ما كانت تسعى إلى فعله معظم المنظمات غير الحكومية التي أجريت معها مقابلات، بدرجات مختلفة، ولكن دون إطلاق مصطلح النسوية الإسلامية عليه. وينطبق على النشطاء الذين أتناولهم هنا الوصف العام الذي تورده أميمة أبوبكر (Abou Bakr) عن باحثين ونشطاء النسوية الإسلامية،“الذين لا يكتفون ‘بالتناول النقدي { أى الهجوم أو التفكيك{ للتاريخ والهرمنيوطيقا الإسلامية،’ ولكنهم يقدمون كذلك بدائل ويسعون إلى إيجاد حلول مسترشدة بالقيم الإسلامية.” (لا يتوافر رقم الصفحة)13.
وقد كان الكثير من النشطاء العاملون في منظمات غير حكومية الذين أجريت معهم المقابلات يعتبرون أنفسهم مسلمين مؤمنين، ويجد الكثير منهم على المستوى الشخصي أن مبادئ الشريعة الرئيسة تأتي ضد الأبوية. وعليه، فهي تتفق مع مبادئ حقوق الإنسان. ويرى هؤلاء النشطاء أن الفقه الذي أنتجه العلماء في القرون المبكرة هو الذي يضم أفكارًا أبوية تعكس السياق الاجتماعي الذي أنتج فيه. ولهذا، يحاول البعض منهم في سياق عملهم أيضاح الفارق بين الشريعة وهي من صنع الله، أي الرسالة المقدسة التي يحويها القرآن والتي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، والفقه وهو من صنع الإنسان متمثلاً في المحاولات البشرية لفهم تلك الرسالة. وتجد هذه المجموعة من النشطاء ذلك الفارق مهمًا؛ إذ إنه يتيح لهم تطوير فقه جديد يعيد تفسير مصادر الشريعة الرئيسة. ولكنني لاحظت أحيانًا أثناء المقابلات وجود فروق بين النشطاء في تعريفهم الشريعة والفقه، حيث رأي بعضهم أن الآيات التي تعتبر آيات قطعية الدلالة في القرآن تمثل الشريعة التي لا تتغير، وعليه فهي لا تخضع لتفسيرات البشر (مثل آيات تعدد الزوجات والميراث كما يرون، والتي أتناولها لاحقًا). وعلى الجانب الآخر، فقد اختلف نشطاء آخرون حول هذه النقطة، إذ رأوا أنه تجب إطلاق حرية تفسير تلك الآيات التي يقال عليها قطعية الدلالة.
ويسوق هؤلاء النشطاء وقائع عطل فيها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب العمل بآيات قطعية الدلالة؛ لأنها في السياق التاريخي الذي فعل فيه ذلك لم تعد تخدم المقصد من ورائها, وقد اتفق هؤلاء النشطاء على أن بعض الآيات القرآنية لا تساوى بين النساء والرجال، ولكنهم يجدون أن ذلك لا يمنعهم من الرجوع إلى الشريعة في عملهم. ويبدو الكثيرون مؤمنون بعدالة وسرمدية رسالة القرآن العامة، ويذهبون إلى الحاجة لفهم تلك الآيات تاريخيًا وسياقيًا، إذ إنها ترتبط بعلاقات اجتماعية كانت سائدة في زمن النبي، وليست مبادئ عامة. كما يرى هؤلاء النشطاء أن الأمر يعود إلى المسلمين لو أنهم أرادوا صياغة فهم جديد لتلك الآيات يكون مستقى من المبادئ القرآنية العامة الحاكمة الخاصة بالمساواة والعدل اللذين يعتبرونهما من مقاصد الشريعة الرئيسة. ويرى هؤلاء النشطاء أنه لا ينبغي أن نعطى للفقهاء القدامى الذين صاغوا الفقه خلال القرون التي تلت وفاة النبي الحق في احتكار تفسير القرآن والسنة، وأن هؤلاء الفقهاء أنفسهم لم يعطوا أنفسهم هذا الحق. فلكل المسلمين الحق في مناقشة ما تسوقه تلك المصادر، وفي إثارة التساؤلات حول التفسيرات التي يقدمها الفقهاء، وفي صياغة أشكال جديدة من الفهم تكون أكثر صلًة مع ظروف الحياة الراهنة. وهنا، يشير هؤلاء النشطاء إلى إعلاء الإسلام لاستخدام العقل والتفكير المستقل. وقد قالت إحداهن متعجبة:”ليس في الإسلام كهنوت!”، مشيرة إلى أن العلاقة بين الإنسان والله علاقة مباشرة دون وسطاء، وعليه فالإسلام يمكّن الناس من التواصل المباشر مع الله ومن فهم الإسلام كل بطريقته.
وتقول المنظمات غير الحكومية إن استخدام اللغة التي يتكلمها الناس، عن طريق استخدام خطاب ديني، يسهل عملها ولكنه في الوقت ذاته يواجهها بتحدٍّ كبير، فهم يدركون أنهم وخصومهم يستخدمون المرجعية الدينية نفسها وأنه ليس في استطاعة أحد المعسكرين أن يدعى احتكار الحق في تفسير الدين. ويعي الكثيرون ممن يعملون في هذه المنظمات أنهم يضعون أنفسهم عرضة للهجوم لأنهم ليسوا خبراء في أمور الدين وليس لديهم حق معترف به للدعوة إلى خطاب ديني مختلف عن الخطاب السائد. ونجد بعضهم أحيانًا يخشون فكرة أن استخدام خطاب كهذا، سواء كان مستنيرًا أم لا، يعزز سطوة الدين في المجتمع المصري التي هي آخذة في الارتفاع. وهكذا، فإنهم بصورة غير مباشرة يدعمون خصومهم الذين يبررون المعاملة الظالمة للنساء باستخدام خطاب يبدو على القدر نفسه من المصداقية التي يحملها الخطاب الذي تستخدمه المنظمات غير الحكومية في تناوله النصوص المقدسة وفي استخدامه مناهج الفقه الإسلامي.
ويكمن تحدٍّ آخر في أن النشطاء المنتمين إلى منظمات غير الحكومية ليسوا خبراء في الدين، ولهذا ليس في مصلحتهم أن يتم جرهم إلى هذه الساحة، فهم خبراء في خطاب حقوق الإنسان، ويحاول بعضهم وضع ما يطرحونه في هذا الإطار. ولكن جمهورهم غالبًا ما يطلب منهم تبرير مطالبهم من الناحية الدينية، وهنا يجدوا عليهم أن يكونوا أيضًا على استعداد لاستخدام خطاب دینی ‘مستنير’.
ويمكن القول بأن استعدادات الناشطات النساء خصوصًا لاستخدام مثل ذلك الخطاب تبقى أمورًا فردية. فقد بدأت كثيرات منهن القراءة عن الإسلام والنساء بمعزل عن عملهن وتوصلن إلى نتائج ما بأنفسهن. وقد تأثرت هذه العملية بحيواتهن الفردية وبتنشئتهن التي كانت تركز على مبادئ العدل والمساواة. وقد أشارت ناشطات في مناسبتين إلى انتهاج الأب تلك الممارسات المساواتية مع بناتهن وزوجاتهن. لم يكن الإسلام الذي يؤمنَّ به والذي يعرفنه دينًا ظالمًا ولا منزِلاً من كرامة النساء.
أنواع المنظمات غير الحكومية طبقًا لاستخدامها الخطاب الديني
نأتى هنا إلى تمييز مهم بين الناشطات العاملات في مجال حقوق المرأة في مصر. تضع عزة كرم (Azza Karam) تقسيمًا مفيدًا للمنظمات النسائية في مصر في الوقت الراهن، إذ تعين ثلاثة أنواع. النوع الأول هو جماعات النساء الإسلاميات التي تسعى إلى تقوية أسلمة الدولة. والنوع الثاني هو منظمات النسويات المسلمات، التي تستخدم خطابًا مرجعيًا مرتبطًا بالإسلام والسنة بغية تأكيد أن الإسلام يدعم مفهوم المساواة. والنوع الأخير من المنظمات النسائية هو ذلك الذي يعكس معتقدات علمانية، إذ يؤمن بخطاب حقوق الإنسان ويتجنب الخطاب الديني، سواء كان إسلاميًا أم مسيحيًا (۹–۱۳).
ويمكن تصنيف المنظمات غير الحكومية التي أجريت معها المقابلات تحت واحد من النوعين الأخيرين. فلم تكن أي منها تسعى إلى تكوين دولة إسلامية، ولا تستخدم أي منها الشريعة إطارًا مرجعيًا رئيسًا يحكم عملها التي تقوم به بعيدًا عن قانون الأحوال الشخصية. على العكس، فجميعها تشير في مطبوعاتها ومنشوراتها سواء بصورة أساسية أو بصورة حصرية إلى مواثيق حقوق الإنسان الدولية. وقد أعربت كل المنظمات غير الحكومية التي أجريت معها المقابلات، فيما عدا واحدة فقط، عن اقتناعها باتساق التفسير النسوى المستنير للإسلام مع حقوق الإنسان، حتى ولو كانت هناك حاجة إلى عمل شاق لإثبات ذلك.
