من الحب لإريك فروم
طالما سعى الإنسان إلى الوصول إلى فهم أعمق للعالم، فسعى العلماء إلى محاولة فهم الطبيعة من خلال الفيزياء والكيمياء والأحياء بينما سعى مفكرون آخرون إلى فهم العالم من خلال فهم النفس البشرية، وعلاقات الأفراد بعضهم ببعض وعلاقاتهم بالمجتمع، وعلاقتهم بالطبيعة المحيطة بهم على أساس أنهم جزء لا يتجزأ منها، فظهرت علوم الفلسفة والأنثروبولوجيا والسلوكيات وعلم النفس. ونحن هنا بصدد عرض إحدى المحاولات التي تجمع ما بين الفلسفة وعلم النفس في فهم أحد أهم المشاعر التي كانت ولا تزال تحدد سلوكيات الإنسان منذ بدء الخليقة والتي تقوم مقام محرك الدينامو في الكثير من المواقف، وهي مشاعر الحب.
في كتابه“فن الحب” يقدم إريك فروم فكرته الخاصة عن ثنائية من أهم الثنائيات التي تتأثر بها البشرية وهي الشعور بالانفصال والاتصال، والدور الذي يلعبه الحب كأداة هامة في التوحد مرة أخرى مع الطبيعة والنفس والتخلص من العزلة بالاتحاد بشخص آخر . الكتاب مكون من أربعة فصول تتناول قضايا كثيرة بأهمية الحب في حياتنا ولماذا نحتاجه؟ وما أهميته في الحياة؟ وكيف نحب بشكل يمدنا بما نحتاجه ويمد من نحبه باحتياجاته، وأن الحب في الواقع هو فن نحتاج إلى تعلمه والتمرس عليه لكي نتمكن من إتقانه. وفي ما يلي سنعرض لأهم الأفكار التي طرحها الكاتب فى الفصل الأول تحت عنوان“الحب جواب علي مشكلة الوجود الإنساني“.
استهل الكاتب حديثه بتناول نظرية الوجود الإنساني كمدخل أساسي عند الحديث عن نظرية للحب، حيث تحدث عن العزلة والانفصال اللذين يشعر بهما الإنسان بعد انفصاله عن الطبيعة ومعرفته بأنه كائن فردي منفصل عما يحيط به من عالم، وأنه فقد تناغمه مع الطبيعة بعد أن بدأ في استغلالها وأصبح عرضة لأي عوامل خارجية لا يستطيع السيطرة عليها ولا اتخاذ أي رد فعل تجاهها. وأعطى الكاتب مثلا بما حدث بين آدم وحواء عندما أكلا من شجرة معرفة الخير والشر – كما وصفها الكاتب وأرجع الكاتب إحساس آدم وحواء بالعار والإثم إلى أنهما قد أصبحا واعيين بانفصالهما كشخصين مختلفي الجنس وأنهما لم يكونا قد تعلما آنذاك بعد كيف يحب أحدهما الآخر وأن هذا هو سبب شعورهما بالعار لا لرؤية أعضائهما التناسلية.
ويستكمل الكاتب نفس وجهة النظر بوضوح أكثر قائلا بأن الإنسان منذ خروجه من الحالة البدائية وانفصاله عن الطبيعة الحيوانية وهو يسعى إلى قهر الانفصال الذي يشعر به والتخلص من إحساسه بالعزلة المهيمنة عليه. ونظرا لعدم قدرته على الانفصال بشكل كامل فإنه يسعى إلى تكريس إحساسه بالفردية الزائفة ويقوم في هذا السياق بوضع بعض القواعد محاولا إقناع نفسه بأن له السيطرة المطلقة على اختياراته وسلوكياته وقناعاته. وعندما تشابه تلك القيم التي وضعها لنفسه مع المجتمع المحيط به يقول لنفسه أن ذلك التشابه بينه وبين المجتمع قد جاء بالصدفة (متمثلا في التزامه بالعادات والتقاليد السائدة في المجتمع) وأنه محض اختياره، وهو يقوم بذلك وهو غير واع بأنه يحاول الاندماج مرة أخرى من خلال الانسياق إلى أفكار أغلبية المجتمع لقهر انفصاله الداخلي عنه، وذلك لأن فكرة الاختلاف عن المحيط الذي يلفه يجعله يشعر بالانفصال بشكل أكبر، وضرب الكاتب مثلا في حالة العزلة التي يشعر بها الإنسان ويحاول التغلب عليها في المجتمع الغربي بالانغماس في شرب الكحوليات والمخدرات التي تساعده على نسيان المحيط به ونسيان الانفصال والعزلة اللذين يشعر بهما. ولكن النتيجة أنه بعد زوال المخدر يشعر بانعزال وانفصال أكثر عمقا مما كان يشعر به قبل تخدیره لحواسه.
