الحقوق الإنجابية للنساء المصريات قضايا للنقاش*
أدت عمومية واتساع تعاريف الصحة والحقوق الإنجابية، سواء فى مصر أو غيرها، إلى أن تتصدر إحدى قضايا الصحة الإنجابية قائمة الاهتمامات، مع إهمال أو إقصاء القضايا الأخرى، وتفادى مدخل شامل لتناول هذه القضايا. دخلت لغة الصحة الإنجابية مصر مع انعقاد المؤتمر العالمي للسكان والتنمية بالقاهرة عام ١٩٩٤. ومنذ اللحظة التي ترجمت فيها هذه المفاهيم إلي العربية أخذ النشطاء والباحثون والنساء أنفسهن في المناقشة والجدال حول معانيها،كما تساءلوا عما إذا كانت الثقافة المصرية تسمح بتبني مثل هذا المدخل الحقوقي، وعما إذا كانت النساء المصريات ترين الحقوق علي هذا النحو بالفعل.
تناقش هذه الورقة لغة الحقوق الإنجابية في علاقتها بالخصوصية الثقافية في السياق المصري، ورؤية النساء المصريات حول الحقوق الإنجابية كما تناقش أيضًا دور التقاليد والدين، والطريقة التي يتم بها تناول الحقوق الإنجابية في القانون المصري. وتحلل الورقة بعض الآراء المعارضة للغة الحقوق منطلقة من الأسس التي أوردناها عاليه.
تتضمن الحقوق الإنجابية بعض حقوق الإنسان المتعارف عليها في الوثائق القانونية وصكوك حقوق الإنسان المحلية والدولية. (۱) وتشمل هذه الحقوق الأساسية لجميع الأزواج والأفراد “….. أن يقرروا بحرية ومسئولية عدد الأطفال الذي يرغبون في إنجابه، والمباعدة الزمنية بين تلك الولادات،والحصول علي المعلومات والمعرفة والوسائل اللازمة،والحق في الحصول علي أعلي مستوي من الصحة الجنسية والإنجابية،والحق في اتخاذ القرار بشأن الإنجاب بحرية دون تمييز أو إجبار أو عنف“، والحق في الصحة الإنجابية، التي عرفتها منظمة الصحة العالمية بأنها ” حالة من الصحة الجسدية والنفسية والاجتماعية الكاملة في كل ما يتعلق بالجهاز التناسلي ووظائفه وعملياته“.
كيف تؤدى عمومية واتساع التعريفات إلى طمس التباين بين التفسيرات:
إن أحد السمات الهامة لهذين التعريفين المرتبطين ببعضهما هي اتساعهما. فبالرغم من أن الغالبية قد تتفق مع أن الصحة الإنجابية للنساء ترتبط بصورة ما بالصحة الجسدية والنفسية لهن،لم تؤد هذه التعاريف الشاملة للصحة الإنجابية والحقوق الإنجابية إلي مدخل شامل في التعامل مع هذه القضايا أو في مجال تقديم خدمات الصحة الإنجابية. وعلى العكس،يسمح اتساع التعريفين بتبنى مدخل انتقائي يركز علي مكون أو أكثر من مكونات الصحة والحقوق الإنجابية علي حساب إهمال البقية. لذا كان من الممكن لمؤسسات وأفراد ذوي برامج عمل شديدة التباين أن يناصروا الصحة الإنجابية والحقوق الإنجابية،وإن كانت تعنى أشياء مختلفة لكل منهم. وهذه الانتقائية يدفع ثمنها أولئك الأكثر حرمانًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.
في مصر علي سبيل المثال، ما زال حق جميع النساء في اتخاذ القرار فيما يخص أجسادهن، وصحتهن، وحقهن في الحصول علي مدى واسع من الخدمات المتكاملة المتعلقة بالرعاية الصحية الأولية، حلمًا مثاليًا بعيد المنال ومن ناحية أخري، فإن بعض المناقشات العالمية حول الحقوق الإنجابية ركزت علي تحكم النساء في أجسادهن وخياراتهن الإنجابية، متجاهلة بدرجة كبيرة قضايا أخري محورية بالنسبة للحقوق الإنجابية مثل إمكانية الحصول علي الرعاية الصحية ونوعية تلك الرعاية.
لا يمثل التنوع في المنظور بالضرورة مبررًا لعدم استخدام هذه التعريفات أو لنبذها، بل علي العكس فإنه يعكس طبيعة هذه المفاهيم، بمعنى أن الصحة الإنجابية والحقوق الإنجابية صيغ مختصرة لأجندة متعددة الأنظمة وجزء من كفاح عريض لنيل الحقوق الإنسانية للمرأة، وليس فقط تخصصاً طبيا أو قضية قانونية.
تفاسير الصحة الإنجابية والحقوق في مصر:
إن المقابل اللغوي لمصطلح الحقوق الإنجابية Reproductive Rights” ” في العربية هو حرفيًا “الحقوق المتعلقة بالولادة “. وهذا المفهوم لا يفسر نفسه تلقائيًا للمتحدثين بالعربية، حيث لا يحمل أي دلالة في اللغة العربية فبينما نجد أن القضايا نفسها ليست بالجديدة، نجد المصطلحات جديدة، تمامًا كما حدث مع مصطلح النوع (Gender). وقد تلي المؤتمر العالمي للسكان والتنمية الذي انعقد بالقاهرة في عام ۱۹۹٤ استخدام واسع لهذين المصطلحين.
رغم أن المسئولين فى مجال الصحة قد استخدموا لغة “الصحة الإنجابية ” منذ بدء التحضير لمؤتمر السكان والتنمية، فقد ظلت القضايا التى يشيرون لها باعتبارها صحة إنجابية،تكاد تتطابق مع ما كانوا يتحدثون عنه باعتباره “خدمات منع الحمل” في الستينات و “خدمات تنظيم الأسرة” بعدها بعقد من الزمان. وعلي المستوي الفعلي، لم تذهب الخدمات الصحية في مصر، سواء التابع للدولة منها أو الذي يقدمه القطاع الخاص، أبعد من تقديم وسائل منع الحمل، المحدودة من حيث النوع والخيارات،وللنساء المتزوجات فقط.
لم يكن التركيز علي تنظيم الأسرة علي حساب إقصاء قضايا الصحة الإنجابية الأخرى هو الإقصاء الوحيد فقد استخدم معارضو سياسة الدولة السكانية مصطلح ” الرعاية الصحية الإنجابية ” للإشارة إلي الرعاية الأساسية والتوعية الصحية بالمقام الأول. وعاملوا قضايا الصحة الإنجابية الأخرى، مثل الحصول علي إجهاض آمن أو محاربة التشويه الجنسي للإناث كقضايا هامشية وغير مناسبة ثقافيًا، أو باعتبارها مسائل يشجعها المانحون الأجانب أو المنظمات ” الغربية “. يضم هؤلاء المعارضين، الجماعات المحافظة ذات التوجه الدينى التى ترى المؤتمر العالمي للسكان والتنمية ومفاهيمه كأجندة غربية تسعي إلي الهيمنة علي شعبنا “المسلم“، وحرماننا من ثقافتنا لصالح قيم وعادات غريبة. ومن بينهم أيضًا جماعات تقدمية وقومية تري الأجندة الغربية بإعتبارها نوعًا جديدًا من الإمبريالية يحفز الجدال حول قضايا تافهة لصرف اهتمام الشعب عن قضايا أكثر جدية مثل الفقر والجهل والاضطهاد الطبقي. إن قضايا مثل محاربة التشويه الجنسي للإناث ومساندة الحق في إجهاض،آمن، وغيرها، لم يتم ربطها تلقائيًا بمفهوم الصحة الإنجابية، ولم يتم النظر لها باعتبارها قضايا حقيقة، بل تم التعامل معها بإعتبارها نتاج عمليات غسيل المخ الغربية، وتحركها الرغبة فى الحصول على التمويل.
كان مفهوم الخيارات الإنجابية والشروط التي تحقق وتدعم الحقوق الإنجابية غائبان نسبيًا عن الساحة في مصر علي الرغم من استخدام لغة الصحة الإنجابية. ولم يكن هناك أي ارتباط لهذه المصطلحات قبل مؤتمر السكان والتنمية بوجود حركة مصرية، والتى ربما كان من الممكن أن تساهم أولوياتها في فهم هذه المصطلحات. ولكن حقيقة أن تلك المصطلحات تصعب ترجمتها إلي العربية لا تعني بالضرورة غرابة المفاهيم التي ارتبطت بها علي المصريين.
يتمثل التحدي الذي يواجه مساندي قضايا الصحة والحقوق الإنجابية في السؤال حول كيفية نقل تلك اللغة إلي مستوي الواقع التطبيقي. من سوء الحظ أن مصطلح الحقوق الإنجابية يستخدم في مصر بواسطة نشطاء صحة المرأة وعلماء الاجتماع والحقوقيين، للرمز إلي معاني متباينة، وأن العلاقة بين هؤلاء الفاعلين المختلفين كانت في بعض الأحيان علاقة توتر أكثر منها علاقة تكامل في الاهتمامات.
يجابه الباحثون والنشطاء فى مجال الحقوق الإنجابية بمصر تحدى الإجابة على أسئلة: ماذا لو لم تدرك النساء حقوقهن الإنجابية كحقوق؟ وماذا لو لم يعبرن عن شعورهن بالإستحقاق تجاه تلك الحقوق؟ وماذا لو عبرن عن أنفسهن في صورة إحتياجات أكثر من حقوق؟ وكيف يمكن قياس شعور النساء باستحقاقهن لحقوقهن؟ وما هو السلوك الذي يمكن الإستدلال به على أن هذا الحق أو ذاك تراه النساء كحق، أو على العكس، يرينه غريباً عليهن؟
لكلمة “حق” (right) العديد من المعاني في اللغة العربية، فهى أولاً تحمل دلالة قانونية، إذ أن الحق شئ يضمنه القانون وتكفله النصوص الدينية في بعض الأحيان. كما تستخدم كلمة (right) أيضًا لتعنى “صحيح” أو “ومعقول“، ولا يتطابق الإستخدامان في كل الأحيان. فمثلاً ترى العديد من النساء المسلمات أن تعدد الزوجات “حق” من حقوق الرجل ورد فى النصوص الدينية، بينما ترى البعض أيضًا أن ممارسته ليست شيئاً “صحيحًا“. إن وصف شئ ما بأنه “حق” يدل على أهمية هذا الشئ لسلامة وكرامة الفرد أو المجموعة، وأنه يجب على الدولة حماية هذا الشئ وتشجيعه. ويوازى هذا المفهوم مفهوم الإستحقاق فمن الضروري لمن يطالب الناس بحقوقهن، إن يعوا إستحقاقهم لتلك الحقوق وأن يطالبوا بها “آخر” ما. وأخيراً فإن المطالبة بالحقوق كثيراً ما تعتبر نوعاً من التمرد لأن تلك المطالبة عادة ما توجه إلى جهة مثل الخدمات الصحية أو أى جهة رسمية أخرى كالحكومة.(۳)
زعم الكثيرون من معارضى لغة الحقوق الإنجابية خلال وبعد المؤتمر العالمى للسكان والتنمية أن النساء في منطقة الشرق الأوسط لا ينظرن إلى احتياجاتهن وأدوارهن الإنجابية ولا يعبرن عنها كحقوق. وعلى الرغم من التباين في أيديولوجيات ودوافع تلك المجموعات التي تضم الإسلاموين وعلماء الإجتماع والناشطات من النساء في الأحزاب السياسية ( من المعارضة والحزب الحاكم على السواء، فقد بدا أنهم جميعاً يتفقون على أن مفهوم الحقوق الإنجابية غريب على واقعنا ولا يعني شيئاً بالنسبة للنساء المصريات. ويجدر القول بأن الإعتراف بالاستحقاق لحق بعينه لا يؤدى بالضرورة إلى إتخاذ خطوات عملية للحصول على ذلك الحق، خاصة عندما تتدخل في الأمر مصالح أخرى. فمن المعلوم على سبيل المثال أن الحق في الحياة لا جدال حوله فى جميع أنحاء العالم، وعلي الرغم من ذلك نسمع أحيانًا عن أشخاص يموتون نتيجة عدم حصولهم علي الرعاية الصحية، وأشخاص آخرين اختاروا أن يهبوا حياتهم من أجل هدف يرونه أنبل من الحياة نفسها. في الحالة الأولي، فإن المسألة لا تتعلق بعدم وعي هؤلاء الأفراد بحقهم في الحياة ولكن بعدم قدرتهم علي ممارسة ذلك الحق، بينما يحتمل الأمر وجود قيم متضاربة في الحالة الثانية.
قد تتباين ممارسة النساء لحق معين أو المطالبة بذلك الحق حسب وضعهن الاجتماعي وقدراتهن العاطفية والاجتماعية والاقتصادية،والفضاء الاجتماعي المتاح أمامهن للمطالبة بالحق،والتكلفة الاجتماعية الناجمة عن الدخول في صراع من أجل ذلك الحق في مقابل ما يجلبه الحصول عليه. ففي مصر على سبيل المثال، تعلم المرأة بأن من حقها السعي للحصول علي الطلاق إذا ما تم إيذاءها جسديًا بواسطة زوجها، أو إن توقف الأخير عن تحمل نفقات المنزل، أو إن كان ممارسًا للزنا أو يؤذى أطفالهما جنسيًا، ولكن وعيها بحقوقها في مثل هذه الحالات لا يساهم بحد ذاته في إعانتها علي تخطي العزلة والفضيحة وفقدان الدعم الأسري والتفريق المحتمل بينها وبين أطفالها،والتي تعتبر جميعها نتائج لواقع الطلاق في المجتمع المصري. لذا يمكن ألا تمارس المرأة حقها في الطلاق علي الرغم من أنه مكفول في القانون والدين، سعيًا وراء الحفاظ علي القبول والدعم الاجتماعي الذي هي بالطبع في حاجة إليه.
قد يستخدم البعض مثل هذه المقايضات التي تقوم بها النساء في إطار العلاقة الزوجية للتدليل علي فقدانهن لأي شعور بالاستحقاق تجاه حقوقهن، وذلك تبسيط مخل حتى وإن لم تعبر النساء عن شعورهن بالاستحقاق في ظروف أو أوقات بعينها.(3) يعتمد ما تعتبره النساء مقايضة مقبولة علي قدرتهن علي المجادلة والنقاش، والتي تتحدد بدورها حسب المستوي الاجتماعي ومستوي التعليم ودعم الأسرة والوضع الوظيفي وشبكات الدعم الاجتماعي. وتعطي هذه المقايضة النساء دعمًا بإعطائهن فرصة للمناورة. إن الاحتياج البسيط لأي امرأة (أو رجل) لأن يكون جزءًا من أسرة، أو زواج أو أي علاقة أو مجموعة أقران، يقتضي اختيار التنازل عن جزء من ذواتهم من أجل ذلك الانتماء الذي يوفر في مقابل ذلك بعض الدعم النفسي والاجتماعي وربما الاقتصادي. وينتج الظلم هنا من عدم المساواة في الثمن الذي تدفعه النساء إذا ما قورن بما يدفعه الرجال للحصول علي ذلك الدعم في نظام أبوي يتحيز للرجال.
في منتصف التسعينات أجريت دراسة حول الحقوق الإنجابية. اعتمدت الدراسة على مجموعات النقاش البؤرية والمقابلات المتعمقة مع عينة عشوائية من النساء المتعلمات وغير المتعلمات، المتزوجات وغير المتزوجات من الطبقات الفقيرة والشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة في القاهرة والوجهين،البحرى والقبلى. استخدم فريق البحث، الذي كنت جزءًا منه، الترجمة الحرفية لمصطلح “الحقوق الإنجابية” في تفاعلاته مع المجموعات الأخرى والمنظمات. أما في الميدان فلم يستخدم أحد هذا المصطلح أبدًا. وبدلاً منه قام أعضاء الفريق بسؤال النساء عن حقوق إنجابية بعينها ضمت الحق في الغذاء والرعاية بالنسبة للطفل، والحق في عدم الزواج في سن مبكر جدًا،والحق في اختيار الزوج،والحق في اختيار عدد الأطفال والحق في استخدام وسائل منع الحمل واللجوء إلي الإجهاض، وأيضًا الحق في الحصول علي الرعاية الصحية والتعليم وفرص العمل والرعاية الاجتماعية وامتلاك الثروة والمعلومات والخدمات القانونية. (3) وقد كشفت نتائج الدراسة أن النساء يعين جيدًا يسمى الآن “الحقوق الإنجابية”
وهكذا فإن النساء المشاركات في الدراسة أبدين رغبتهن في ألا يمارسن الجنس مع أزواجهن إلا إذا ما رغبن في ذلك، وتمنين ذلك لبناتهن أيضًا. وكشفن أيضًا عن رغبتهن في ألا ينتهكن (وبناتهن) جنسيًا أو علي أي مستوي بواسطة أزواجهن أو أي شخص آخر، وألا يتعرضن للعنف أو المعاملة السيئة. وكانت العديد منهن يدركن أنهن لا يستطعن تحقيق تلك التطلعات. بل قد اخترن – في حدود الخيارات المتاحة لهن أن يخضعن حياتهن للمعايير الاجتماعية،من أجل الفائدة والحماية الاجتماعية التي يوفرها ذلك.
كانت فكرة امتلاك النساء لأجسادهن غريبة ولكن فكرة أنها ملك للمجتمع كانت أيضًا غريبة. والطريقة التي تحدثت بها النساء عن أجسادهن وعن القيم الاجتماعية التي تتعلق بذلك، لم تعكس أى إدراك بأن ذلك يمثل تعديًا علي الذات، بل بدا أنها طبيعة الأشياء. كانت قناعتهن بذلك عميقة بحيث بدا أنها تشكل جزءًا من تركيبة النساء النفسية ونسقهن القيمي.
أظهر البحث أن الأمومة تعتبر في حد ذاتها قيمة، سواء بالنسبة للنساء المتزوجات أو غير المتزوجات وهو انسجاما مع توقعاتهن الاجتماعية بأن يصبحن أمهات. وتعرضت النساء المتزوجات غير القادرات علي الإنجاب للقهر والتهديد بالطلاق أو بأن يتزوج الزوج من امرأة ثانية. كما تعرضت النساء للقهر كذلك من أجل إنجاب المزيد من الأطفال، من أجل إنجاب ابن ذكر علي سبيل المثال.
لم تر النساء قيمة لأن يكن من الطرف الوحيد الذي يحدد عدد الأطفال بل فضلن أن يتم ذلك بالاتفاق مع أزواجهن،ولم يشعرن بأن في ذلك تعديًا علي الفضاء الخاص بهن كما رأت النساء أنه من الممكن أن يقدمن بعض التنازلات في آمالهن في بعض الأحيان بدافع الاحترام لأسرهن أو بدافع الحب، ولكنهن يعين جيدًا تلك التنازلات،لكن،حتى ذلك كان له حدوده،عندما يتجاوز التنازل المطلوب قدرة النساء واستعدادهن للتحمل. وذكرت العديد من النساء أنهن قد يلجأن لاستخدام أقراص منع الحمل أو إلى الإجهاض بدون علم أزواجهن إذا شعرن بعدم القدرة على تحمل إنجاب طفل أو صعوبة الوصول إلى اتفاق حول ذلك مع شركائهن. وفي جميع الحالات، تمنين أن تكون الظروف مختلفة عن ذلك رغم عدم قدرتهن على خلق ذلك التغيير (٣).
توقعت النساء احترام احتاجاتهن مقابل احترامهن لقواعد المجتمع. وأفضل مثال على تلك المقايضة يظهر في النظر إلى عذرية الفتاه كرمز لشرف الأسرة. فالعفة والشرف والعذرية يمثلان قضايا هامة هامة بالنسبة للمرأة العربية من جميع المستويات والخلفيات الدينية، وتعتبر مسائل غير قابلة للنقاش ثقافياً. ويمثل بقاء بعض الممارسات مثل عرض قطعة من القماش مبللة بالدم في الصباح التالى لليلة العرس كرمز لطهارة المرأة الجنسية،إنعكاساً جلياً لهذا الموضوع القيمي المنتشر. على الرغم من حظرها دينيًا (يجب القول بأن بعض الشخصيات الدينية تستنكر هذه الممارسة) (٤)، فأنها ما زالت مقبولة بشدة وسط العديد من النساء المصريات من الطبقة الدنيا والطبقة الوسطى في الريف والحضر، ولا تغفل النساء الإشارة إلى قسوة هذه الممارسة، لكنهن يتعاملن معها كبيان إجتماعى بأنهن قد أدين واجبهن الإجتماعي في الإلتزام بالشرف. وقد عكست بعض النساء في الدراسة بأن هذا الموضوع يتخذ أهمية خاصة إذا ما رغبت المرأة في العمل خارج المنزل بعد الزواج، أو إذا كانت ستنتقل للسكن في منطقة ليس لها بها جذور أو حلقة دعم إجتماعى، لذا فإن النساء يقايضن هذه الإهانة الإجتماعية مقابل الإعتراف بحقهن الإجتماعي في حرية التحرك بعد الزواج. (۳)
التأقلم مع العنف الذي يؤثر على صحة النساء الإنجابية والجنسية:
إن مؤامرة الصمت المحيطة بالعنف المتعلق بصحة النساء الإنجابية والجنسية لا تعنى أن النساء المصريات يتقبلن العنف، بل هى نتيجة التربية على عدم الشكوى والتأقلم مع العنف طوال حياتهن.
فالأمهات يتقبلن التشويه الجنسي للإناث للتحكم في النشاط الجنسي لبناتهن وضمان فرص الزواج لهن. (٥) والدليل البارز على قبول هذا النوع من العنف هو نسبة الختان بين النساء المتزوجات فى مصر والتي كانت ۹۷% في عام ۱۹۹٥(٦). وقد تتعرض الفتيات في فترة الحيض الى الإقصاء باعتبار أنهن لسن طاهرات، ويدنسن المكان. مما يخلق لديهن شعورًا بالقذارة والخجل. ويحظر القرآن في (سورة البقرة) على النساء والفتيات الحائضات لمس كتاب القرآن والصيام والصلاة على أساس أنهن غير طاهرات. ويحدث أيضًا أن تزوج فتاة صغيرة في سن مبكرة قد تصل إلى التاسعة من العمر إلى شخص لا تعرفه،وقد تحمل قبل نضوجها جسديًا. ويمكن أن تتعرض المرأة لسوء المعاملة والهجر إذا لم تتمكن من حمل الأطفال حتى إذا كان زوجها هو المصاب بالعقم، أو إذا كان عقمها ناتجًا عن أحد الأمراض المنقولة جنسيًا عن طريق إصابة زوجها. وتتعرض كامرأة حامل للحرمان من الراحة والغذاء والحصول على الرعاية الصحية أثناء الحمل، أو الحصول على العلاج إذا حدثت لها أي من مضاعفات الحمل. وتلام المرأة إذا أنجبت أنثى رغم حقيقة أن جينات الذكر هي التي تحدد جنس المولود. أما كزوجة فقد تجبر على الممارسة الجنسية بعد الولادة بأيام قليلة وتتعرض للعنف إذا ما رفضت ذلك، رغم أنها تحتاج إلى زمن بعد الولادة لتتعافي. وعلى الرغم من البرامج الصحية لتنظيم الأسرة وكثرة الحديث عن الصحة الإنجابية، فما زال معدل وفيات الأمهات في مصر مرتفعًا بمستوى ١٧٤ من كل مائة ألف ولادة حية، وتعانى 1.22% من النساء الحوامل و 3.25 % من النساء المرضعات من فقر الدم. كما تصل نسبة الولادات التي تتم بدون إشراف شخص مدرب إلى ثلثي العدد الكلي للولادات.
كل أشكال العنف هذه لها تبعاتها على الصحة الإنجابية والجنسية، كما أن غالبيتها تتم في الفضاء الخاص بالنساء، أي في المنازل. كيف يمكن إذن لأي شخص أن يزعم بأن العنف ضد النساء قضية غريبة على جدول الأعمال الوطنى في مصر؟ إنني أزعم أن المجتمع المصري يربي على تحمل العنف، وخير مثال لذلك هو التشويه الجنسي للإناث (٥). على أي حال فإن قبوله لا يعني البتة أن النساء سيتقبلن أي نوع آخر من العنف مثل الضرب أو الاغتصاب الزوجي. ولكنه لا يعني أيضًا رفض المرأة لزواجها أو السعي إلى الطلاق منذ المرة الأولى التي تتعرض فيها للضرب بواسطة الزوج. إنها على استعداد خاصة إذا ما كان لديها أطفال، للتسامح أو التعايش مع مستوى معين من العنف يصل إلى حدود احتمالها. إنها تتحمل وتعلم تمام بذلك. وهي تعلم أنها تتحمل شيئًا غير عادل لأن الظروف كما هي عليه، أو أنه في ظروف أخرى كان يمكن لها أن تأمل أن يكون الوضع غير ذلك. ويتخذ البعض هذا التحمل ذريعة لعدم مواجهة العنف القائم على أساس النوع في نطاق جدول أعمال الحقوق الإنجابية أو أي جداول أعمال أخرى تتعلق بهذه القضية. واعتبر هذا سوءًا في تفسير سلوك النساء.
تستخدم الثقافة كذريعة أخرى في مواجهة مفهوم الحقوق الإنجابية. ترفض المجموعات السياسية المحافظة مفهوم الحقوق الإنجابية بحجة أنه غريب على الثقافة المصرية ومفروض من قبل “الهيئات الأجنبية“. ومن ناحية أخرى،تستخدم بعض المجموعات التقدمية وعلماء الأنثروبولوجى الثقافة لتفصيل جدول أعمال الحقوق الإنجابية لتتلاءم والخصوصية الثقافية في مصر (۸). إن حجة الخصوصية الثقافية، قد أدت إلى تجاهل – وأحيانًا قبول – انتهاكات حقوق النساء الإنجابية والإنسانية على أساس أن هناك قضايا أكثر أهمية يجب الالتفات لها بالمقارنة بقضايا مثل إتاحة الإجهاض الآمن أو مشكلة الاغتصاب الزوجي. كان ذلك مثلاً موقف النساء الناشطات في الأحزاب السياسية التقدمية والمجموعات السياسية الأخرى في مصر عند انعقاد المؤتمر الدولي للسكان والتنمية. من المفهوم أن يرفض الناس أى جدول أعمال – غربي أو غيره – يحاول أن يفرض عليهم أمورًا لا تمثل لهم قضايا أساسية. لكن في نفس الوقت، فإن إهمال هذه القضايا لمجرد أن آخرين بادروا بإثارتها هو بحد ذاته دعم غير مباشر لانتهاك تلك الحقوق. وبالإضافة إلى ذلك، فإننى حين اتخذ موقف الرفض أو القبول من قضية ما بسبب آراء الآخرين حول الموضوع، فالاستنتاج الوحيد هو أنني شخصيًا أفتقد القدرة على تحديد أولوياتي لنفسي وأننى أسيرة رد الفعل.
فوق كل ما ذكرناه، فإن أكثر الحديث الدائر حول الثقافة يحيل إلى الدين والذي دائمًا ما يعنى الإسلام. وقد لجأت معظم التصريحات التي تناولت برنامج عمل المؤتمر العالمي السكان والتنمية في الصحافة المصرية – سواء التي رفضت حقوقًا بعينها مما ورد في خطة العمل على أساس الثقافة، أو التي أيدت بعض هذه الحقوق باعتبارها أصلاً مكفولة فى الثقافة المصرية – إلى تدعيم وجهة نظرها باقتباسات من القرآن أو الحديث النبوي التي إما تعارض أو تعترف بتلك الحقوق (١٠).
وعلى الرغم من الأهمية الكبرى للدين،كمرجع أساسي في هذه المنطقة، إلا أن التقاليد تلعب أحيانًا دورًا أكبر في تكوين قيم وضوابط المجتمع الخاصة بسلوك الأفراد. فالأمثال الشعبية والقصص المتداولة كلها تكرس سيادة الرجل في المجتمع. وبالرغم من تحريم كل الديانات والتاريخ المروي على ألسنة المجتمع للزنا والخيانة الزوجية،فإن الموروث الاجتماعي يتقبل إلى حد كبير تجاوزات الرجال في هذا الصدد على عكس الوضع مع النساء. وهذا التباين يرجع إلى الأبوية ( البطريركية) وليس إلى الدين.
وفي سياقات أخرى تطغي الثقافة الشعبية على ما يعلمه الدين الإسلامي، فالمجتمع المصري على سبيل المثال، يحتفي بالخصوبة والأسرة الكبيرة، وهذه الميول متجذرة في الثقافة أكثر منها في الدين، رغم أن الدين الإسلامي يلعب دورًا في تشجيعها. فأحد الأحاديث النبوية يقول “تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة“،وهناك حديث آخر ينص: “خير نساءكم الولود“. وعلى الرغم من هذه التأثيرات المحبذة للإنجاب، فإن بعض الأمثال الشعبية لا تشجع الحمل المتكرر: “كثر الخلفة يقلل الرزق“. أو تقلل من قيمة النساء كثيرات الأبناء: “البطيخة القرعة بذرها كتير“.
ورغم أن بعض الأمثال الشعبية تنادى بأن: “خير الذرية ولد وبنية“، إلا أن أحد أسباب الولادات المتكررة خاصة في أوساط أهل الريف والأقل تعليمًا – رغم الأوضاع الاقتصادية الصعبة – هو الأمل في إنجاب الأبناء الذكور. إنجاب الذكور يمثل سندًا اقتصاديًا للأسرة، خاصة في ظل الوضع المتميز بالنسبة للذكور في الميراث، إذا يحصل الابن الذكر على ضعف ما تحصل عليه الابنة الأنثى وفقًا الشريعة الإسلامية (سورة النساء). وعليه فإن إنجاب الابن الذكر يضمن بقاء الممتلكات في نطاق الأسرة تنتقل النساء، عند زواجهن إلى المسكن الخاص بالزوج، وإذا لم يكن لهن ابن ذكر يحصل الأعمام (أشقاء الزوج) وأبناءهم على جزء من الميراث. وهكذا فإن المصالح الاقتصادية القوية النابعة من هذا التقليد الأبوى تجعل من الصعوبة بمكان التصدى لتفضيل إنجاب الذكور دون التعرض لقوانين الميراث. وما يحدث عادة هو التصدى للجانب الأول فقط.
تفترض الأمثال الشعبية أن النساء هن المسئولات عن تحديد عدد الأبناء، ولا يتم التعرض لدور الرجال في هذا الخصوص : وهو ما يتسق مع نتائج المسح الديموغرافي الأخير التي أوضحت أن النساء يملكن تأثيرًا كبيرًا على القرارات الخاصة بالإنجاب على الرغم من افتقادهن لذلك التأثير والقوة في جوانب أخرى (۱۱). رغم أن تعدد الزوجات حق مشروط يكفله القرآن للرجال المسلمين، فإن الثقافة الشعبية تقلل من قدر هذه الممارسة ونجد أن ٢ بالمائة فقط من الزيجات في مصر هي زيجات متعددة (۳)، وأن اثنين فقط من بين ۱۲ مثل شعبي مصري يسمحان بتعدد الزيجات، أما البقية فكلها لا تشجع هذه الممارسة: “يا واخدة جوز المرة،يا مسخرة“، “خسران اللى يعمل النسوان تجارته“، “فستان” الضر مر ومن لبسه لا يخجل“.
يمثل هذا التناقض مع المبادئ الدينية مثالاً آخر لتباين المواقف بين الدين والتقاليد، ومع ذلك لا يجد الناس صعوبة في الإيمان بكليهما! انعكست القوة التي تتفوق بها التقاليد على الدين أيضًا، في الدراسة المشار إليها أعلاه، (۳) والتي أظهرت مدى التشابه بين الممارسات الإسلامية والقبطية. وباستثناء تعدد الزوجات في حالة النساء المسلمات وشبه استحالة الطلاق في حالة النساء القبطيات قليلة هى الممارسات التي تدل على ديانة المبحوثات.
يقود مدخل الخصوصية الثقافية / الدين إلى ثلاثة أخطاء منهجية. أولاً : يفترض هذا المدخل لنفسه شرعية تمثيل الثقافة، ويعمم تفسيره الذاتي للثقافة على الكل. ودائمًا ما يتحدث أصحاب هذا الرأي نيابة عن الآخرين الذين يدعون حماية ثقافتهم. لكن الأجندة الكامنة خلف هذا المدخل لا تعبر عن هموم ثقافية دائمًا، وإنما هي أجندة سياسية، تعكس مصالح متبنيها، وليس بالضرورة الجماهير المستهدفة، التي يمكن تفسير سلوكها بطرق مختلفة لإثبات أفكار مختلفة وأحيانًا متعارضة ويعتبر ذلك ممارسة شائعة، فارتداء قناع الثقافة يستخدم لإخراس الغرباء، ولتعريف “الذات” في مقابل “الآخر“، أو لتمرير أجندة سياسية مهيمنة لا تترك أي مساحة للتساؤلات. وكثيرًا ما يؤدى استخدام لغة الثقافة لتغطية أجندة سياسية إلى رسائل متناقضة. (۱۲)
ثانيًا : الافتراض بوجود مرجعية ثقافية مهيمنة غير قائم، وإنما هو فقط مجرد ادعاء يتم التأكيد عليه. فالثقافة لا تملك وجودًا محايدًا ومستقلاً، بل تتلون،تتشكل ثم يعاد تشكيلها من جديد، ويتم تبنيها أو التخلى عنها وفقًا لاحتياجات الناس، والذين غالبًا ما يلجئون لمصادر متعددة للسلطة الثقافية بطريقة انتقائية، حسب ما يمكن أن يسهل حياتهم ويجعلها أكثر احتمالاً، أي… اختیار نفعی (برجماتي) للمرجعيات الأخلاقية وفقًا للقضايا موضع المناقشة. والحق أن المرجعيات الأخلاقية والثقافية ليست كلاً متجانساً، ولكن مدخل الخصوصية الثقافية يجعل منها كلاً واحدًا متجانساً يذيب الاختلافات الفردية، ويشكل وعى جمعى تصيغه الأقلية ليشمل الأكثرية.
إن صورة الذات في الثقافة المصرية هي صورة لمجتمع عفيف، لا يمارس فيه الجنس قبل الزواج أو خارج إطار الزواج. لكن الطبيعة والرغبات الإنسانية هي نفسها في جميع أنحاء العالم، وعندما تقع الفتيات في الحب حتى في الشرق الأوسط، فإنهن يقعن تحت إغراء ممارسة الجنس مع شركائهن، وغالبًا ما يتبعن تلك الإغراءات ويحدث ذلك بمعدلات أكثر بكثير مما يود الناس تصديقه. وهذا لا يعنى وجوب حرمانهن من المعلومات، وخدمات منع الحمل والإجهاض. إن المغزى الحقيقى لحرمان البنات من تلك الاحتياجات على أساس أن “بناتنا عفيفات” أو أنهن “سلكن سلوكًا غير صحيح“، لا يعكس احترامًا للثقافة وإنما يعكس احترام القوة والسلطة. أي بعبارة أخرى ليس من حقك ممارسة الجنس إذا لم تملك المكانة الاجتماعية والقدرة الاقتصادية الكافية لتمكينك من ممارسة جنس، آمن وإجهاض آمن إن دعت الحاجة. إن حرمان المراهقين من المعلومات وخدمات الصحة الإنجابية يمثل تحالف الأغنياء ضد الفقراء وليس تحالف الثقافة والهوية المصريتين ضد ثقافة وهوية الغرباء القادمون من الخارج.
ثالثًا : الثقافة ليست أهم المحددات للسلوك الإنجابي والجنسي في مصر. من يستطيع القول أن سياساتنا السياسية والاقتصادية، وسياساتنا الداخلية والخارجية للهجرة، وسياساتنا السكانية ليست كلها محددات هامة لذلك السلوك بما لا يقل عما يسمى بالأعراف الثقافية؟ وأود الإشارة هنا إلى أن خصوصية منطقتنا، مثلها مثل أي منطقة أخري،وثيقة الصلة بالسياق الكلي للمنطقة،وليس فقط ثقافتها التي تمثل مكونًا واحدًا فقط ليس الأهم في بعض الأحيان من ذلك السياق.
