الحملة الفرنسية على مصر: قراءة من منظور نسوى

التصنيفات: غير مصنف

اعداد بواسطة:

الحملة الفرنسية على مصر: قراءة من منظور نسوى

لم يكن إرضاء لنفسى، ولا اقتناعاً بصحة ما حصلت، من صورة للعالم، ولكن هي الخلفية الموروثة التي أميز بموجبها بين الحق والباطل“. (فتجنستاین)

 

ليست هذه الورقة سوى مقدمة تستطلع دور الخطاب الكولونيالي، سواء الغربي أو المشتبك معه محليًا في تأصيل الفكرة التي تقول بأن التبعية الثقافية أمر يصعب تغييره. وبالتالي قد يكون ما ينتج عنها عندما تكتمل، مبشراً بضرورة التكاسل في أخذ الأمور الصغيرة بجدية. وإذا بدا مثل هذا الكلام منحازاً على نحو سطحي ضد الخطاب التنويري، فإن أملي أن الورقة ذاتها، على عدم اكتمالها، سوف تثبت مدى ثراء، ومدى الكم الهائل من العمل المتبقى، ليس بالنسبة لى وحدى، ولكن بالنسبة إلى كل من تشغله قضية التبعية الثقافية ومدلولاتها، في مناخ ما بعد الحداثة، وما يواكبه من نظم عالمية سياسية.

أما بعد،

فإن الثاني من يوليو سنة ۱۷۹۸، صار على نحو تقليدى يعتبر اللحظة الفاصلة التي تلقت فيها مصر صدمة الخروج من الكهف، (كما أسماها يونان لبيب رزق)، فخرجت مصر بمقتضى تلك الصدمة الخيرة إلى نور الحداثة تترنح على يد قائد مستنير وجيشه الشرس. وقد ظلت التناقضات التي تتمثل في تلك المقولة، الخبز اليومى للحوار الدائر حول التبعية الثقافية الذي يتجلى تحت مسميات الأصالة والمعاصرة، الحداثة والتراثإلى يومنا هذا. ويصف لنا هنرى لورنس بدايات تلك النظرة للأمور، ويربطها بتداعياتها الراهنة جزئياً، حين يقول في مقدمة كتابة الذي يحمل عنواناً ذا مغزى خاص في هذا السياق (بونابرت والإسلام): “إن الكتابة الليبرالية في الشطر الثانى للقرن التاسع عشر في أوروبا كما في الشرق، جعلت من حملة مصر نقطة بداية الحداثة، في الشرق العربي. فهى تذهب، إلى أن عالمًا مقفلاً وراكداً، قد شهد – عبر العنف انفتاحاً قسرياً على العالم الحديث، أدى إلى نهوض ثقافي وقومى ما يزال تأثیره محسوساً في أيامنا. ونجد صورة غير مغايرة جذرياً لهذه الفكرة، عند الإسلاميين المعاصرين؛ فهم يقولون إن تجانس وانسجام الحضارة الإسلامية وشرق الأوسطية قد تمزقا على نحو يصعب علاجه من جراء العدوان الثقافي الذي رافق تلك الحملة العسكرية وتلاها (۱).

وفي حين أن لورنس غير مهتم هنا بتأثير توجهات المركزية الأوروبية، على تطورات خطاب التبعية الثقافية في مصر، إلا أننا لا يسعنا، إلا أن نتوقف في تلخيصه هذا الموضوع، عند تساؤل يطرح نفسه بشدة في هذا الصدد، وهو: وفقاً لأى منطق يتشابه تقييم الإسلاميين المعاصرين لحملة نابليون، مع تقييم الفكر الليبرالي لها في القرن الماضي؟. ثم كيف تتحد الرؤية في الكتابة الليبرالية في الشطر الثانى من القرن التاسع عشر في مصر، مع نظيرتها في أوروبا، ومصر ترزح وقتها تحت نير الاستعمار البريطاني المستقى مشروعيته، من مؤازرة الحكومات الليبرالية، التي توالت على بريطانيا منذ ۱۸۸۲؟. وفي حين أن تلك أسئلة تستدعى بحثًا خاصًا، يلقى الضوء على السياقات السياسية التي تطور من خلالها خطاب الاستعمار والتحرر، وتتبع نوعية العلاقات التي ربطت فرنسا وإنجلترا في تلك الفترة، وقد تستدعي كذلك تحليلاً للخطاب الليبرالي الخاص بالمستعمرات، واستقصاء وعى المثقفين الأوروبيين، وموقفهم من فكرة الاستعمار وقضاياها، ألا أن الخلفية الثقافية التاريخية لتلك السياقات لا تقل أهمية في رأيى عن تاريخ المقايضات السياسية في هذا الصدد. بل إنها قد تحمل من الإجابات، ما قد يجبرنا، لا على إعادة قراءة الواقع المصري الراهن، من زاوية مختلفة فحسب، ولكن على قراءة معطيات تلك الفترة السياسية كذلك، على نحو مختلف. كما أنها قد تقدم تفسيراً لسمة الإلتباس، الذى مازال يغلف التحليل السائد لحملة نابليون، لما هي مركبة ومعقدة، بحكم علاقتها بمفاهيم التنوير والثورة، وتحملها مسئولية إدخال الحداثة إلى مصر لأول مرة وحدها، إضافة إلى عدائها للإنجليز، مما جعل لها أبعاداً ودلالات تفوق بمراحل، مجمل الحقائق التي جعلت منها حملة عسكرية فاشلة.

لقد مكنت الحملة، ما يزيد قليلاً على السنوات الثلاث من يوليو ۱۷۹۸، وحتى رحيل جاك مينو في سبتمبر ۱۸۰۱، ولم تترك وراءها المطبعة الشهيرة التي أتت بها، ولم يظهر الكتاب الذي تمخض عن جهد علمائها، إلا ما بين عامى ۱۸۰۹ و ۱۸۲۸ (2)، ولم يترجم ذلك الكتاب، على قدر علمي، وينشر إلا حوالى سنة ١٩٧٦، من خلال جهد فردى قام به مترجم جليل، هو الأستاذ زهير الشايب، ونال عليه جائزة الدولة التشجيعيةعام ۱۹۷۹ ومع هذا ظلت حملة نابليون، وبأثر رجعى، علامة ومرجعية لمسألة الحداثة في مصر. كما أنها أصبحت علامة ومرجعية لمسألة أخرى ينظر إليها على أنها أحد مفاتيح الحداثة في هذا الجزء من العالم، سواء لدى الإسلاميين المعاصرين، أو التنويريين المحدثين، ولا أعنى بذلك مسألةتحرر المرأة، وإنما أعنى مسألة ظهور النساء بمظهرالتحرر؛ وهي منطقة صعبة يحتم البحث فيها الاتساع الشاسع لمجالات القراءة، كما يحتم الجرأة في تعدى حدود التخصصات. وفي النهاية، يمثل مغامرة قد لا تحقق النتائج المرجوة منها. ولكن ما يفرض على خوضها ربما كان به بعض عذري ألا وهو الربط التعسفي الذي يحاول الكثيرون فعله عنوة، والذي يفعله آخرون عن دون قصد، ما بين قضايا المرأة والتبعية للغرب. وهو ما يمثل في تقديري كثيرًا من الاختزالات الأخرى التي تهدد جوهر مسائل الديمقراطية الحيوية، فتلقى بها وبرمتها إلى سلة دون أخرى: “الأصالة، وتعنى في الغالب الخطاب العربي الإسلامي، أو الحداثة، وتعنى في الغالب غربية المصدر، أى أمورًا مستوردة تماماً دون بذل المجهود اللازم لتعريف المصطلحين من منطلق يأخذ علاقتهما التاريخية، وتشابكهما في الحسبان، ودون التحقيق النقدى لمفاهيم الحداثة الأوروبية، فكان أن شغفنى البحث في منطقة الحدود تلك التي أسماها هومي بابه مساحة الشقوق” (Interstitial) لعلني أجد إجابات تصلني بقدر من الحقائق المستقاة، من البحث في التاريخ بعيداً عن تأثير النظرة المصرية التي تمركز المعيار الأوروبي، وهي في اعتقادي المسئول الأول عن كم التشوش والتطرف الذى يسود تقييمنا لحملة نابليون، على سبيل المثال، بما أنه تقييم استقى مرجعياته من خطاب المركزية الأوروبية دون تمحيص جدي، وبالتالي، تسبب دون قصد في عنف ردود الأفعال التي تتجلى ذروتها في التعصب، ضد كل ما هو أجنبي (غربي) المصدر، بقدر ما تتجلى في عدم التمييز بين الغث والسمين في هذا الأجنبي.

أما اختيارى موضوعات التشكل الاجتماعي والثقافي للجنس (gender issues) – إبان الحملة الفرنسية دون غيرها من الموضوعات التي قد تحمل بين طياتها القدر نفسه من الالتباس، ما بين الظهور بمظهرالتحرر، والتحرر الفعلي، فنتاج عوامل عدة.

