مدخلات مصرية حول الجنسانية
الحركة النسائية والحقوق الجنسية للمرأة المصرية *
تواصل نضال الحركة النسائية المصرية منذ بدايات القرن الماضي من أجل تحسين أوضاع المرأة في المجتمع. وبينما أسفر هذا النضال عن مكاسب عديدة ونجحت المرأة المصرية من خلاله في انتزاع عدد من الانتصارات وإثارة بعض القضايا التي كانت من قبل تعد من المحرمات المجتمعية، فإن هذه الورقة تتناول قضية لم تحصل على نفس القدر من الاهتمام من المناضلات النسويات المصريات بما يتناسب مع أهميتها في حياة كل فتاة وامرأة مصرية، ألا وهي الحقوق الجنسية للمرأة المصرية. وتسعى الورقة أولاً إلى تتبع تعامل الحركة النسائية مع القضايا المرتبطة بجسد المرأة وجنسانيتها, 2 منذ بدايات الحركة النسائية وحتى واقعها اليوم، قبل أن تنتقل الورقة إلى عرض الحجج التي تدافع عن أهمية الاشتباك المباشر مع هذه القضايا اليوم أكثر من أي وقت مضى. ولعل السؤال الذي ينبغي طرحه في البداية هو: ما أهمية الحقوق الجنسية للمرأة أصلاً؟ أليس من الأولى ترك هذه “الحقوق” الترفيه التي لا تهم سوى نساء الطبقات العليا من المتغربات والعمل على الهموم “الحقيقية” للمرأة الكادحة وللوطن بشكل عام؟ إن هذه الورقة تبدأ من فرضية أن الجنسانية منطقة محورية تتقاطع فيها هياكل المجتمع مع الحياة الخاصة لأفراده بشكل يمس حياة كل فرد في هذا المجتمع في صورة تعبر كل الفوارق وإن اختلفت باختلاف الطبقات والظروف الفردية. وبينما تمثل الجنسانية تعبيرًا عن أكثر المشاعر حميمية وخصوصية في حياة المرأة، فإنها تتعدى ذلك إلى كونها من أكثر المناطق تعرضًا للإدارة والتحكم بواسطة الدولة وكذلك بواسطة الهياكل الاجتماعية والثقافية والدينية. فالجنسانية تعني أكثر بكثير من مجرد النشاط الجنسي، وتجد طرقًا عديدة للتسرب في حياتنا اليومية والظهور في عدة أشكال كالعنف الأسري، والتحرش الجنسي، وختان الإناث، والفصل بين الجنسين وقواعد اللبس، وقوانين الأحوال الشخصية. وستحاول هذه الورقة إظهار أهمية الحقوق الجنسية وارتباطها بالحياة اليومية للنساء من ناحية وبالعلاقة بين النساء وبين مجتمعهن ودولتهن من ناحية أخرى. عند دراسة الأشكال التي تظهر فيها الجنسانية وتفرض نفسها على الحياة اليومية للنساء والرجال في مصر فإنه دائمًا ما يظهر ما تطلق عليه عايدة سيف الدولة تناقض “الخوف من سلطة الضعيف”. 3 فالرجال، الذين يقال لنا طيلة الوقت إنهم الكائنات العاقلة البعيدة عن التأثر بالمشاعر، هم في الوقت ذاته عاجزون عن التحكم في نوازعهم الجنسية في وجود النساء. وبالتالي فالنساء يتحملن وحدهن المسئولية عن حماية الشرف. غير أن النساء هن أيضًا المنبع الأساسي للفتنة في المجتمع. 4 ومن هنا تبدأ النتائج العملية لهذا التصور في الظهور: الحجاب، والفصل بين الجنسين، وتقييد حق المرأة في العمل أو في التعليم، وقوانين الأحوال الشخصية التي تجعل الرجل مسؤولاً عن الأسرة، وختان الإناث للتحكم في مشاعرهن الجنسية، وغير ذلك من القضايا التي تظهر فيها بوضوح جنسانية المرأة وتخرج من النطاق الخاص إلى العام. ويحاول القسم الأول من هذه الورقة أن يقدم عرضًا تاريخيًا موجزًا لأنشطة الحركة النسائية المصرية منذ أوائل القرن العشرين وحتى بداية التسعينيات من القرن ذاته، مع التركيز على التحولات الكبرى التي جرت داخل الحركة وفي البلاد بشكل عام في هذه الفترة وأثرت على مسارات وقوة وشكل العمل النسوي. ويسعى هذا العرض الموجز إلى “العثور على الجنسانية” داخل أنشطة الحركة النسائية. أما القسم الثاني فيركز على الفترة منذ بداية السبعينيات، وخاصة بدء تعاطي الحركة النسائية مع قضايا العنف ضد المرأة بشكل عام وختان الإناث بشكل خاص، حيث يرتبط حق المرأة في سلامة جسدها مع حقها في السلطة على هذا الجسد والتمتع به ارتباطًا وثيقًا. ويطرح هذا القسم التساؤل حول مدى نجاح الحركة النسائية في استغلال العمل ضد ختان الإناث وقانون الجنسية من أجل إثارة قضية سلطة المرأة على جسدها بشكل عام، وينتهي القسم بنظرة سريعة على أثر كل من مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية ومؤتمر بكين للمرأة على الأجندة الداخلية للحركة النسائية المصرية من ناحية وعلى ظهور القوى المعارضة للحقوق الجنسية من ناحية أخرى. أما الجزء الأخير فيدافع عن أهمية أن تقوم الحركة النسائية فورًا ببلورة استراتيجية لفهم وحماية الحقوق الجنسية للمرأة من وجهها الإيجابي وليس فقط من حيث عدم التعرض للأذى والعنف الجنسي، وذلك من خلال تقديم بعض الأمثلة على بعض الفرص والتحديات التي تواجهها الحركة الآن والمرتبطة بالحقوق الجنسية للنساء.يتناول هذا القسم بدايات وأنشطة العمل النسوي في مصر خلال القرن العشرين وحتى أوائل التسعينيات. ومن المهم هنا إدراج ملاحظتين: الأولى، أن هذا القسم لا يسعى بالطبع إلى تقديم تأريخ مفصل للحركة النسائية المصرية، حيث يخرج هذا عن موضوع هذه الورقة. وإنما يسعى هذا القسم إلى تقديم عرض سريع لأهم القضايا التي انخرطت الحركة في الدفاع عنها خلال الفترة محل البحث وخاصة تلك القضايا التي ارتبطت بالحقوق الجنسية للمرأة. أما الملاحظة الثانية، فهي أن هذا القسم لا يسعى إلى تقديم ما يمكن أن يطلق عليه بديلاً للحركة النسائية. فالقسم يكاد يعتمد بشكل كامل على الدراسات السابقة التي حاولت التأريخ للحركة في هذه الفترة ويحاول أن يستخلص بعض النتائج من هذه المصادر دون أن يشتبك مع مقولاتها بالضرورة.
عادة ما يبدأ التأريخ للحركة النسوية وبدايات “الوعي النسوي” مع بداية القرن العشرين ويرتبط تحديدًا بتأسيس الاتحاد النسائي المصري في عام ١٩٢٣ على يد هدى شعراوي. وقد دفعت الأصول النخبوية للحركة إلى تركيز معظم أنشطتها في البداية على القضايا التي اعتبرت مهمة لنساء الطبقتين الوسطي والعليا في الحضر، وبالنسبة لهؤلاء النساء فقد كان الحصول على أدوار جديدة في المجتمع مرتبطًا بشكل أساسي بنجاحهن في الخروج من المنزل والظهور في النطاق العام وإسماع أصواتهن فيه. وقد كان العزل داخل المنزل وارتداء النقاب، وهما العلامتان اللتان ميزنا ثقافة الحريم الحضرية، ظاهرتين مرتبطتين بالطبقات العليا، نظرًا لوجود الحاجة لعمل الفلاحات ونساء الحضر الفقيرات اللاتي هربن بهذه الطريقة من عبء البقاء في المنزل أو الإجبار على تغطية الوجه. وتلاحظ مارجو بدران أن ثقافة الحريم تلك لم تكن مستندة فقط إلى معتقدات دينية وإنما استندت بالأساس إلى قيم ثقافية تتعلق بالأخلاق والجنس. فقد كانت النساء “ينظر إليهن أساسًا أو حصريًا على أنهن كائنات جنسية” يمتلكن نوازع جنسية أقوى من تلك التي يمتلكها الرجال وهو ما هدد “المجتمع بسبب الفتنة التي يمكنهن التسبب فيها”. 5 كما أن التعفف الجنسي للمرأة ارتبط بشرف العائلة كلها وبالتالي زاد هذا من أهمية ضمان عفة المرأة.