وعلى الرغم من أهمية التصنيف الذي تضعه كرم لفهم الصورة العامة، فهو لا يوضح الواقع بالغ التعقيد الذي تعمل فيه الناشطات ‘المسلمات’ و‘العلمانيات’، والذي تطور كثيرًا خلال الخمس عشرة سنة الماضية، أي منذ صاغت كرم ملاحظاتها. فعلى سبيل المثال، شهدنا استعداد بعض العلمانيات لتبني الخطاب الديني تبنيًا جزءيًا رغم توجهاتهن العلمانية. كما نجد بعض النسويات المسلمات يتحررن أحيانًا من اتباع النصوص الحرفية مضمنين في تفسيراتهن لتلك النصوص إشارات ‘علمانية’ إلى حقوق الإنسان، كما سنعرض في الجزء الآتي.
يوضح هذا الأمر عدة نقاط. أولاً، هناك عدد كبير من المسلمات المؤمنات بين هؤلاء الناشطات يعتبرن أنفسهن مصريات مسلمات بحق على عكس النظرة السائدة لهن من قبل خصومهن ذوى الاتجاهات الأكثر محافظة في الدولة والمجتمع. فهؤلاء النساء لسن ‘مقلدات للغرب’ سواء ثقافيًا أو من حيث ولاءاتهن، ولا هن ملحدات كما يتصورهم الكثيرون. فهن لسن عميلات للغرب تسعين من خلال إصلاح قانون الأحوال الشخصية وتوسلهن بحقوق الإنسان إلى ‘تدمير الأسرة المصرية’ وقيمها الشرقية، كما يتهمهن الكثيرون. نجد هؤلاء النساء يشغلن موقعًا وسطًا ويسعين إلى خلق مساحة لتواجدهن، كما يسعين إلى أن يتقبلهن المجتمع والآخرون.
وقد ذكرت إحدى الناشطات فيما يتعلق بهذه النقطة أنها بوصفها مسلمة ملتزمة تشعر وكأنها“تسیر دومًا على حبل مشدود“، في محاولتها للحفاظ على دينها الذي تحترمه وعلى مبدأ المساواة بين الرجال والنساء الذي تؤمن به مع أنه قد يتعارض أحيانًا مع الدين. وتتساءل هذه الناشطة: هل ستكون حياتها أسهل بوصفها نسوية لو أنها لم تختر أن تكون مسلمة مؤمنة وملتزمة؟
ثانيًا، يشير ذلك أيضًا إلى أن الدين بالنسبة إلى بعض هؤلاء الناشطات يؤثر في مطالبهن بإصلاح قانون الأحوال الشخصية. وتقول البعض منهن إنهن لا يطالبن بما يتعارض مع معتقداتهن الدينية، حتى ولو أدى ذلك إلى تعارض مع مبدأ المساواة.14 وتمثل هذه الفكرة نقطة مهمة قد تفسر لنا التناقض الواضح في بعض مقترحاتهن لإصلاح قانون الأحوال الشخصية، التي سأوضحها فيما بعد.
ثالثًا، نجد أن هؤلاء النساء في بعض الحالات مازلن في طور تطوير الإطارات التي يستخدمنها وليس لديهن دائمًا حلولاً نهائية لكل المشكلات. أحيانًا تكون الأمور واضحة لهن فيقدمن مطالب قوية، وأحيانًا لا تكون كذلك. كما نجد بعضهن، وبالتأكيد ليس الجميع، يخضن فترة صراع داخلي وخارجي من أجل“إيجاد تسوية بين التزامهن بالمساواة بين الجنسين وعقيدتهن الدينية“، كما قالت إحداهن عندما سألتها عن الفروق بين النسوية التي تؤمن بها ومعتقداتها الدينية. ويمكن القول إن هؤلاء الناشطات يخضن تجربة صعبة في خضم سعيهن إلى صياغة خطاب خاص بهن يجمع بين جوانب الواقع المصري المعيش والدين وحقوق الإنسان.
وقد حان الآن الوقت للتحدث عن عملية استخدام منظمات غير حكومية خطاب حقوق الإنسان لصالحها.
خطاب حقوق الإنسان
تتفق معظم المنظمات غير الحكومية التي أجريت المقابلات معها مع عبد الله النعيم –(An Na’im) في أن معايير حقوق الإنسان الدولية مبنية على قيم أساسية تعتنقها كل الثقافات والأديان ((xi-xii. وقد رأت إحدى الناشطات أن افتراض أن فكرة حقوق الإنسان ابتكار غربي محض يمثل موقفًا يتسم بالغرور الشديد من قبل الغرب والجهل الشديد من قبل الشرق. كما رأت ناشطة أخرى ترتدي الحجاب أن حقوق الإنسان تمثل تبلور المبادئ العامة في الأديان جميعها. وعليه، فقد كانت الكثيرات يشعرن بأن إصلاح قانون الأحوال الشخصية المبني على تفسير مستنير للمصادر الإسلامية سوف يأتي لا محالة متسقًا مع مبادئ حقوق الإنسان.
ورغم قول تلك المنظمات غير الحكومية بأن المبادئ الدينية المتعلقة بالمساواة والعدالة والحفاظ على الكرامة الإنسانية تتشابه مع حقوق الإنسان، فلا تزال هناك ثغرة في هذا الطرح. في الواقع، قد حدّ ‘الدين’ المنظمات غير الحكومية من المطالبة بالمساواة، حتى ولو جاءت هذه المطالب مدعومة بقوة بخطاب حقوق الإنسان. وسوف تبين الأمثلة التي نوردها فيما بعد أن هذه المطالب تشمل الحظر التام على تعدد الزوجات، والمساواة في الميراث بين النساء والرجال، وهي مطالب لم تكن معظم المنظمات غير الحكومية على استعداد لجعلها جزءًا من مقترحات الإصلاح. وينبع هذا الموقف أساسًا من فكرة أن تناول هاتين القضيتين في القرآن جاء في آيات يَرون أنها قطعية الدلالة.
مرة ثانية، تتفق معظم المنظمات غير الحكومية مع قول النعيم بأنه في نظام قانونی مثل النظام الإسلامي“لا تشكل السياسات الإجرائية أساسًا كافيًا يسمح بإثارة الجدل حول القواعد الراسخة واستبدالها بقواعد بديلة إلا في حالة الاستناد إلى سلطة النصوص المقدسة” (“حقوق النساء” ٤٩٧؛ أضيف الخط تحت الكلمات بواسطة كاتبة المقالة). ويلفت النعيم إلى أن الإسلام يمكن أن يدفع النساء أنفسهن على إثارة الجدل حول قضايا حقوق النساء التي تبدو“وكأنها قادمة من الغرب“. ولكن“تبدو أفضل الطرق لمواجهة ذلك أن نوضح أن حقوق النساء هي مبادئ إسلامية وليست مبادئ غربية واردة” (501). تلك على وجه التحديد هي العملية التي تنخرط فيها المنظمات غير الحكومية في مصر.
يصف النعيم ودنج (An-Na’im and Deng) دور المنظمات غير الحكومية بأنها فاعلة من داخل الثقافة المحلية تضطلع بمهمة تفسير حقوق الإنسان بلغة تأخذ الثقافة المحلية في الاعتبار (xiv). وترى سالى – إنجل مرى (Merry) أن دور المنظمات غير الحكومية يكمن في“خلق المساحات بين الأفكار العالمية والقضايا المحلية” (١٣٤). وعليه، تضطلع المنظمات غير الحكومية بدور خلاق في عملية تطبيق المفاهيم والممارسات العالمية محليًا من خلال عملية الترجمة تلك، كما تمثل وتترجم القضايا المحلية في المحافل الدولية. ومن خلال عملية الترجمة المتبادلة تلك وجدت منظمات غير حكومية هنا أن خطاب حقوق الإنسان أثار فهمًا مختلفًا للقانون الديني مما يجعلها ليست مجرد عملية ‘ترجمة’ بين ما هو عالمي وما هو محلى، ولكن كذلك عملية ‘تحول’ في الفهم لبعض الالتزامات والحقوق الدينية والزوجية والقانونية.
وقد ذكر الكثيرون أن حقوق الإنسان بينت لهم مفهوم وإمكانات المساواة بين الجنسين. وقد وجد بعضهم أن حقوق الإنسان قد ساعدتهم على إبراز الجوانب الإيجابية والمساواتية في الدين التي لا يبرزها الفقه الذي يتحكم فيه النفوذ الأبوى الزماني والمكاني. وذهبت إحدى الناشطات إلى حد القول بأن ما يقمن به من جهد فيما يتعلق بقضية المرأة قد يؤدي إلى صلاح الإسلام والعودة إلى مقاصده الأصلية. وذكرت ناشطة أخرى أن حقوق الإنسان قد ساعدت بعض النشطاء على الشروع في إثارة التساؤلات حول كل ما يتعلق بالنساء، بما فيها المفاهيم التي جرى اعتبارها بمثابة ثوابت مثل ضرورة وجود ولىّ لإتمام عقد الزواج نائبًا عن المرأة. وذكرت إحداهن أن حقوق الإنسان ساعدت النشطاء في كسر تفرد الرجال بعملية تفسير الدين، إذ أعانتهن على الرجوع إلى مصادر الشريعة وفهم الأمور بأنفسهن بوصفهن مسلمات. وقالت أخرى إن حقوق الإنسان ساعدتها في المقام الأول على النظر إلى نفسها وإلى أفكارها المغايرة بصفتها أمورًا ‘جديرة بالاحترام’، وأن عليها أن تطلب الاحترام من المجتمع كذلك. وقد ساعدتها حقوق الإنسان على رفض الأفكار الفقهية التي ترسخ المعاملات غير المساواتية وغير العادلة بين النساء والرجال. كما أنها وجدت أن الفقه في مجمله ينظر إلى النساء دائمًا بوصفهن جزءًا من كل – من الأسرة أو من المجتمع – وليس بوصفهن ذواتًا متفردة. وقالت إحدى الناشطات المحجبات:”ساعدتني حقوق الإنسان على أن أكون أنا“. وقد ضربت ناشطة أخرى مثلاً قائلة إن خطاب جماعة إسلامية مثل الإخوان المسلمين بخصوص عمل المرأة قد تغير منذ ثمانينيات القرن العشرين. واليوم لا تستطيع جماعة الإخوان المسلمين أن تعارض عمل المرأة خارج البيت كما كانت تفعل من قبل، وأنها في رأيها اضطرت إلى تغيير مواقفها في هذا الصدد استجابة للأهمية المتزايدة لحقوق الإنسان في العالم المعاصر.