عرف الكاتب الحب بأنه ممارسة للقوة الإنسانية، وعلى عكس التعريف التقليدي للنشاط بأنه أمر يرتبط بفعل خارج النفس البشرية أو كممارسة للطاقة، يقدم الكاتب تعريفا آخر للنشاط بأنه استخدام للقوى المغروسة في الإنسان دون أن تكون هناك ضرورة لأي تغيير خارجي. وهكذا أضاف الكاتب أن الحب نشاط وليس شعورا سلبيا، وهكذا فإن شعور الإنسان بالحب يجب الا يوصف بأنه“وقوع في الحب” بقدر ما يجب أن يكون علوا وسموا. أفرد الكاتب مكونات الحب على النحو التالي: (العطاء – المسئولية – الإحترام – المعرفة).
تحدث الكاتب عن العطاء نافيا عنه صفة التضحية في الحب مثل أن تعطى من تحب من ذاتك ونفسك، وفرحك وحزنك عن طريق الحب، حيث إن الحب فعل من ضمن مجموعة افعال يقوم بها الإنسان لذا لابد أن تظهر فيه طبيعته الخاصة. وقد أورد الكاتب جملة لكارل ماركس تلخص ما سبق، إذ يقول:
“يجب أن تكون شخصا لديه حقا تأثير دافع ونافذ على الآخرين. إن كل علاقة من علاقاتك بالإنسان والطبيعة يجب أن تكون تعبيرا عن حياتك الفردية الحقيقية متطابقة مع موضوع إرادتك. فإذا احببت دون أن تبتعث الحب، أي إذا كان حبك على نحو لا ينتج الحب، أي إذا لم تستطع، عن طريق تعبيرك عن الحياة كشخص محب أن تجعل من نفسك محبوباً، إذن فإن حبك عقيم“.
وتحدث إريك فروم عن المسئولية قائلا إنها فعل إرادي تماما، وإنها استجابة الشخص لاحتياجات إنسان آخر، سواء عبر عنها أم لم يعبر، وإن المسئولية من الممكن أن تتحول بسهولة إلى سيطرة إن لم نأخذ حذرنا. ولكن الأصل اللاتيني للكلمة يعني القدرة على رؤية شخص كما هو وإدراك فرديته، وربط المسئولية بالإحترام حتى ينفي عن المسئولية صفة الاستغلال، حيث إنك إذا أحببت شخصا آخر فأنت تشعر أنك صرت معه أو معها شخصا واحدا على نحو ما هو عليه أو عليها، لا على نحو ما أنا أحتاج إليه. وحتى يكون الاحترام كاملا في الصورة التي رسمها الكاتب لابد من ربطها مرة أخرى بالمعرفة حيث إن الاحترام لا يتأتى إلا بمعرفة نفسية الشخص الآخر، مع الوعي بأن الإنسان في حد ذاته سيبقى سرا على نفسه، وأن هناك طرقا مختلفة نستخدمها للتعرف على الآخرين من خلال ممارسة القسوة في التعرف على الأسرار الداخلية للنفس البشرية، ولكن يقول الكاتب بأن الحب هو أفضل الطرق للمعرفة، حيث إنه فعل الاندماج الذي يجعل الإنسان قادرا على التخلص من إحساسه بالتوحد والانفصال.
وفي الجزء الأخير من الفصل تحدث الكاتب عن علاقة المرأة بالرجل في ظل الحب وظل الانجذاب الطبيعي الموجود بينهما كقطبين مختلفي الجنس ورغبة كل منهما في التخلص من الوحدة والانفصال بالتوحد مع الآخر، حيث ذكر الكاتب في حديثه اختلافه الكبير مع المبدأ الذي تبناه فرويد من أن مشاعر الانجذاب بين الرجل والمرأة اساسها الوحيد هو الغريزة الجنسية، والذي أغفل فيه الجزء النفسي داخل كل منهما – والذي هو متشابه إلى حد كبير – وبحث كل منهما عن القطب الآخر حتى يصل إلى الاتحاد الذى ينشده منذ بداية الخليقة. إن الرغبة الجنسية كما تكلم عنها فرويد ما هي إلا محو للتوتر للنهم الذي يشعر به الإنسان، سواء كان رجلا او امرأة، بنفس الطريقة التي يشعر بها تجاه العطش والجوع. يقول الكاتب إن أكبر إثبات لأن الرجل والمرأة متشابهان مع الاحتفاظ بالخصوصية فيما بين نوعيهما هو الجنين الذي يتكون بحيوان منوي من الرجل وبويضة من المرأة، كرمز لحياة واحدة جديدة حيث يعاد ميلادهما من جديد جسديا ونفسيا عن طريق الحب.