وبذلك فإن تمرد النساء على العزل داخل المنزل وغطاء الوجه شكلاً في الأساس تحديًا لهذا المفهوم الجنساني الذي اعتبرهن كائنات جنسية على سبيل الحصر، وحتى لو لم يتم التصريح بذلك وقتها فإن التخلص من غطاء الوجه مثل رفضًا لهذا التصنيف و”هجومًا على دعامة تقليدية للنظام الأبوي”. 6 ولكن التخلص من النقاب لم يتم بين يوم وليلة، فقد شرحت بدران كيف استمرت النساء في ارتدائه لفترة ما، بما في ذلك من رفضنه منهن بداخلهن من أجل “تسهيل غزواتهن في الفضاء العام” ومن أجل منح المجتمع “المزيد من الوقت ليعتاد التغيير”. 7 كما ساعد خروج النساء من المنزل على بلورة خطاب نسوي عبر توجيه انتقادات لأدوار النوع الاجتماعي وفكرة الفروق بين الجنسين القائمة على تفوق الذكور. فقد دفعت وقتها كل من نبوية موسى وباحثة البادية بأن كلاً من الجندر والجنسانية من صنع المجتمع وتعريفه، وأن تفكيك مبدأ حبس النساء في المنزل لا يمكن أن يتحقق دون الدفاع عن مبدأ المساواة النوعية والجنسانية. وبذلك فإن تقسيم العمل بين الرجال والنساء تقسيم مصطنع، كما أن إبقاء النساء في المنزل تصرف بشري وليس أمرًا إلهيًا.
أما بالنسبة للمطالبة بغير ذلك من الحقوق، فإننا نجد أن النسويات كن واعيات لكون المطالبة بالمساواة بين الجنسين وتحدي السلطة الأبوية مثلاً تحديًا بالأساس للثقافة والنظام السائدين. وكنتيجة لذلك فعند المطالبة بالحق في العمل على سبيل المثال “أكدت النسويات على محورية دورهن داخل الأسرة، خاصة دورهن كأمهات” وأصبح من المعتاد التأكيد على أن مطالبة النساء بالخروج للعمل “لم تكن دعوة لإهمال المنزل والأطفال”. 8 حتى أن مارجو بدران تلاحظ أن بلورة الأيديولوجية النسوية ترافقت مع ما أطلقت عليه حملة “عبادة المنزل” (clut of domesticity) في صحافة المرأة. 9
وتركزت الأنشطة الأخرى لهذه الحركة النسوية الوليدة على “عدد من المؤسسات القانونية التي اعتبرت تاريخيًا بمثابة حصون السلطة الذكورية منذ ما قبل العصر الحديث”. 10 وتضمنت هذه القضايا مواضيع الزواج المبكر وتعدد الزوجات، والاستخدام التعسفي للطلاق، وبيت الطاعة, وجميعها خضعت لقوانين الأحوال الشخصية الذي اعتبر عمليًا المساحة الوحيدة من القانون الذي استندت بشكل كامل إلى الشريعة الإسلامية، والمساحة الوحيدة التي تمتع فيها التحكم في النساء بدرجة عالية من القداسة بشكل ظاهر ومعترف به. وكان التخلي عن السيطرة الذكورية في هذه المنطقة وقتها، وما يزال حتى وقتنا هذا، موضع مقاومة عنيفة من الدولة والسلطة الدينية والمحافظين والأسرة الأبوية. 11 وربما فسر ذلك الانفصال بين مقولات المساواة بين الجنسين التي استخدمت وقتها للدفاع عن حق المرأة في العمل والتعليم من ناحية، وبين محاولات تحدي قوانين الأحوال الشخصية من ناحية أخرى. وربما جاز لنا أيضًا أن نعتبر هذه نقطة البداية للفصل بين العام والخاص في قضايا المرأة، والتركيز على الأول على حساب الثاني والذي استمر بدرجات متفاوتة حتى عصرنا هذا. كما تلاحظ مارجو بدران أن الحركة النسائية استخدمت مقولات الإسلاميين المعتدلين وقتها لتحسين وضع المرأة داخل الأسرة، دون أن تقوم بتحدي المفهوم التقليدي للأسرة والمطالبة بتكافؤ توزيع الحقوق والواجبات بين الزوج والزوجة. بل قامت الحركة بالتمسك بالأدوار والعلاقات الاجتماعية المستندة للدين وركزت على منع الرجال من التعسف في استخدام الحقوق والسلطات الممنوحة لهم داخل الأسرة.
ومن بين مطالب الحركة وقتها والتي ضمت تحديد حد أدنى لسن الزواج، ورفع سن حضانة الأم للأطفال، وتنظيم سلطة الرجال في إيقاع الطلاق، وتقييد تعدد الزوجات، وإلغاء مؤسسة بيت الطاعة، لم يتحقق سوى الأول والثاني مما يعطى مؤشرًا حول مدى المقاومة التي واجهتها هذهﻻالمطالب، فقد كان الزواج خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في مصر يتم عند وصول الفتاة إلى سن البلوغ. وكان الزواج في سن مبكر وسيلة لضمان العفة الجنسية للفتاة. ١٢ ورغم أن السن الأدنى للزواج قد تحددت عند السادسة عشرة في عام ١٩٢٣، إلا أن هذا الشرط لم يطبق بصرامة في الواقع مما أثار حنق النسويات لسنوات بعد هذا التاريخ. أما تعدد الزوجات والطلاق المتعسف وبيت الطاعة فقد كانت معارك أكثر صعوبة بكثير، غالبًا لأن هذه المؤسسات مثلت “امتيازات ورموز السلطة الذكورية”. 13 وبينما لم تطالب الحركة النسائية بالإلغاء الكلي لتعدد الزوجات فإنها طالبت بتقييد استخدام هذا الحق في الحالات التي تكون فيها المرأة غير قادرة على الإنجاب أو مصابة بمرض لا شفاء منه، وهو ما لم يتم قبوله أيضًا. كما لم تنجح النسويات في تنظيم استخدام الحق الحصري للرجل في إيقاع الطلاق. وكانت النساء قد طالبن بإلزام الرجل بتقديم أسباب جادة ومشروعة عند إيقاع الطلاق المنفرد وبإيقاع الطلاق في وجود القاضي، غير أن هذه المطالب قوبلت بالرفض. أما بالنسبة لبيت الطاعة فقد طالبت الناشطات النسويات بإلغائه تمامًا حيث مثل رمزًا للطغيان والسيطرة التي يمارسها الزوج بسلطة القانون على زوجته والتي حولت مؤسسة الزواج إلى سجن لا مهرب منه.
ومن ضمن القوانين المرتبطة بالجنسانية التي لم نجد أي دليل على كون الحركة النسوية قد حاولت التصدي لها في هذه الفترة تلك القاعدة القانونية المستندة إلى التشريع الفرنسي والتي كانت تسمح للمغتصب بالإفلات من العقاب إن وافق على الزواج من ضحيته، وهي القاعدة التي أضيفت إلى قانون عام 1904. 14 ووفقًا لهذه القاعدة القانونية فإن الجراح النفسية والجسدية التي تصيب ضحية الاغتصاب جاءت في المرتبة الثانوية أو لم تكن لها أي أهمية على الإطلاق مقارنة بشرف العائلة الذي تلطخ بالاغتصاب. وليس هناك دليل أوضح من هذه القاعدة على كيفية قيام الدولة بفرض تعريف قانوني لشرف المرأة وجنسانيتها لا يدفع ثمنه إلا النساء. ولم يتم إلغاء هذه المادة (رقم ٢٩١) إلا في عام ١٩٩٩. لماذا انتظرت الحركة النسائية كل هذه السنين ولم تقم مبكرًا بمعارضة هذه المادة التي مثلت ضررًا مباشرًا للمرأة؟ إن إجابة محتملة عن هذا السؤال تتعلق هي الأخرى بسؤالين أساسيين يتعلقان بالمفاهيم السائدة: ما هو الإطار المشروع لفقدان الفتاة لعذريتها؟ ومن هو المسؤول عن وقوع حادثة الاغتصاب؟ فيما أن الزواج هو الإطار القانوني والشرعي الوحيد الذي يسمح للفتاة الشريفة فيه بأن تفقد عذريتها؛ وبما أن طبيعة المرأة ككائن جنسي تجعلها دائمًا مسؤولة بشكل جزئي على الأقل عن وقوع الاغتصاب، فإن الزواج يصبح المخرج الوحيد لإضفاء المشروعية على هذا الفعل الجنسي غير المشروع. ولعل الحركة النسائية الوليدة في بداية القرن لم تكن مستعدة بعد لأن تعلن أن الزواج ليس بالضرورة طريقة لستر شرف المرأة الذي انتهكه المغتصب، وأن المرأة هي الضحية وليست المسؤولة عن تعرضها لفعل الاغتصاب.