فعلى سبيل المثال،العرف الثقافي المعلن في هذه المنطقة أن الرجال هم المسئولون عن إعالة أسرهم، بينما تبقى النساء بالبيت كزوجات وأمهات. وعلى الرغم من ذلك فإن 22% من الأسر المصرية تعولها النساء. (۱۳) وليس هناك من يزعم بأن في ذلك تعديًا على الثقافة أو التقاليد،أو يعتبره إدخالاً لقيم غريبة، فهو ببساطة واقع اقتصادي،وحينما يتعلق الموضوع بالعوامل الاقتصادية تتراجع التقاليد في أحيان كثيرة، لأن لغة الضرورة تطغى على كل شئ. والإجهاض أيضًا أحد هذه القضايا الخلافية. ففي حين أن العديد من المدارس الفقهية الإسلامية تسمح بالإجهاض طالما أنه يتم خلال الأشهر الثلاثة الأولى للحمل (أي قبل أن يكون للجنين روحا)، فإن الموقف الديني الرسمي في مصر محافظ بدرجة كبيرة حيث يحظر الإجهاض ما لم يكن بهدف المحافظة على حياة الأم. وقد كشفت دراسة قومية شاملة أن 19% من حالات الدخول إلى المستشفيات كانت لتلقى العلاج من مضاعفات الإجهاض (قصديًا كان أو تلقائيًا ). وتشير التقديرات إلى أن الإجهاض العمدى يمثل 14.75% بين كل ١٠٠ حالة حمل. (١٤) أحد نتائج الالتباس القانوني والأخلاقي المحيط بعملية الإجهاض هو أن نسبة عالية من مثل تلك العمليات (٤٦% حسب أحد المصادر) (١٥) إجهاض عمدى،تمارسه النساء بأنفسهن، أو باللجوء إلى الدايات، وتستخدم فيها الوسائل التقليدية والتى كثيرًا ما تكون خطيرة مثل الضرب على – أو تدليك – البطن بعنف أو إدخال قسطرة،أو عرق ملوخية، أو ريشة، أو سلك رفيع إلى داخل الرحم،والحقن بمواد داخل الرحم وشرب مستحضرات الأعشاب وتناول العقاقير المختلفة. وعندما تقتضي الضرورة الاجتماعية أو الاقتصادية تلجأ النساء للإجهاض،نفس النساء الذين يدعى أن ثقافتهن تنتهك إذا تمت المطالبة بخدمات الإجهاض الآمن.
لا يعترف القانون المصري بمفهوم الحقوق الإنجابية. على أي حال فإن محددات الحياة الإنجابية للنساء لا يمليها الدين، والثقافة والتقاليد فقط، ولكن أيضًا التشريع والسياسات، وفى أحيان تتعارض تلك العوامل منطقيًا.
يحظر القانون المصري زواج الفتيات قبل سن السادسة عشرة. ورغم ذلك فمن المعروف أن أنه يمكن رشوة القائمين على السجلات بحيث تسجل الفتيات الأقل عمرًا باعتبارهن أتممن السادسة عشر. وفى قليل من قرى الريف يتم تزويج الفتيات لرجال من نفس القرية ويحملن بمجرد بلوغهن. وتتبنى أسرهاته الفتيات القاعدة الإسلامية “الإعلان” باعتبارها الركن الرئيسي في إثبات شرعية الزواج، أما عقود الزواج فيتم تسجيلها بعد أن تبلغ الفتيات السن القانونية وهذا نموذج كيف تتخطى المحددات الاجتماعية على حصانة النص القانوني. والآن كيف يتناول القانون المصرى الأمور الأخرى المتعلقة بالحقوق الإنجابية؟
يقوم القانون المصري علي أكثر التفسيرات الفقهية المحافظة للنص الديني. فللزوج الحق في إيقاع الطلاق منفردًا، بينما يتوجب علي الزوجة التي تسعي للطلاق المثول أمام المحكمة وتقديم أدلة مقنعة للقاضي بأنها لم تعد تطيق الاستمرار في الزواج. والقانون لا يعتبر تعدد الزوجات في حد ذاته ضارًا للزوجة الأولي، وبالتالى لا يمثل بحد ذاته أساسًا قويًا لقبول دعوي الطلاق.
شهد عام ۱۹۹۹ تعديلاً لقانون الأحوال الشخصية. وحسب التعديلات الجديدة، يحق للمرأة أن تطلب الطلاق وأن تحصل عليه خلال ستة أشهر (تحسبًا لاحتمال أن تعدل عن طلب الطلاق) بشرط أن تقوم بإرجاع المهر والتنازل عن كل مستحقاتها المادية علي الزوج. وهذا تشريع إسلامي يتبع في حالة النساء اللاتى يرغبن في تطليق أزواجهن في غياب أي نوع من سوء المعاملة أو العنف من قبل الزوج. ورغمًا عن أن هذا الطلاق يهدف إلى إيجاد مخرج للنساء، فهو يلائم فقط أولئك اللائى يملكن دخلاً مستقلاً. وحتى هؤلاء عليهن التنازل عن حقوق أخري للحصول علي حق الطلاق.
يمنع القانون المصري الإجهاض القصدى إلا في الحالات التي يشكل فيها استمرار الحمل خطرًا علي حياة وصحة المرأة. ويوقع القانون الجنائي أقسى العقوبات علي أي شخص، بما في ذلك الأطباء وأصحاب المهن الأخرى، يجرى عملية الإجهاض بقصد. كما تعاقب النساء اللاتى يجهضن أنفسهن بعقوبة قد تصل للسجن ثلاث سنوات. أما الزوج فتكون عقوبته أقل إذا ما حاول إجهاض زوجته بنفسه عما إذا أخذها إلى طبيب لإجراء العملية.
ظلت مسألة الإجهاض المتعمد موضع جدال مستمر في مصر بين الداعين لاستمرار القيود القانونية المتزايدة، والداعين لإلغاء تجريم الإجهاض في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل، اتساقًا مع تفسير بعض المدارس الفقهية الإسلامية كالإمام مالك وابن حنبل علي سبيل المثال والذين لا يعتبران الجنين حيًا إلا بعد الأشهر الثلاثة الأولى (فتوى الأزهر).
وعلي الرغم من التشريعات والرفض العام للإجهاض،من السهل الحصول علي إجهاض آمن في مصر إذا توفرت الإمكانيات المالية. لكنه إجراء محفوف بالخطورة إذا كانت المرأة فقيرة. وتعتقد العديد من النساء اللاتى شملتهن الدراسة الاستطلاعية المشار إليها عاليه أن الدين يحرم الإجهاض فقط في حالة حدوث الحمل خارج نطاق الزواج،وأنه مقبول شرعًا إذا كانت المرأة متزوجة.
الخلاصة:
الحقوق – بغض النظر أين ومتى تمت صياغتها – هي نتاج كفاح الشعوب لتلبية احتياجات الإنسان الأساسية للأمن والحرية والاستقلال وتحقيق الذات علي المدى الطويل. واعتقد بأن نقاش المصريين حول مناسبة بعض الحقوق لهم أم لا، هو أمر مردود عليه، يمكن مناقشة تأثيرات حق معين علي رفاهية الإنسانية، بما في ذلك الحقوق الإنجابية، لكن بمجرد الاعتراف بتلك الحقوق، لا يوجد مبرر لحرمان النساء في منطقة ما من تلك الحقوق،ولا للتقاعس عن السعي لنيلها كهدف مستقبلي.
ستظل الحقوق الإنجابية للنساء صعبة التحقيق في أنحاء كثيرة من العالم ما لم ترتبط بحملة قوية لتحقيق العدالة الاقتصادية والنوعية، والقضاء علي الفقر (۱۷). والتحدي الذي يواجه نشطاء الصحة والحقوق الإنجابية في مصر، هو التصدى للحواجز المصطنعة المضروبة حول، والأهمية الانتقائية المعطاة للمكون “الخاص” في مقابل “العام” من حياة المرأة. يؤدى استمرار ثنائية العام / الخاص إلى افتراضات خطيرة سياسيًا، كالافتراض بوجود إتفاق عالمي حول الحق في الرعاية الصحية، مع بقاء قضايا أخري” قيد النقاش،أو أن تخطي التحديات في المجال الخاص، أصعب من تلك التي في المجال العام،أو أن التحرر الإنجابى لابد أن يبدأ من المجال الخاص ثم يفيض ليشمل عمل وزارات الصحة والمالية حيث اتخذت برامج التكيف الهيكلي المسار الخاطئ لتقديم الرعاية الصحية للجميع. ويمكن الجزم بأن أي أجندة مستندة لأي من هذه الافتراضات ستضحي حتمًا بأحد جوانب صحة المرأة الإنجابية من أجل الجوانب الأخرى.
يمكن تعلم بعض الدروس من المشروع القومي للتنمية في مصر إبان الستينات، والذي أكدت فيه سياسات الدولة علي المساواة النوعية في المجال العام (فيما يخص العمل والتعليم والصحة) تاركة ما يسمي بالمجال الخاص لحياة المرأة للاهتمام الشخصي (بمعني عدم تعديل قانون الأحوال الشخصية ). فمعظم الحقوق التي اكتسبتها النساء في تلك السنوات تتعرض للتهديد واحتمالات الفقدان بسبب الطبيعة المتغيرة للمدخل التنموي القومي. وقد لعب غياب مفهوم “الحقوق” عن تلك المكتسبات التي أحرزتها النساء المصريات دورًا محوريًا في ذلك.
إنني أعتقد بأن التحدي الأكبر أمام الناشطات من النساء في اشتغالهن بقضية الصحة والحقوق الإنجابية في مصر في السنوات القادمة هو الإمساك بزمام القيادة في عملية تكوين رأي عام يضم صانعي السياسات والباحثين والقضاة والنشطاء في حركتى حقوق الإنسان والصحة بشكل عام. ويجب أن يكون الهدف من هذا العمل تكوين رؤية واستراتيجية شاملة تتناول قضايا الصحة والحقوق الإنجابية بمنظور حقوقي، ورفض إعلاء أحد أو بعض تلك الحقوق علي حساب إقصاء الأخرى، وتقبل بدلاً من ذلك بعالمية حقوق الإنسان كمرجع لها.
تنويه:
قدمت نسخة سابقة من هذه الورقة في “الاجتماع الخاص بمنظورات المرأة والنوع في الصحة الإنجابية بمنطقة شرق البحر المتوسط” الدار البيضاء، المغرب، ۱۰ – ۱۳ نوفمبر ۱۹۹۷.
* مايو ۲۰۰۱ ص ۱۹۳
1- Fourth World Conference on Women, Beijing, Platform 95, 97.216, 223, September 1995, International
Conference on Population and Development, Cairo, Principle 8, 7.3, September1995; World Conference
on Human Rights, Vienna, Programnme 41, July 1993; Convention on the Blimination of All Forms of
Discrimination Against Women, 16.1l (e), December 1979.
2- Social Watch Report, Egypt, Center for Trade Union Workers’ Services, Cairo, 1999.
3-International Reproductive Rights Research Action Group, 1998. Women’s wit over men’s. In:
Negotiating Reproductive Rights: Women’s Perspectives across Countries and Cultures.
Petchesky R, Judd K (eds). Zed Books, London. This research investigated how culture impacts women’s
perception of reproductive rights. The research reported in Chapter 3 was carried out by a team of
Egyptian researchers and activists in feminism, health law and sociology between 1993 and 1997,
including this author. Other chapters report on similar studies carried outin six other countries.
4-This custom is still widely practised in Egypt. A blood stained towel is shown to close relatíves, who
visit the morning after the wedding night. towel is metaphorically called ‘honour’ and the whole ritual
called taking the honour’.
5- Seif EIDawlaA, 1999,The political and legal struggle over Female Genital Mutilation in Egypt: five
years since the ICPD. Reproductive Health Matters.7 (13):128-36.
6- Egyptian Demographic Health Survey, 1995. National Population Council, Demographic and Health
Surveys, Macro International Inc., Calverton MD, USA. September 1996.
7- Egypt Human Development Report 1997-1998. Institute of National Planning, Cairo.
8- Sholkamy HA, 1996. Women’s Health Perceptions: A Necessary Approach to an Understanding of
Health and Well-being. Monographs in Reproductive Health, No. 2. Reproductive Health Working Group,
Population Council Regional Office for West Asia and North Africa, Cairo.
9- Seif EL Dawla A. Women on the agenda of the Left. El Nahj. Vol 42, Centre for Socialist Research and Studies in the Arab World, Syria [In Arabic].
10- Foremost in this was El Shaab, a weekly newspaper, in September-October 1994.
11- Nawar L, 1994. Quality of Care in Reproductive Health Services. Central Agency for Public
Mobilization and Statistics (CAPMAS), Population Council, Cairo.
12- Seif Bi Dawla A, 1997. Different approaches to violence against women. Cairo Papers Seminar,
American University in Cairo, December.
13- Nawar L, 1995. Women-Headed Households. Central Agency for Public Mobilization and Statistics,
Cairo.
14. Huntington D. 1998. Advances and Challenges in Postabortion Care Operations Research. Summary
Report of a Global Meeting 19-21 January 1998, New York. Population Council, 1998.
15- EI Mouelhy M, 1993. Řeview of Women’s Lives and Health in Egypt (by Cairo Women’s Health
Book Collective). Reproductive Health Matters, 1(1):113-16.
16- Personal communication, F Mohammaden, El Saf Village, Greater Cairo, 1997.
17- Petchesky R, 2000. Human rights, reproductive health and economic justice: why they are indivisible
(editorial). Reproductive Health Maters.8 (15): 12-17.