إن الباحث في مجال تشريعات الجمعيات الأهلية يجد نفسه عاجزًا عن الكتابة في هذا المجال الذي قتل بحثًا من جميع الزوايا.
فمع إنشاء أول جمعية أهلية بمدينة الإسكندرية عام ١٨٢١، وهي الجمعية الخيرية اليونانية دخلت مصر مجال الجمعيات الأهلية بخطوات واسعة سبقت بها العديد من دول العالم في ذلك الوقت، وساعد المناخ السياسي والبنية التشريعية على إنشاء جمعيات عديدة منها الجمعية العلمية والجمعية الجغرافية وجمعية المعارف المصرية وغيرها من الجمعيات التي لعبت دورًا بارزًا في الحياة الوطنية المصرية إبان الاحتلال البريطاني، كما قامت بدور محوري في التنمية بصورها المختلفة.
توج العمل الأهلي بقيام الأميرة فاطمة إسماعيل بإنشاء جامعة القاهرة التي تعد أكبر شاهد على إنجازات العمل الأهلي في مصر. وقد مر العمل الأهلي في مصر بمرحلتين أساسيتين هما:
1 – مرحلة الازدهار: بدأت من عام ١٨٢١ حتى صدر القانون رقم 384 لسنة 1956م.
٢ – مرحلة القيود والاضمحلال: بدأت عام 1956 بصدور القانون سالف الذكر وما تبعه من قوانين سيئة السمعة كالقانون ٣٢ لسنة 1964م والقانون الحالي رقم 84 لسنة ۲۰۰۲م.
ورغم كل هذه القوانين فمن الجدير بالذكر أنه كانت هناك استجابة حقيقية وانتصار لحرية الجمعيات لفترة وجيزة لم تتجاوز عدة أشهر خلال العمل بالقانون رقم 153 لسنة ١٩٩٩م (والذي لم يستمر سوى عدة شهور وقضي بعدم دستوريته في مايو ٢٠٠٢م، وتم العودة للعمل بالقانون رقم ٣٢ لسنة ١٩٦٤م)، وخلال هذه الفترة تعاظم دور الجمعيات الأهلية وازدادت انتشارًا وتنوعت اختصاصاتها وأنشطتها.
والقارىء الجيد لنصوص القوانين المنظمة لعمل الجمعيات الأهلية يجد أن هذه القوانين صيغت لخدمة أهداف النظام السياسي القائم دون السماح بوجود حرية حقيقية للتعبير عن الرأي من خلال الجمعيات أو حتى هامش بسيط منها، ويتبين وجود مخالفات شديدة وتعارض بين نصوص القوانين من ناحية والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان من ناحية أخرى، خاصة العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
ومرحلة الانكسار التي تعانيها بعض الجمعيات الأهلية حاليًا هي نتيجة تقييد العمل الأهلي في مصر بقوانين جامدة لا تناسب روح العصر الحديث، وعدم دراية القائمين على تطبيق هذه القوانين بمفاهيم الشراكة بين الجمعيات الأهلية والأجهزة الحكومية في تنفيذ خطط التنمية للدولة، وكذلك انعزالهم عن خريطة العمل الأهلي العالمية. إن إصرار الحكومة المصرية على التعامل مع العمل الأهلي على أنه بدعة ووضع قيود قاسية على إنشاء الجمعيات وطبيعة عملها ووضعها تحت الرقابة الحكومية المباشرة والممثلة في وزارة التضامن الاجتماعي وغير المباشرة ممثلة في الموافقات الأمنية – غير القانونية – ورقابة جهاز مباحث أمن الدولة هو بلا شك أكبر الأدلة على أننا لازلنا نعيش في دولة بوليسية تفتقر إلى حكم القانون.
فالرقابة الحقيقية على هذه الجمعيات – شأنها شأن أي مؤسسة أو هيئة موجودة داخل المجتمع – تتمثل في رقابة أعضائها من خلال الجمعية العمومية، والرقابة العامة لقياس أداء هذه الجمعيات داخل المجتمع من خلال الرأي العام ممثلاً في أجهزة الإعلام والصحافة الحرة المحايدة، وأخيرًا الرقابة القضائية بشرط أن تكون صادرة عن قضاء مختص.
إن القانون الحالي بما يضعه من قيود على الجمعيات الأهلية هو وصمة عار في البنية التشريعية المصرية ويجب على المشرع إعادة النظر فيه بما يتناسب مع العصر الحالي بشرط أن يضع نصب عينيه الدور التنموي الشامل الذي قامت به الجمعيات الأهلية على مر عصورها سواء من الناحية التعليمية أو الصحية أو الثقافية أو القانونية… إلخ والدور السياسي لهذه الجمعيات في مقاومة الاحتلال البريطاني وليس طبقًا لمصالح فئة معينة أو لأهواء شخصية.
وإذا كان المشرع يملك تنظيم الحق إلا أنه لا يملك الانتقاص منه ويجب عليه ألا يجعل هذا الحق أمرًا شاقًا أو مرهقًا، بل يجب عليه أن يجعله مباحًا للجميع، لا أن يحاصره كما يفعل القانون الحالي. إن الدعوة الحالية لتغيير قانون الجمعيات الحالي بقانون ديمقراطي هي دعوة جادة يجب أن تحصل على تأييد جميع قوى وتيارات المجتمع من أجل غد مشرق في مجتمع أفضل، فطريق النضال قد بدأ ويجب على الجميع أن يخوضوه ولا يتراجعوا