أولاً: لأنى بوصفي امرأة أقع مباشرة – على خط النار بين الفريقين المتناحرين، لأسباب لها علاقة بموقع الجسد الأنثوى في التعبير عن قيم ثقافية ودينية وطبقية، فجسد المرأة هو الفترينة، التي تصدر للعيان مرجعيات الأصالة أو الحداثة، التدين أو عدمه، ومن ثم يتولد لدى شعور باختزال فرديتى وتناقضاتى لصالح أحكام مسبقة، تبنى على أساس من المظهر وحده، في كثير من الأحيان.

وثانياً: للتعرف على مدى صحة ادعاء بعض الباحثات الأجنبيات، خلال سعيهن تحديد دور النساء في نقل الثقافة، أن للنساء العربيات دورًا أكبر من غيرهن في نقل الثقافة وتمثيلها، وهو ما يضفي على ظروف النساء في المجتمعات العربية، صبغة فولكلورية نابعة دون شك من المركزية الأوروبية لتلك الأبحاث. ولنضرب مثالاً سريعًا على ذلك، من كلام جولى بتيت، التي تروح في مقال بعنوان الأصالة والتشكل الثقافي والاجتماعي للجنس” – وهي بصدد الحديث عن النساء الفلسطينيات إلى أن النساء يمثلن سطوة ومنزلة ومرتبة جماعاتهن؛ يعرضن ثرواتها، ويدعمن شرفهاكما أن إبداء الحداثة للعيان، وإبرازها هو الآخر، مخول للنساء. الملبس الأوروبي، والوظائف المكتبية والتعليم العالي، والتصويت في الانتخابات كلها، من الإشارات التي تعرض وتقدم من خلال ممارسات النساء(۳). فلو افترضنا أن هذا ليس منطق بتيت، وإنما منطق المجتمع الفلسطيني الذي تبحثه، ألا يظل موضوع إظهار الحداثة للعيان، محفزًا للتساؤل عما سواه في تلك الفقرة؟. بمعنى هل الإنجليزية – مثلاً أقل تمثيلاً لسطوة ومرتبة طبقتها؟. وهل لا تعتبر الإيطالية في الجنوب دعامة لشرف أسرتها؟. وهل تدلى جميع نساء إيرلندا بأصواتهن في الانتخابات؟. وهل تتبوأ الفتيات الأمريكيات الوظائف المكتبية، وأعمال السكرتارية ضعيفة العائد المرهقة (المهينة أحياناً)، لأسباب اقتصادية، أم أسباب حداثية؟. وهل ما يلبسه الغجر في أسبانيا يعتبر ملبسًا أوروبياً؟. وإذا كان كذلك، ما معنى تحمل الفلسطينية لمهمة إبداء الحداثة للعيان“. وهل الحداثة قيمة في حد ذاتها، وإذا كانت كذلك، فما الذي يترتب على الأخذ بمظهرها؟. خلاصة القول إن على القارئ العربي (وهو ليس بالضرورة مسلماً)، التعامل مع تلك المقولات بحس نقدي ثاقب، يفككها ويقلبها، إذا أراد أن يتوصل إلى تعريف للحداثة خاص به، لا يعتمد نظرة المركزية الأوروبية، على أنها القول الفصل في الموضوع.

وثالثًا وأخيراً: شغلني البحث في منطقة الحدود، تلك التي أشرت إليها للتحقق من مقولة لجوان سكوت، بدت لى على قدر كبير من الصحة. تقول جوان سكوت في مقال بعنوان التشكل الثقافي للجنس: إنه إذا ما اتخذ المؤرخون الكيفية التي يصنف بها مجتمع ما الأدوار المختلفة لأفراده القائمة على أساس من جنسهم، نقطة انطلاق وتحرى سمات العلاقات التي تقوم على أساس من هذا التصنيف؛ فإن ذلك كفيل بالإفصاح عن المعنى الذي يتولد من جراء تلك العلاقات، وبالتالي يمكننا من فهم العلاقات المعقدة لأشكال التفاعل الإنساني المختلفة. إن المؤرخين في مثل تلك الحالة، يكشفون عن الطرق التي يمشرع بها مجتمع ما التصنيف الاجتماعي والثقافي لأفراده، من خلال بنيات العلاقات الاجتماعية، فإنهم ينفذون إلى الطبيعة التبادلية ما بين المجتمع، وتلك البنيات كما أنهم يستبصرون الوسائل الدقيقة المحددة سياقيًا، التي يتم من خلالها تدخل عامل قد يبدو بعيداً عن التأثير في تلك البنيات ألا وهو عامل المعطيات السياسية (4).

أما اختياري حملة نابليون على مصر بالذات، فربما بدت الأسباب من ورائه أجلى بعد الإيضاح التالي. إن حملة نابليون يؤرخ لها بوصفها نقطة بداية تاريخ مصر الحديث كما سبق، وتاريخ مصر الحديث مركب ومعقد بعلاقاته المتشابكة مع الاستعمار الحديث، وهي علاقات نتج عنها خطاب يتسم بالتشوش فيما يخص الحداثة ومظاهرها. وما من شك أن الكل (نساءً ورجالاً)، يعانى من البلبلة في القيم والمعايير التي ترتبت على عدم وضوح الحدود بين الاستعمار المستهدف السيطرة السياسية والاقتصادية، وما يصاحبه من استحداثات تقنية لخدمة أهدافه، والشق المواكب والمتمثل في سلوك الفرد المنتمي إلى الجماعة الاستعمارية، ولاسيما إذا كان سلوكاً جديراً بالاحترام (النظام، الحرص على الوقت، احترام حقوق الآخرين، على المستوى الشخصي الفردى.. إلخ). ومما يعقد الصورة حقيقة انعكاس تلك القيم على المجتمع المستعمر، الذي تتخذ سماته المغايرة ذريعة لإذكاء روح التفوق لدى الجماعة المستعمرة، لا في المجالات التي أسميناها فقط، ولكن في مجالات أخرى لا تحتمل المقارنة على أساس من حكم القيمة، مثل اللون والدين، والقواعد التي تتحكم في علاقات الأفراد، النابعة من تاريخ مجتمعهم ومعطياته. وبذلك تهتز ثقة أفراد المجتمع المستعمر في أسلوب حياتهم ويتعرقل أى مشروع أصيل للإصلاح، أو ينتفي كلية، لما يتسبب فيه ذلك الظرف من وضع هؤلاء الأفراد في موضع دفاعي، يصعب معه تجاهل الصورةالمصدرة لهم عن أنفسهم، وبالتالي يزوغ منهم هدف الإصلاح الحقيقى، ويتوه في متاهات قضايا مفتعلة قائمة على ردود الأفعال، بديلاً عن المبادرات الأصيلة. لقد نتج عن كل هذا التشوش الذي يشترك فيه كل من قطبى التجربة الاستعمارية علاقة مرآويةمع الآخر، مستعمر الأمس وامتداداته الآنية، يتجلى استمرارها في استمرار الخطاب الذى يحاول جاهداً الخروج من خانة التبعية الثقافية، من خلال البحث عن توفيق ما يؤلف بين شقى المعادلة الصعبة: “الأصالة والمعاصرة، الحداثة والتراث، المستقبلية والسلفية، إلى آخر تلك المسميات المضببة، المموهة للقضية الأساسية، وهي عدم توفر كتابة تاريخية تهتم على نحو دقيق بتوصيف ركائز الاستمرارية الثقافية، وأسباب القطيعة المعرفية المتكررة عبر التاريخ المصري، من وجهة نظر الذات، ودونما اعتبار لمداخلات الآخر، إلا إذا كانت تلك المداخلات تخدم التطور بالنقاش، نحو جمعية جدلية نتخلص بها من تركة الازدواجية المبهمة، التي فرضتها ظروف الاستعمار بحكم ازدواجية خطابه هو ذاته دون أن يعني ذلك التقوقع على الذات، ونبذ المعارف غربية المصدر، بل باستخدام تلك المعارف ذاتها ومناهجها.

إن الحديث عن قضايا المرأة، سواء من منطلق وضعها داخل الأسرة، أو وضعها في القانون، ينم عن خلط نابع عن عدم التتبع التاريخى السياقي لمفهوم الأسرة، وهي الوحدة التي تتمثل ظروف المجتمع وتصب فيه، وتعد المثال الأقرب للبحث في توقعات المجتمع من أفراده، من خلال علاقات الأدوار التي يخولها لهم المجتمع؛ بناء على جنسهم البيولوجي. كما يترتب على عدم البحث التاريخي في أدوار النساء والرجال، داخل وخارج الأسرة من منظور مغاير لكل من الإسلامي السلفي، أو الوافد الغربي، عدم التوصل إلى حلول لمشكلات المجتمع، نابعة من التعرف على جذور تلك المشكلات التاريخية، وبالتالي استحداث أو استيراد حلول يناوئها الواقع وينقضها.