ليس من الممكن في هذا العرض المختصر لنضالات النسويات الأوليات في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين إحصاء جميع جوانب هذا التاريخ الثري، خاصة دور الحركة النسائية في قضية استقلال مصر والنضال ضد الاحتلال الأجنبي، وهي القضية التي احتلت موقع الصدارة في أجندة النسويات خلال تلك الفترة. فقد كان الغرض من هذا الجزء هو استكشاف الطرق التي بدأت بها الحركة في تحدي القيم الذكورية ولا سيما تلك التي تعلقت أو هدفت إلى التحكم في أجساد النساء. وقد تحقق الكثير للنساء خلال تلك الفترة، ولعل حصول المرأة على الحق في التعليم والحق في العمل مثالان على الجبهات الكبرى التي ناضلت عليها النساء من أجل إعادة رسم أدوارهن في المجتمع. أما قوانين الأحوال الشخصية فقد انطوى تحقيق أي اختراق فيها على صعوبات بالغة، واقتصر دور النسويات تجاهها على محاولة إدخال تغييرات على بعض المفاهيم السائدة بغرض تقليل الضرر الواقع على النساء داخل الأسرة، دون أن تنقل الحركة هذا العمل خطوة أخرى للأمام وذلك عبر تحدي البنية القانونية للأسرة والمستندة إلى الثقافة الذكورية السائدة.
ومثلت التغيرات التي وقعت بمصر منذ الخمسينيات وبعدها تحديات جسيمة لمسار الحركة النسائية. فقد كانت الحركة محظوظة بتمكنها من الازدهار خلال “الحقبة الليبرالية التي تميزت بتسامحها المتواضع مع النشاط النسوي”، 15 حتى وإن اقتصر نجاح النضال النسوي في تلك المرحلة على مجرد تقديم المفاهيم النسوية والخطاب النسوي إلى المجتمع. وقد بدأ هذا التسامح مع أي نشاط مدني في الزوال السريع مع بداية الخمسينيات، وبدلاً من أن تسعى النساء إلى البناء على النجاحات التي تحققت فقد وجدن أن عليهن الدفاع عن هذه المكاسب من الزوال.
نصف كل من سينثيا نيلسون وأكرم خاطر حقبتي الأربعينيات والخمسينيات بأنها الفترة الذي شبت فيها الحركة النسائية عن الطوق. وهو ما تمثل في تنوع الأيديولوجيات والوسائل والأهداف ومحاولات الحركة في التخلص من أصولها وعضويتها النخبوية. 16 ويصفان هذا التحول بأنه تغير “من التوجه الخيري المتركز في أنشطة التبرعات إلى حركة أكثر تسييسًا تربط بين تحرير المرأة وغيره من القضايا السياسية والاجتماعية كالحركة الوطنية والصراع الطبقي”. 17 ورغم هذا النضج فإن الحركة النسائية سرعان ما جرفتها التغيرات السياسية الصاخبة التي ألمت بمصر بعد يوليو ١٩٥٢ والتي أعلنت بداية مرحلة من الشكوك العميقة المتبادلة بين الدولة من جانب والمجتمع المدني من جانب آخر. ورغم أن الهجمة على المنظمات المستقلة (بما فيها الاتحاد النسائي المصري الذي تم حله في 1956) لم تعنِ وضع نهاية لسائر الأنشطة النسوية إلا أنها أدت إلى وضع هذه الأنشطة في مرتبة ثانوية بعد الأهداف الوطنية التنموية الأوسع.
وبينما استمر النظام الناصري في تعزيز سلطته فإن جميع المنظمات والأحزاب السياسية قد “تم إخضاعها لنظام أكبر تتحكم فيه الدولة”، وفعليًا مثّل ذلك نهاية مرحلية لمجتمع مدني حيوي ومستقل.18 ومن المعتاد إطلاق وصف “نسوية الدولة” (state feminism) على التزام الدولة الاشتراكية الجديدة في ذلك الوقت بالمساواة بين الجنسين وحقوق المرأة فيما مثل “برامج حكومية طموحة لإحداث تغييرات في الدور الإنتاجي والإنجابي للمرأة”، الأمر الذي حول الإنجاب من شأن شخصي إلى قضية عامة وأدى إلى تعيين أعداد أكبر من النساء في القطاع الحكومي. 19 غير أن احتواء قضايا المرأة هذا تم بالأساس لتحقيق مصالح الدولة ولم يكن نابعًا من إيمان حقيقي بوجوب تحسين أوضاع المرأة المصرية. فتنظيم الأسرة على سبيل المثال لم يتعلق بأي حال من الأحوال بالحقوق الإنجابية للمرأة بقدر ما تعلق بالتحكم في خصوبة المرأة لصالح الدولة. 20 كما أن قوانين الأحوال الشخصية لم تشملها التغييرات وظل وضع المرأة داخل الأسرة مبنيًا على التبعية والخضوع للرجل.
ويمكن القول إجمالاً إن هذه الفترة لم تشكل فقط نهاية للنضال النسوي المستقل وإنما عززت أيضًا من تدخل الدولة في النطاق الخاص وبداية تحكمها في جسد المرأة.
بدأ التحرير الاقتصادي في عهدي السادات ومبارك في الحلول محل النظام الاشتراكي الذي أقامه عبد الناصر. وكان للتغييرات التي أحدثها هذا التغيير نتائج سلبية انعكست بالأساس على غالبية أعضاء الطبقات الدنيا الذين كانت أحوالهم متعسرة من الأصل، ودفعت النساء الفقيرات الثمن الأكبر. غير أن الدرجة المحدودة من الانفتاح السياسي في عهد السادات لم تنعكس في صورة مشاركة أوسع للمنظمات النسائية في العملية السياسية. فقد ظلت الهموم النسوية خاضعة للأجندات الحزبية كما كان الحال في العهد الناصري، ولم تتأسس منظمات نسوية مستقلة لتمثيل المرأة حتى بداية الثمانينيات. وفي بعض الأحيان كانت قضايا المرأة تشكل جزءًا من برامج الأحزاب، غير أن هذه الأحزاب كانت في التطبيق تعطي الأولوية للقضايا السياسية الأكثر تقليدية. وساد الاعتقاد في الطبقة السياسية أن حقوق النساء تشكل شواغل خاصة، وأن نساء مصر سيحصلن على حقوقهن عندما تتحقق أهداف الوطن ككل وتحل مشاكل المجتمع الأكبر. 21
غير أن السبعينيات شهدت أيضًا محاولات فردية لتغيير هذه المعادلة كمحاولات نوال السعداوي للربط بين الخاص والعام ومناقشة قضايا جنسانية المرأة. ورغم أن الجهد الفكري للسعداوي كان قد بدأ في الستينيات غير أن كتابها المرأة والجنس لم يصدر حتى عام ١٩٧٢، وهو الكتاب الذي حاول تحطيم التابو المرتبط بقضايا الجنس وطالب بتطبيق نفس معايير الشرف على الرجال والنساء، وكان هذا جهدًا فريدًا ورائدًا في هذا الوقت.٢٢ وبالإضافة إلى تهميش قضايا المرأة في برامج الأحزاب لصالح ما اعتبرت قضايا أكثر أهمية، أو حصر النشاط النسوي مرة أخرى في الأعمال الخيرية، فإن ميرفت حاتم تشير أيضًا إلى بداية الاستخدام السياسي لقضايا المرأة وجسدها في هذه المرحلة حيث “تم استغلال قضايا الجندر بواسطة الدولة وبواسطة معارضيها وحلفائها لإظهار التمايز بينهم في المواقف ولتحقيق انتصارات أيديولوجية وسياسية”. 23 ولعل قانون الأحوال الشخصية الصادر بقرار رئاسي في عام ١٩٧٩ مثال جيد على هذا لتحول. فرغم أن إصداره بقرار رئاسي لم يكن يعني بالضرورة أنه في غير صالح النساء أو أن الحركة النسائية لم تكن تؤيده إلا أن صدوره بهذه الطريقة أدى إلى نتيجتين أساسيتين: أولاً أنه “ألقى بظلال من السلطوية على حقوق النساء”، وثانيًا أنه أدى إلى تعبئة المعارضة السياسية للنظام ضد حقوق النساء نتيجة لفرضها من أعلى إلى أسفل. 24