وترى معظم المنظمات غير الحكومية أن خطاب حقوق الإنسان غالبًا ما يأتي متوائمًا مع المطالب التي تتقدم بها لإصلاح قانون الأحوال الشخصية، وهو ما يمكن إرجاعه جزئيًا إلى أن حقوق الإنسان، على عكس الدين، لا تخضع لتفسيرات قد تأتى مختلفة اختلافات جوهرية مع بعضها البعض. وتتفق الكثير من المنظمات كذلك مع لما أبو عودة (Abu- Odeh) التي توضح في مقالة عن ‘النسوية المصرية’ أن الخطاب الديني التقليدي السائد سوف يحد من الحقوق التي يمكن أن تتمتع بها النساء لأنه في المقام الأول يعتمد على فقه نشأ في سياق مختلف لم تكن فيه أولوية للمساواة بين الرجال والنساء. ولهذا، يجب أن نشهد عملية راديكالية تهدف إلى إعادة فهم وإعادة صياغة لفقه معاصر حتى يصبح الفقه معينًا لعملهن الحالي في إطار حقوق الإنسان.15 ويعتقد الكثيرون منهم أنه لو حدث هذا التغيير فلن يشكل الدين أية معوقات. ولكن اتضح لي أثناء عملى الميداني أن كثيرًا ممن أجريت معهم المقابلات من الذين يعتبرون أنفسهم مسلمين ملتزمين لم يكونوا ليتحمسوا لقضية إصلاح قانون الأحوال الشخصية بمجرد دافع حقوق الإنسان، فهم يرون أن الإسلام قد جاء ليدعو إلى المساواة والعدالة والكرامة، وهو ما مثل لهم ضوءًا أخضر يسمح لهم بانتقاد ذلك القانون ومحاولة إصلاحه على أرضية دينية.
وبجانب وعى المنظمات غير الحكومية بأن النظرة الدارجة لحقوق الإنسان تراها كمنظومة مستحضرة من الغرب أو شكلاً كامنًا من أشكال الاستعمار، فقد رأي بعض النشطاء أن مفهوم المساواة كما يرد في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان مثل CEDAW قد يكون إشكاليًا وضارًا بالنساء المصريات المسلمات. ويذكر النشطاء في هذا الصدد الشرط الموجود في الإسلام بأن يدفع الزوج صداقًا ونفقة أثناء الزواج وبعد انتهائه بوصفه شرطًا في صالح النساء. ومن الميزات الأخرى أن أقارب أولاد الزوجين المطلقين من النساء، بدءًا من الأم، لهن الأولوية على الرجال في قضايا الحضانة عند الطلاق، بغض النظر عن مقدرتهن المادية، طالما أن الأب هو المنوط به الإنفاق عليهم بالكامل (أن يدفع للأم أو الحاضنة نفقة عنايتها بالأولاد بما يتفق مع الفقه الإسلامي التقليدي). ولو اتبعت المنظمات غير الحكومية مبدأ المساواة الوارد في CEDAW بدقة، فسوف يكون لزامًا عليهم المطالبة بسحب الحقوق التي تمنحها القوانين الإسلامية للنساء المسلمات. وقد عبر معظم النشطاء عن عدم رغبتهم في حرمان النساء المسلمات من هذه الميزات، آخذين في حسبانهم الأوضاع الاقتصادية المتردية التي تعيشها معظم النساء في مصر في الوقت الحاضر. وهكذا، لا يأتى موقف تلك المنظمات تجاه حقوق الإنسان مجرد موقف مبني على الإيمان بالدين، ولكنه كذلك ينبع من تقييم واقعي للأوضاع الاجتماعية – الاقتصادية للنساء اللاتي يقمن بمساعدتهن.
تطبيق الخطاب الجديد على قضايا قانونية
تنطلق منظمات غير حكومية من واقع النساء المعيش ومعاناتهن تحت قانون الأحوال الشخصية، وتمزج بين الخطابين الإسلامي والحقوقي لكي تصوغ مفاهيم جديدة عن الحقوق والواجبات الزوجية التي ترغب في أن يعكسها قانون الأحوال الشخصية. وهنا أدلل بإيجاز على هذه العملية بأن أشير إلى نقاط محددة في قانون الأحوال الشخصية، مركزة على مفاهيم القوامة والنفقة والطاعة وتأديب الزوجة وتعدد الزوجات والميراث. وتعد الطروح التي ترد أدناه مجملاً لما تقدمت به المنظمات غير الحكومية سواء في وثائقها المعلنة لإصلاح القانون أو في اجتماعاتها المفتوحة التي حضرتها مع بعض المهتمين بالقضية أو في مقابلات أجريتها معهم.
عندما وجهت للنشطاء أسئلة حول القوامة وجدت معظمهم يرفض الفهم السائد للقوامة على أنها منح السلطة المطلقة للرجال على النساء. ويرى بعض منهم أن الآية 34 من“سورة النساء” تشير إلى أن أحد شروط القوامة هو الإنفاق المادي على الأسرة. أما في كثير من الأسر المصرية اليوم فنجد أنه الزوجين يشتركان في المسئولية المادية بسبب تردي الأحوال الاقتصادية، وبالتالي يجب أن يشتركا في القوامة. كما يشير هؤلاء النشطاء إلى بعض الكتب الفقهية التي تحدد القوامة بثقافة ومعرفة الشخص وليس فقط بقدرته المادية. ولأن فرص الحصول على المعرفة متاحة اليوم أمام النساء والرجال، بل وتتفوق النساء أحيانًا في هذا المجال، فمن غير المنطقي مثلاً أن تكون القوامة لرجل أمىّ على أستاذة جامعية. وتتفق المنظمات غير الحكومية مع فقهاء مثل عبد المعطى بيومى (Bayoumy) في تعريف القوامة بأنها مسئولية أكثر من كونها ميزة أو سلطة، ويعيدون التفكير في الرابطة التي وضعها الفقه التقليدي بين قوامة الزوج، بوصفها مسئوليته عن الإنفاق المادي على زوجته، والطاعة المفروضة على الزوجة مقابل ذلك.
ويرفض الكثير من النشطاء فكرة واجب الطاعة المفروض على الزوجة لزوجها الذي ينص عليه قانون الأحوال الشخصية بناًء على قواعد الفقه التقليدي، إذ يرون أن الطرح القائل بأن الزوج ينفق على زوجته مقابل طاعتها له ليس أمرًا عفا عليه الزمن وغير مقبول فحسب، ولكنه كذلك يقترب من الشرك لأن الطاعة لا تجب إلا لله.
وقد لاحظت المنظمات غير الحكومية التي تدير مكاتب قانونية أن معظم قضايا الطاعة المرفوعة في المحاكم على عميلاتهن قد رفعها أزواج بهدف إطالة مدة معاناة الزوجات في وتيرة التقاضي البطيئة في المحاكم المصرية بغية الانتقام منهن لتجرؤهن على رفع قضية طلاق على الزوج. وهكذا، يستخدم هذا النص القانوني لإلحاق الضرر، وهو الأمر الذي يرونه متعارضًا مع مقاصد الإسلام.
وترى معظم المنظمات غير الحكومية أنه ما من مجال لفرض الطاعة في القانون الذي يحكم الأسر المسلمة في مصر في الوقت الحاضر.16 ومع ذلك، رأت بعض منهن أنه تحريًا للاتساق، فإن مطالبتهن بسحب نصوص الطاعة في قانون الأحوال الشخصية يجب أن يستتبع مطالبة الزوجين بالاشتراك في الإنفاق وليس جعله مسئولية الزوج وحده. وقد ذكرت إحدى الناشطات أن النساء في مصر لن يرحبن بمثل هذا التغيير الذي سوف يضع عبئًا ماديًا مضافًا على كواهلهن، مؤكدة أن كثيرًا من النساء المصريات لا يعبأن في الحقيقة بالمساواة وأن المنظمات غير الحكومية لا يجب أن تتسرع في المطالبة بأشياء ليس المجتمع مستعدًا لها. ولكن ناشطة أخرى قالت إن النساء في الواقع ينفقن بالفعل على بيوتهن مثلما ينفق وأن المجتمع قد ‘وصل بالفعل’ إلى تلك المرحلة. كما أبدت معظم المنظمات غير الحكومية اقتناعها بأنه ينبغي اعتبار القيمة الاقتصادية للعمل الذي تقوم به النساء داخل البيت جزءًا من مساهمتهن المالية في نفقات الأسرة. ورغم ذلك نجد أنه في المقترح النهائي المكتوب الذي تقدمت به المنظمات لإصلاح القانون، لم تتعرض معظمها لقضية إلزام الزوجة بالإنفاق، مما ينم عن قبول ضمنى بأن ذلك أحد واجبات الزوج. كما أن المنظمات لم تطالب بحذف تام لواجب الطاعة وما يترتب عليه قانونيًا، ولكنهم اكتفوا باقتراح تغيير النص على“الإنفاق” مقابل“الطاعة” ليصبح النص على“واجبات متبادلة” في القانون ويكون لها التبعات القانونية نفسها.
