الحداثة والنوع الاجتماعي في مصر
لا بد لأي حركة نسائية لكي تصير فعالة, أن تفهم السياق الاجتماعي المحلي الذي تسعى لتغييره. فمن الضروري أن تستعيض أي حركة صاعدة بالأصل التاريخي لخطابات النوع الاجتماعي وأن تضع نفسها استراتيجيًا ما بين تلك الخطابات بما تتضمن أساليب متبعة ونقاط اختلاف أو اتفاق. فحينها فقط يمكن أن تتبلور إلى حركة صلبة ومتناسقة قادرة على التغيير الراديكالي ومبنية على تفادي أخطاء ما سبقها من حركات.
ورغم أن تاريخ الحركات النسائية وخطاب النوع الاجتماعي في مصر بعد القرن التاسع عشر قد شغل العديد من الكتاب الأجانب، إلا أن العديد من كتاباتهم ظلت غير مترجمة وغير متاحة للناشطين المحليين. تحاول هذه المقالة أن تتبع السلالة التاريخية للحركات النسوية مستعينة بكتاب من تحرير ليلى أبو لغد : “:Remaking Women Feminism and Modernity in the Middle East 1وهو أحد أغنى الكتب تفصيلاً في مجاله. ومن هذا المنطلق تناقش المقالة ثلاثة أنماط محورية في بناء النوع الاجتماعي في مصر: الحداثة الوطنية, والحداثة الإسلامية والحداثة النيوليبرالية. وقد نجد أن تلك الأنماط الثلاثة هي في الواقع مشاريع سياسية مترابطة, قد عرفت كل منها “الحداثة” و ” التقدم” في إطار معين يدشن النوع الاجتماعي كوسيلة وكساحة صراع للوصول إلى أهداف سياسية 2.
فالنوع الاجتماعي عادة ما يستخدم كمؤشر – ولو على سبيل الرمزية لقياس ماهية ومدى تقدم تلك المشروعات. فالمناظرات المطولة والأزلية عن الحجاب كفيلة بأن تكشف لنا عن استخدام الأجساد المجنسة كأداة لتحديد الفواصل ما بين الحداثة العلمانية والحداثة الإسلامية، حتى لو اتفق كلاهما على إتباع المنهج المحافظ. ولعل الرابط المشترك بين الأنماط الثلاثة هو الاهتمام بمعضلة دور المرأة في المجتمع، سواء كانت داخل البيت أو كانت فى صفوف القوى العاملة بما تتضمنه هذه الأدوار من واجبات.
في مطلع القرن العشرين, اتخذ العديد من المفكريين الإصلاحيين الحداثة كمنبر لمناقشة قضايا المرأة. فنجد أمثال قاسم أمين وهدى الشعراوي وملك حفني في طليعة الخطاب “الوطني الحداثي” الذي عرف المرأة بناء على دورها المحلي كزوجة محافظة ومستنيرة وكأم فاعلة ترعى قيم الانضباط وتحض أطفالها على الإنتاج والوطنية3. وقد تم ذلك من خلال بلورة مفهوم “التربية” كمحور للتقدم الأخلاقي, والعلمي, والثقافي. وقد نظر للمرأة في هذا السياق كوسيلة لإعادة إحياء مجتمع متخلف وانتشاله من ظلام الرجعية إلى طيات البناء. في حين أن حتى محو أمية المرأة قدم على أساس أن الأم المتعلمة ستساهم بشكل أكثر فعالية فى نقل المعرفة عبر الأجيال. ومنها اتخذ هذا الخطاب السباق المعيشي للمرأة ودورها التربوي كأساس للنمو الاجتماعي , والثقافي, وبطبيعة الحال، فالاعتبارات الاستعمارية في هذا الخطاب تظل بارزة، فالأسرة البرجوازية قد روجت كالوحدة المثالية التي يمكن من خلالها تنفيذ المشروع الحداثي الوطني القادر على الإنتاج.