ومن ثم، وبما أن المرء عليه أن يبدأ من نقطة ما، فقد اخترت البدء بالتعامل مع نصين عربيين وصلانا من زمن الحملة، أحدهما أدبى والآخر قانوني، واعتبرتهما بداية الخيط في التحقق من جدوى تتبع الصدع الذي أحدثه خطاب الكولونيالية في إدراك التطورات التي لحقت بصورة الذات من منظور تاريخي. أما النص الأول، فمقامة للأديب الرئيس الشيخ حسن العطار في الفرنسيس، حققها بيتر جران في كتابه الجذور الرأسمالية للإسلامعن مخطوطة في دار الكتب. والنص الثاني، هو شروط زواج عبد الله (جاك) مينو، أحد قواد نابليون وحاكم رشيد في بداية الحملة، ثم قائدها العام بعد مقتل كليبر من زبيدة بنت السيد محمد البواب المعروفة بزبيدة الرشيدية، عن مخطوط من محكمة رشيد، حققه الدكتور على بهجت قبل مائة عام، وتربط بينهما فقرة من تاريخ الجبرتي (عجائب الآثار)، يتحدث فيها عن سفور النساء وقت حملة نابليون، ثم استطلاع انعكاس تلك الزيجة في كتاب تاريخ الفكر المصري للدكتور لويس عوض.

وسوف يتبدى القارئ السبب، وراء اختصاص تلك النصوص دون غيرها، فيما يلى:

لقد توفرت لدينا منذ منتصف الثمانينيات العديد من الأبحاث التي تحوى أدلة قوية على عدم صحة التصور الذي يقدم المجتمع المصري في الأدبيات الغربية الأنثروبولوجية على أنه مجتمع كان ويظل مجتمعا أحادي السمات، تظهر فيه العائلة، على حد وصف جوديث تاكر على أنها وحدة ممتدة من بترياركية النسب، حافظت على اكتمالها، ولو جزئياً، من خلال الزواج المرتب لفتيات صغيرات في الغالب من أولاد عمومتهن(5). ولكن، وعلى الرغم من أهمية تلك الدراسات وثرائها، إلا إنها قلما تتعرض لأشكال المقاومة، التي تسبب فيها خطاب الحداثة والتحديث، لكثير من المطالب المشروعة والعادلة للمصريين اليوم، سواء كانوا رجالاً أو نساءً. حتى أن عفاف لطفي السيد مارسو على سبيل المثال تنهى دراستها البديعة القيمة عن النساء والرجال في مصر، في نهايات القرن الثامن عشربقولها:

إن الأصوات المعاصرة مثل صوت الشيخ الغزالي، وهو الذي أشار بعدم وجود عورة في النساء تمنعهم من الخروج إلى العمل، نادرة في عالمنا المعاصر” (هكذا) (6). وبذا، وفي جملة واحدة، تنكص عفاف لطفي السيد أطروحتها التي بنتها عبر كتاب بأكمله، أثبتت على مداه التأثير السلبي الذي تسبب فيه نظام الدولة المستحدث على الطريقة الأوروبية، على تواجد النساء في السوق. فتضع أطروحتها الأصلية، على مسار يؤكد جوهرية دور رجال الفقه، ويتعامى عن الأصوات التقدمية التي تخوض معركة ضروسًا مع الفكر السلفي، الذي أثبت الشيخ الغزالى أنه من أساطينه، من ناحية، كما يؤكد كلامها هذا من ناحية أخرى، وجهة النظر المتمركزة أوروبياً وأمريكيًا، والتي تقول بأن الأمور في مصر قد آلت إلى السلفيين، أو هي في طريقها إلى ذلك. وما من شك، أن إحدى الوسائل الممكنة للتأكد من أن مستقبل المصريين والنساء منهم على وجه الخصوص، لن يترك عرضة لتقلبات أمزجة الفقهاء، هو اهتمامنا بوضع الأسئلة التي تخص قضايانا الثقافية والاجتماعية على نحو سياقي يشمل ويتضمن تاريخ نظرتنا إلى العلم والعلماء، ويصف ردود أفعالهم للمؤثرات الاستعمارية والاقتصادية والسياسية المختلفة. لو أننا، إضافة إلى ذلك، كان في مقدورنا التعامل مع موضوع العلماء و مسألة النساء، على سبيل المثال، من خارج حدود خطاب المركزية الأوروبية، أو على الأقل بوعى به، لتولد لدينا كم من الأسئلة المثيرة الطازجة، عن المدى الذي تدخلت به تلك المركزية من خلال جهود أبناء الأمة المصرية ذاتها؛ لخلق ردود الأفعال المتطرفة التي نشهدها اليوم في ساحة النقاش الثقافي، حول مفاهيم التبعية والأصالة.

ولنبدأ بمقامة الشيخ حسن العطار التي يستهلها هكذا: “حدثني بعض الأخوة من أهل الخلاعة والنشوة أنه لما أزعج الفرنسيس الناس يوم الثلاثاء وجعل أكثرهم في الشوارع مهرولاً لهاث خرجت من دارى لا أدرى أين يكون قراري“. بعدها يصف العطار توجهه لبيت صديق له وكيف صادف بالحارة التي يسكنها ذلك الصديق فتية برزن كالشموس وهن يتمايلن تمايل العروس بوجوه سدل عليها الحسن جلبابة“. فلا ندرى إذا كانت تقاليد العصر هي السبب وراء عدم اتفاق وصف فتيةمع نون النسوة المستعملة في المواضع الأخرى من ذات الوصف، أم أن ذلك خطأ لغوى كان شائعاً في ذلك الوقت!. وعلى كل الحال وأياً كانت الإجابة، فإن المقامة تقطع علينا الشك باليقين عندما يصبح واحد من هؤلاء الفتيةموضوعاً لقصيدة يقدم لها العطار بقوله: “وأرانى فتى منهم كتاباً وجدد معى كلاماً وخطابًا، فإذا عربيته خالصة من كل لكنة وألفاظه معراة عن وصمة الهجنة وأخذ يتعرف ببعض كتب الأفاضل والأكابر وذكر ما تحويه يده من الكتب والدفاتر“.

ومن هنا تبدأ الأمور في التصاعد السريع حيث يصف العطار كيف استولى عليه الإعجاب بالفتى حتى أنه على حدة قوله غلب عليه شيطان المحبة واستحوزوطفق طول ليله سهران ولروية الصباح كالولهان“. فحمله عدم النوم أن ينظم في صاحبة أبياتًا، فقال:

رأى المحبة من عينى فخاطبني         بدر لفظ به لطف وتأنيث

تجانس الحسن في مراء حين غدا             بين الكلام وبين الثغر تجنيس

وصاد عقلى بلفتات فواعجبا            حتى على العقل قد تسطو الفرنسيس

وينتهى هذا اللقاء وفقاً لما جاء في المقامة بإصرار الفرنسيين على مكوث الكاتب بينهم فترة أطول، إلا أنه يعتذر عن ذلك في لباقة: “سوفت في الإجابة وأضمرت عدم الإنابة علمًا منى بأن هذا أمر تفوق على منه سهام الملام وترمقنى بالعداوة والاحتقار كافة الآنام فرجعت لرشدى أقتفيه واستغفرت الله مما كنت فيه(۷).

من الجدير بالذكر، قبل التطرق إلى بعض الأسئلة التي يفرضها علينا هذا النص، أن بيتر جران يؤكد أن المراجع الفرنسية المطبوعة عن تلك الفترة، لم تشر إلى الشيخ حسن العطار، ومن ثم، فإن جران يشكك في واقعية المستشرقين الذين قد يتراءى لمن يقرأ المقامة أن العطار عرفهم.

لكن السؤال هنا ليس عن العملية الإبداعية، ولا عن مغزى تشكيك جران في تاريخية المستشرقين الذين من الممكن أن يكون العطار قد قابلهم، أو لم يقابلهم، بقدر ما هو سؤال عن المناخ الثقافي والاجتماعي السائد آنذاك، والذي اعتاد المؤرخون وصفه بالتفسخ والانحلال منذ عصر النهضة المصرية في بدايات هذا القرن. أما ونحن على مشارف نهاية القرن، فمقامة العطار تواجهنا بأمور غير متوقعة، من أدب نهاية القرن الثامن عشر، أولها هو الولع بالمعرفة، الذي يغلف النص ككل، ويتسبب في غرام الشيخ بالفتى: “هؤلاء القوم كل يعاني غوامض المعرفة ويقتفيها ويجيل ذهنه في تحصيل دقائق الأدب ويعتنيها، إن اللفتات العجاب إذن التي يجيء ذكرها في الأبيات التي أوردناها، ذات علاقة وثيقة بشبق من نوع آخر: “فلما استقر بي الجلوس أخذن يدرن من المنادمة على سمعي حميا الكؤس (هكذا)، وأرينني من الكتب الصغير والكبير والنكر عندى والشهير وكلها في العلوم الرياضية والأدبية“. الملاحظة الأولى، قبل العودة إلى سؤالنا الجوهرى، هو أن ذات المقامة تحوى أبياتًا كتبت على نحو واضح لامرأة:

خذ لي أمانا من لواحظ التي            ملات فؤادي أسهما ونبالا

سفكت دمى والحرام أراقته            فبأي ذنب صيرته حلالا

الملاحظة الثانية، هي وضوح صحة ما في قلب المرض. أما المرض فهو التعامل مع الأدب، على أساس من أنه أشكال جاهزة تملأ بأي موضوع كان، وما يترتب على ذلك من تقديم للصنعة عما سواها، وسيادة التقليد. لكن غياب الرقابة الذاتية عن أمور العشق (سواء المثلى أو الغيرى) يوحى بقدر من التسامح مع الأدب يبدو مدهشًا، إذا ماقيس بالمعايير التي سادت بعد ذلك بقليل، إبان عصر النهضة المصرية. إن محاولة التعامل مع تلك الإشكالية وحدها، يقع تحت نطاق بحث مقبل. أما هنا ونحن بصدد رسم الخطوط العريضة لبحث علاقة قضية المرأة المصرية بخطاب التحديث والتطور، فتكفينا محاولة الرد على السؤال الأكثر إلحاحاً في سياقنا:

هل كان تسامح (أو تفسخ) المجتمع أخلاقياً (أي جنسياً)، كما استتب في عمومه، تسامحاً مع موضوع الأدب كذلك؟. حتى نستطيع تصور أن مقامة مثل هذه التي اقتبسنا منها اليسير، كان من الممكن أن تتلى في مكان عام، دون أن يكون في ذلك تهديد لمكانة كاتبها في المجتمع؟. نجد جزءًا من الإجابة عن سؤالنا لدى شيخ مؤرخى القرن التاسع عشر، عبد الرحمن الجبرتي.

إن حسن العطار ليس من زمرة المشايخ الذين وصفهم الجبرتي المحترم المحافظ، بأنهم: “قد زالت عنهم هيبتهم ووقارهم من النفوس وانهمكوا في الأمور الدنيوية والحظوظ النفسانية والوساوس الشيطانية(۸). فلا يخفي علينا أن العطار لم يكن من فئة المعممين التي احتلت الدرك الأسفل من طبقة العلماء؛ فهو كاتب غزير في مجالات الطب والفقه والمنطق والتاريخ والجغرافيا، وكان المحرر العربي للوقائع المصرية، كما أنه عين شيخا للأزهر عام ۱۸۳۰، وإن كان ذلك في حد ذاته لا يعنى أنه الممثل الأكمل من وجهة نظرنا في أخريات القرن العشرين على الأقل، لعلماء تلك الحقبة. فمن المؤكد، أن الجبرتي على سبيل المثال كان ذا شخصية أميل إلى الوقار، وفكر أقرب إلى الإصلاح الديني، وروح أنزع إلى البيوريتانية من قرينه، الذي تبوأ مشيخة الأزهر، وكان من قبل يحضر معه صالون الوفائية الثقافي، وهو أحد التجمعات التي كان لها أثر بعيد في تكوين شباب الكتاب، في نهاية القرن الثامن عشر (۹). لقد كان حس الجبرتي الإصلاحي هو ما جعله يدرج في حولياته الدقيقة الممتعة، صورًا لنساء ورجال في مواضع احتفالية أشبه بالاحتفالات الباخوسية. ولكن ما من شك أن صراحته المذهلة في هذا الصدد تقلب نموذج الإصلاح المتخندق، في خانة الدفاع عن الإسلام الذي شهدناه فيما بعد. وذلك لأن الجبرتي، لا يخاف أن يسمى المسميات بأسمائها، فيضرب الأمثال الحية على ما يرى هو، أنه لا يصح في خطاب غير معقد، باعتبارات صورته لدى الآخر. ولكن ذلك حديث نرجئه إلى حينه. إن الجبرتي لا يجد أدنى حرج في أن يقول صراحة إن العلماء ذاتهم، والأكابر من الرجال، كانوا يشاركون العامة (من الجنسين) تلك الممارسات، فيصف لنا على سبيل المثال بعد تعليق مقتضب، في موضوعية باردة، عن الكيفية التي أصبح بها عبد الوهاب بن عبد السلام، صاحب کرامات ظاهرة وأنوار ساطعة، مولد الرجل حيث يجتمع في قوله:

العالم الأكبر من أخلاط الناس وخواصهم وعوامهم وفلاحى الأرياف وأرباب الملاهي والملاعب والغوازي والبغايا والقرادين والحواة فيملأون الصحراء والبستان فيطأون القبور ويقيدون عليها النيران ويصبون عليها القازورات ويبولون ويغوطون ويزنون ويلوطون ويلعبون ويرقصون ويضربون بالطبول والزمور ليلاً ونهاراً ويستمر ذلك نحو عشرة أيام أو أكثر، ويجتمع أيضًا الفقهاء والعلماء وينصبون لهم خياماً أيضاً، ويقتدى بهم الأكابر من الأمراء والتجار والعامة من غير إنكار، بل ويعتقدون ذلك قربة وعبادة ولو لم يكن كذلك لأنكره العلماء فضلاً عن كونهم يفعلونه“. ثم يضيف في نبرة آسية تنم عن قلة الحيلة: “فالله يتولى هدانا أجمعين(١٠).

إن عدم ظهور النساء المحصنات” “المخدرات، في مثل تلك الاحتفالات كاشف وحيوي، بقدر ما هو مفروغ منه، ومتفق عليه، ولكن أين موقع نساء الطبقة المتوسطة والعليا، زوجات وأخوات وأمهات وبنات الأكابر من العلماء والتجار والأمراء؛ حال انعقاد تلك الاحتفالات المثيرة؟.

إن الأوصاف التي وصلتنا عن مظاهر الترويح والترفيه عن أولئك النسوة تصورهن في عزلة حريم منظم نظيف يسوده الخفر والهدوء، ذي نظام صارم في الإتيكيت ومراعاة قواعد السلوك، يستمتعن فيه برقص العوالم والموسيقى، وقد يرقصن هن أنفسهن؛ إذا استبد بهن الطرب. وكن يقمن الحفلات الموسيقية في الحمامات الخاصة في البيوت الميسورة، أو في الحمامات العامة، لمن هن أقل ثراء؛ حيث كان يقوم على إطرابهن موسيقيون من العميان!. فهل يعني ذلك، بخلاف أنه يعنى ازدواجية في القيم، أن نساء الطبقات الميسورة دون غيرهن من سائر فئات المجتمع، كان يقع على عاتقهن وحدهن مسئولية الحفاظ على صورة المجتمع المثلى عن نفسه؟. وهل كانت تلك الصورة أصيلة أم دخيلة؟. بمعنى، هل كانت تلك الصورة مجرد استيفاء لشروط التفوق الطبقي، مضاهاة لتقاليد الطبقة المهيمنة سياسياً واقتصادياً، ومن ثم ثقافيًا؟. (الأتراك)؟. أم أن المجتمع المصري كان على قناعة مبدئية تامة، بفكرة عزل النساء وتغطيتهن؟. وإذا كان ذلك كذلك، فكيف نفسر عدم انطباق تلك القواعد على النساء من الفلاحين، ونساء الطبقات الأخرى؟ ولو افترضنا أن العامل الرئيسي في حرية حركة النساء، من الطبقات الفقيرة، مرجعه اقتصادى، فكيف نفسر استعداد نساء الطبقات الميسورة، للخروج سافرات، عند سنوح أول فرصة لذلك؟. ما تفسير الظاهرة التي أسماها لويس عوض ثورة النساء، وأسماها الجبرتى تبرج النساء، وخروج غالبهن عن الحشمة والحياء؟.

من المؤكد، أن نساء القاهرة المضروبة عليهن عزلة اقتضاها وضعهن الاجتماعي، ثرن على نحو أو آخر على أوضاع الحريم المقيدة بداية من عام ۱۸۰۰، ولكن الأمور سرعان ما عادت إلى نصابها باستعادة الأتراك الزمام، لدى رحيل الحملة الفرنسية، وعقابهم الرادع لكل من تعاون مع الفرنسيين، وإن كان حد العقاب لم يصل مداه (الموت) إلا بالنسبة إلى النساء. ففي حين جرس الشيخ البكرى، خلال ثورة القاهرة الثانية، وأهين على الملأ، قتلت ابنته المراهقة زينب (قطمت رقبتها) لاتصالها بالفرنسيين، بعد أن جاوا بها إليه وسألوه عما هو فاعل بها، فقال إنه يتبرأ منها، وهو الذى كان يحتفي بالفرنسيين في داره، ويبتذل نفسه في مجاملتهم حتى إنه أهدى غلامه المفضل لنابليون. كما قتلت هوى زوجة إسماعيل كاشف، أحد أمراء المماليك، على يد زوجها، بعد استئذانه الوزير العثماني، وبعد أن أعطت هوى الأمان للرجوع (۱۱).