لا يتناول قانون الأحوال الشخصية مباشرة مسألة تأديب الزوجات بدنيًا، ولكن يرد ذلك في قانون العقوبات، ولكنني ضمنته في المقابلات التي أجريتها لأنه أمر يقع في نطاق الأسرة ويشيع الاعتقاد بأن الإسلام يبيحه بسبب القوامة والولاية التي للأزواج على زوجاتهم. وتتفق كل المنظمات غير الحكومية على رفض مبدأ العقاب البدني رغم إباحة القرآن له (النساء:34). وهنا تلجأ المنظمات إلى التحليل التاريخي واللغوى للآية، بإيضًاح أن هناك عدة معانٍ لكلمة ‘ضرب’ في اللغة العربية، وليس فقط معنى ‘قرع’، بل كذلك ‘ترك’ أو ‘تجاهل’. ونجدهم أحيانًا يرجعون إلى الشروط التي وضعها الفقه لكيفية التأديب بغية التدليل على أنه ليس حقًا مطلقًا للأزواج. كما تقوم المنظمات بتحليل سياقي للأوضاع في مجتمع قريش، التي تبرر نزول تلك الآية في ذلك الوقت، مشيرين إلى أن السياق قد تغير كلية. وعلاوة على ذلك، تبرز المنظمات حرص القرآن على حماية الكرامة الإنسانية وكيف أن التأديب يتعارض مع هذا المبدأ العام والأرحب من مبادئ الرسالة القرآنية، داعمة طروحها بأمثلة من سلوك النبي نفسه الذي لم يضرب واحدة من زوجاته قط.
وجه الكثيرون ممن أجريت معهم المقابلات الانتقادات لتعدد الزوجات نظرًا لتأثيره الضار في الأسرة. وقد أبرز بعضهم تأكيد القرآن على إباحة تعدد الزوجات بشرط قدرة الأزواج على معاملة الزوجات بالعدل والمساواة (النساء: 3)، وأن الرجال لن يستطيعوا فعل ذلك (النساء: ۱۲۹). وهكذا، ذهب عدة نشطاء في المنظمات غير الحكومية إلى رفض تعدد الزوجات. وقد أشار بعضهم إلى الحادثة الى أراد فيها على بن أبي طالب، ابن عم النبي وزوج ابنته، أن يتزوج امرأة أخرى إلى جانب ابنة النبي فاطمة، فما كان من النبي إلا أن منعه من ذلك، موضحًا أن أي أذى يقع على فاطمة يمثل أذي يقع عليه هو شخصيًا. وقد استعان بعضهم بكتب الشيخ محمد عبده (١٨٤٩–١٩٠٥) المفتي والفقيه الإصلاحي المصري، التي أبرزت الأضرار التي يلحقها تعدد الزوجات بالمجتمع. كما أورد النشطاء حقائق من الواقع المعاصر تكشف عن مدى الضرر الذي يوقعه تعدد الزوجات بالنساء والأطفال والرجال. ولكن الكثير من النشطاء كانوا على وعى كذلك بأن تعدد الزوجات قد ذكر في القرآن في آية يعتبرها البعض قطعية الدلالة، رغم القيود التي أحيط بها في آيات أخرى قطعية الدلالة. كما اتضح وعى النشطاء بموقف المجتمع العدواني تجاه إثارة الجدل حول هذه القضية. ولهذا لم تدع معظم المنظمات إلى الإلغاء الكامل لتعدد الزوجات في قانون الأحوال الشخصية، ولكن طالبوا بوضع شروط مقيدة تجعل من الصعب على الزوج الزواج بأخرى. وقد أعربت أقلية من النشطاء في المنظمات غير الحكومية التي أجريت معهم المقابلات عن تعاطفهم مع تعدد الزوجات، ولكن في حالات معينة، مثل أن تكون الزوجة غير قادرة على الإنجاب. ولكن أولئك النشطاء كذلك وجدوا من الصعب المطالبة بتجريمه الكامل لأنه ورد في القرآن، وأن إيمانهم بالقرآن يدعوهم إلى الاعتقاد بأن الله لابد قد وضعه في القرآن لسبب وجيه.
أما الميراث فقد كان واحدًا من أكثر المفاهيم تعقيدًا بالنسبة إلى بعض النشطاء. وذلك لأنهم اعتبروا أن القرآن شديد الوضوح فيما يتعلق بتقسيم التركة بين الرجال والنساء، كما أنهم يعلموا أن ردة فعل المجتمع حيال إثارة الجدل حول هذه القضية سوف تكون عنيفة. وقد كان هناك شبه إجماع بين كل من أجريت معهم المقابلات على أن قضية الميراث ينبغي أن تكون آخر القضايا المثارة، بسبب العدوانية المجتمعية من جهة، ومن جهة أخرى لأن النساء في كثير من المناطق في مصر لا يرثن على الإطلاق، ولذا فإن الأولوية يجب أن تكون للعمل على حصولهم على الميراث، حتى ولو كان نصف ما يحصل عليه الرجال. ولكنني لاحظت أن بعضًا من النشطاء قد استخدموا هاتين النقطتين للتغطية على عدم قدرتهم على الوصول إلى موقف واضح تجاه موضوع الميراث بوصفهم مسلمون ملتزمون. وعندما كثفت تساؤلاتي مستوضحة ما إذا كان من الممكن أن يطالبوا بالمساواة في الميراث لو تحققت الخطوة الأولى في أن تحصل النساء على حقهن في الميراث كما قرره الدين، أجاب بعضهم بالنفي لأنهم بذلك سوف يخالفن آية قرآنية قطعية الدلالة يؤمنون بها كمسلمين، بينما أشار آخرون بقلق إلى أنهم لم يصلوا إلى قرار في تلك المسألة بعد. ولكن هناك آخرون، منهم مسلمون ملتزمون، أعلنوا بوضوح وجوب أن تحصل النساء على إرث مساوٍ لإرث الرجال في الوقت الحاضر نظرًا لتغير السياق وتركيب الأسرة والالتزامات المالية التي على الزوجين. ولكن ذكرت هذه المجموعة، وهي تشكل الأقلية، أن إثارة هذا الموضوع الإشكالي في هذا الوقت سوف يكون له عواقب ضارة أكثر من تبعاته الحسنة، وذلك على الرغم من اقتناعهم بأن الدين يسمح بذلك، قائلين بوجود قضايا أخرى ذات أولوية يجب عليهم التصدى لها أولاً.
تحليل وخاتمة
تناولت الأجزاء السابقة الخطابات الدينية والحقوقية والتأثير الناجم عن تفاعلهما سويًا في بنود الحقوق والواجبات التي تهدف المنظمات غير الحكومية إلى إصلاحها في قانون الأحوال الشخصية. ونشهد هنا خطابًا إسلاميًا نسويًا واضحًا تولد من هذا السياق. وقد حان الوقت لإثارة السؤال الأخير في هذا الفصل، وهو: ما طبيعة ذلك الخطاب الإسلامي النسوى وما الفرص والتحديات التي يثيرها هنا؟ هكذا، يصبح من السهل فهم الإمكانات المتاحة أمام هذا الخطاب والتحديات التي يواجهها في سياق المطالب التي تقدمها المنظمات غير الحكومية لإصلاح قانون الأحوال الشخصية.
وقد جاءت الأدوات التي استخدمتها المنظمات غير الحكومية في سياق صياغة هذا الخطاب على النحو الآتي:
تحلیل تاریخی وسیاقی ولغوي للآيات القرآنية.
دراسة الآيات في ضوء مقاصدها.
إعادة تفسير الآيات القرآنية بالاسترشاد بمبادئ قرآنية عامة مثل المساواة والعدالة والحفاظ على الكرامة الإنسانية.
التمييز بين الشريعة والفقه.
دراسة الحديث، وتمييز الأحاديث القوية من الضعيفة.
تقديم جوانب وأمثلة من حياة النبي تدعم مطالبهم.
تدعيم خطابهم الديني بحقائق وإحصائيات علمية مستقاة من الواقع الاجتماعي.
استلهام الخطاب العالمي لحقوق الإنسان والاسترشاد به.
ورغم أن النشطاء لم يسموا ما يقومون به بالنسوية الإسلامية، فقد جاءت المقاربات والأدوات التي استخدموها مشابهة للمقاربات والأدوات التي تستخدمها الباحثون والنشطاء في النسوية الإسلامية في العالم أجمع. ولكن، وكما أوضحت ناديا – كرستينا شنايدر(Schneider)، يجب التمييز بين“النسوية الإسلامية بوصفها حركة ذات طبيعة نظرية، والحركات الاجتماعية والسياسية المميزة التي تعمل على مستوى محلى داخل الدولة أو على مستوى الدولة أو على المستوى بين– الدولي، والتي هي حركات تتخذ من ذلك الخطاب مرجعًا ما بصورة متزايدة” (56). وهنا، تصوغ المنظمات غير الحكومية المصرية نسختها الخاصة من الخطاب الإسلامي النسوى الذي نشأ من التفاعل بين الواقع المعيش المعاصر في مصر والقانون الإسلامي، والقانون الدولي لحقوق الإنسان. وقد تفاعلت العناصر الثلاثة سويًا وتسبب كل منها في إعادة النظر في الآخر وإثارة التساؤلات حوله، بل وأحيانًا إعادة صياغته، مما أدى في النهاية إلى إنتاج خطاب جديد.