وقد تبنت الدولة الناصرية المشروع القومى ذاته وإعادة توجيهه – فيما أسمته ميرفت حاتم بـ “نسوية الدولة” حيث دجنت الدولة واحتكرت قضية تحسين شئون المرأة بما يغلق الباب على الحركات النسوية المستقلة. ورغم أن القضية كانت جزء من النطاق الأوسع لإصلاح أحوال الطبقة العاملة، إلا أن معاملة المشروع الناصري لها كان مليء بالتناقضات. فمن جهة، نجد أن القوانين قد دشنت لمنع التمييز على أساس النوع الاجتماعي. ومن جهة أخرى بقت قوانين الأحوال الشخصية كما هي وظل دور المرأة في البيت مقدس وغير ملموس نتيجة استبقاء الدولة على موروث النظرة المحافظة للمجتمع. فكما وضحت میرفت حاتم “ورغم تکوین نظام رجولي في ظل النسوية النظامية، لم يغير النظام الناصري النظرة الشخصية والعائلية لاستقلال المراد عن الرجل التي تم تأسيسها من خلال النظام السياسي وقوانين الأحوال الشخصية“4 .
وقد تعقبت میرفت حاتم فترة السبعينات والثمانينات بما تتضمنه من تراجع نسوية الدولة حيث شهدت طبقات المرأة تبعات مختلفة في عصر التحرر آنذاك. فرغم تمتع المرأة في الطبقات الاقتصادية العليا والمتوسطة باستقدام الاستثمارات الخارجية وبموسم الهجرة إلى الخليج، ظلت المرأة في الطبقات الكادحة تعمل في الاقتصاد غير الرسمي أو تحت رحمة المساعدات الدولية. التحرر الاقتصادي حينها كان قد أنهى حالة الرعاية العامة التي رعاها المشروع النسوي النظامي. ليدشن مكانها خطاب أخلاقي استخدمه النظام كأداة استراتيجية لقمع أو تسفيه المشروع الإسلامي. وقد تسبب هذا في تكوين خطاب متضارب يتم تشكيله على حسب حالة الوفاق أو الاختلاف مع الخصم. فقد أفادت حاتم بأن قضايا النوع الاجتماعي كانت تستخدمها الدولة والمعارضة لتمييز بعضها عن البعض ، ولإبراز المواقف وتعزيز المكاسب السياسية“5 . فورقة حقوق المرأة هنا أثبتت فعاليتها فى إرضاء الغرب وفي تقسيم التيار الإسلامي.
في اللجنة القومية للمرأة6 على سبيل المثال – التي تشكلت في ۱۹۷5 – كمحاولة لتجميل صورة النظام أمام الحلفاء من دول الغرب، والذي أثبت أنه مجرد واجهة ليبرالية تسعى فى المطلق لإرضاء الولايات المتحدة والأمم المتحدة كحلفاء رئيسيين. أما تعامل الدولة مع الإسلاميين فقد شهد تحولاً من النغمة التوفيقية سنة (۱۹۷۱–۱۹۷۷) – التي نراها من خلال النص الدستوري لسنة 1971 الذي وضع مساواة المرأة مشروطة باتفاقها مع الشريعة – إلى نغمة عدوانية (فيما بعد ۱۹۷۷) حين كانت تسنن قوانين الأحوال الشخصية بما يضر الإسلاميين. وقد سار نظام مبارك على نفس المنهج، حيث أدى التمثيل الجزئي والمقلص للإسلاميين إلى تفريقهم وتسهيل عملية السيطرة عليهم مما عمق من جدلية قضية المرأة.