ومهما كانت الأسباب وراء خروج النساء هذا، يبقى أمر أكثر جدارة بالاهتمام على الأقل بالنسبة إلى المنظور الذى تبنيناه طيلة هذه الورقة: ألا وهو كيفية تباين التفسيرات لتلك الظاهرة الموقوتة؟ ولنبدأ بالجبرتي. يقول الجبرتي تحت شهر ذي الحجة سنة ١٢١٥هـ (مايو ۱۸۰۱) { لويس عوض، يدرج هذا التاريخ على أنه في عام ۱۸۰۰، وقد يكون محقاً}: “وفيها تبرج النساء وخروج غالبهن عن الحشمة والحياء. وهو أنه لما حضر الفرنسيس إلى مصر ومع البعض منهم نساؤهم كانوا يمشون في الشوارع حاسرات الوجوه لابسات الفساتين والمناديل الحرير الملونة ويسدان على مناكبهن الطرح الكشميري والمزركشات المصبوغة ويركبن الخيول والحمير ويسوقونها سوقاً عنيفاً مع الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية معهم وحرافيش العامة فمالت إليهم نفوس أهل الأهواء من النساء الأسافل والفواحش فتداخلن معهم لخضوعهم للنساء وبذل الأموال لهن وكان ذلك التداخل أولاً مع بعض الاحتشام وخشية عار ومبالغة في إخفائه(۱۲).

إن رواية الجبرتي كما سيتضح، تتبع نهجًا تسلسليًا؛ يوحى بجهد يرجو عقلنة تلك الأحداث، كما يوحي بحرصه التام، الذي يكاد يكون مضجراً في بعض الأحيان على نقل الحقيقة بحذافيرها، وهي الصيغة التي يتيحها جنس الحوليات الأقرب دون شك إلى النهج الأكاديمي، الذي تعرض له الجبرتي وأقرانه في الأزهر، والذى يؤكد على الالتزام التام بالحقائق دون المجازفة بنبرة الحياد التام، في سبيل إقناع القارئ بوجهة نظر ما“. للمرة الثانية، خلال هذا البحث، نلتقى بمظهر للمرض يكشف عن جوهر صحيح. ففي محاولة توخى كل الصدق، ينتهى تاريخ الجبرتي إلى قاموس طويل تصعب قراءته، إلا على من يتخذ منها مهمة بحثية. ومع هذا، يظل هذا المظهر الرتيب الصعب المتطرف في موضوعيته، أقرب إلى الصدق والتصديق من روايات التاريخ الرومانسية المليئة بأحكام القيمة المستغلة لمنابر الكتابة التاريخية؛ للتأثير في العقول؛ انحيازاً إلى وجهة نظر دون أخرى.{ انظر على سبيل المثال فقط: كتاب هيرولد نابليون في مصر، وهو أقرب إلى رواية أدبية ممتعة. وأسوقه هنا لأنه مثال متأخر، وأقرب إلينا، فقد نشر هذا الكتاب عام ١٩٦٨}.

ومع هذا، وعلى الرغم من صرامة المنهج الذي يتبعه الجبرتي، فإنه استطاع أن يومئ إلى اتجاه انحيازاته، دون أن يدين، أو يفقد نبرته الهادئة، من خلال أسلوب ينظر له بكثير من الاحترام إذا ما اتبع في يومنا هذا وهو أسلوب عدم الإثارة.

إذا نحن عدنا برهة إلى الفقرة التي أدرجناها عاليه؛ للتعليق على ما جاء فيها، قبل التدرج مع الجبرتي، حتى نهاية قصة سفور النساء تلك، وجدنا الآتى: إن موقف الجبرتي من سلوك الفرنسيات موقف طبقى. فإن ما يثير حفيظته، ليس بالتحديد هو الخروج إلى الشوارع و الفساتينوألوانها، وإنما السلوك غير اللائق من قهقهةوسوق الحمير بعنف، والتبسط مع المكارية في الشارع، وهو سلوك، ربما لم تكن تعيره صالونات حكومة الدريكتوار، اهتمامًا، ولكن من المؤكد، أن ممثلى النظام الارستقراطي البائد (lancien regime)، ما كانوا لينظروا بعين العطف إلى مثل ذلك السلوك، لو أنهم شاهدوه في شوارع باريس. إن أسلوب الجبرتى في تلك الفقرة، لا يشى بأية محاولة لتبرير موقف المصريات اللواتي انضممن إلى الفرنسيين في هذا اللهو؛ فهن وبعد كل شئ أسافلوفواحشغرهن بذل الأموال. لكنه حين يجد نفسه مضطرًا إلى إكمال الصورة وفقاً لمنهج كل الحقيقة، يفاجئنا بنبرة تبريرية يحاول من خلالها إلقاء اللوم على الفرنسيين فيما ذهبت إليه نساء لا تفصله عنهن حدود طبقية، فيقول: “فلما وقعت الفتنة الأخيرة بمصر وحاربت الفرنسيس بولاق وفتكوا في أهلها وغنموا أموالها وأخذوا ما استحسنوه من النساء والبنات صرن مأسورات عندهم فزیوهن بزى نسائهم وأجروهن على طريقتهن في كامل الأحوال“. ثم يسرع بنا، ويخلط بين المأسورات وغيرهن من النساء الفواجر، ويعود ليبرر ما حدث بإلقاء اللوم على سلب الفرنسيس للأموال، في فقرة مرتبكة ندرجها هنا بالكامل؛ لنعود إلى التعليق عليها من زاوية أخرى: “فخلع أكثرهن نقاب الحياء بالكلية وتداخل مع أولئك المأسورات غيرهن من النساء الفواجر، ولما حل بأهل البلاد من الذل والهوان وسلب الأموال واجتماع الخيرات في حوز الفرنسيس ومن والاهم وشدة رغبتهم في النساء وخضوعهن لهن وموافقة مرادهن وعدم مخالفة هواهن ولو شتمته أو ضربته بتاموستها (نعلها) فطرحن الحشمة والوقار والمبالاة والاعتبار واستملن نظراءهن واختلسن عقولهن لميل النفوس إلى الشهوات، وخصوصاً عقول القاصرات وخطب الكثير منهم بنات الأعيان وتزوجوهن رغبة في سلطانهم ونوالهم(۱۳).

وبذا، يطرح الجبرتي بعد لف ودوران سببًا جوهريًا في سلوك المصريات، وهو شدة رغبة الفرنسيين في النساء، الذي تنم عنه، المعاملة المتسامحة مع نزقهن ولو ضربته بتاموستها، فيشير بذلك إشارة بليغة إلى المسكوت عنه أو المفروغ منه. كما أنه يحدد موقع انحيازاته الخاصة، فيما يتعلق بالتساهل مع النساء. وهو ما يتعارض، مع رأي لويس عوض، في أن موقف الجبرتي من الفرنسيين، كان موقفاً وطنياً، وأحرى بنا الظن، أنه كان موقفاً طبقياً.

فلو انتقلنا من الجبرتي إلى كلوت بك، الذى يشير إلى الظاهرة نفسها، ومنه إلى لويس عوض، الذي يتعرض لها كذلك، في تاريخ الفكر المصري، نجد أنفسنا أمام كم لا يستهان به من الإشارات، فيما يتعلق بسؤال طرحناه في البداية. ألا وهو: ما مدى تأثير الخطاب المتمركز أوروبياً في إدراك مسألة النساءتلك؟

ومع علمي، أن ما أعرضه هنا ليس سوى شق واحد من الموضوع الذي لن يكتمل إلا بتحرى ظروف النساء الفرنسيات خلال الفترة ذاتها، ومع علمى كذلك أن عينة النصوص التي أوردها، لا تكفي لتمثيل خطاب بأكمله يرجع تاريخه إلى الشطر الثاني، من القرن التاسع عشر، إلا أن الأمثلة التي سأوردها فيما يلي، تكفي مبدئياً لإلقاء قدر من الضوء، على اتجاه أطروحتي الأساسية، التي لن تكتمل على أية حال، إلا حال ملء كل الفجوات التي طرحت طيلة هذا البحث، على صيغة أسئلة، في أوراق قادمة.

ولنبدأ بما قاله كلوت بك الطبيب الفرنسي الذي جاء إلى مصر في أعقاب الحملة الفرنسية، وولاه محمد على إدارة القصر العيني. يقول كلوت بك، في كتابه لمحة عامة إلى مصر، تحت عنوان حكاية نابليون بونابرت” : “تزوج جاك مينو بامرأة من رشيد، وعاملها معاملة السيدات الفرنسيات؛ إذ كان يمد إليها يده كلما هم بالدخول معها إلى غرفة الطعام، ويتحرى لها أوفق المجالس، ويقدم إليها خير الأطعمة وأشهاها. وكان إذا سقط منديل الطعام الموضوع على فخذيها بادر بأخذه وإعادته مكانه. فلما روت تلك المرأة هذه الأمور على صاحباتها في أحد حمامات رشيد لاحت لهاته النسوة بارقة أمل في تغير أحوالهن وعاداتهن وحررن عرضا قدمنه إلى السلطان الكبير بونابرته ليحمل أزواجهن على معاملتهن بمثل ما يعامل مينو زوجته الرشيدية به(١٤).