ويبدو في هذا المثال أن هناك عمليات اختبار تجرى لكل ما يعد مناهج لها مصداقيتها وحجيتها. فنرى مناهج مثل التحليل النقدى التاريخي والأدبي للنص، و البحث في مقاصد الإسلام تكتسب أهمية متزايدة (مول Moll ٤٢). كما نلحظ أهمية معيار آخر وهو مدى ملاءمة حكم شرعي ما لاحتياجات الواقع المعاصر المعيش ومعاييره. ولم تتعرض عملية إنتاج المعرفة الدينية في الماضي للتدقيق أو الضغط من قبل مجتمع عالمي يرفع راية المعايير الدولية لحقوق الإنسان، ولكن اليوم أصبح من الصعب بمكان إصدار أحكام دينية تغض الطرف عن ممارسات مثل الرق وضرب الزوجات وزواج الأطفال أو تشجعها، حتى ولو كانت لهذه الأحكام جذور ومبررات في النصوص الدينية. فقد أضحت حقوق الإنسان معيارًا جديدًا لتقييم إنتاج المعرفة الدينية. وبالرغم من ذلك لا يفتأ المسلمون وغيرهم يثيرون التساؤلات حول هذا المعيار الحقوقي– وجدير بهم أن يفعلوا ذلك– كما أشارت المنظمات غير الحكومية أثناء المقابلات في سياق انتقادات أعضائها للتدخلات الأمريكية في أفغانستان والعراق تحت غطاء نشر الديموقراطية وحقوق الإنسان. ولكن يبدو أنه لم يعد أمرًا مسلمًا به اليوم أن نقول إن المعرفة الدينية تعتمد فقط على الفهم الذي يقدمه الفقه الكلاسيكي للقرآن والسنة في اكتسابها الحجية والقبول لدى المسلمين في كل مكان، إذ يبدو من خلال العمل الذي تقوم به المنظمات غير الحكومية أن المعرفة الدينية يجب على الأقل ألا تتعارض بشكل عام مع المفاهيم العامة لحقوق الإنسان وكرامته اليوم. ويجب بالتأكيد ألا تستخدم المعرفة الدينية مبررًا لإلحاق الضرر مثلما رأينا على سبيل المثال في قضايا الطاعة المرفوعة أمام المحاكم، التي تتولاها المنظمات غير الحكومية في مصر. كما يجب كذلك أن تشتبك المعرفة الدينية مع قضايا الواقع المعاصر مثل اتساع دور النساء في الإنفاق المالي على أسرهن.
وليس من الواضح الآن إذا كان ذلك سوف يؤدي مع الوقت إلى خلق قطيعة معرفية في الخطاب الديني أم لا، ولكن لو نظرنا إلى السياق الحالي لما تسميه مير– حسيني أزمة الإسلام المعرفية (Women، 301) نرى أن تغييرًا ملحوظًا يحدث في علاقات المعرفة والقوة التي تنتج الخطاب الديني اليوم. نشهد ذلك عندما يتعامل الخطاب الجديد تعاملاً نقديًا مع التفاوتات بين ما يذهب إليه الفقه التقليدى في مجال حقوق النساء واحتياجات وأدوار النساء المتغيرة المعاصرة. ومن منطلق انغماس هذه المنظمات غير الحكومية في الواقع، تقوم بتحليل الخطاب الديني التقليدي وإثارة التساؤلات حوله وتفكيكه بهدف إعادة صياغة خطاب ديني جديد يولي قضية (الجندر) أو النوع اهتمامًا أكبر ويكون أكثر ملاءمة للسياق المعاصر. كما أن المنظمات غير الحكومية تأخذ من حقوق الإنسان إمكان المساواة بين الزوجين، بحيث تستخدم ما تراه ملائمًا وتترك ما دون ذلك. ويخلق هذا المسعى الذي يتمثل في اختيار ومزج عناصر من الخطاب الديني وخطاب حقوق الإنسان مفاهيم وفرصًا جديدة، بل ومنطقًا وإمكانات جديدة للتعامل مع الواقع المصرى المعاصر.
ولكن اتضح من عمل هذه المنظمات أن صياغة خطاب جديد بمفاهيم جديدة شيء وتحويل ذلك إلى مطالب ملائمة في مجال الضغط السياسي شيء آخر، إذ يبدو أن صياغة المطالب عملية محددة ومنفصلة عن عمليات إنتاج المعرفة أو صياغة الخطاب التي تنبني عليها تلك المطالب. تتشكل المطالب المعلنة تبعًا للسياق الذي تصنع فيه وتبعًا للفاعلين الذين يقدمونها وموقعهم في هذا السياق. ولهذا، نجد مثل تلك المطالب تبتعد أحيانًا بدرجة أو بأخرى عن النظرية التي انطلقت منها، كما سنرى فيما يلي.
من المهم كذلك أن نبرز مَن هم المنخرطون في إنتاج ذلك الخطاب الإسلامي النسوى. يرى نشطاء المنظمات غير الحكومية، نساًء ورجالاً، أنهم بوصفهم مسلمون مؤمنون لهم الحق في المشاركة في إنتاج واختيار التفسير الذي يلائم احتياجات السياق الذي يعيشون فيه، وهم بذلك يزعزعون احتكار الفقهاء والزعماء الدينيين التقليديين في إنتاج تلك التفسيرات. وهكذا، يطالب النشطاء ومعظمهم من المسلمون الملتزمون بحقهم في الفاعلية التي تمكنهم من تحديد ما هو إسلامي. ولا يعني ذلك أن المنظمات غير الحكومية قد نجحت في زعزعة سلطة الحجيات التقليدية وأصبحت مصدرًا معترفًا به لإنتاج المعرفة الدينية، ولكنه يدلنا على عقلية فاعلة ونقدية تحاول الإسهام في إنتاج المعرفة الدينية ومتابعة عملية إنتاجها.
وعلى صعيد آخر لم يبد لي أن أيًا من المنظمات غير الحكومية التي أجريت المقابلات معها تستغل الخطاب الديني بطريقة نفعية. فمعظم أعضاؤها منخرطين في تفاعل نقدى مع الدين، ويَعون الجوانب الأبوية فيه بوضوح، ولكنهم مع ذلك يحاولون إنتاج تفاسير أكثر ملاءمة للسياق المعاصر. ويستخدم بعض هؤلاء النشطاء الخطاب الديني بغية توصيل أفكارهم بشكل أفضل للجمهور، بينما يعتبر الكثير منهم أنفسهم مؤمنون برسالة الإسلام، ويجدون فيها إطارًا ذا مصداقية يمكن أن ينظم حياتهم الخاصة. أما لو كان من بينهم مَن يستخدم الدين أداة براجماتية نفعية ودون التزام شخصي فقد كنا سنجدهم يستغلون التدين السائد في المجتمع ويستخدمون الدين إطارًا مرجعيًا رئيسًا دون الانخراط في القضايا الإشكالية في هذا الدين.17
وبدلاً من أن تقبل النساء العاملات في منظمات غير حكومية اللاتي أعرض أفكارهن هنا أن يكُن أدوات تُستخدم في الصراع في المعركة الدائرة بين الأفكار التقليدية والأفكار الحديثة، اختاروا أن يكُن فاعلات حقيقيات في تلك المعركة، حيث فتحن المجال لإعادة النظر في البنى القائمة على (الجندر) النوع في الشريعة بصورة لم تكن واردة في الماضي (مير– حسینی ”Construction of Gender” ۱۹). وترى مير– حسيني أن هذا الخطاب الإصلاحي قد نبع من المساحة التي نرى فيها التواؤم بين الإسلام والحداثة، حيث يصبح الفهم الإنساني للنصوص الإسلامية مرنًا ومتغيرًا، وحيث يرى الإسلام بوصفه دينًا منفتحًا على التغيرات المفاهيمية التي تحدث بتغير الزمان والمكان. ونتيجة لذلك، يخلص هذا الخطاب إلى أن غياب المساواة بين الجنسين الذي نجده في الفقه قد جاء بفعل فقهاء رجال كانوا يمثلون رؤًى وأعرافًا اجتماعية ليس لها صلة بما هو سماوى، ولكنها رؤى وأعراف إنسانية تمامًا، ولهذا يمكن تغييرها. وقد أحدث هذا الخطاب تغيرًا مزلزلاً في هذه المنظومة لأنه يأخذ الإسلام مصدرًا لشرعيته، مشككًا في شرعية الآراء التقليدية الراسخة التي أصبح الناس على مر الزمن يعتبرونها الإسلام نفسه”Construction of Gender”), 20- 21).
وينطبق التحليل الذي تقدمه مير– حسيني على معظم الناشطات اللاتي أدرسهن هنا. وهي ترى أن هذا النوع من العمل بمثابة تفكيك نسوى لفكرة (الجندر) النوع في التراث الفقهي الإسلامي، تتبعه عملية إعادة صياغة، تقوم بهما النساء. فهي محاولة من جانب هؤلاء النساء لفهم وإثارة التساؤلات حول الفرضيات والمصادر والمناهج والأدوات المستخدمة من قبل البشر في عملية صياغة خطاب الجندر في الفقه التقليدى على مر الأزمان، الذي تأثر بعلاقات القوى السائدة أثناء تطوره، وذلك بدلاً من تقويضه تقويضًا متسرعًا. وتكمن قيمة ذلك الخطاب الإسلامي النسوى الذي تشير إليه مير– حسيني في تأكيده أن القانون والفقه الإسلامي أمور تمت صياغتها و بناؤها تاريخيًا عن طريق البشر لفهم الرسالة الالهية، وفي إيضاحه أن تلك الصياغة قد استعانت بمناهج بشرية، وهي أصول الفقه، يمكن أن تسهم النساء في تطويرها اليوم.
ثغرات في خطاب المنظمات غير الحكومية ‘الإسلامي النسوى’
يحمل هذا الخطاب الجديد إمكانات مهمة لإصلاح قانون الأحوال الشخصية، كما نرى في بعض المطالب المعلنة للمنظمات غير الحكومية التي تمثل نقاطًا غير مسبوقة في السجال الدائر في مصر حول هذا الموضوع. من أمثلة ذلك تقييد تعدد الزوجات، والمطالبة بمبدأ المسئولية المشتركة بين الزوجين، حتى ولو كان ذلك مجرد مطلب نظرى لا ينعكس على المطالب المحددة التي تقدمها تلك المنظمات فيما يتعلق بقضايا مثل الطاعة، وإبقاء حضانة الأطفال مع الأم بعد زواجها، واشتراك الوالدين في الولاية المالية على الأطفال وليس انفراد الأب بها، وأخيرًا تنظيم أوضاع الثروة التي يكونها الزوجان معًا أثناء فترة الزواج.18
وفي الوقت ذاته، يمكن أن يخلق هذا الخطاب ما يمكن أن يعتبر تضاربًا. فعلى سبيل المثال، نجد أنه من المتوقع في إصلاح قانون الأحوال الشخصية تحت مظلة صارمة لحقوق الإنسان إلغاء تعدد الزوجات تمامًا، وليس الاكتفاء بوضع شروط لتنظيمه كما تطالب المنظمات حاليًا. كما يصبح نصيب الرجال والنساء في الميراث متساويًا وهو الأمر الذي لا تطالب به المنظمات. أما النفقة فسوف تكون واجبًا ملزمًا مشتركًا بين الزوجين، في حين لا تقدم المنظمات إشارات واضحة لذلك في مقترحها لإصلاح القانون. وتبعًا للخطاب الديني المستنير الذي تتبناه، فقد كنا نتوقع المطالبة بإلغاء شرط الطاعة على الزوجات، ولكن ذلك لم يحدث.
ولكن بدلاً من أن نهاجم المنظمات غير الحكومية بسبب بعض مطالبها ‘المتضاربة’، فقد يكون من الأفيد أن نفهم الأسباب التي يمكن أن تكون قد أدت إلى ذلك التضارب. ولو أردنا تبنى نظرة نسوية حيال ذلك فسوف يكون علينا أن نبحث في التعقيدات وعلاقات القوة المتضمنة في تلك القضية. وتتضمن الأسباب لما يسمينه جاين كوان وآخرون (Cowan et al).”الارتباك الحتمي” الذي يميز هذا النوع من الصراع الحقوقي والذي يشهد الكثير من“الصراع حول المعانی” (۲۱) ما يلي:
العقيدة الدينية الشخصية التي تمنع بعض النشطاء من تقديم مطالب معينة تتعلق بالمساواة قد يرون أنها تتعارض مع تلك العقيدة.
تقدير النشطاء لدرجة استعداد أو عدم استعداد المجتمع لتقبل مطالب معينة تتقدم بها النساء.
القلق من أنه رغم أن بعض المطالب تدعو إلى المساواة، فقد يكون لها تأثير ضار على النساء وقد تجردهن من بعض المميزات التي يتمتعن بها حاليًا.
ضعف المنظمات غير الحكومية البنيوي وضعف قدرتها على حشد المؤيدين والقدرة على الضغط التي تمكنها من إحداث تغييرات ملحوظة على أوضاع النساء.
أن ذلك الخطاب آخذ في التشكل تدريجيًا، وعليه فيجدر بنا أن نتوقع ‘التضارب’ خلال مرحلة صياغته وتطويره من خلال الممارسة.
ونجد أن المنظمات غير الحكومية التي تجد نفسها مضطرة للتعامل مع تلك القضايا الحقيقية والمتداخلة، تقع مع الوقت في صراع بين المفهوم النظري وطريقة تنفيذه العملية، وهو ما يجعل ‘التضارب’ الواضح فيما يقدمونه هو ذاته أحد ردود الأفعال القليلة الممكنة إزاء العوامل المتصارعة والضغوط التي تواجهها.
وتمثل آراء كوان وآخرون وصفًا جيدًا للصراع الذي تخوضه بعض الناشطات النساء من أجل إيجاد تسوية بين عقيدتهن الدينية ومطالبهن بالمساواة. وقد أوضحت المقابلات أن هذا الصراع يأتي في المقام الأول نتيجة لما يشيع من اعتقاد الوضوح التام للنص فيما يتعلق بقضايا مثل تعدد الزوجات والميراث. وهنا، تظهر سلطة نص مثل القرآن على من يؤمنون به، إلى جانب سلطة التفسيرات التقليدية وقدرتها على تقديم نفسها في صورة التفسيرات الوحيدة الصحيحة، وسلطة الاعتقاد بأن تفسير القرآن حق مقصور على علماء الدين. ويفسر كل ذلك نزعة المنظمات غير الحكومية في حالات الممارسة الفعلية نحو إيجاد حلول وسطية أو إلى الصمت أو ‘التضارب’. ولكنه يعني كذلك أنه يتعين على الخطاب الجديد أن يحدد بوضوح علاقته بالقرآن كنص مرجعي أساسي وبمن يتحدثون باسم القرآن. ولو كان ذلك الخطاب يرنو إلى إحداث أي تأثير ملحوظ في المستقبل، فعليه تقديم إجابات عن بعض الأسئلة المنهجية والمعرفية الصعبة مثل: في أي من المجالات سوف يتبني هذا الخطاب ‘روح’ أو ‘مقصد’ الآيات القرآنية وفي أي من المجالات سوف يتبع النص حرفيًا، حتى ولو كان غير مناسب للواقع الذي تعيشه النساء حاليًا؟ هل سيقبل معايير أصول الفقه المنهجية التقليدية التي تجعل من بعض الآيات قطعية الدلالة ولا تخضع للتفاسير، بينما تجعل آيات أخرى خاضعة لإعادة التفسير في أزمنة وأمكنة مختلفة؟ أم هل يصوغ معايير وفقهًا جديدًا يجعل كل الآيات على حد سواء مفتوحة أمام التفسير؟ ولو أن هذا الخطاب فعل ذلك حقًا، فما الإجراءات التي سيتخذها لتجنب الفوضى التي يخشى الفقهاء الكلاسيكيون حدوثها جراء تعدد الآراء وغياب الاتساق الذي أشرنا إليهما في بداية هذا الفصل؟ وأخيرًا، كيف لهذا الخطاب النسوى أن يبرر استخدامه لوسائل، ‘غير– نصية’ مثل استخدام إطار حقوق الإنسان لفهم النص، وهو ما يحدث قطيعة حادة مع التراث الفقهي الإسلامي؟
بالإضافة إلى ذلك، مازالت المنظمات غير الحكومية تحتاج إلى وضوح مفاهيمي أكثر فيما يتعلق بمكان فكرة المساواة من مساعيها إلى إصلاح قانون الأحوال الشخصية، إذ تحتاج إلى مزيد من التفكير في تحديد نوعية المساواة التي تريدها والتي لها جذور في أطر حقوق الإنسان وفي الإسلام. هل هي مساواة مقدر لها أن تكون ذات طبيعة متناقضة بسبب تعارض مصادرها الحقوقية والدينية؟ أم هل يمكن أن تحقق التزامن والاتساق بينهما رغم كل شيء؟
وعلى مستوى المساواة في حقوق الإنسان، فقد يتبين أن المساواة الموضوعية أكثر ملاءمة من المساواة المطلقة بوصفها مرجعًا لعمل منظمات غير حكومية، إذ تفتح الطريق أمام إمكانات التمييز الإيجابي في المجالات التي يشيع فيها سوء أوضاع النساء مثل الدعم المادي وعولمة تأنيث الفقر في واقعنا الحاضر. كما سوف يساعدنا ذلك على فهم المنطق وراء ما نعتبره تناقضات في مطالب المنظمات غير الحكومية على الرغم من تبنى تلك المنظمات مبدأ المساواة في حقوق الإنسان.19 أما على مستوى الخطاب الديني، فقد تساعدنا نظرية نصر أبوزيد (Abu Zayd) الخاصة بالمجالات المختلفة للمساواة في القرآن في فهم عدم قدرة المنظمات غير الحكومية على تقديم مطالب مساواتية معينة مثل حظر تعدد الزوجات الذي يقره القرآن، في الوقت ذاته الذي تستخدم القرآن فيه مرجعًا لتحقيق المساواة. وقد تمهد مثل تلك النظرية الطريق لظهور إمكانات مختلفة للمساواة في القرآن تساعد في التطورات المستقبلية لقانون الأحوال الشخصية.
