(كلمة المرأة الجديدة في القمة الاجتماعية)
لقد دأب العديدُ من المسؤولين المصريين والجهات الحكومية مؤخرًا على استخدام مصطلح “الحقوق الإنجابية” تبادلاً مع “الصحة الإنجابية“. وأقل ما يمكن قوله، فإنه قد بولغ في استخدام هذا المفهوم منذ اكتشافه، وذلك في أي إطارٍ يرد فيه ذكر حجم السكان، أو تنظيم الأسرة أو التنمية وتحديد النسل. ورغم ذلك، فإن المسرحية التي أحاطت بتغيير موقف وزير الصحة المصرى من ممارسة التشويه الجنسي للنساء، قد كشفت أن هذه المصطلحات لا تتعدى كونها غلافًا جديدًا لنفس سياسات الدولة في مجال السكان وتحديد النسل، طارحة جانبًا أيًا من الحقوق أو المزايا التي قد تترتب عليها .
وقد قام فريق العمل المصري أثناء التحضير لورشة عمل الحقوق الإنجابية في منتدى المنظمات غير الحكومية بمؤتمر السكان، بتقديم صورٍ معبرة عن شعور النساء بأحقيتهن في أنفسهن وحيواتهنّ وأجسادهن في إطار الواقع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي في مصر. وقد استخدم الذين هاجمونا، قبل وأثناء وبعد، مؤتمر السكان العديد من الحجج، من ضمنها أن ما نقدمه ونتحدث عنه ليس سوى لغو مثقفين، لا يمس من قريبٍ أو بعيدٍ الاحتياجات الحقيقية للمرأة والمجتمع، واتهمنا ناقدونا بأننا نُعطى الأولوية “لقضايا هامشية” كالتشويه الجنسي للنساء على حساب القضايا القومية الأعم كالفقر والتنمية.
ونحن هنا الآن لإثبات أن الفقر والتهميش هما جزءٌ أصيلٌ، بل وفي صميم ما نتكلم عنه، ولتوضيح كيف يؤثران على الحقوق الإنجابية للمرأة، وكيف أن ممارسة هذه الحقوق أو عدمه يعكس بدرجة عالية وضع المرأة الاقتصادي والاجتماعي في أي بلدٍ بعينه.
ومصر، كالعديد غيرها من بلاد العالم الثالث، هي في غمار إرساء برنامج التكيف الهيكلي المستوحى والمفروض عليها من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وكما يحدث في العديد من بلاد العالم الثالث، فإن برنامج الإصلاح الهيكلي يدفع بشعبنا نحو حد المجاعة، في مجتمعٍ تجيء فيه النساء في القاع فيما يخص التغذية وفرص العمل والرعاية الصحية والتعليم، حيث أن 40% من الشعب المصرى يقع اليوم – وقبل إتمام إرساء برنامج الإصلاح الهيكلي– تحت خط الفقر المقدر بدخلٍ سنوى قدره 680 حنيهًا مصريًا، أي ما يعادل ۱۷ دولاًر أمريكي في الشهر، وقد وجد أن ٢٥% من الأسر في مصر تعولها نساء، في حين تصل معدلات وفيات النساء في بعض مناطق البلاد إلى ۲۰۰ من كل 100.000 .
وما نطرحه هو أن النساء يُنفقن من صميم آدمية وجودهن من أجل برنامج الإصلاح الهيكلي، كما أن حقوقهن الأساسية تُنتهك من أجل إرساء سياساته.
ومفهوم الحقوق الإنجابية في الحقيقة يدعم حق المرأة في الرعاية الصحية الأساسية المتكاملة. ولكننا نجد في تقرير البنك الدولي لعام 1993 أن “تغطية عمليةٍ ما لتكاليفها لا يعني بالضرورة الإنفاق عليها من الأموال العامة. فالأ، يمكنها شراء الرعاية الصحية من أموالها الخاصة، وإن زُودت بالمعلومات الكافية فهي تفعل ذلك بشكلٍ أفضل من الذي تقدمه لها الحكومة“.
وفي مصر، كغيرها من بلاد العالم الثالث، صوَّب برنامج الإصلاح الهيكلي أسلحته في اتجاه الخدمات الأساسية، فأصاب أكثر ما أصاب منها الصحة والتعليم؛ فقد انخفض الإنفاق الحكومي على الصحة ليصل إلى 1.5% من إجمالي الإنفاق، كما يجرى إرساء برامج تغطية تكلفة الخدمات الصحية بهمةٍ وفجاجةٍ لتتحول الخدمات المجانية أو التي كانت تُقدم بأسعار رمزية في المستشفيات والعيادات العامة إلى خدمات مدفوعة الأجر، متاحةٍ فقط للقادرين على تحمل تكلفتها.
وعند سؤال النساء في البحث الذي أجريناه حول مشاكلهن الصحية في ترتيب أولويات الأسرة، كان الرد بالإجماع أن احتياجات المرأة الصحية تجيء بعد احتياجات الأطفال والأزواج، وغالبًا ما يتمتع الأزواج بشكلٍ ما من الرعاية الصحية، تكفلها المؤسسات التي يعملون بها .
ومن مداعى السخرية أن هذا الوضع يختلف تمامًا في حالة تنظيم الأسرة؛ فقد تم إغراق البلد بكمياتٍ هائلة من أموال المعونة الأمريكية الموجهة من أجل إدخال حبوب منع الحمل المجانية واللوالب والنوربلانت والحقن قصيرة وطويلة المفعول في أجسام النساء المصريات، اللائي يُقال لهن ليل نهار أن خصوبتهن تعوق التنمية الاقتصادية للبلاد.
وفيما عدا الأسرة، فإن النساء ليس لهن أي وجودٍ في السياسات الصحية الحكومية. فالمرأة المنجبة هي كما يبدو المرأة الوحيدة التي تتعامل معها الخدمة الصحية، أما الفتيات وغير المتزوجات والنساء في سن اليأس، فلا وجود لهن بالنسبة لآخذى القرار في مجال الصحة، والعنوان هو صحة الأم، وهو غالبًا ما يعني تنظيم الأسرة، أو لمزيدٍ من الوضوح، تحديد النسل.
وفي الوقت نفسه، فإن مهنة الطب ذات الهرم المهني المحكم، والمثقلة بعشرات الآلاف من الأطباء محدودي الكفاءة والدخل والدوافع، ليس لديها متسعٌ من الوقت لرعاية النساء أو التعرف على مفهومهن للصحة والحياة الكريمة، فالأطباء، سواءً في أعلى درجات سلم مهنة الطبية أو أسفلها، تسوقهم آليات السوق الحرة في مجال الصحة، ومن ثم فلا يمكنهم أن يبالوا بحق المرأة في الاختيارات الخاصة بجسدها وبالإنجاب والصحة؛ فزيادة دخله هو شغل الطبيب الشاغل، سواء أكان ذلك بغرض مجرد البقاء أو تحقيق ثروة في ظل قوانين الغابة السائدة، كما ارتباط زيادة دخله بزيادة عدد اللوالب التي يزرعها في أرحام النساء لا يؤهله للاهتمام باحتياجاتهن. وقد منح هؤلاء الأطباء مؤخرًا مصدرًا آخرًا لزيادة دخلهم على حساب صحة المرأة، عندما أصدر وزير الصحة قراره بإباحة الختان في المستشفيات العامة، بعد أن كانت ممنوعة، وأصبح بمقدور الطبيب الآن زيادة دخله بضعة جنيهات عن كل بظرٍ يستأصله في المستشفيات العامة المجانية.
وإذا نظرنا إلى جانبٍ آخر من تناقضات برنامج الإصلاح الهيكلي العديدة، نجد أنه بينما ترتبط اختيارات النساء الإنجابية ارتباطًا وثيقًا بالحالة الاقتصادية داخل الأسرة، وبالرغم من وجود علاقةٍ واضحة ومباشرة بين عمل المرأة خارج المنزل وحجم أسرتها، فإن برنامج الإصلاح الهيكلي يدفع بالنساء دفعًا خارج سوق العمل. فالبطالة التي تجي في مصر كما في غيرها من البلاد كنتيجةٍ مباشرة لبرنامج الإصلاح الهيكلي تزداد في خطواتٍ وقفزات واسعة ليقدر معدل البطالة القومي بـ 16%، وليصل في بعض مناطق الوجه القبلى إلى أكثر من 50%. كل هذا و لا يزال برنامج الخصخصة في بداياته، مع ماتعنيه خطط خصخصة صناعات القطاع العام من الاستغناء عن عشرات الآلاف من العمال. في قطاع النسيج مثلاً، والذي يعد من أضخم الصناعات وأكثفها عمالة، فإنه من المقدر أن يتم الإستغناء عن ثلث العمالة على الأقل، وذلك قبل إتمام عملية الخصخصة. ومن جانبٍ آخر، فإن قطاع النسيج هو من أكثر القطاعات تشغيلاً للنساء، أغلبيتهن كعمالةٍ مؤقتة، وبالتالي سيشكلن أول من سيتم الإستغناء عنه.
وقد تم الاستغناء فعلياً عن الآلاف من النساء العاملات في المصانع الصغيرة، حتى أن إعلانات التوظيف اليوم تصل بها الجرأة إلى حد الإعلان عن وظائف “للرجال فقط” منتهكةً بذلك، ليس حق المرأة في العمل فحسب، بل ونص الدستور المصرى نفسه.
كيف تؤثر هذه السياسات على النساء، وعلى رؤيتهن لأنفسهن وبالتالي على رؤيتهن لوضعهن داخل الأسرة، وعلى حقوقهن وعلى حماسهن في الدفاع عن هذه الحقوق. كثيرًا ما تصرح النساء بأن مساهماتهن الاقتصادية في دخل الأسرة تمنحهن بالطبع مساحةً أكبر للتفاوض داخل الأسرة، مساحةً لم تصل بهن إلى المساواة ولم تكسر حواجز الأعراف والتقاليد التي أعاقت تحقيق النساء للذات لفترةٍ طويلة، ولكنها حتمًا أمدت النساء بالقوة لفترةٍ طويلة، حتى لو كان دخلهن أقل من الرجل في الأسرة، فمجرد مساهماتهن المادية الملموسة في المحافظة على الأسرة وعلى أنفسهن وأطفالهن قد أضفت عليهن مقامًا مختلفًا داخل الأسرة. وقد وجدت إحدى المنظمات غير الحكومية التي تعمل على قضايا المرأة في الوجه القبلى بمصر، أن مساهمة النساء في دخل الأسرة كان له تأثيرًا كبيرًا على قوتهن التفاوضية في مواجهة تعريض بناتهن أو أخواتهن الصغيرات للتشويه الجنسي.
وقد وضع هذا التأثير أيضًا في ردود أفعال الرجال في بحثنا؛ ففي هجومهم على عمل المرأة خارج المنزل، أوضح الرجال أن المرأة متى كسبت مالاً عن عملها فإنها تشعر بأن لها حق الكلمة في الأسرة مثلها مثل الرجل، وكان الرد الغالب أن “المركب اللي فيها ريسين تغرق” ، وتأثير البطالة وحالة الحرمان التي يُخلفها برنامج الإصلاح الهيكلي عموماً على وضع النساء يتعدى مجرد دفعهن خارج سوق العمل، أو الإبقاء عليهن ضمن الشرائح المستغلة بأقصى درجة والأقل أجرًا، ليجعل منهن أيديولوجيًا السبب الرئيسي وراء انتشار البطالة بين الرجال. فأجهزة إعلام الدولة من صحف وتلفزيون تُلح يوميًا بصورة واضحة وصريحة بالأفكار الداعية بأنه في حالة رجوع المرأة إلى المنزل بدورها الطبيعي “الذي أمرها الله به كزوجة وأم“، فإن الرجل لن يجد صعوبةً في العثور على وظيفة، بل اللوم قد وقع على عمل المرأة كسببٍ لانتشار التشرد والإدمان بين الشباب. وإن التقت آراء كلٍ من برنامج الإصلاح الهيكلي والدولة وقوي الإسلام الأيديولوجي والسياسي واتفقت، فهي تفعل ذلك فيما يخص عمل المرأة خارج المنزل، لتبرز تناقضًا آخرًا من تناقضات برنامج الإصلاح الهيكلي المثيرة للسخرية .
أما عن أحدث إنجازات برنامج الإصلاح الهيكلي في مصر، فقد كان مشروع قانون العمل الجديد، الذي صمم خصيصًا من أجل تحرير المؤسسات من قيود كثيرٍ من حقوق العمال التي كان ينص عليها قانون القطاع العام.
ويُعد هذا القانون ضرورةً حيوية للتقدم في طريق الخصخصة التي أنتقد البنك الدولي الحكومة المصرية بسبب التقاعس في إرسائها. وقد قام بصياغة هذا القانون مسؤولون من الحكومة مع استشاريين من القطاع الخاص والنقابات التي تسيطر عليها الحكومة، ليجيء مستهدفًا بشكلٍ واضحٍ حقوق المرأة العاملة، بالإضافة إلى ما سوف يصيبها نتيجة ما يتضمنه من استهداف لحقوق العمال عمومًا.