وملاحظتي الأولى على هذه الحكاية التي يقول كلوت بك، إنها وردت على لسان نابليون، هو القناعة التي يدرج بها الكاتب أفضلية المعاملة الفرنسية، من قبل الرجال المهذبين (مينو كان ماركيزا قبل الثورة، وكان كل همه بعدها، هو إثبات ولائه للجمهورية) (١٥)، والتي توفر لنا مثالاً، على ما يعتبر مركزيًا، وما يعتبر هامشيًا، في سرد كلوت بك للواقعة. المرأة من رشيد، على الرغم من أنها زوجة أحد قواد الحملة، إلا أن اسمها لا يذكر. بل إن ظرف الزواج ذاته، ينتقص من جديته أسلوب الحديث: “امرأة من رشيد، وزوجته الرشيدية، في مقابل السيدات الفرنسياتاللواتي يضيف إليهن أداة التعريف؛ للاحترام الذي يستأهلنه، ولا تستأهله زبيدة بنت السيد محمد البواب الرشيدى التاجر، وصاحب الحمامات، والتي يذكرها الجبرتي بكل احترام في قوله حضرت زوجة سارى عسكر في صحبة أخيها السيد على الرشيدي وطلعت إلى القلعة (١٦). أما الملاحظة الثانية، فهى مدى قشرية مفهوم الاحترام لدى كلوت بك. فكأن احترام النساء، يقف لدى مظاهر الاهتمام الصبيانية من فتح الأبواب، وتحرى أوفق المجالس.. إلخ. وهى المعاملة التي رفضتها فيما بعد النساء الغربيات، وكشفن عن مدى ما تحويه من نفاق، لأنها لم تكن مقرونة باهتمام مثيل في الحقوق، سواء القانونية أو الأسرية أو السياسية.

وليس في أى مما جاء في تلك الفقرة، أى شئ يثير العجب في الواقع، فالخطاب معتاد، كما أنه تلقى الضربة القاضية على يد إدوارد سعيد، النسويات الغربيات من زمن، المثير الخيال هو، قراءة الحكاية ذاتها، من منظور مصرى في الشطر الثاني، من القرن العشرين؛ فنقرأ: “في بعض تواريخ الحملة الفرنسية، أن النساء في رشيد قمن بمظاهرة طالبن فيها حاكم رشيد، الجنرال عبد الله مينو، بأن يتدخل حتى يسمح لهن رجالهن بالتردد، على الحمامات العامة في المدينة، وأن تخصص بعض هذه الحمامات للنساء. وهذه فيما نعلم أول مظاهرة نسائية قامت في مصر على الأقل في العصر الحديث. أما كيف نشأت هذه المظاهرة، فربما نبتت فكرتها في أسرة الشيخ على الرشيدي، الذي تزوج عبد الله مینو ابنته، بعد أن أشهر إسلامهوقد ورد في تاريخ الحملة لجونكيير، أن صهر عبد الله مينو هذا، كان صاحب حمامات في مدينة رشيد، وربما كان أميراً في دولة الحمامات. وبهذا يبدو في الظاهر أن المظاهرة النسائية قد قصد بها إلى ترويج بضاعته، وملء خزانته. ولكن، أيا كانت أسبابها وملابساتها، فالذي لاشك فيه، أن خروج نساء رشيد في مظاهرة عامة، يجب أن يعد حدثًا هامًا في تاريخ المرأة المصرية، وفي تاريخ الدعوة لتحرير المرأة في مصر(١٧).

والسؤال بالطبع هو: لماذا يعتم تاريخيًا على ذلك الحدث؟ أو بالأحرى، لماذا يعامل عندما يشار إليه باستخفاف، ينم عليه أسلوب التعامل معه، كما رأينا من حكايةكلوت بك، وكما يتجلى كذلك من كلام لويس عوض ذاته، في الفقرة السابقة. ولنحاول تأمل نقاطها:

يعتمد لويس عوض رواية جونكيير، فيتسبب ذلك مبدئياً في خلط الأسماء. إن اسم رب الأسرة التي يشير إليها لويس عوض، يرد في شروط عقد زواج ابنته زبيدة من عبد الله مينو، وهو حسب تلك الوثيقة السيد محمد البواب“.

تحميل المظاهرة سمة نفعية خاصة بعائلة واحدة.

إبداء الحمام، وكأنه مؤسسة موقوفة على الرجال.

ولنقف برهة مع تلك النقطة الأخيرة، بما أن النقاط السابقة محلولة سلفًا.

عدم معقولية القول، بأن الرجال المصريين، هم من حرم على النساء الذهاب إلى الحمامات، التي كانت من ركائز الحياة الاجتماعية للنساء بالذات، في ذلك الوقت، الأقرب إلى التصديق، ومن داخل منطق الرواية ذاته، حتى قبل تحرى موقف الفرنسيين من الحمامات، هو أن الحمامات أغلقت لسبب ما. وبما أن النساء كانت لهن المصلحة الأكبر، في بقائها مفتوحة؛ لما تمثل لهن من فرص للترفيه خارج البيوت، قمن برفع تظلمهن إلى حاكم رشيد، في صورة احتجاج أو مظاهرة. ضد حكم أصدره هو بغلق الحمامات لما تمثله من أماكن للتجمع قد تكون مصدراً للتذمر والثورة.

ومما يعضض ذلك، الفصول التي أفردها كل من كلوت بك، وإدوارد لين، ودى شابرول؛ حيث يصفون الحمام على أساس من دوره الحيوى في النظام الصحى والاجتماعي للمصريين رجال ونساء. ونكتفي فيما يلى باقتباسات قصيرة من كتابات كل من كلوت بك، ودى شابرول، وإدوارد لين. يقول كلوت بك في كتابه لمحة عامة إلى مصر، تحت عنوان الحمامات“: “…إن عدد الحمامات العمومية عظيم جداً في القطر المصري، والموجود الآن منها في القاهرة سبعون حماماً، بعضها مخصص للرجال دون غيرهم، والبعض الآخر للنساء والأطفال، والشطر الأكبر منها للرجال والنساء، على أن تخصص في الصباح للرجال وبعد الظهر للنساء. فإذا كان الحمام مشغولاً بالنساء، علقوا ببابه قطعة من قماش الكتان أو الجوخ؛ إشعاراً للرجال بأنهم لا يجوز لهم الدخول في الحمام. وفي كل حمام خدم من الذكور، لمباشرة تنظيف الرجال وغسلهم، وخدم من النساء لأداء هذا الواجب نحو السيدات(۱۸).

أما دي شابرول، فيقول تحت عنوان الحمامات العامة“: “ولا تختلف الخدمة التي تحصل عليها المرأة، ولا طريقة استحمامها، عما قلناه بخصوص الرجال، فيما عدا أن قطعة الصوف التي يدلك بها الجسم، تكون أكثر نعومة لحد طيب، وأنهن يستهلكن قدراً كبيراً من الصابون. وتسرف سيدات الطبقة الراقية، في استهلاك العطور، وماء الورد، وهو ترف لا تقدر عليه الأخريات(۱۹).

وأخيراً لين: “إن المسرات التي تبهج النساء في مصر، تتصدرها زيارة الحمام(۲۰).

الأمر إذن لا علاقة له بالرجال المصريين، وإنما بأوامر حاكم الثغر العسكري. لكن وجهة نظر لويس عوض (وهى ممثل طيب على تيار فكرى بأسره)، تنحو به نحو موقف أدرجه في تلك المنطقة التي أسميناها القناعة بظهور الشيء على شكل ما، والتعامل مع ذلك المظهر على أنه كل الحقيقة، وهو ما يتجلى في الفقرة التالية، من تاريخ الفكر المصري الحديث، تحت الفصل المعنون تحرير المرأة ۱۸۰۰ حيث يقول: “… إن نهاية عهد محمد على، وهزيمة مصر أمام الاستعمار العثماني والأوروبي، في أواخر الثلاثينات من القرن الماضي، قد صاحبها انتقاص رجعى من حرية المرأة، وصاحبته عودة عنيفة إلى مجتمع الرجال، وإلى مجتمع الغلمان، الذي ورثته مصر عن العصر التركي المملوكي، قبل اتصال مصر بحضارة أوروبا مباشرة، سواء أيام الحكم الفرنسي، أو في عهد محمد على(۲۱).

إن التسلسل المنطقي، الذي أدى إلى هذا الاستنتاج، قائم بالكامل على قياس عن الحرية لا يتعدى حرية الحركة والاختلاط والسفور. ومما هو مفروغ منه، أن ما أقصده هنا ليس على أي وجه من الوجوه دفاعاً عن فكرة الحريم، التي تقوم تحديداً على نفي أو الحد من الحريات الثلاثة سابقة الذكر. وإنما القصد هو الإشارة، إلى اقتران تحرر المرأة المصرية، بما يساويها في المظهر بالأوروبية دون تمحيص حقيقي، عما إذا كانت أيهما تتمتع بصفات الشخص الحر أمام القانون. وربما وضح الجزء التالي من هذه الورقة مقصدي من تلك الإشارة على نحو أكثر دقة.