ومن هنا نرى كيف أن موروث النسوية النظامية قد جعل الدولة الراعية الأساسية لقضية المرأة, وتحديدًا المرأة فى الطبقة المتوسطة. ولم ينازع الدولة على هذه الرعاية إلا المعارضة الإسلامية التي استغلت خلل الدولة في تكوين خلايا نسائية في المساجد والحُرم الجامعية تحت مظلتها الخاصة. ورغم ذلك، تبين أبو لغد أن نقاط التوافق بين الدولة والإسلاميين في قضية المرأة قد فاقت نقاط الاختلاف7. فعند مقارنة الخطاب العلماني الحداثي – المجسد في الدراما التلفزيونية على سبيل المثال – بالخطاب المستخدم عند المشايخ. وجدت أبو لغد اتفاق كلاهما على محورية دور المرأة في البيت وعلى الأسرة البرجوازية شديدة الترابط، وعلى أهمية الحب كحجر بناء للزواج. كما أن التيار الرئيسي الإسلامي قد عزف عن مواجهة قضية عمل المرأة معتبرًا محورية
في ظل الاندفاع الاقتصادي الحتمي للخروج من حالة التضخم الاقتصادي. في المقابل, حثت المشايخ على الحد من الاختلاط بين الرجل والمرأة فى محل العمل وجعلت من الحجاب قضية الساعة. ويمكننا تصنيف المشروع الإسلامي على أنه مشروع حداثي بالأساس وخصوصًا في ظل اهتمامه الدائم بمعضلة مراجعة الذات والالتزام بالأسس العقائدية، لدرجة أن بعض النصوص المقدسة قد يعاد تفسيرها لموائمة الأهداف العصرية. وفي ذات الوقت، فالمشروع العلماني – الحداثي بات يحث المرأة على مراعاة التوازن ما بين واجبات البيت والعمل، بشكل يكشف الأسس الأخلاقية المضطربة لتلك النداءات. وهكذا بقي التيار الأخلاقي المحافظ سائدًا وظلت قضية النوع الاجتماعي عالقة ما بين مطرقة الحياة العائلية المثالية وسندان الحتمية الاقتصادية كما ظل التمثيل السياسي للمرأة ضعيفًا في ظل دولة فرضت حضانها على القضية.
فحتى عندما نجد المنظمات الدولية وغير الحكومية وهي تملأ الفراغ الذي خلفه النظام في الساحة العامة، واضعين “المرأة” على رأس أجندتهم التنموية سنجد أن المرأة ما زالت تُستخدم كمؤشر للحداثة، ولو كانت مؤشرًا ذو طبيعة مختلفة. فالمنطلق الحالي لتمكين المرأة تحت المظلة التنموية هو منطلق متعدد المشاكل. أولاً، فهو يقلص القضية إلى اللا سياسية، متغاضيًا عن ديناميكيات القوة الدولية والمحلية التي تشكل النموذج “التربوي ” في الأساس. ثانيًا، فهو يهمش القوى الراديكالية ويقلص قدرتها على مواكبة النغمة التنموية المروضة والحيادية. ثالثًا، فهو منطلق يشخص قضية المرأة بحيث يبرئ النظام من تعديات العقلية النيوليبرالية على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. فلا يخفى أنه أصبح من البديهي – أو من تداعيات السيطرة – للكل – أو بالأحرى للدولة – أن يعتبر المشاريع الصغيرة والدخل الذاتي كحلول أكثر فعالية من التحرك نحو عدالة اجتماعية طويلة المدى. وقد يغض البصر عن أن تلك الاعتبارات قد غرست في عدم الاستقلالية المنبثقة من مخططات الديون أو – الدعم.
ما يمكن كشفه من هذا التناول التاريخي لخطابات النوع الاجتماعي، أن تلك الخطابات ما هي إلا قطعة في لغز سياسي وفلسفي يفوقها حجمًا وتعقيدًا. فأزمة النسوية ليست في افتقادها البساطة أو الموضوعية، بل أنها استُخدمت مرارًا كأداة في نطاق أوسع لتحقيق مكاسب غير متعلقة بها. ما تحتاجه الحركة النسائية فى هذا السياق هو تغيير قواعد اللعبة ووضع نفسها على رأس أولويات الأجندة السياسية والاجتماعية كمطلب أساسي وملح يجعل المناخ السياسي أكثر تفاعلاً معه. حينها فقط يمكن انتشال القضية النسائية من موقعها كصراع ثانوي يتم توظيفه عند الحاجة أو كورقة يتم استخدامها للإغواء أو التهديد بين الخصوم، وأشغل موقع قيادي في أي حراك أو مشروع تتحالف معه. ومع أن التحالف أو الاتحاد الأيديولوجي هو أمر ضروري، إلا أن شروط التحالف هي ما تصنع الفارق. فمن الصعب أن نتوقع أن تتجرد النسوية شكلاً أو موضوعًا من الاعتبارات السياسية التي تحيط بها وحتى إن ظننا في بداية الأمر أن تلك الاعتبارات غير متعلقة بالنوع الاجتماعي. فلكل حركة أصدقاء. ولكل حركة أعداء. فمربط الفرس هنا هو الاختيار الحذر لتلك الصداقات، بشكل يحفظ استقلالية ومحورية القضية النسوية ويمنع استخدامها كورقة استراتيجية في يد مشروع آخر.