وأخيرًا، تقدم لنا إصلاح جاد (Islah Jad) نظرة نقدية لقدرة المنظمات غير الحكومية على الانخراط السياسي الناجح من أجل إصلاح القوانين، إذ توضح لنا أن كفاءة وقدرة المنظمات غير الحكومية تتأثر عادة بسبب خضوعها لتحكم ومضايقات الدولة، ولضعف قدرتها على حشد الدعم الجماهيرى، ولمعاناتها جراء سيطرة الرغبة في الترقي الوظيفي على بعض العاملين فيها، إلى جانب أوضاعها الهشة والمثيرة للريبة بسبب اعتمادها على التمويل الأجنبي. وفي سياق التوازن السياسي القائم، تحظى المنظمات غير الحكومية المصرية بثقل ونفوذ ضئيلين تحديدًا للأسباب نفسها التي تجعل منها هدفًا سهلاً للهجوم المستمر من قبل الدولة ووسائل الإعلام. وقد يكون هذا هو السبب الذي يدفعها إلى تخفيف بعض المطالب مثل القبول في النهاية بإلزام النساء بالطاعة وذلك لتجنب مخاطر متوقعة.
وأرى هنا أنه لو لم تتعامل المنظمات غير الحكومية مع هذه التحديات الموجودة داخل بنية المنظمات نفسها، وبخاصة ضعف قدرتها على حشد دعم الجمهور الذي تقدم له الخدمات فسوف يبقى خطابها دائمًا معوقًا، إذ لن تقدر على ترجمته ترجمة كاملة في صورة أفعال وسوف تجد نفسها دومًا مدفوعة إلى الحلول الوسطية وإلى تخفيف المطالب، مما يؤدي في النهاية إلى تقديم أنصاف الحلول للمشكلات بدلاً من تقديم العلاج القوى لأسباب المشاكل الحقيقية.
يحمل الخطاب الذي تنتجه المنظمات غير الحكومية هنا إمكانات كثيرة، إذ يجمع بين عناصر قد يراها البعض متنافرة – القانون الإسلامي والقانون الدولي لحقوق الإنسان– بهدف تقديم حلول جديدة لمشكلات جديدة. وقد لخصت إحدى الناشطات اللاتي أجريت معهن مقابلة طبيعة هذا الخطاب قائلة إنه خطاب“يظهر للنساء والمجتمع بصفة عامة أن كونك مسلمة ملتزمة لا يستتبع بالضرورة أن تقبلي معاملتك كمواطنة من الدرجة الثانية، وأن الإسلام في الحقيقة يدعمنا في مسعانا هذا!”
الهوامش
1 تستمد الكاتبة هذا الفصل من الأطروحة المُقدمة عام ٢٠١٣ لمركز الدراسات الاجتماعية بجامعة أكسفورد للحصول على درجة الدكتوراه.
2 في إطار الدراسة الحالية، وعند الإشارة إلى القانون الدولي لحقوق الإنسان، سوف أشير بالتحديد إلى اتفاقية الأمم المتحدة لإنهاء كافة أشكال العنف ضد المرأة (CEDAW):
<https://www.un.org/womenwatch/daw/cedaw/text/econvention.htm>
3 ظهرت خلال العقدين الماضيين تحليات كثيرة في دول أخرى ذات أغلبية إسلامية في الشرق الأوسط، مثل المغرب والجزائر وإيران، لهذا الخطاب الذي يدمج بين القانون الإسلامي وحقوق الإنسان. وعليه، فهو لا يمثل خطابًا جديدًا على المنطقة، ولكنه جديد نسبيًا على سياق مساعي إصلاح قانون الأحوال الشخصية في مصر.
4 الخوارج هم جماعة طائفية ظهرت في تاريخ الإسلام المبكر، ليسوا من السنة ولا الشيعة، رغم أنهم قد أيدوا البيعة لعلى (أنظر/ أنظري إسبوزيتو Esposito، ۱۷۱)
5 يضع كل من جون إسبوزيتو John Esposito وناتانا ديلونج – باز Natana Delong-Bas (130) وهاشم کمالی Hashem Kamali (40-43 ) تمييزاً بين الشريعة والفقه: الشريعة هي رسالة الله السماوية، أما الفقه فهو المسعى الإنساني لكشف الحجاب عن تلك الرسالة وتقديمها للبشر بصورة مفهومة. وعلى جانب آخر لا يرى عبد الله النعيم Abdullahi An-Naim فارقًا بين الشريعة والفقه، إذ يقول إن“الشريعة، كما يعرفها المسلمون اليوم، ليست مقدسة بمعنى أنها جاءت في صورة وحى مباشر، ولكنها نتاج لعملية تفسير واستقصاء منطقي من النص القرآني والسنة ومصادر موروثة أخرى(Towards an Islamic Reformation, 11)
6 المعاملات التجارية والاجتماعية بحسب (إسبوزيتوsposito,108 )
7 يوضح حلاق أن بعض المناهج الأكثر“عقلانية” اكتسبت تدريجيًا صورة سلبية نظرًا لربطها بمفاهيم مثل“القياس العشوائي” و“العقل الإنساني الخطاء” أي أنها تمثل طريقة للتفكير لا تأخذ النصوص الحجية في الاعتبار“، وهو ما يعني أن للقوانين المستخلصة بواسطة تلك المناهج أسسًا إنسانية وليس الأسس السماوية الأكثر رفعة.
8 وتبعًا لتلك المعايير الكلاسيكية، نجد أن ناشطات المنظمات غير الحكومية التي أتناولها هنا يواجهن معضلات حقيقية في طريق الاعتراف بهن واكتسابين قدرًا من الحجية حيال استخدامهن قوانين حقوق الإنسان الدولية بوصفها مصدرًا قانونيًا يحدد الإصلاحات التي يرغبن بإدخالها على قانون الأحوال الشخصية، ذلك أن مصدرًا كهذا لا يعد خارج النصوص المقدسة وحسب، ولكن أيضًا لأن حقوق الإنسان باعتبارها تعكس التغيرات الراديكالية التي تجرى داخل المجتمعات المسلمة وفيما حولها، سوف تؤدي في النهاية إلى قطيعة حادة مع الأعراف والقوانين الراسخة في تلك المجتمعات حول الجندر، التي أنتجتها المدارس الفكرية المختلفة على مدار التاريخ الإسلامي.
9 أنظر على سبيل المثال حمدى الحناوي وسلوى عبد الباقى El Hennawy and Abdel Baky، وهدى زكريا Zakaria وهند فؤاد السيد El Sayed، وميرفت أبو تيج Abu Teeg
10 أنظر/ أنظري أميرة الأزهرى سنبل Sonbol لمطالعة قراءة نقدية لهذه الفقرة من القانون.
11 تؤكد هذه المنظمة على أهمية استخدام لغة مناسبة للمكان والظروف. فهم مثلاً لا يتوجهون إلى قرية في صعيد مصر ليتحدثوا عن CEDAW لأن مثل هذا الموضوع سيمثل مرجعًا غريبًا وغير لائق ومثير للريبة. ولكنهم سوف يترجمون مثل تلك المفاهيم بصورة تتماشى مع الإطار والتصورات المحلية من أجل توصيل الرسالة.
12 أنظر/ أنظری میر حسینی Mir-Hosseini لمطالعة المزيد حول تفكيك هذا المصطلح. وقد دارت الكثير من النقاشات حول المصطلح والمفاهيم التي يشير إليها خلال السنوات الماضية. أنظري على سبيل المثال مارجو بدران Badran ونيرة توحيدي Tohidi، وأبوبكر Abou-Bakr، وفالنتينا مقدم Moghadam
13 كان من الواضح أن معرفة هؤلاء الناشطات بالأبحاث المكتوبة بالإنجليزية (التي لا تجيدها معظمهن) عن جهود صياغة علاقة تبادلية بين الشريعة وحقوق الإنسان / النساء معرفة عابرة. لم أجد من بين من أجريت معهن المقابلات سوى واحدة فقط قرأت تلك الدراسات بتعمق، وكانت أستاذة جامعية.
14 قالت إحدى الناشطات بحماس خلال إحدى المقابلات:”لن نطلب أمورًا محرمة لمجرد تحقيق المساواة بين الرجال والنساء!”.
15 من المهم هنا الإشارة إلى كتابات روود بيترز Peters وجيمز كوكاين Cockayne في نقد الدراسات التي تدين“الإسلام” باستخدام مرجعيات حقوق الإنسان. يرى هذان الكاتبان أن الحكم على قواعد الفقه الإسلامي الكلاسيكي بمعايير اليوم يمثل مفارقة تاريخية ونزعة استشراقية. ولكن يبدو هنا وكأن هذه المنظمات غير الحكومية تقيم حوارًا تفاعليًا بين الخطابين بهدف صياغة خطاب مؤثر جديد.
16 ورغم هذا، لم تدع المنظمات غير الحكومية الأعضاء في هذه الشبكة في نهاية المطاف إلى إلغاء الطاعة في الوثيقة القانونية النهائية التي أصدرتها.
۱۷ أنظر/أنظری هانیا شلقامي Sholkamy لمطالعة تناول نقدي لهذه القضية.
18 أعدها نقاطًا غير مسبوقة لأن بعضًا منها يمثل مطالب علنية ظهرت مؤخرًا في المجتمع المصرى (باستثناء ما يتعلق بتعدد الزوجات)؛ كما أنها تأتي متعارضة مع ما يذهب إليه الفقه الإسلامي السائد بخصوص تلك القضايا؛ وكذلك فهى تخالف الأفكار التي يرتضيها المجتمع بوجه عام حيال أدوار الرجال والنساء في المجتمع المصرى اليوم.