لقد كانت شروط عقد الزواج التي حفظتها لنا وثائق المحاكم الشرعية، منذ القرن التاسع الميلادي، في مصر من أكثر السبل ضماناً لحقوق النساء؛ لما لها من سمات العقد الذي هو شريعة المتعاقدين. وعلى الرغم من أن المرجعية القانونية، لمثل تلك العقود، كانت هي ذاتها الشريعة الإسلامية، ولم يكن من الممكن إملاء شروط العقد، إلا داخل هذا الإطار، الذي يبيح تعدد الزوجات، والسرايا، ويبيح حق الطلاق غير المشروط للرجل، إلا أن شرعية إضافة أي عدد من البنود المتفق عليها، من قبل طرفي العقد كانت كفيلة بإدخال البنود التي لا تضمن للمرأة حقوقها التي يكفلها لها الشرع فحسب، ولكن أيضًا – بنود تحد من حقوق الرجل، حتى أنها قد تفرغها تماماً من محتواها، كما تثبت لنا الدراسات العديدة الشيقة المستقاة من وثائق المحاكم الشرعية، في العصر العثماني، ونذكر منها دراسات جوديث تاكر، وعفاف لطفی السيد، ومحمد عفيفي، وعبد الرحيم، ونيللي حنا، وعماد أبو غازي، على سبيل المثال. وكانت بعض تلك العقود، تذهب إلى أبعاد غريبة، مثل العقد الذي اشترطت فيه المرأة بطلان زواجها، إذا تغيب الزوج عن محل إقامتها في رشيد أكثر من ستة أيام، أو الأخرى التي اشترطت، أن تكون عصمة أي امرأة أخرى قد يتخذها زوجها في يدها هي (٢٢).

وكان عقد الزواج، طبقاً للشريعة الإسلامية، شكلاً جذابًا حتى للمسحيين؛ وفقاً لكلام محمد عفيفي: “كثيراً ما كان المسيحيون المصريون يلجأون لعقود الزواج الشرعية الإسلامية، على الرغم من أنهم كانوا يقوضون بهذا المسلك ركيزة وأسس الزواج المسيحي، الذي يرفض مبدأ العقد، فيما يتعلق بالزواج، على أساس من أنه مناف للتعاليم المسيحية في هذا الصدد والتي تنظر إلى الزواج، لا على أنه عقد بين طرفين، بل على أنه رباط مقدس أبدى (23).

أما اللافت النظر في تلك المقولة، في سياقنا الحالي، فهو الإبدال والإحلال، الذي يبدو أنه تم على نحو شبه تام عبر قرنين من الزمان، حتى أصبحت فكرة عقد الزواج المشروط، فكرة غير مقبولة لدى الأفراد في المجتمع المصري، كما ثبت بالتجربة العملية؛ حين حاول البعض إعادة بث الروح في الممارسات القديمة؛ فووجهوا برأى عام، ينظر إلى استكمال عقد الزواج الإسلامي الحالي، بشروط على أساس من أنه ينتفي وطبيعة العلاقة بين الزوجين. وهي علاقة قالت عنها عينة البحث، إنها من المفترض أن تكون رباطاً مقدساً، لا اتفاقاً زمنياً! وما من شك، أن تتبع المظاهر ذلك الإبدال والإحلال، والدور الذي لعبته الطبقات الميسورة، في تقليد الطبقات المهيمنة والحاكمة، فيما يتعلق بموقفها من حقوق النساء، سواء كانت تلك الحقوق قانونية، أم كانت حرية الحركة والانتقال مثلاً، لابد وأن ينتج عنها دراسة شيقة جداً تكون قائمة بذاتها. إلا أنها، في نطاق بحثنا الآتى، لا تتوفر لنا فرصة عقد مثل تلك المقارنات؛ وإن كان ذلك لا يمنع التأمل برهة، في شروط عقد زواج عبد الله (جاك) مينو، ساري عسكر القطر المصري“. من زبيدة بنت السيد محمد البواب المعروفة بالرشيدية، وأهم ملامح ذلك العقد الملحق بكامله، آخر هذه الورقة:

1 – أنه دُوِّن في حضور جمع غفير، ضم كلا من المفتى الشافعي، ونائبه، والمفتي المالكي، ونائبه والمفتى الحنبلي، ونائبه، والسيد أحمد بدوى، نقيب الأشراف، وعدد كبير من الأعيان والمشايخ وأمراء المماليك، إلى جانب الضباط الفرنسيين؛ مما يجعل المناسبة تبدو من الأهمية بمكان، ويعطيها صبغة المواقف المسيسة. إلا أن الواقع هو أن تلك سمات لا يختص بها هذا العقد بالذات، وإنما هي سمات الكثير من عقود الطبقة الميسورة.

2 – غياب كل من المفتى الحنفي ونائبه.

3 – أن شروط الزواج دونت بعد العقد بيومين؛ أى أن زبيدة كانت بالفعل زوجة شرعية لمينو عند تدوين شروط العقد.

4 – أن الزواج تم في الخامس والعشرين من رمضان.

5 – وأن بنود العقد إجمالاً – ليست في صالح زبيدة كما هو المتوقع في ذلك الحال. فالشروط تقتضى:

أ حصول مينو على وكالة عامة في التصرف في أموال زبيدة، حاضراً ومستقبلاً، وقصر حقها في التصرف، فيما تحت يدها من مصاغ ومتاع (يعنى منقولات خفيفة).

ب أن يسقط حقها في مؤخر الصداق، لو طلبت هي التطليق.

جـ – حرمانها وأهلها من حق الوصاية على أولادهما القصر، في حالة موت مينو، والعهدة بهم إلى أغراب: واحد فرنسي، وواحد مصرى. في حالة موت الزوجين، يكون الأولاد تحت حماية وإدارة الحكومة الفرنسية.

وخلاصة ما سبق، أنها تحرم من التصرف في مالها، ومن حقها وأهلها في الوصاية على أولادها، في حالة وفاة الأب، والميل إلى تنشئة الأولاد نشئة فرنسية خالصة، عند وفاة الطرفين، وتوقيع عقوبة عليها، بإسقاط مؤخر صداقها، لو طالبت بالطلاق. والواقع أن العقد، كان منحازاً لصالح الزوج، بصرف النظر عن كونه أجنبياً، وممثلاً لجيش مستعمر أجنبي.

شروط عقد زواج مينو وزبيدة

بمحضر كل من مولانا الشيخ أحمد الخضري المفتى الشافعي ومولانا الشيخ محمد صديق النائب والمفتى الحنبلي ومولانا السيد محمد عز النائب والمفتى المالكي والسيد أحمد بدوى نقيب الأشراف والأير محمد بدوى جوربجى سردار مستحفظان وأحمد ايقاجاويس مستحفظان والحاج أحمد جاد يس العسال والحاج محمود اللومي المغربي وإبراهيم الجمال الرزاز والحاج محمد مينو وعبد الله بربر والحاج بدوى الشناوى وأوزن إسماعيل السلانكلي وعلى جاد يس كنحذا البك ولوى جوستف وبكتور جوليان صارى عسكر حاكم ولاية الثغر ولوى جو سنه (ورى رئيس طايفة عسكرية وكتخذا صارى عسكر الآتى ذكره فيه وجان فرنسوا لوى لويكه مهندس وميقاتي الجيش الفرنساوى وكويزى وانولى باش حكم القرنتينه دام كمالهم.

صدر التوافق والتراخى بين الحاج حسين بن السيد محمد الميقاتي الوكيل الشرعي عن زبيدة المرأة بنت السيد محمد البواب الثابت معرفتهما وتوكيله عنها فيما يذكر فيه بشهادة كل من أخيها لأمها السيد على الحمامي بن حسن البواب والسيد أحمد وشقيقه السيد ابراهيم بن السيد سليمان النقرزان الثبوت الشرعى وبين الحاج أحمد شهاب الحاضر معه بالمجلس القائم فيما ذكر بوكالته الشرعية عن عبد الله باشا مينو صارى عسكر القطر المصري حالا الثابت صريحًا بالمجلس تم التصديق على ذلك التصديق الشرعي وهو زوج زبيدة الموكلة بموجب كتاب الزوجية المسطر بمحكمة الثغر المؤرخ كأمس عشرين شهرًا تاریخه أدناه على شروط تكون وتوجد بين عبد الله باشا مينو وبين زوجته زبيدة بإقرار الوكيلين المذكورين:

الشرط الأول: منها أن زبيدة الزوجة أقامت وأذنت زوجها المذكور وكيلاً عنها في ساير ما تملكه يدها الآن وفيما يوجد لها من المال يتصرف لها في ذلك بحسن نظره السعيد.