إن خطاب الحداثة ما هو إلا خطاب استطرادي ذو صيغة بلاغية هلامية يمكن استخدامها للعديد من الأشياء. وتعجزنا هلامية الخطاب عن تعريفه في الأساس. فتعرف الحداثة فقط بالقوة التي تستمدها “الذات” منها والتي تمكنها من المضي في طريقها نحو الحرية. ولكن علينا ألا نفتتن ببريق هذا الطريق، لأن فى طياته مساوئ وقضايا يجب أن نلفت النظر إليها. فكلما قررنا أن نخرج عن المألوف، وعن ما تمليه علينا تلك الخطابات الحداثية, ترجعنا قواها, وتذكرنا أننا ما زلنا نمضي في ظل نزاعات عفى عليها الزمن. فما زال النوع الاجتماعي محاصر ما بين إشكالية الخاص والعام، فهو مقيد بالاعتبارات الحياتية المنزلية من جهة والعبارات التمثيل العام من جهة أخرى وبين هذا وذاك تكمن اعتبارات القوة العاملة. وقد غُلفت تلك المعضلة في غلاف أخلاقي عنيد, ومعالجة المشكلة من جذورها المغروسة في ديناميكيات القوى. وفي نفس الوقت, فعمال الحركات النسائية يعملون اليوم تحت حالة طوارئ تدفعهم بإلحاح إلى الالتفاف نحو المضايقات التي تتعرض لها النساء. في الشوارع فكيف للحركات النسائية في هذا السياق أن تخرج عن المألوف وتتناول القضايا المذكورة سلفًا دون إعادة إنتاج نفس الأفكار المبتذلة؟ رؤیتی أن هنالك حلين: الأول هو أن الأزمة الأولى الأكثر إلحاحًا وهى العنف ضد المرأة يجب أن تنسب إلي هيمنة منطق جندري محدد، والذي نشأت منه وظلت حبيسته. فالعنف لا ينبع من اللا شيء والأجسام يتم نحتها عبر الزمان. الحل الثاني يدعو لكشف أماكن الهيمنة التي ينبت فيها الصراع (كالساحات السياسية والبيوت وأماكن العمل) وإعادة النظر في تكوينها، باعتبار كل تلك الأماكن ذات تأثير متساوٍ في تمكين المرأة؛ وبالاعتراف أن التمييز قد شكلها جمعيًا، على مستويات عدة تتأثر بالطبقة, والعرق، والميول الجنسية. وفي هذه الحالة فقط، يمكن لحركة نسوية حقيقية ذات تغيير راديكالي، أن تنبت مواجهة في نموها التمييز الجنسي ومتفادية الحلول السهلة وغير هذا المكتملة.
1 Abu-Lughod, Lila, Remaking Women: Feminism and Modernity in the Middle East, Princeton UP, 1998.
2 Gole, N. “ The Gendered Nature of the Public Sphere” Public Culture 10.1 (1997): 61-81. Web.
3 Shakry, Omnin “Schooled Mothers and Structured Play: Child Rearing in Turn-of-the-Century Egypt.” Remaking Women: Feminism and Modernity in the Middle East”. Princeton, NJ: Princeton UP, 1998, 126-70.
4 Hatem, Mervat F. “Economic and Political Liberation in Egypt and the Demise of State Feminism.” International Journal of Middle East Studies Int. J. Middle East Stud 24.02 (1992): p233.
5 Ibid, p. 240
6 P.241
7 Abu-Lughod, Lila. “The Marriage of Feminism and Islamism in Egypt: Selective Repudiation as a Dynamic of Postcolonial Cultural Politics.” Remaking Women: Feminism and Modernity in the Middle East Princeton, NJ: Princeton UP, 1998, 243-69. Print.