19 ترى لما أبو عودة Abu-Odeh أنه من الممكن أن تدعو الناشطات إلى مبدأ المساواة الإجرائية الذي يبقى على إعالة الرجال للنساء دون إرغام النساء على الطاعة بدلاً من الدعوة إلى إلغاء الإنفاق مقابل إلغاء الطاعة، الذي سوف يضر بالنساء الفقيرات (٢٠). ويبدو هذا الاقتراح وجيهًا، وبخاصة لو أخذنا في الاعتبار أن العلاقة التي تأسست بين الإعالة والطاعة قد جاءات من الفقه وليست منزلة من السماء.
المراجع الإنجليزية
Abou El Fadl, Khaled, Speaking in God’s Name: Islamic Law, Authority and Women. Oxford: Oneworld Publications, 2001.
Abou Bakr, Omaima. “Islamic Feminism? What’s in a Name? “Middle East Women’s Studies Review (Winter/Spring 2001). <https://www.historians.ie/women/amews%20abou-bakr.htm>.
Abu Teeg, Merva. Nahwa Qanun’usra jadid (Towards a New Family Law). Alexandria: Women and Developmant NGO (WAD). 2009.
Abu Zaid, “The Status of Women between the Qur’an and Fiqh.” Gender Equality in Muslim Family Law: Justice and Ethics in the Islamic Legal Tradition. London: IB Tauris, 2012 (forthcoming).
Abu-Odeh, Lama. “Egyptian Feminism: Trapped in the Identity Debate. “ Islamic Law and the Challenge of Modernity. Eds Yvonne Haddad and Barbara Stowasser. Oxford: Altamira P, 2004. 183-211.
Ali, Keica. “ Progressive Muslims ans Islamic Jurisprudence: The Necessity for Critical Engagement with Marriage and Divorce Law. “ Progressive Muslims: On Justice, Gender and Pluralism. Ed. Omid Safi. Oxford: Oneworld, 2003. 163-89.
An-Na’im. Abdullahi. “the Rights of Women an International Law in the Muslim Context. “Whittier law Review 9 (1987-1988): 491-516.
—. Towards an Islamic Reformation: Civil Liverties, Human Rights, and International Law. Cairo: American U in Cairo P. 1992.
— and Francis Deng. Preface. Human in Africa: Cross Cultural Perspectives. Eds. Abdullahi An-Na’im and Francis Deng. Washington, DC: The Brooding Institution, 1990. xi-xv.
Badran, Margot. Feminism Beyond East and West: New Gender Talk and Practice in Global Islam. New Delhi: Global media Publications, 2007.
—-, “From Islamic Feminism to a Muslim Holistic Feminism. “ IDS Bulletin 42 (January 2011): 78-87.
—-. “Islamic Feminism Revisited.” Al Ahram Weekly Online. February 9-15, 2006. <https://weekly.ahram.org.eg/2006/781/cu4.htm>.
—. “Islamic Feminism: What’s in a Name?” Al-Ahram Weekly Online. January 17-23,2002. <https://weekly.ahram.org.eg/2002/569/cu1.htm>.
Bayoumy, Abdel Moaty. Min qsdaya al-mar’a (Women’s issues). Cairo: Center for Egyptian Women’s Legal Assistance (CEWLA), 2009.
Berrnard-Maugiron, Nathalie. Personal Status Laws in Egypt: FAQ. Cairo: German Technical Cooperation Office (GTZ), 2010.
Brown Nathan. “Shari’a and State in the Modern Muslim middle East. “ International Journal of Middle East Studies 29 (Aug 1997): 359-76.
Cockayne, James. “Islam and International Humanitarian Law: From a Clash to a Conversation Between Civilizations. “ International Review of the Red Cross 84 (September 2002): 597-626.
Cowan, Jane K. Marie-Benedicte Dembour, an Richard Wilson, eds. Culture and Rights: Anthropological Dupret, Baudouin. “Sexual Mouality at the Egyptian Bar: Female Circumcision, Sex Change Operations, and Motives for Suing.” Islamic Law and Society 9 (2002):42-69.
El Hennawy, Hamdy and Salwa Abdel Baky, al-Takalif al-iqtisadiyya wa-;-nafsiyya li-l-talaq fi misr (Economic and Psychological Costs of Divorce in Egypt). Cairo: Center for Egyptian Women Legal Assistance (CEWLA), 2009.
ElSayed, Hend Fouad. Al-’usra al-misriyya wa-qadaya al-ahwal al-Shakhsiyya: dirasa tahliliyya ihsa’iyya (Personal Status Law Issues and the Egyptian Family: An Analytical and Statistical Study). Cairo: Egyptian Foundation for Family Development (EFFD), 2009.
Esposito, John and Natana Delong-Bas. Women in Muslim Family Law. NY: Syracuse UP, 2001.
Fawzy, Essam. “Muslim personal status law in Egypt: the current situation and possibilities of reform through internal initiative, “Women’s Rights and Islamic Family Law: Perspectives on Reform. Ed. Lynn Welchman. London: Zed Book, 2004.
Hallaq, Wael. The Origins and Evolutions of Islamic Law. Cambridge: Cambridge UP. 2005.
The International Islamic Committee for Women and Children. “A Critique of CEDAW” (in Arabic). <https://www.iicwc.org/lagna/iicwc/php?id=960>.
Jad, Islah, “The NGOization of the Arab Women’s Movement.” Conference of Feminist Fables and Gender Myths: Repositionig Gender in Development Policy and Practice. Sussex, July 2-4, 2003.
Kamali, Hashem. Shari’ah Law: an Introduction. Oxford: Oneworld, 2008.
Karam, Azza. Women, Islamisms and the State. London: Macmillan P. 1998.
Masud, Khalid. “’Ikhtilaf al-Fuqaha’: Diversity in Fiqh as a Social Construction.” Wanted: Equality and Justice in the Muslim Family. Ed. Zainah Anwar. Selangor: musawah (Sisters in Islam), 2009. 65-93.
Merr, Sally Engle. Human Rights and Gender Violence: Translating International Law into Local Justice. Chicago: U of Chicago P. 22006.
Messick, Brinkley. The Calligraphic State: Textual Domination and History in a Muslim Society. Berkeley: U of California P, 1993.
Mir-Hosseini, Ziba. The Construction of Gender in Islamic Legal Thought and Strategies for Reform.” Hawwa1 (Jan2003): 1-28.
—. “Islam and Feminism: Whose Islam? Whose Feminism?” Contestation: Dialogue on Women’s Empowerment 1 (2010). <www.contestations.net>.
—”The Islamic Legal Tradition and Feminism: Opening a New Dialogue. Sixth International Congress on Islamic Feminism. Madrid, October 21-2, 2010.
—. “Muslim Women’s Quest for Equality: Between Islamic Law and Feminism.” Critical Inquiry 32 (Summer 2006): 629-45
—. “The Quest for Gender Justice: Emerging Feminist Voices in Islam.” Islam21 36 (May2004). <https://web.fu-berlin.de/gpo/pdf/tagungen/Mir_Hosseini.pdf>.
—. “Women in Search of Common Ground: Between Islamic and International Human Rights Law.” Islamic Law and International Human Rights:aw: Searching for Common Ground? Eds. Anver Emon, Mark Ellis, and Benjamin Glahn. Oxford: Oxford UP, 2012.
Mitchell, Timothy. Colonising Egypt. Cambridge: Cambridge UJPJ, 1988.
Moghadam, Valentine. “Islamic Feminism and Its Discontents: Toward a Resolution of the Debate. “ Signs 27 (Summer 2002): 1135-71.
Moll, Yasmin. “’people Like Us’ in Pursuit of God and Rights: Islamic Feminist Discourse and Sisters in Islam in Malaysia.” Journal of International Women’s Studies 11 (November 2009): 40-55.
Peters, Ruud. “Islamic Law and Human Rights: A Contribution to an Ongoing Debate.” Islam an Christian-Muslim Relations 10 (1999)” 5-14.
Schneider, Nadia-Christina. “Islamic Feminism and Muslim Women’s Rights Activism in India: From Transnational Discourse to Local Movement _ or Vice Versa?” journal of International Women’s Studies 11 (November 2009)” 56-71.
Sholkamy, Hania. “Islam and Feminism. “ Contestations 1 (2009). <https://www.contestations.net/issues/issue-1/religion-and-gender-Justice>.
Singerman, Diane. “re-writing Divorce in Egypt: Reclaiming Islam,Legal Activism, and Coalition Politics.” Remaking Muslim Politics: Pluralism, Contestation, Democratization. Ed. Robert Hefner. New Jersey: Princeton UP, 2005. 161-85.
Sonbol, Amira El-Azhary. Women, the Family, and Divorce laws in Islamic History. Syracuse: Syracuse UP, 1996.
Tohidi, Nayereh. “Islamic Feminism: Perils and Promises. “Middle East Women’s Studies Review 16 (Fall 2001/Winter 2002): 13-15 and 27.
Tucker, Judith. Family and Gender in Islamic Law. Cambridge: Cambridge UP. 2008.
Zakariya, Hoda. Al-taklufa al-ijtima’iyya li-l-talaq (The Social Cost of Divorce). Cairo: Center for Egyptian Women Legal Assistance (CEWLA). 2009.