الثاني: ان عبد الله باشا مينو الزوج أقر بأن كامل ما هو تحت يدها من متاع ومصاغ وحلى فهو ملك لها بمفردها.

الثالث: عبد الله باشا مينو الزوج المرقوم أعطى لوكيله الحاج أحمد شهاب المذكور ماية محبوب كل واحد منها بماية وثمانين نصف فضة في نظير صداق زوجته المذكورة، وأن الحاج أحمد شهاب سلم جميع ذلك ليد وكيلها الحاج حسين المذكور فسلمها ذلك عددًا بالمجلس وذلك على حسب عادة عقود المسلمين.

الرابع : أن الزوج المذكور شرط على نفسه إنه إن حصل بينه وبين، زوجته فراق يدفع لها ألفي ريال ثنتان معاملة لها في نظير فراقه لها وكل ما كان تحت يدها وقت ذلك يكون جميعه ملكًا لها حسب عادة دفع مؤخر صداق المسلمين.

الخامس: أن زبيدة الزوجة المذكورة إن كانت تطلب طلاقها من زوجها المذكور بحسب شرع المسلمين لم يكن لها من الألفين ريال المذكورة ولا نصف فضة، ما عدا ما تحت يدها من مصاغ وغيره فهو لها.

السادس: زبيدة لم تزل وارثة في كل ما كانت ترثه شرعاً.

السابع: أن زبيدة أقرت بنفسها أنه إن مات زوجها المذكور وهى في عصمته تأخذ من ماله الألفين ريال المذكورة، وليس لها حق ولا طلب في تركته وذلك في نظير إرثها الشرعي حسب رضاها بذلك.

الثامن: أنه إن مات الزوج المذكور وخلف أولاداً من زوجته المذكورة وهم يجوز قصر قام عليهم رجلان ناظران ووصيان واحد فرنساوى والثانى ابن عرب ويتصرفان في أموالهما بحسب المصلحة في طريقة الفرنساوي.

التاسع: أن الزوجة المذكورة، إن ماتت وخلفت أولاداً من زوجها المذكور في حياته يكون أبوهم هو الوكيل الشرعي على أولاده وعلى مالهم.

العاشر: الناظر الوصى الفرنساوى المذكور في الشرط الثامن يقام من طرف حكام الفرنساوية الموجودين في بر مصر وقت ذاك والناظر الوصي الثاني يقام بحسب عادة المسلمين وان حصل تداعى بسبب اختلاف يقام على يد الحاكم الشرعي إذا كان ببر مصر أو بير الفرنساوية.

الحادي عشر: عبد الله باشا مينو وزوجته إن ماتا جميعاً وخلفا أولاداً يكون أولادهما تحت حماية الجمهورية الفرنساوية والزوجين المذكورين يقصدان كل الحكام الخمسة التي ببلاد فرنسا يكونوا أنظاراً على أولادهما.

وان الزوج والزوجة أقرا واعترفا برضاهما على هذه الشروط المذكورة على يد وكيليهما الإقرار والاعتراف الشرعيين الصادرين منهما بالمجلس بحضرة من ذكر أعلاه وأنهما التزما بهذه الشروط ليفعلانها وقت الاحتياج إليها من غير إكراه ولا حبار التزاماً مرضياً وثبت ذلك لدى مولانا أفندى ثبوتاً شرعياً وحكم بموجبه في سابع عشر من رمضان سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف.

نسختان متطابقتان

على الرغم من الكم الهائل من الأسئلة التي تركتها هذه الورقة بلا إجابة، (والأسئلة محل بحثي الآني)، إلا أن في استطاعتنا حتى من خلال هذا القدر الضئيل من المعلومات، أن نحدس مؤشرين سوف يفيدانا، في صياغة أسئلة أبحاث قادمة:

1 – أن التابوهات التي تفرض التعتيم على الوجه المظلم للمجتمع، والمتمركزة حول صورة الذات لدى الآخر. لم تكن قد تملكت من كتابات العلماء والأزهريين كما يتبدى من الصراحة المذهلة في نصوص اثنين من صفوة علماء ذلك العصر، العطار والجبرتي.

2 – أن الخطاب الثقافي المصري المتمركز أوروبياً، كما يتبدى في الفقرة التي أوردناها، عن لويس عوض، لم يكن ليتحرى المنظومة الاجتماعية المصرية، من خلال سياق جدلية علاقتها بالاستعمار، ولكن على أساس من مطلقات خارج هذا السياق.

لابد إذن أن يدعونا ذلك إلى التعرف على أسباب وسمات الاستقطاب في المجتمعات التي ينم خطابها الثقافي عن عدم وضوح موقفها من الحداثة، من منطلقات جديدة وجذرية كي نستطيع التمييز، بين ما هو إستمراري وما هو من جراء النقل غير النقدي عن الآخر، في سبيل الخروج من الدائرة المفرغة، التي حصرنا البعض فيها عندما اعتمدوا المراجع الأجنبية، من وجهة نظر متمركزة أوروبياً. ولا أعنى بذلك الدكتور لويس عوض بالذات، كما قد يتبادر إلى الأذهان بسبب السياق، الذى فرض التعامل مع كتابه الثرى، تاريخ الفكر المصري الحديث، بل أعنى كذلك كل ممثلي وجه تلك العملة الآخر، ممن يبدأون تعاملهم مع موضوع الحداثة، من منطلق الدفاع عن، بدلاً من البحث فيموروثنا الثقافي، وتجلياته في مختلف النصوص، وصلت إلينا عبر السنين.

* – سمية رمضان: أستاذة مساعدة بأكاديمية الفنون بالقاهرة، كاتبة قصة قصيرة وعضوة بملتقى المرأة والذاكرة.

1 – هنرى لورنس: الحملة الفرنسية في مصر: بونابرت والإسلام. ترجمة بشير السباعي، سينا للنشر بالقاهرة: 1995، ص۸

2 – Christopher Herold. Bonapart in Egypt. Hamish Hamilton: London: 1963. P. 72.

3 – Eda Judith Tucker. Arab Women: old Boundaries. New Frontiers. Julie Peteet. “Aultrenticity and gender، the presentation of culture”. Indiana Univ. Press: 1993. p.53.

4 – Joan Scott. Gender: “A useful Category of Historical Analysis”،Ed. Aruna Rao، Women’s studies International، N. Y: Feminist press، 1991.

5 – Judith Tucker. Women In nineteenth century Egypt. American univ. Press; Cairo: 1986. p. 3

6 – Afaf Lotfi Al- sayyed Marsiot. Women and Men In Late Eighteenth century Egypt. Univ. Texas Press; Austin: 1995. P. 154.

7 – بيتر جران. الجذور الإسلامية للرأسمالية في مصر: ١٧٦٠ ١٨٤٠. ترجمة محروس سليمان، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة وباريس: ۱۹۹۲ ص ۳۳۱.

8 – عبد الرحمن الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، دار الجيل، بيروت، بدون تاريخ، الجزء الثاني، ص ۱۸۱.

9 – انظر صبری حافظ:

The genesis of Arabic Narrative Discourse، ch. 1

١٠ الجبرتي، مرجع سابق، ص ۱۸۳.

11 – Christopher Herold، op.cit.

١٢ الجبرتي، مرجع سابق، ص ٢٢٥.

13 – Ibid.

١٤ كلوت بك، لمحة عامة إلى مصر. ترجمة محمد مسعود، الطبعة الثانية، دار الموقف العربي للصحافة والنشر؛ القاهرة ۱۹۸۲، الجزء الثاني، ص ١٧٢.

15 – Christopher Herold، op. cit. p. 107.

١٦ الجبرتي، مرجع سابق. ٢٤٩

۱۷ لويس عوض، تاريخ الفكر المصري الحديث من الحملة الفرنسية إلى عصر إسماعيل. الطبعة الرابعة، مكتبة مدبولى القاهرة: ۱۹۸۷، ص ١٩٦.

۱۸ كلوت بك. مرجع سابق، ص ١٤٥ – ١٥٠.

١٩ وصف مصر. تأليف علماء الحملة الفرنسية. ترجمة زهير الشايب. دار الشايب للنشر، القاهرة: بدون تاريخ. الطبعة الثانية، ص ٤٥.

20 – Edward Lane. The Manners & Customs of the Modern Egyptians. East-West publications’ London، and Livres de France; Cairo: 1895. (frist published 1838). p.337.

٢١ لويس عوض، مرجع سابق، ص ۲۰۱.

٢٢ عن عماد أبو عازى، الدستور، السنة الثانية. العدد ٩٠، الصفحة 7.

23 – Mohamad Afifi. “Reflection on the Personal Laws & Egyptian Copts. Ed.

Amira Al-Azhari Sonbol. Women، The Family and Divorce Laws in Islamic History. Syracuse Univ. press، 1996. p 203.

شارك:

اصدارات متعلقة

استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم
قائمة المصطلحات Glossary
مطبوعات
مطبوعات