ووفقًا لهذا القانون، فلا يحق للمرأة أكثر من إجازتين للوضع طوال حياتها الوظيفية، يحق لصاحب العمل بعدها إنهاء العقد. ولا تبذل المذكرة التفسيرية للقانون جهدًا بتبرير هذا التحديد وتقديمه كما لو كان في صالح المرأة، بل وتنص صراحةً على أنه رغم أن هذا البند يُهمل بعض الجوانب الإنسانية، إلا أنه يهدف إلى “تشجيع سياسة الدولة السكانية“. وبهذا يجيء حق النساء في اختيار عدد أطفالهن متعارضًا مع اختيارهن للعمل خارج المنزل لتأمين استقلالهن الاقتصادي.
وقد أثر برنامج الإصلاح الهيكلي على المرأة بطرقٍ أقل مباشرة، وإن لم تكن أقل ضررًا . فإن التدهور الهائل في البطالة والفقر المدقع وما يترتب على ذلك من مرارة فقدان الكرامة، لا يمكن ألا يكون لهم رد فعل؛ ورد الفعل في هذه الأحوال للأسف لا يتجه بالضرورة في مواجهة السياسات التي تسببت في وجوده أو مُنفذي هذه السياسات، ولكنه يصطدم بعنف بما هو في متناول اليد، ومن الأشكال التي يفضلها الرجل لتأكيد رجولته هي التعرض للنساء، وتأكيد الهيمنة الذكورية عليهن. بالإضافة إلى ذلك فإن كون كل هذه السياسات مستوحاة ومفروضة من الغرب، يجعل هذه السياسات من أهم ما تستخدمه القوى الأصولية لتغذية مشروعٍ سياسي وثقافي يزعمون به تأكيد هويتنا في مواجهة الهيمنة الغربية. ومن أهم مكونات هذا المشروع هو قمع النساء وتحجيبهن وحجبهن داخل البيوت، وعزلهن عن الحياة العامة وصولاً إلى العنف الجسدي – والكل مغلفٌ بهالة مقاومة الغرب، وكأنه لا تصح مقاومة الغرب إلا بقمع النساء.
وختامًا، فإن برنامج الإصلاح الهيكلي معنىٌ بتعديل حياة البشر في إطار نظامٍ اقتصادی وسياسي عالمي جديد لم يشاركوا في صياغته، أما الحقوق الإنجابية فهي معنيةٌ بتعديل العالم لاحترام حقوق واختيارات المرأة وأهليتها في الكرامة والأمان والاختيار الحر. ومن ثم، فإن برنامج الإصلاح الهيكلي هو انتهاكٌ صريحٌ للحقوق الإنجابية للمرأة.
النساء يقمن بثلثي (2/ 3) أعمال العالم.. ويحصلن على 5% فقط من دخله.. ويملكن (1% واحد بالمائة) من ممتلكاته (منظمة العمل الدولية ١٩٨٠).. إن هذا القياس العالمي لحجم العمل الذي تقوم به النساء، مرتبطًا بأشد درجات الفقر، لهو المؤشر الأساسي والدال على التمييز الواقع ضد النساء.. فيؤثر على واقع النساء ويحدد لهن أنماط الحياة التي يعشنها، ومع ذلك فإن هذا الواقع لا ينعكس في أي من إحصاءات الناتج القومي العام أو أى إحصاءات رسمية أخرى.
إن قياس وتقييم العمل غير مدفوع الأجر هو هدفٌ ضروری وقابل للتحقيق.. كما أنه عنصرٌ أساسي من عناصر حقوق الإنسان.. وهو أمرٌ جوهرىٌ لوضع حد للتمييز بين النساء والرجال، وأيضًا بين بعض النساء والبعض الآخر، فالنساء في قاعدة العالم. في الجنوب وفي الشمال، في الشرق والغرب، يحملن العبء الأكبر للعمل غير مدفوع الأجر.. إن 165 منظمة غير حكومية تمثل ملايين النساء والرجال في العالم يطالبون حكوماتهم بأن تحصى الأعمال التي تقوم بها النساء دون أن تتلقى عنها أجرًا.. ولحين أن يُدرج هذا العبء الرهيب.. هذا العمل غير مدفوع الأجر.. في الحساب القومي للبلدان المختلفة، لا يمكن للحكومات أن تدعى أنها تواجه أسباب الفقر، أو أنها تحاول أن تُرسي العدالة أو تحقق التنمية أو التكافل الاجتماعي.
السفير جوان سومافيا ..(شيلي).. السكرتير العام للقمة الاجتماعية كوبنهاجن – مارس ١٩٩٥