وخلال حقبة الثمانينيات استمرت المعارضة الإسلامية السياسية في حصد النجاحات وفي زيادة شعبيتها. 25 وإلى جانب أجندتهم السياسية التي لم تكن متحمسة لحقوق المرأة على أقل تقدير فقد انشغلت الحركة الإسلامية في إلقاء اللوم على النساء بوصفهن سببًا لكل المشكلات الاجتماعية: الانحدار في القيم، والبطالة، والإدمان وغيرها. وتوافق مع الصعود التاريخي للإسلاميين في هذه المرحلة غياب أي صوت نسوي ديمقراطي معادل، مما كان يعني خلو الفضاء العام إلا من أفكار وأيديولوجية القوى المحافظة.26 ورغم الحظر القانوني المفروض عليهم فقد نجح الإسلاميون في الدخول إلى البرلمان في الثمانينيات “على حساب النساء كقوة سياسية” ومرة أخرى أصبحت قضايا النساء “ساحة قتال لاختبار قوتهم في مواجهة الدولة” 27 وفي عام 1985 تم الحكم بعدم دستورية قانون الأحوال الشخصية لعام ١٩٧٩، ثم تبعه في العام التالي قانون تخصيص مقاعد للنساء في البرلمان والصادر أيضًا في 1979. 28 ورغم أن إلغاء هذه القوانين كان قد تم على يد المحكمة الدستورية العليا بناء على أسباب إجرائية، فإن قانون الأحوال الشخصية بالتحديد كان قد تعرض لهجمة شرسة على يد الإسلاميين. وتقول ميرفت حاتم إن بعض القضاة كانوا قد أظهروا معارضتهم للقانون عقب إصداره عن طريق عدم العمل ببعض مواده التي رأوا فيها مخالفة للشريعة، كحق المطلقة في الاحتفاظ بمنزل الزوجية. 29 وفي سياق صراع القوة بين الدولة والإسلاميين الذين كانوا يدفعون الدولة إلى قبول “الأسلمة المتزايدة للمجتمع” فإن إسقاط القانونين دستوريًا مثّل انتصارًا واضحًا للإسلاميين، ورغم كونه انتصارًا شكليًا للديمقراطية البرلمانية إلا أنه جاء “على حساب الحفاظ على تغييرات اجتماعية في علاقات النوع الاجتماعي”.۳۰
ورغم أن النساء لم يكن غائبات أو صامتات في هذه الفترة إلا أنه كان من الواضح أن القوى المحافظة كانت لها الكلمة العليا. وعندما بدأت المنظمات النسائية المستقلة في الظهور مرة أخرى في بدايات الثمانينيات كرابطة تضامن المرأة العربية (١٩٨٢) وجمعية المرأة الجديدة (١٩٨٤) وبنت الأرض (١٩٨٤) كانت المهام التي واجهتها صعبة وشاقة. فلم يقتصر الأمر على الهجوم على المكاسب التي كانت قد تحققت على يد النسويات الأوليات، وإنما ساد ضعف واضح في الاهتمام بقضايا المرأة
وغياب واضح للمفاهيم المرتبطة بالجندر والأدوار الاجتماعية المرتبطة به والمساواة على أساسه.
ومع نهاية الثمانينيات كانت الصورة غاية في القتامة. فمع غياب الفضاء المتاح للمنظمات المستقلة لتنفيذ برامج الدعوة لحقوق المرأة كانت هناك هجمات متلاحقة لاستعادة الحقوق المدنية والسياسية التي كانت قد حصلت عليها النساء دون معارضة تذكر من الدولة. وتلاحظ نولة درويش في تعليقها على هذه المرحلة أن النساء لم تمتلكن نفس الجرأة والإقدام الذي كان قد ميز قريناتهن في بدايات القرن.۳۱
عادت المنظمات النسائية مرة أخرى للظهور بقوة خلال التسعينيات عبر تنظيم حملات واستجابات شجاعة لقضايا مثل العنف ضد المرأة والختان وقانون الجنسية وقوانين الاغتصاب.32
ومثلت قضية الختان أهمية خاصة لارتباطها الوثيق بجنسانية المرأة وحقها في الصحة الجنسية والاستمتاع بالعلاقة الجنسية، وأيضًا للاهتمام الإعلامي الكبير الذي حظيت به هذه القضية داخل مصر وخارجها، لاسيما أثناء التحضير لمؤتمر القاهرة للسكان والتنمية في ١٩٩٤ وأثناء انعقاد المؤتمر. غير أن الفترة نفسها شهدت في رأيي تفويتًا لفرصة الدفاع بشكل علني عن الحقوق الجنسية للمرأة واللجوء إلى مواراة هذه الحقوق خلف حقوق أخرى أكبر مقبولية ومشروعية، وتشكل قضيتا الختان وقانون الجنسية مثالين جيدين على تلك النقطة.
عند استعراض تاريخ الحركة النسائية في التعاطي مع قضايا جنسانية النساء يمثل العمل ضد ختان الإناث نقطة تحول هامة لسببين: أولهما أن هذه القضية تمثل أكثر نقطة اقتربت فيها الحركة النسائية من المناقشة الصريحة للحقوق الجنسية للمرأة، والثاني هو كون الحركة النسائية قد قررت التعاطي مع هذه القضية والتصدي لتلك الممارسة على الرغم من الاتهامات الأخلاقية ورد الفعل الهستيري للمحافظين وغيرهم ممن دافعوا باستماتة ولا يزالون يدافعون عن استمرار هذه العادة.
وقد بدأ العمل لمناهضة ختان الإناث قبل عام 1994 غير أنه كان يتم بشكل أقرب إلى الفردية ودون وجود إطار عام أو تحالف يوحد بين الجهود المبذولة في مناهضة هذه الممارسة. 34 ثم جاء انعقاد المؤتمر الدولي للسكان والتنمية في القاهرة عام 1994 ليوفر الفرصة لإنشاء هذا التحالف وتمكينه من استغلال تجمع دولي كهذا مع ما أفسحه من فضاء سياسي لمناقشة قضية الختان بشكل علني.
سبق توصيف الختان على أنه “فعل يشكل عنفًا ضد المرأة ويهدف إلى التحكم في جنسانيتها أو على الأقل يرمز لهذا التحكم”. 35 وقد أظهر البحث الذي أجرى على هذه الظاهرة الديناميات المعقدة التي تدفع النساء إلى الاستمرار في ممارسة هذا الفعل بحق بناتهن بالرغم من خبراتهن الذاتية المؤلمة المرتبطة به. وكما أشارت كل من عايدة سيف الدولة وآمال عبد الهادي ونادية عبد الوهاب فإن الختان، وغيره من الممارسات مثل الدخلة البلدي، يمثل “جوار سفر للنساء ليتحركن بحرية وهن مرفوعات الرأس”. 36 وتحتل التبريرات الدينية عادة المرتبة الثانية بعد العادات والتقاليد لدى مناقشة الختان، والتي توجد في مصر منذ قرون كممارسة تهدف إلى صيانة شرف العائلة وضمان العفة قبل الزواج ثم ضمان زواج الفتاة. وبذلك فإن الصعوبة الحقيقية في التعامل مع هذه الممارسة تكمن في “تغيير المناخ السيامي والثقافي في مصر”.37 وبدون أن يحدث ذلك التغيير ستظل النساء تحملن عبء صيانة شرف العائلة وحدهن وعلى حساب أجسادهن.
نجح فريق العمل بشأن مناهضة الختان، والذي تأسس في ١٩٩٤، في أن يجمع بين أفراد ومنظمات من خلفيات متعددة من أجل تحقيق هدف مشترك هو مقاومة هذه الممارسة. وكان إشراك أفراد من خلفيات تتصل بالصحة العامة أو العمل النسوي أو حقوق الإنسان والحقوق الإنجابية أو التعليم أو المساعدة القانونية سبيلاً جيدًا لتضمن الحملة أنشطة وموضوعات متنوعة وعلى جبهات مختلفة من أجل مكافحة الختان. 38 وقد أثبت هذا التوجه نجاحه. ومن خلال مناقشة موضوع الختان نجحت الحركة النسوية في تحقيق مكاسب عديدة. فالختان لم يقدم فقط فرصة لمناقشة الأذى والعنف وإنما مثل كذلك مناسبة لمناقشة حق المرأة في الاستمتاع بحياتها الجنسية.
وبذلك أصبحت جنسانية النساء موضوعًا للمناقشة العامة بشكل لم يحدث من قبل.
فقد كان الختان إطارًا يوفر درجة من المشروعية لمناقشة قضايا الجنسانية دون الاصطدام بالقيم الدينية بشكل كامل. فالحديث كان غالبًا ما يدور حول حق المرأة في الاستمتاع بحياتها الجنسية داخل مؤسسة الزواج وكيف كان الختان يقضي على هذا الحق. واستفادت النسويات هنا من عدم وجود نصوص دينية صريحة أو إجماع بشأن الوجود الديني للممارسة. كما أن وجود عنصر الأذى والألم والألم النفسي والجسدي الناتج عن الختان مكّن النسويات من مناقشة قضايا حق المرأة في الاستمتاع بجنسايتها جنبًا إلى جنب مع حقها في سلامة جسدها وعدم التعرض للعنف. وربما كان الأمر سيختلف تمامًا لو كان الموضوع الوحيد المطروح للمناقشة هو ضمان استمتاع المرأة بحياتها الجنسية. ولا يعني هذا بالطبع التقليل من الارتباط الوثيق بين الجنسانية والعنف أو التقليل من شأن العمل الجاد الذي قامت به النسويات في تلك المرحلة من أجل مقاومة الختان.39 ولكن ما نعنيه هنا هو الإشارة إلى أن الحقوق الجنسية بمعناها الإيجابي المرتبط بالتحقق والسلطة الذاتية والاستمتاع (وهو ما سيناقشه القسم التالي من هذه الورقة) احتلت المرتبة الثانية في الحملة ضد الختان بعد الحقوق الجنسية بمعنى الحقوق في عدم التعرض للإيذاء الجسدي والعنف.
وانتهت الحملة بنجاح مرحلي هو صدور قرار وزير الصحة بمنع ممارسة الختان في المستشفيات والعيادات والمراكز الطبية. غير أن النجاح الأكبر كان في وضع الختان على قائمة اهتمامات الدولة وهو ما رأى فيه البعض احتواًء لجهود المجتمع المدني والحركة النسائية في هذا المضمار، غير أن إجبار الدولة على الاعتراف بالمشكلة والبدء في اتخاذ إجراءات جادة لمعالجتها يعد بلا شك خطوة كبيرة للأمام. أما إصدار قانون لتجريم الممارسة ومعاقبة ممارسيها فكان عليه أن ينتظر لسنوات أخرى عديدة قبل أن يظهر كفكرة مرة أخرى عام ٢٠٠٥ وهو ما سيتم تناوله لاحقًا.
بعد انعقاد مؤتمر القاهرة مباشرة بدأت التحضيرات للمؤتمر الدولي الرابع للمرأة ببكين. وأثناء هذه التحضيرات عارض كثيرون ومن بينهم ناشطات في المنظمات النسائية إثارة قضايا العنف ضد المرأة، معتبرين أنه من قبيل نشر الغسيل القذر للبلاد أمام العالم. 40 غير أن تجربة مؤتمر القاهرة كانت قد أظهرت للناشطات النسويات الفرصة التي تقدمها تجمعات دولية من هذا النوع لعرض رؤيتهن وشواغلهن ومقترحاتهن للمستقبل. ولم تكن النسويات وحدهن من تعلمن هذا الدرس، فقد أدركه الإسلاميون كذلك والذين كانوا من قبل قد دعوا إلى مقاطعة مؤتمر القاهرة ولكنهم بعد أن أدركوا تأثيره قرروا المشاركة بفاعلية من تحضيرات وأعمال مؤتمر بكين لكي لا تترك الساحة للنسوبات. 41
من هنا يمكن اعتبار مؤتمر بكين نقطة تحول أخرى في العمل على قضايا الجنسانية. فبالإضافة إلى زيادة اهتمام الحركة بهذه القضايا وبدء تفاعلها المفيد مع الحركة النسوية العالمية العاملة من خلال هذا التجمع ومن قبله مؤتمر القاهرة، فإن مؤتمر بكين وضع النسويات في مواجهة مباشرة مع نشطاء إسلاميين، أو بالأحرى ناشطات إسلاميات قررن الخوض في قضايا الجنسانية من منظورهن بالطبع.
وقد وصفت آمال عبد الهادي بدقة وإحكام كيف قام الإسلاميون بتغيير تكتيكاتهم أثناء بكين دون أن تتغير نظرتهم لقضايا المرأة بطبيعة الحال. 42 فقد قامت المنظمات الإسلامية بإقامة تحالفات مع الفاتيكان والمنظمات المسيحية المحافظة لتعزيز موقفها الذي ركز على تقوية الأسرة مع الاحتفاظ بتوزيع الأدوار التقليدي داخلها بين الرجال والنساء، والتأكيد على أن الدور الأساسي للمرأة هو تربية الأطفال والاهتمام بشئون المنزل. وأصبحت اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل، والتي تشكلت قبيل مؤتمر بكين عام 1995 كلجنة تابعة للمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة الذي يرأسه شيخ الأزهر، اللاعب الإسلامي الأساسي في بكين وما تلاها من اجتماعات تناولت قضايا المرأة والطفل والأسرة.
وتسوق آمال عبد الهادي عددًا من الانتقادات لمواقف اللجنة الإسلامية، من بينها مثلاً رفض أجزاء من وثائق برنامج عمل بكين “تتعلق بالسلوك الجنسي والإنجابي المسئول للرجال” ورفض الاعتراف بأي علاقة بين الزواج المبكر وأضراره على الصحة الإنجابية للمرأة. 43 وفي المقابل، تشجع اللجنة الإسلامية الزواج المبكر من أجل الحفاظ على عفة النساء، وهي فضيلة لا تهتم اللجنة بالدفاع عنها للرجال أيضًا وإنما تشغل بالنساء فقط، وهو ما يضع اللجنة في موقف القبول الضمني “للسلوك الجنسي غير المسئول للرجال خارج الزواج”. 44
ورغم أن وثائق بكين جاءت عمومًا لصالح المرأة، ودافعت عن المساواة بينها وبين الرجال، واعترفت بحقوقها الإنجابية وصحتها الجنسية، إلا أن الإسلاميين والقوى المحافظة ظلوا قوة لا يستهان بها في السنوات التي تلت انعقاد المؤتمر. فقد نجحت ناشطات اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل في تحقيق حضور إسلامي قوي في الصحافة المصرية والعربية مستفيدات من غياب الأصوات النسوية الديمقراطية المدافعة عن قضايا الجندر والجنسانية من منظور نسوي. كما نجحت اللجنة في الحصول على دعم المؤسسة الدينية الرسمية بالطبع. ووصل الأمر إلى نجاح اللجنة قبيل انعقاد اجتماع بكين +10 في نيويورك عام ٢٠٠٥ في الحصول على فتويين من كل من مفتي الجمهورية ومجمع البحوث الإسلامية بالأزهر تدين برنامج عمل بكين بوصفه مخالفًا للإسلام. 45 كما طورت اللجنة موقفًا نقديًا من أنشطة الحركة النسوية العربية المشاركة في اجتماع بكين+ ١٠ جاء فيه أن على هذه المنظمات لو كانت “تريد تمثيل النساء العربيات تمثيلاً حقيقيًا، أن تحث وفود الدول العربية على تسجيل تمسكها بتحفظاتها السابقة، والتي وضعتها لمخالفة البنود المتحفظ عليها للشريعة الإسلامية التي تحترمها الشعوب وتحرص عليها”. 46
ويظهر استعراض البيانات الصحفية والدراسات التي تصدرها اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل المدى الذي تشتبك فيه هذه الهيئة مع قضايا الجنسانية والحقوق الجنسية والإنجابية بشكل يفوق الجناح التقدمي من الحركة النسائية من أجل محاولة عكس اتجاه التقدم الذي حدث في الاعتراف بحقوق المرأة في بكين وغيرها من المنتديات المشابهة. ففي دراسة أصدرتها اللجنة بعنوان (الجندر) 47 تدق اللجنة ناقوس الخطر من أن الادعاء بوجود سلطة للمرأة على جسدها يعني في الحقيقة ثلاثة أشياء: أن تمنح المرأة حرية الدخول في علاقات جنسية، وأن تمنح المرأة حرية الكشف عن جسدها واختيار ما تريده من ملابس، وأن تمنح المرأة حرية اختيار عدد مرات الحمل وتوقيته وحرية الإجهاض. وتشرح اللجنة كيف أن منح المرأة السلطة على جسدها فكرة أنانية ومدمرة للمجتمع الذي لا صلاح له إلا بالحفاظ على مؤسسة الأسرة. إن أحدًا لا يحتاج إلى كثير نظر ليدرك حجم التباين بين هذه الرؤية والرؤية النسوية التي تعبر عنها مثلاً عايدة سيف الدولة وأخريات بالتأكيد على أن النضال ضد ختان الإناث يتعلق أيضًا “بامتلاك المرأة لجسدها وثقافتها”. 48
وبالمثل تعارض اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل مبدأ مساواة الجندر، فاللجنة ترفض من حيث المبدأ المطالبة بالمساواة بين الرجال والنساء في الميراث أو في التطليق أو في السفر بدون إذن الزوج أو في مبدأ الطاعة الزوجية المتبادلة. كما أن العفة في نظر اللجنة هي الفضيلة الأسمى للمرأة دونما إلزام للرجل بالعفة في ذات الوقت. وتدعي اللجنة أن المساواة في الحياة الجنسية ستعني “إلغاء تعدد الأزواج والسماح للنساء بإقامة علاقات جنسية إذا كان للرجل نفس الحق”.
وجاءت الانتخابات البرلمانية في مصر في ٢٠٠٥ لتظهر بوضوح شديد الظهور الإعلامي للنسويات الإسلاميات، إن جاز التعبير، على حساب غياب صوت قوي يعبر عن اتجاه نسوي ديمقراطي. فبينما انشغلت المنظمات النسائية بالحديث عن المشاركة السياسية للمرأة وعدد المرشحات الضئيل في انتخابات مجلس الشعب فإن الإخوان المسلمين اختاروا مرشحة تشغل عضوية اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل هي الدكتورة مكارم الدريري والتي ملأت وسائل الإعلام المحلية والدولية حديثًا عن معارضتها للمساواة بين المرأة والرجل، ورفضها لبرنامج عمل بكين ومفهوم الجندر من حيث المبدأ، والمطالبة لعودة المرأة إلى المنزل وإعطاء الأولوية للأسرة وتربية الأطفال، دون أن تقوم منظمة نسائية واحدة بالاشتباك مع هذه الآراء ودحضها واستغلال هذه الفرصة في إدارة حوار مجتمعي حول حقوق المرأة بشكل عام وحقوقها الجنسية بشكل خاص.
في يوليو ٢٠٠٤ تم تعديل قانون الجنسية المصري أخيرًا للسماح للنساء بحق مفيد في منح الجنسية لأبنائهن من أزواج غير مصريين. وبالمقارنة بقضية الختان فإن الصلة بين تعديل قانون الجنسية وبين الحقوق الجنسية للمرأة لم تكن بنفس الوضوح رغم التقارب اللفظي. غير أن الحملة الناجحة التي قادتها المنظمات النسائية والتي أدت إلى تعديل القانون أغفلت أو تجاهلت عمدًا الإشارة إلى حق المرأة في اختيار زوجها تمامًا كحق الرجل دون التعرض لعقاب قانوني يتمثل في معاملة أبنائهن كأجانب. واختارت الحركة النسائية أن تركز على جانب التمييز من المشكلة أو الصعوبات العملية التي واجهها الأبناء في التعليم والعلاج والعمل كنتيجة لمعاملتهم كأجانب.
كان تحفظ الحكومة المصرية على المادة ۹ (۲) من اتفاقية مناهضة كافة أشكال التمييز ضد المرأة (السيداو) قبل تعديل القانون يهدف تحديدًا إلى منع أبناء المرأة المصرية من أب أجنبي من الحصول على جنسية الأم. واستند التحفظ نصًا إلى أن العرف قد جرى على تبعية الأبناء لجنسية الأب عند زواج المرأة من أجنبي. وبالطبع فإن هذا “العرف” مبني على افتراض أن الرجل هو القائد الطبيعي للأسرة وبالتالي فتبعية الأطفال لابد أن تتجه للأب بصورة آلية. 49 وبالتالي فإن اختيار المرأة الزواج من أجنبي كان يعني بالضرورة تنازلاً عن جزء من حقوقها في المواطنة. غير أن المرأة لم تقبل بذلك كما تفترض الحكومة عندما قبلت الزواج من أجنبي وإنما فرض عليها ذلك فرضًا بواسطة القانون. وبما أن الزواج هو الإطار المشروع الوحيد لإقامة علاقات جنسية بين الرجال والنساء فإن وضع قيود على التمتع ببعض الحقوق المدنية كنتيجة للزواج هو بالطبع وسيلة للتحكم في سلطة المرأة على جنسانيتها وحقها في اختيار شريكها. فحتى داخل علاقة الزواج كانت المرأة تجد نفسها عرضه للتدخل من الدولة والقانون في حقها في الاختيار. ففي فيلم أنتجته مؤسسة المرأة الجديدة حول قانون الجنسية تروي سيدة مصرية متزوجة من أوروبي كيف تعرضت في كل مرة تعاملت فيها مع ضباط الجوازات بمطار القاهرة للسؤال ذاته على يد الضباط: “ألم تجدي رجلاً مصريًا مناسبًا؟” 50 وبالطبع فإن رجلاً مصريًا في الموقف ذاته لم يكن ليتعرض لمثل هذا السؤال التأنيبي أبدًا. فالافتراض هنا أن المرأة لا تملك الحق في اتخاذ قرار باختيار شريكها الجنسي أو الزوجي وأن مخالفة هذه القاعدة لابد أن تجازي بمقايضة بعض الحقوق التي تجبر المرأة على التنازل عنها.
وعندما ننظر إلى الحملة التي شنتها المنظمات النسائية ضد القانون نجد أن حرية المرأة في الاختيار غابت تمامًا عن النقاش. فبينما ركزت المنظمات النسوية المستقلة على نقطة التمييز بين الرجل والمرأة فإن الهيئات الرسمية كالمجلس القومي للمرأة وبعض المنظمات القريبة للحكومة ركزت على مطالبة الدولة بتقديم تنازل لتيسير سبل الحياة بالنسبة للنساء وأبنائهن من أجانب. 51 وتقول آمال عبد الهادي بهذا الشأن “ركزت الحملة لوقت طويل على حق الأطفال في الحصول على جنسية أمهاتهن وليس حق المرأة في إعطاء الجنسية للأطفال باستثناء العام الأخير السابق على تعديل القانون، وقد أدى هذا التركيز إلى تحقيق الحملة نجاحًا محدودًا، وإن كان أساسيًا، تمثل في منح المرأة حق تمرير الجنسية لأطفالها، أما حق النساء في نقل الجنسية للأزواج الأجانب (والذي يتمتع به الرجال المصريون) فلم تتم مناقشته أساسًا”. ٥٢
لا يمكن بأي حال إنكار النجاحات التي تمكنت الحركة من تحقيقها، فحملة الختان وقانون الخلع وتعديل قانون الاغتصاب والسماح للمرأة بنقل الجنسية إلى أبنائها مجرد أمثلة على هذه النجاحات المرتبطة بشكل كبير بجسد المرأة وحقوقها الجنسية. غير أن من الصعب أيضًا إنكار أن ما يحدث على أرض الواقع لا يزال متقدمًا بكثير عن خطاب الحركة النسوية فيما يتصل بالحقوق الجنسية للمرأة. ومع الامتناع عن إصدار أي حكم قيمي فإن أعدادًا متزايدة من الشباب يلجأون إلى الزواج العرفي رغم سوءاته الكثيرة ورغم النهي الاجتماعي والديني في تعبير عن إصرارهم على التمتع بحقوقهم الجنسية ولو كان ذلك خارج الإطار المقبول اجتماعيًا وهو الزواج الموثق. كما أن الدراسات والبحوث الميدانية تشير إلى أن الفتيات والنساء يلجأن إلى الإجهاض رغم تجريمه ورغم عدم توافر الإجراءات الصحية التي تمكنهن من الحصول على إجهاض لا يهدد حياتهن أو صحتهن.
ولكن التركيز المفرط على الجوانب السلبية من هاتين الظاهرتين وغيرهما قد يمنع الحركة النسائية أحيانًا من إدراك أن هؤلاء الفتيات يمثلن موردًا هائلاً لتشكيل قاعدة للمطالبة بحقهن في حياة جنسية صحية ومشبعة وفي الحصول على المعلومات والخدمات اللازمة لذلك وفي صيانة أجسادهن من العنف الجسدي والجنسي واحترام حقهن في تقرير مصيرهن. وستكون هذه القاعدة ضرورية لمواجهة قاعدة الإسلاميين التي لن تتوقف ولا يجب أن ننتظر منها أن تتوقف عن الترويج لمفاهيم لا تنتقص فقط من حقوق النساء وتضعهن في مرتبة دونية وإنما تهدد صحتهن وحياتهن في بعض الأحيان عبر التركيز على مجتمع خيالي من الملائكة لا يخطئ فيه الرجال ولا تدفع النساء فيه ثمن هذه الأخطاء. ويمكن للحركة النسوية التقدمية أن تلعب دورًا هائلاً في تشكيل هذه القاعدة المضادة إن نجحت في تزويد هذا الجيل بالخطاب والمفاهيم والمصطلحات والأدوات التي تمكنه من الدفاع عن حقه دون شعور بالذنب أو بأنه يتحايل على ظروف مجتمعه ومعتقداته عبر حلول فردية.
إن من الواضح أن الحركة النسوية لا تزال تقف موقف الدفاع عندما يتعلق الأمر بمحاولة التحكم في جسد المرأة وجنسانيتها. والأمثلة على ذلك كثيرة وستتزايد مع صعود القوى الإسلامية على المسرح السياسي. ففي العام الماضي مثلاً قام نواب الإخوان في البرلمان الماضي بتقديم مقترح تشريعي يهدف في ظاهره إلى المساواة في عقوبة الزنا بين الرجال والنساء (وهو ما كان ولا يزال مطلب بعض المنظمات النسائية المطالبة بالمساواة الشكلية) ولكنه يحاول أيضًا مد بساط التحريم إلى كافة العلاقات بين النساء والرجال سواء كان الطرفان متزوجين أم لا. ولا يحتاج الأمر لكثير تفكير لإدراك أن تجريم العلاقات الجنسية الرضائية بين شخصين بالغين في النطاق الخاص، فضلاً عن كونه انتهاكًا سافرًا وغير مسبوق في التشريع المصري للحق في الخصوصية، فإن من سيدفع ثمنه الحقيقي هن النساء وليس الرجال الذي يطبق عليهم المجتمع قواعد مختلفة تمامًا عندما يتعلق الأمر بالجنسانية. وليس من الواضح الآن ما إذا كانت الحركة النسوية مستعدة لخوض مثل هذه المعركة وطرح أسئلة من قبيل: ما هي الفائدة التي يجنبها المجتمع من الزج بالأزواج والزوجات في السجون بتهمة خيانة الثقة الزوجية؟ وهل التجريم والسجن هما الحل لمثل هذا الخطأ الأخلاقي والديني والتعاقدي؟ وكيف نضمن ألا تدفع النساء ثمن إقحام الدولة بأجهزتها الأمنية داخل غرف نوم المواطنين بموجب مثل هذا القانون الجديد في حال إقراره؟
أما بالنسبة لقوانين الأحوال الشخصية فإننا نجد الخطورة نفسها ماثلة هنا. فسيطرة تيارات دينية وأحزاب مدنية محافظة على البرلمان الجديد لا يبشر على الإطلاق بأن تفي الدولة بوعدها وتقدم تعديلات موضوعية لقوانين الأحوال الشخصية أو تقوم بإصدار قانون موحد للأحوال الشخصية ينصف المرأة ويعاملها كشريك في الأسرة وليس كتابع للرجل. ولا يحتاج الأمر ذاكرة قوية للتذكير بأن الكتلة الصغيرة للإخوان في البرلمان الماضي رفضت تأييد التعديل القانوني الذي منح المرأة حق الخلع رغم استناده الصريح إلى قاعدة دينية شرعية، وأن كثيرين من أعضاء حزب الأغلبية كذلك رفضوا التعديل التشريعي ذاته ولم يكونوا ليؤيدونه لولا الضغوط التي مارستها عليهم قيادات الحزب الوطني لتحرير القانون لأسباب سياسية.
غير أن الموقف الدفاعي للحركة النسوية التقدمية لن يقتصر فقط على تيار الإسلام السياسي بذراعه البرلمانية القوية وإنما سيكون على النسويات كذلك صد هجمات المؤسسة الدينية الرسمية وذراعها الأهلي والالتفاف حول مقاومتهم لكل ما من شأنه منح المزيد من الحقوق للمرأة باتخاذ خطوات لصالح المرأة ما لم تحصل على الموافقة المسبقة من الأزهر. وقد حدث هذا مرتين على الأقل في الأشهر القليلة الأخيرة؛ مرة عندما رفض مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر مقترح المجلس القومي
للمرأة سحب التحفظات المصرية على اتفاقية السيداو في ٢٠٠٤، والثانية حين رفض المجمع من حيث المبدأ فكرة إصدار تشريع لتجريم ختان الإناث.
وعلى الجانب الأهلي، فإلى جانب ما تم ذكره عاليه من دور اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل في تنسيق الهجوم على الحقوق الجنسية والإنجابية للمرأة، فإن من الواضح أن اللجنة تنوي تصعيد حملاتها مستفيدة من غطاء الأزهر ومن ظهيرها البرلماني الجديد، فضلاً عن دورها المتنامي على مستوى الأمم المتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامي. وبعد أن قامت اللجنة بصياغة ميثاق لحقوق الطفل في الإسلام لحقوق الطفل في الإسلام كتعبير عن رفض الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل والاعتراض على مفهوم حد ذاته باعتباره مفهوماً غريباً، فإن اللجنة نجحت في أوائل الشهر الحالي في تمرير مقترح بالقمة الاستثنائية لمنظمة المؤتمر الإسلامي بمكة للبدء في صياغة اتفاقية أو إعلان بشأن حقوق المرأة “من منظور إسلامي”. ولا نحتاج لانتظار خروج النص إلى النور لتوقع ما سيأتي فيه بشأن حقوق المرأة عمومًا، والحقوق المرتبطة بأجساد النساء بوجه خاص.
وأمام هذه التحديات الراهنة فليس من المبالغة الحديث عن هجمة محافظة على أجساد النساء. ولن تتمكن الحركة النسوية من صد هذه الهجمة وهي مصرة على التمترس في خانة الدفاع. ولعل بارقة أمل في اضطلاع الحركة النسوية بموقف هجومي يتصل بالحقوق الجسدية لنساء مصر يتمثل في الحملة النسوية الرامية إلى إصدار قانون لتجريم العنف الأسري ضد النساء، والتي جرى التحضير لها على مدار العام الماضي وينتظر إطلاقها رسمياً في الأسابيع القليلة القادمة. ففضلاً عن تعبير هذه الحملة عن رغبة النساء في المطالبة الإيجابية بحقوق تصون أجسادهن، فإن هناك نقطتين هامتين تميزان هذه الحملة بقوة: أولاهما حصول الحملة على تأييد واشتراك أكثر من تسعين منظمة نسائية وحقوقية من محافظات بكافة أنحاء البلاد، وهو ما سينفي عن الحملة طابعها النخبوي وسيساعدها في الرد على اتهامات التغريب الجاهزة. أما الثانية، والأهم في سياقنا, فهي تضمّن مشروع القانون الذي ستعمل الحملة على نشره والدعوة لإقراره نصاً يجرم الاغتصاب الزوجي، وهو ما سيمثل هجوماً إيجابياً على أحد أقوى المفاهيم ثباتاً لدى القوى المحافظة: الحق الديني للزوج في ممارسة الجنس مع زوجته بغض النظر عن رغبتها أو استعدادها النفسي أو الجسدي. إن الحديث العلني عن حق الزوجة في اختيار توقيت الانغماس في أكثر اللحظات حميمية مع زوجها، وفي رفض ممارسة الجنس بالقوة بدعوى أنه في الإطار القانوني للزواج سيشكل نقطة جديدة فارقة في مسار النضال النسوي من أجل الحقوق الجنسية لنساء مصر. ورغم أن إثارة هذه المسألة ستتم في إطار منظومة العنف والأذى الواقع على جسد المرأة إلا أنها ستقدم فرصة ذهبية جديدة للنسويات التقدميات من أجل نقل الحديث من منظور الضحية العاجزة إلى منظور التمكين والمقاومة.
إن الحديث عن المشاركة السياسية للمرأة، والربط بين مطالب الحركة النسوية وبين النضال الحالي من أجل الديمقراطية في مصر سيبقى حديثًا غير واقعي وغير قابل للتحقيق طالما أن المرأة التي نتحدث عنها غير قادرة على اتخاذ أكثر القرارات قربًا منها أو التحكم في حياتها الجنسية وتملك جسدها. إن المرأة العاجزة عن اختيار شريك حياتها أو مقاومة الاغتصاب على يد زوجها لن تكون قادرة أبدًا على اختيار ممثلها في البرلمان أو مقاومة طغيان أجهزة الدولة. لقد انشغلت الحركة النسائية على مدى عقود طويلة وبما فيه الكفاية بحقوق المرأة في النطاق العام كالتعليم والعمل والمشاركة السياسية، وبدون ربط هذه الحقوق بالحقوق الشخصية للنساء داخل منازلهن وفيما يتعلق بأجسادهن فإن الحركة النسائية ستظل تقفز على رجل واحدة، أحيانًا في مكانها، ونادرًا إلى الأمام، وكثيرًا إلى الخلف.
* وصال عفيفي وحسام بهجت، “الحركة النسائية والحقوق الجنسية للمرأة المصرية”، طيبة، العدد السابع. تحرير آمال عبد الهادي ومنى إبراهيم. القاهرة: مؤسسة المرأة الجديدة، يونيو ٢٠٠٦، ص ١٥١- ١٧٣.
1 تستخدم هذه الورقة تعبير الحقوق الجنسية للإشارة إلى طائفة الحقوق المرتبطة بجنسانية المرأة والتي تشمل حق النساء في الصحة الجنسية والمعلومات المرتبطة بها، وحقهن في عدم التعرض لأي من أشكال العنف الجنسي, وحقهن في اختيار شركائهن واتخاذ القرارات المرتبطة بحياتهن الجنسية دون تعرض للتمييز أو القمع.
2 تستخدم هذه الورقة مصطلح الجنسانية كترجمة لكلمة sexuality والتي تشير إلى كافة المشاعر والخبرات المرتبطة بالجسد والحياة الجنسية وتشكل بالتالي مكونًا أساسيًا في كيان النساء والرجال. والجنسانية تمثل تفاعلاً بين العقل والجسد وتتشكل نتيجة تفاعلات متشابكة بين العوامل البيولوجية والنفسية والقيم الدينية والمعتقدات الثقافية والوسط الاجتماعي المحيط.
3 Seif El Dawla, Aida, “The Political and Legal Struggle over FGM in Egupt. Five Years since the ICPD,” Reproductive Health Matters 13, 1999, 128, 130, 135.
4 المصدر السابق، ص ۱۲۹.
5 Badran, Margot. Feminists, Islam, and Nation: Gender and the Making of Modern Egypt, Cairo: The American University in Cairo Press, 1996.
أنظر/ ي أيضًا:
Fatima Mermissi, Beyond the Veil.
12 المصدر السابق، ص ۱۲۷.
13 المصدر السابق، ص ۱۳۲.
14 Baudouin Dupret, “Normality, Responsibility, Morality: Norming Virginity and Race in the Legal Arena,” Muslim Traditions and Modern Techniques of Power, ed. Armando Salvatore, LIT Verlag, 2001, 165- 183.
6 المصدر السابق، ص47.
7 المصدر السابق، ص 48.
8 المصدر السابق، ص 168.
9 المصدر السابق، ص 64.
10 Lama Abu Odeh. “Egyptian Feminism: Trapped in the Identity Debate,” Yale Journal of Law and Feminism 16, 2004, 145, 2004.
11 Badran, op.cit. 124.
12 المصدر السابق، ص ۱۲۷.
13 المصدر السابق، ص ۱۳۲.
14 Baudouin Dupret, “Normality, Responsibility, Morality: Norming Virginity and Race in the Legal Arena,” Muslim Traditions and Modern Techniques of Power, ed. Armando Salvatore, LIT Verlag, 2001, 165- 183.
15 Badran, 218.
16 Akram Khater and Cynthia Nelson, “Al- Harakah Al-Nissaiyah: The Women’s Movement and Political Partial Participation in Modern Egypt,” Women’s Studies Interational Forum 11: 5, 1988, 465.
17 المصدر السابق، ص 466.
18 المصدر السابق، ص 472.
19 Mervat Hatem, “Economic and Political of State Feminism,” Journal of Middle East Studies 24 (1992), 231- 251.
٢٠ مقابلة لكاتبة البحث مع الدكتورة آمال عبد الهادي، ١١ سبتمبر ٢٠٠٥.
21 نولة درويش. “صفحات من نضال المرأة المصرية”، مجلة طيبة، مؤسسة المرأة الجديدة، يناير ۲۰۰۲، ص 40- 43.
22 الحركة النسائية العربية: أبحاث ومداخلات في أربع بلدان عربية، القاهرة: مركز دراسات المرأة الجديدة, ١٩٩٥، ص141. أنظر/ ي أيضًا كتاب نوال السعداوي، المرأة والجنس، الإسكندرية: دار ومطابع المستقبل، ۱۹۷۲، وللتعرف على موقفها من الحقوق الجنسية للمرأة مقارنة بموقفها من دخول المرأة في علاقات مثلية، ص 66- 68.
23 Mervat Hatem, op. cit. 240.
24 المصدر السابق.
25 Malika Zeghal, “Religion and Polities in Egypt: the Ulema of Al- Azhar, Radical Islam, and the State (1952- 1994),” International Journal of Middle East Studies 31 (1999), 371-399.
26 المرأة الجديد، مرجع سابق، ص ١٤٢.
27 Aida Seif El Dawla, Amal Abdel Hadi, and Nadia Abdel Wahab, “Women’s Wit over Men’s: Ttrade- offs and Strategic Accommodations in Egyptian Women’s Reproductive Lives.” Negotiating Reproductive Rights: Women’s Perspectives across Countries and Cultures ed. Rosalind Petchesky and Karen Judd, 1994), 73.
28 باستثناء تشكيل لجنة الدفاع عن حقوق المرأة والأسرة، لم يؤد إلغاء قانون الأحوال الشخصية في 1979 إلى هبة نسوية عارمة نظرًا لأنه كان قد تم فرضه من أعلى ولم يأت كاستجابة حقيقية لنضال النساء.
29 Mervat Hatem, op. cit, 244.
30 المصدر السابق، ص ٢٤٥.
31 دولة درويش، سبق ذكره.
32 مقابلة لكاتبة البحث مع الدكتورة آمال عبد الهادي، ١١ سبتمبر ٢٠٠٥.
33 تستعمل هذه الورقة تعبير ختان الإناث للإشارة إلى تشويه الأعضاء الجنسية للإناث female genital mutilation
34 مقابلة لكاتبة البحث مع ماري أسعد، ۲۲ سبتمبر ٢٠٠٥.
35 عايدة سيف الدولة وأخريات، سبق ذكره، ص۱۲۸.
36 المصدر السابق، ص۸۸.
37 مقابلة لكاتبة البحث مع ماري أسعد، ٢٢ سبتمبر ٢٠٠٥.
38 لا يكفي المنظور الصحي لمكافحة ختان الإناث. يرد في عايدة سيف الدولة وأخريات كيف كانت السيمنارات الصحية التي تناولت التأثيرات الصحية السلبية للختان، مثل النزيف والعدوى وصعوبات الولادة والبرود الجنسي, غير كافية لإقناع سيدات كن في حالة صحية ممتازة ولم يتمكن من التواصل مع حالات السيدات المعروضة عليهن، سبق ذكره، ص ۱۳۰.
39 تشير روزاليند بنشسكي إلى كون الحقوق الجنسية الإيجابية من ناحية والحماية من العنف من ناحية أخرى وجهان لعملة واحدة. فلا يمكن للمرء الاستمتاع بحياته الجنسية في الوقت الذي يتعرض فيه جسده للإيذاء:
Petchesky, Rosalind, “Sexual Rights: Inventing a Concept, Mapping an International Practice,” Framing the Sexual Subject: the Politics of Gender, Sexuality and Power, ed. Richard Parker, Regina Maria Barbosa, and Peter Aggleton, PUBLISHER, 2000), 69- 107.
40 نولة درويش، سبق ذكره، ص 58.
41 Amal Abdel Hadi, “Islamic Politics in Beijing: Change of Tactics But not Substance,” Reproductive Health Matters 8, 1996, 47- 54.
42 المصدر السابق.
43 المصدر السابق، ص51.
44 المصدر السابق، ص 52.
45 يمكن الاطلاع على هذين الفتويين على الموقع الإلكتروني التالي:
(https://www.licwc.org/conferences/bken 10/810-07.hm); (https://www.licwc.org/conferences/bken 10/810-08.hm(
46 بیان ائتلاف المنظمات الإسلامية يشارك في الجلسة التاسعة والأربعين للجنة مركز المرأة بالأمم المتحدة:
https://www.licwc.org/conferences/bken 10/810-05.hm(
47 (https://www.iicwc.org/gander/gander_00/_0.hm)
48 عايدة سيف الدولة وأخريات، سبق ذكره، ص134.
49 Amal Abdel Hadi, “Engendering the Egyptian Law on Nationality,” Africa Citizenship and Discrimination Audit. Unpublished paper, 2005.
50 My Nationaligy is My Right and My Family’s Right. Documentary Film. The New Woman Foundation, 2004 .qtd. in Amal Abdel Hadi, op.cit.
51 المصدر السابق.
52 المصدر السابق.