الحجاب الذي يخفي ليكشف
تستهل إليزابيث فيرنيا كتابها بحثًا عن النسوية الإسلامية (نيويورك: دبلداي، ۱۹۹۸) بمقدمة تقول فيها: “أوصتني أمي بمسئولياتي تجاه نساء البلدان الأخرى … إن نساء الشرق الأوسط مثلهن مثل نساء الصين ونساء الهند في حاجة ماسة إلى مساعدتنا“. ولكن عند شروعها في تنوير نساء العراق في عام ١٩٥٦ تبين لها أن “نساء العراق لم يردن الاستنارة ولم يهتممن بالأفكار الغربية عن حقوق المرأة“. لقد وجدت صعوبة في شرح ذلك لأمها وأصدقائها: “أسكتوني …. فجلست وكتبت … وهكذا بدأت رحلة أربعين عامًا من الكتابة والتدريس وإلقاء المحاضرات وتصوير نساء الشرق الوسط – إنه حقًا عمر“. عند قراءة كلمات فيرنيا لا يسع المرء إلا التنهد بارتياح. مضت تلك الأيام التي كان الرحالة يأخذون فيها على عاتقهم عبء “تنوير قارات مظلمة” ومن ثم إحالة أجناس بأكملها إلى وضع ثانوي. مضت أيام كان الرحالة يتنازعهم إما الإعلاء من شأن الشعوب الأخرى – ككائنات تفوق البشر وتنتمي إلى عالم غير عالمنا –، أو الحط من قدر تلك الشعوب – ككائنات أحقر من الإنسان غير صالحين لأن يسكنوا عالمنا -. مضت أيام كان يخلق فيها الرحالة علاقة تماثل بين الشعوب والطبيعة. مضت أيام كان يشار فيها إليهم على أنهم رموز للشر. مضت أيام تشييئهم وإلغاء وجودهم. ولكن ماذا عن أربعين عامًا من الكتابة والتدريس والمحاضرات وتصوير نساء الشرق الأوسط ؟ السؤال الملح هنا هو: هل تغلب أدب الرحلات عبر الثقافات على سقطات الماضي؟ هل أصبحت علاقة الشرق – الغرب علاقة غير إشكالية؟ في كتاب عنوانه الفرعي هو “رحلة كونية لامرأة واحدة” – بما فيه من مبالغة – تسافر الكاتبة إلى أوزبكستان والمغرب والكويت وتركيا ومصر والعراق والسعودية وفلسطين، وتتكلم مع النساء هناك. وهي تزعم أنها “مشاركة مراقبة ولا تتبع مناهج البحث الخاصة بالأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع“، وأن هدف الكتاب هو دراسة أحوال النساء في الشرق الوسط في الحاضر. تخوض الكاتبة رحلة ملحمية أو “أوديسة” وتقول أن هدفها هو “اكتشاف موقع المرأة في الإسلام، وطرح التساؤل حول تلك القضية البسيطة أي قضية المرأة: مرة أخرى، كيف حال النساء؟ ماذا تعني النسوية لهن ؟ هل تمتد عبر الحدود الطبقية والجغرافية والثقافية؟ وهل مبادئها عالمية؟ وهل توجد أشكال أخرى للنسوية – نسوية إسلامية على سبيل المثال؟” فضلاً عن أن قضية المرأة.هي أبعد ما تكون عن هي “البساطة” كما تطلق عليها الكاتبة عرضًا – فهناك افتراض مُضمر فيما سبق ألا وهو أن الغرب هو المشار إليه الأساسي، بالإضافة إلى افتراض بتفوق الغرب وتميزه. وعلى الرغم من عدم وجود محاولة لإثبات أن النسوية الغربية هي النسوية الشرعية الوحيدة، إلا أن وضع النسوية الغربية في مقابل أشكال أو “حركات” أخرى كالنهر وفروعه، ذلك أن المبدأ النسوي والذي تقوم على أساسه تلك الأشكال الأخرى قد وُضع مُسبقًا. كما أن موضوع الكتاب – طبقًا لمؤلفته – هو معرفة “رد فعل النساء المسلمات لجوانب الحلم النسوي ..”.ولكن أليس الافتراض الضمني هنا هو أن الحلم النسوي هو حلم غربي؟) إذا كان البحث قد “بحثًا عن النسوية الإسلامية“، فلماذا هو بحث عن النسوية الإسلامية تحديدًا، لا النسوية عامة ؟ هل الإسلام دين أم ثقافة؟ هل الدين هو العنصر الوحيد المكون للثقافة؟ هل الإسلام بالتالي هو المكون الوحيد لثقافة الشرق الأوسط؟ وهل يجب على المرء إذًا عند دراسة المرأة في سياق أوروبي أو أمريكي أن يبحث عن النسوية المسيحية ؟ إن النظر في بحث الكاتبة حول النسوية الإسلامية في مصر يلف ضوءًا أكبر على مصطلح النسوية الإسلامية بمعانيه المتضمنة والصور التي قد يتخذها. إن بداية الكتاب تثير توقعات ذات طبيعة مألوفة وهي طبيعة أدب الرحلات والكتابة الاستعمارية. فتبدو النسوية الإسلامية وكأنها كيان غامض وغريب وحتى مرعب (إذا أخذنا في الاعتبار الإثارة التي تحيط بالإسلام في الإعلام الغربي والتي تجعله مرادفاً للإرهاب)، وهي كيان يحمل في داخله بُشرى المغامرة والتنقيب والاكتشاف، يقوي التوقع عند الفصل بين الإسلام كثقافة وتراث من جانب وحقوق المرأة في إطار الحداثة من جانب آخر. ومن ثم لا يجد القارئ مفرًا من اعتبار مصطلح النسوية الإسلامية متناقضاً لفظيًا. وفي الجزء الخاص بمصر تتراجع النسوية الإسلامية لتحل قضية الزي موقع الصدارة، فيفسح البحث عن النسوية الإسلامية الطريق لبحث عن الحجاب، بحيث يثير الحجاب نفس مشاعر الرعب والغموض والرغبة في الاكتشاف التي كان يثيرها مفهوم النسوية الإسلامية في بداية الكتاب. وهكذا يصبح جسد المرأة هنا مجازًا للثقافة، أما زي المرأة سواء كان حجابًا أو غطاءً للرأس أو رداءً محتشمًا فيتحول إلى مجاز للهوية الثقافية – أي الثقافة المصرية وثقافة الشرق الوسط في آن. وبالتالي ينعكس افتراض المؤلفة بأن هوية الشرق الأوسط مرادفة للإسلام في اهتمامها الشديد ووصفها الدقيق لزي المرأة، مقارنة مثلاً بالغياب الواضح لوصف ملامح الوجه (باستثناء وصف مبهم لوجه امرأة واحدة بأنه على شكل قلب). إن شفرة الزي قوية وبارزة دائمًا في المقابلات الشخصية، فلا تغفل الكاتبة الإشارة مثلاً إلى أن السيدة التي تجري معها المقابلة “كانت تلبس زيًا غربيا منذ سنوات إلا أنها تستقبلني الآن وهي مرتدية جونلة متوسطة الطول وسترة حريرية طويلة فضفاضة. بالإضافة إلى غطاء لرأس“، أو أن سيدة أخرى “لم تكن مرتدية الزي لإسلامي“، أو أن امرأة ثالثة “لم تكن مرتدية الطقم حريري المكون من قطعتين مع تربان منسجم أو منديل رأس ملفوف والذي أصبح بمثابة زي رسمي للمصريات من الطبقة المتوسطة والعليا“. يكشف البحث عن نزعة نحو التصنيف كما يكشف عن ميل للتوضيح، فتقول المؤلفة: “لقد رأيت قليلاً جدًا من النساء المصريات وقد غطين وجوههن، حتى هؤلاء اللاتي ارتدين الحجاب أو الزي المحتشم … ظهرن بوجه عام مثل هدى شعراوي نفسها … وهي التي تظهر في صورها مرتدية ثوبًا أسود طويلاً فضفاضًا وغطاء رأس أسود ضيق مربوط خلف رأسها“. وتضيف الكاتبة قائلة أنه أثناء وقوفها في شارع بالقرب من محطة باب اللوق “بدأت أحسب عدد النساء اللاتي مررن بي .. لاهتمامي بمعرفة نسبة من غطين ومن كشفن رؤوسهن …. وقد عددت سبعًا وسبعين امرأة منهن ثمان وثلاثون أو تسع وثلاثون مرتديات الزي الإسلامي … مع عدد قليل من الأخريات لبسن التربان على رؤوسهن“. يتضح مما سبق أن “المراقبة” التي كانت دائمًا تمارس في شكل إنتاج معرفي تستخدم هنا أيضًا، أي أن النساء المصريات في هذه الحالة يتم تشكيلهن كموضوع للمعرفة وتنطوي المراقبة على علاقة غير متوازنة بحيث تمنح الرحالة السلطة والقوة في نفس الوقت الذي يتم فيه تشييء النساء موضوع البحث. وكرد فعل لتعليق إحدى المبحوثات على تسلط الحجاب على فكر النسوية الغربية، تحتج المؤلفة / الرحالة: “عجباً، إنه ما يرونه بأعينهم!”. وفضلاً عن ذلك يوجد افتراض ضمني بوجود اختلاف جوهري بين المرأة في الشرق الأوسط والمرأة الغربية حيث تؤخذ مظ الاختلاف السطحية (من خمار وحجاب وغيرهما) على أنها رموز للاختلاف الثقافي، فتصبح ذريعة لخلق الآخر. وعلى هذا الأساس لا تتزحزح الرحالة من موقع القوة أبدأ في هذه العلاقة، حيث أن هويتها في علاقة كهذه تكون في حالة تعزيز مستمر، فهي تبرز نفسها من خلال المُغايرة وبالمقابلة مع هوية المبحوثات. حيث أن خطاب الرحلات الغربي يخضع لعلاقة تبادل مستمرة مع قوة ثقافية تعليمة ويُعلمها وتعطيه شكلاً ويعطيها شكلاً، وهي قوة لها معايير ذوق وقيم خاصة بها. إذن، فليس بغريب أن تحتج الكاتبة في نقاش حول الحجاب مع صديقة مصرية: “ولكن ما الداعي لارتداء هذا الذي أصلا؟” صحيح أن المؤلفة تحيد عن ميل النسوية الغربية إلى عولمة تجارب نساء العالم الثالث وإلى إسقاط خصوصيتهن الثقافية، وهو ميل يرتكز على إيمان بمفهوم “الأختيّة العالمية” (Universal Sisterhood) والتي دائمًا ما تدعم النزعة إلى “إنقاذ” الأخوات، ومن ثم الوقوع في فخ “النزعة الإنسانية الليبرالية“. ويتضح هذا الحياد في رفض المؤلفة لدور” “المنقذة” الذي تمليه عليها كلمات أمها: “أمي أيضاً كانت تلبس حجابًا على قبعاتها. ولكنها أوضحت لي في صبر الفرق الشاسع بين حجابها الأسود الشبكي المنشى المنقط والحجاب الثقيل الذي تضطر نساء الشرق الأوسط إلى ارتدائه، هو حجاب ثقيل لدرجة تعذر الرؤية فلا يستطعن المشي“. لذلك فبالرغم من أن احترام التباين الثقافي يُضيق الفجوات القائمة بين الثقافات المختلفة، إلا أن التأكيد على هذا الاختلاف الثقافي – عن طريق تضخيم رموز الاختلاف الظاهرية – إنما يؤدي إلى توسيع هذه الفجوات بين الثقافات. ففي تسجيل التفاصيل الدقيقة للزي يتضخم الفرق الشاسع بين “القبعات المغطاة بحجاب” و“الحجاب“، بين المرأة الغربية وامرأة الشرق الأوسط، فكأنما تعيد الخصوصية الثقافية إبراز غرابة أهل الثقافات الأخرى من جديد. ولكن هل يرقى المراقب بوصفه موضوعًا للمراقبة فوق وضعه كشيء؟ أعتقد أن الانقسام بين الذات الفاعلة والذات المشيأة ليس بمطلق أو كامل، وأشك في أنه من الممكن تحقيق فاعلية جذرية حتى في نصوص لمؤلفات يكتبن عن نساء بلادهن. فالمبحوثات في هذا الكتاب، أبعد ما يكن عن الصمت. فهن يعكسن مواقف أيديولوجية شتى، كما تختلف بيئاتهن وتجاربهن. وكما يهدد الزي – كمؤشر ثقافي – هوية المرأة المصرية بالتجانس وكبت حركتها وتغايرها المستمرين، فهو أيضًا موقع مقاومة. فهو يقاوم انكماش الهوية الذي تفرضه نظرة الرحالة المحدقة، فيقابل ميل الرحالة لتحديد ما تلبسه النساء بفوضى تامة في الزي وغياب أي ثبات فيه. إن عدم التقيد بالنموذج الموضوع (الحجاب / غياب الحجاب)، فيه مقاومة للثبات والتثبيت. فتواجه الرحالة بظاهرة لا يمكن تصنيفها، أي البنات المرتديات “الجينز والحذاء الكاوتش وقميص عليه صورة ميكي ماوس مع غطاء الرأس فوق رؤوسهن“. كما يتعذر التصنيف تبعًا للطبقة أو التقسيم إلى ريفي وحضري عندما تظهر مبحوثة من الطبقة الوسطى في “زي” فلاحة وليس – كما ينبغي لها أن تكون – أي مرتدية الطقم الحريري مع التربان أو غطاء الرأس والذي أصبح بمثابة زي رسمي للمصريات من الطبقة فوق الوسطى والعليا“! وهكذا، لا يمكن الوصول إلى أي فهم للآخر إلا بالوعي والاحتفاظ باستقلاله وتعقيده والامتناع عن النزعة إلى كشف الحجاب: أي الامتناع عن النزعة إلى التحليل الذي يُجزئ موضوع البحث، إلى التنقيب في جوانبه المحجوبة – وهى نزعة تنبع من وتذكر بتأكيد التنوير والمذهب العقلي على التصنيف والتبسيط والتوضيح. كما يعتمد الوصول إلى فهم ما للآخر على الامتناع عن الحكم على الأجناس الأخرى في نفس الوقت الذي تحتفظ فيها الذات بهويتها دون مساءلة، فتظل متكاملة. فعن طريق “الإخفاء” والاحتفاظ بالحجاب” أي محاولة فهم الهوية كليتها “تتكشف” صورة من صور تلك الهوية.
شارك: