الحياة بدون أطفال
يخرج هذا العدد* من المجلة عن المألوف من عدة أوجه . فعلى خلاف معظم الأوراق التى نشرتها “الصحة الانجابية“, لا تتناول مقالات هذا العدد السيطرة على الخصوبة أو جعل الحمل أكثر أمنًا، وهما موضوعان يفترضان سلامة الخصوبة وإمكان حدوث الحمل، ولكنها تتحدث عن محاولة من استعصى عليهم الإنجاب أن ينجبوا، وقيمة الأطفال, ومسألة الرغبة فى الإنجاب وعدمها. هى مقالات حول أطفال لم يفكر أحد فى وجودهم، أو لم يُحمل فيهم، أو حمل فيهم ثم سقط الحمل، أو ولدوا أمواتًا أو ماتوا بعد الولادة. وتتناول المقالات أيضًا المساعدة على حدوث الحمل بوصفه وسيلة لتحقيق رغبة الناس في أن يكون لهم أبناء من صلبهم، وكذلك البدائل الأخرى مثل التبنى واستخدام التبرع بالبويضات والحيوانات المنوية. وتثير المقالات أيضًا قضايا متعلقة بمواصفات من تستحق أن تكون أمًا؟ وما الذي يؤهل للأمومة في المقام الأول؟
لو أصبح كون الواحدة منا “أمًا “مرادفًا لكونها “امرأةً” فسوف يعنى فشلها في أن تصبح أماً أنها ليست “امرأة” بالمعنى التام للكلمة. ولا يمكننا بالطبع أن نقلل من أهمية هذا الأمر عند من لا يمكنهن الإنجاب. (روزماري جليبسى) . تُعنى مقالات العدد إذن بالنساء اللاتي يتقن إلى الأبناء ولكنهن لم ينجبن، وبالنساء اللاتي كان لهن أبناء ثم فقدنهم، وأيضًا بالنساء اللاتي لا يرغبن في أن يكون لهن أبناء ولم يضطرون للإنجاب. والكثير منها تدور حول الغياب والفقد، ولكنها تدور أيضًا حول الحرية والفرص التي يمكن أن يوفرها غياب الأطفال. وتستكشف أوراق العدد تبعات الحق في رفض الإنجاب وغياب الحق فى الإنجاب. فهى حول النساء اللاتى رفضن الأمومة، والنساء اللاتى تخلت عنهن الأمومة.
إن سهولة إطلاق لقب عاقر على امرأة, أو مقاومتها لإلصاق اللقب بها، وتجارب المحرومات من الأطفال, وعملية البحث عن حل للعقم، كلها أمور تتجاوز بكثير الحقيقة البيولوجية للعجز عن الإنجاب (تولا أولو بيرس).
الجبهة الأخيرة فى الصحة الإنجابية
بالرغم من تكرار إثارة القضايا الصحية في مقالات هذا العدد، فإننا ندرك منذ الوهلة الاولى، أنها لا تتعلق أساساً بالصحة الانجابية أو الجنسية، ولكن بالإنجاب نفسه ودلالته الاجتماعية. والواقع أن هناك أقلية لا يستهان بها – بتعبير الصحة العامة – من الأجساد التي تفشل في الإنجاب عندما ترومه صاحباتها، كما أن هناك عددًا متزايدًا من النساء تصبحن على استعداد للإنجاب عندما توشك أجسادهن على التوقف عن الإنجاب.
تعى الكثيرات منا أن احتمالات الحمل من بويضاتنا في سن الثالثة والأربعين أو الخامسة والأربعين أو السابعة والأربعين تصبح منعدمة عمليًا . ومع ذلك، فلم ترغب أي منا في البداية أن تتنازل عن هذا الحلم. (كاتبة مجهولة).
يشبه العقم نوعاً ما, الأخت الفقيرة التي يتحاشى ذكرها أخوتها الأغنياء، والجبهة الأخيرة في الصحة الانجابية.
فبالرغم من أن عددًا من الأمراض التي تنتقل عدواها عن طريق الممارسة الجنسية مسئولة عن العقم الناجم عن المشاكل فى قنوات فالوب، وعن الإجهاض، وعن موت الأجنة قبل الولادة، إلا أن معظم عيادات الأمراض المنقولة جنسيًا وفيروس نقص المناعة البشرية لا تتناول العقم بشكل مباشر فى أعمالها المتعلقة بتقديم المشورة أو التثقيف. وما زالت عدوى الجهاز التناسلي الناجمة عن الولادة غير الآمنة أو الإجهاض غير الآمن, بالإضافة إلى الأمراض المنقولة جنسيًا، والمسئولة عن جانب كبير من حالات العقم الثانوى فى العديد من البلدان النامية، لا تولى أولوية فى خدمات الصحة العامة.
وحتى اليوم لا تتلقى ملايين النساء المساعدة الماهرة في هذا الصدد. كذلك فالأمراض المزمنة مثل الملاريا والسكر والصرع، وغيرها من المشاكل المزمنة المسئولة عن مشاكل الحمل والإجهاض, لا تحظى سوى باهتمام محدود سواء على مستوى البحوث أو الخدمات – أقل كثيراً مما يتطلبه تحاشى حدوث مثل تلك الحالات بهذه المعدلات. إن المصطلح الذي يطلق على تلك التجربة – إهدار الحمل – يشى بالكثير عن النظرة المهنية لها .
بعد نحو ثلاثة عقود من البحث العلمي والتطوير في مجال وسائل منع الحمل، تتقلص كل عام تلك المناطق الصغيرة من العالم التى لا تزال تستخدم وسائل غير فعالة بالمرة لمنع الحمل . ولكن الحال ليس كذلك عندما يتعلق الأمر بالتغلب على مشاكل العقم. فالنساء في جميع أنحاء العالم في سعيهن لإنجاب الأطفال عادة ما يلجأن إلى الدعاء والطقوس الدينية أو الوسائل التقليدية غير الفعالة، في محاولاتهن للحمل عندما لا تتوفر الوسائل المقرة طبياً ، وفى كثير من الأحيان عندما تخذلهن تلك الوسائل المقرة. أما مشاكل الخصوبة لدى الرجال فلعلها – سواء طبيًا أو اجتماعيًا – أقل المشاكل التى يتم الإشارة إليها أو مناقشتها ناهيك عن فهمها .
ويعتقد الكثير من الأطباء والعامة في الخرافات – التي لا تستند إلى حقيقة ثابتة – مما يفتح باب الأمل في أن مشكلة الخصوبة ليست مشكلة بيولوجية على أية حال. فمثلاً، على عكس ما يعتقد الكثيرون ويأمل البعض, لا يزيد التبنى ولا العقاقير أو الأنشطة المخففة للتوتر من فرص حدوث الحمل. كذلك فالمشاكل العاطفية للأزواج الذين يعانون من العقم مرتبطة بوجود العقم ولكنها لا تتسبب فيه. (جوان سوندبای)
يبدو أنه لا يوجد شئ لن يجربه الناس لجعل الجسد غير القابل للحمل يحمل . لقد ذكرت لي بعض النساء النرويجيات اللاتي يعانين من العقم قائمة طويلة من الحلول البديلة التي ينصحهن الناس باتباعها. وتشمل تلك القائمة ممارسة العلاقة الزوجية بالارتباط بمراحل اكتمال القمر، والإمساك عن الجنس لفترة, وكثرة الجماع, والاستلقاء على الظهر أو اتخاذ وضع القرفصاء أو الركوع أثناء أو بعد الجماع، واستخدام العديد من الفيتامينات، والمداومة على نظم غذائية معينة, وشرب النبيذ والإمساك عنه، وغيرها. كذلك تقدم عيادات الطب البديل العلاج الهوميوباتي* ، والتحفيز الثانوى للتبويض بالأعشاب, والوخز بالإبر, والعلاج الروحاني, وتطهير الجسد, والصلوات، وتخفيف الضغوط النفسية. ويلجأ معظم الأزواج الذين لا ينجبون إلى إحدى تلك الوسائل إلى جانب العلاج الطبی (جوان سوندیای)
ومن شأن مثل تلك التقارير أن تجعلنا ننظر إلى التوتر الناجم عن محاولة استخدام التقنيات الطبية التي حظيت على الأقل ببعض النجاح من منظور مختلف تماماً. هذا بالإضافة إلى أنها تثير تساؤلات عما تعنيه جودة الرعاية بالنسبة للنساء اللاتي يعانين من مشكلات في الخصوبة, ناهيك عن الرجال، والذين لا ندرى تقريباً أى شئ عن تجاربهم الشخصية. إن قضية تجربة العقم الشخصية لأعمق بكثير من مجرد نوعية التشخيص والعلاج، ولا يمكن تناولها إلا من خلال المشورة والدعم النفسي, وهو ما يُهمل في العادة خاصة عندما يكون غياب الاهتمام الطبي الملائم مشكلة يعوزها الحل. كذلك فالمشكلات النفسية – الاجتماعية تستحق اهتماماً أكبر, فيما يتعلق بفقد الطفل قبل أو بعد الولادة مباشرة على سبيل المثال.
لقد أفادت العديد من النساء بأنهن كن يرين كوابيس في منامهن، تدور حول الطفل الذي فقدنه أو الظروف المحيطة بفقده. وقالت إمرأة انها كانت ترى حلمًا يتكرر ترى فيه الطبيب يسألها: لماذا تبكين؟ والمرأة التي علمت بوفاة الطفل قبل ولادته، أعطاها الطبيب نوعين من المهدئات قبل أن يخبرها بوفاة الطفل. وبعدها كانت تنتابها كوابيس ترى فيها الطفل على شكل دبور، أو أن عملية الوضع كانت شديدة الإيلام وأنها تخلت عن الطفل واتهمت بذلك. (أستريد اندرسون ورتمارك).
إذا لم يكن هناك حق فى الإنجاب، هل يمكن للأطباء أن يمتنعوا عن تشخيص وعلاج العقم في حالة الأفراد الذين يرون أنهم غير مهيئين للحصول على أطفال؟ وهل يمكن اعتبار الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية أو غيره من الأمراض التى تؤثر على الإنجاب، سبباً كافيًا لنصح النساء بعدم الإنجاب؟
بالرغم من عدم وجود توجيهات رسمية في هذا الصدد إلا أن هناك إجماعاً عاماً بين العاملين في المجال الصحي في أبيدجان، على أن المرأة المصابة بفيروس نقص المناعة البشرية يجب عليها الامتناع عن إنجاب أطفال جدد… (ولكن) بالنسبة للمرأة الحاملة للمرض فإن هذا “الخيار” يعرضها لرفض زوجها الذي يريد المزيد من الأطفال – لها … علاوة على ذلك فمن الصعوبة بمكان أن تشرح المرأة, داخل شبكة علاقاتها الاجتماعية، أنها لا تريد أن تحمل، اللهم إلا إذا كان الزوجان قد رزقا بالفعل ما يريدان من أبناء. وبالرغم من أن النساء يخفين بالفعل إصابتهن بفيروس نقص المناعة البشرية، إلا أنهن مع ذلك لا يزلن معرضات لأن يوصمن بالمرض والعقم لو لم يستطعن الحمل. (هاكا داجو أتريبي وآخرون )
أن تعقيد هذه القضايا عادة ما لا يلقى الاعتراف المناسب أو التعامل المناسب. بالإضافة إلى ذلك، هناك فرق كبير بين العقم sterility (عدم القدرة على الحمل أو الإخصاب)، وعدم الخصوبة infertility (عدم القدرة على إنتاج مولود حى) وعدم الإنجاب (childlessness عدم وجود طفل حى). هناك احتياج لأبحاث أفضل للتفريق بين تلك الحالات وفهمها – من حيث حجمها والتجربة الخاصة بها – وتحديد ما يجب القيام به بشأن كل منها . (تييس بوميرا وزايدا مجالات)
تناولت العديد من مقالات هذا العدد من المجلة موضوعاتها من زاوية شخصية، وذلك على نحو أكثر من المعتاد؛ فهناك عدد لا بأس به من تلك المقالات كتبت بأقلام نساء عن تجاربهن الشخصية وتجارب صديقات يعانين من نفس المشاكل . على أن هناك بعض من المقالات تتناول التجربتين الشخصية والمهنية فيما يتعلق بالعيش بدون أطفال.
كذلك فعدد المقالات التى وردت لهذا العدد من الدول المتقدمة أكثر من تلك التى تضمنها أي عدد سابق. ولا يثير ذلك دهشتنا، فقد حظى العقم في الدول المتقدمة بنصيب أوفر من البحث والدراسة والعلاج والاهتمام الإعلامي والتنظيم والتشريع القانوني. هذا بالإضافة إلى أن النساء فى معظم البلدان المتقدمة يمكنهن التمسك بحقهن في عدم الإنجاب بسهولة أكبر.
بالرغم من أن كفالة الأطفال بشكل غير رسمى قد تكون مقبولة، بل وشائعة. فى العديد الثقافات، فإن التبنى قد يُستهجن بل ويُحرم ، حيث الأطفال من صلب الوالدين (صلة الدم) فقط هم الذين يتم اعتبارهم أبناءهما ويسمح لهم بالإرث. أما فى العالم المتقدم فالحال على خلاف ذلك، إذ يشيع التبنى والكفالة وكلاهما كان موضوعاً للتنظيم والسياسات عبر سنوات طويلة. على أن التبنى والكفالة لا يساويان بحال من الأحوال أن يكون للأب والأم أبناء من أصلابهما، وكذلك الحال أيضًا بالنسبة للأطفال.
أن تبنى طفل يعنى أن نشهد عملية تتطابق تماماً في إثارتها ودهشتها مع الحمل والولادة. ومع ذلك فتبنى طفل لا يمحو تماماً حالة عدم وجود طفل من الصلب لدى من يلجئون للتبنى. (إلن روس)
عادة ما يكون الطفل الذى يحتاج لمن يتبناه أو يكفله قد فقد والديه أو أنهما تخليا عنه، وغالبًا ما يعاني من الإهمال, أو الإعاقات، أو المشاكل العاطفية، وهو ما يتطلب التزاماً ونوعية خاصة من مهارات التنشئة . ومع ذلك فهناك الكثير من الأطفال في العالم يحتاجون لأسرة وبيت، وكذلك الكثير من الناس المستعدين لتوفير الأسرة والبيت لهم .
إن فكرة التبنى تغرى شريحة عريضة ممن فشلن في الحمل بعد تلقى العلاج الطبي. (جوان سوند بای)
وبغض النظر عن مدى شيوع التبنى، يظل التساؤل عن الأب والأم “الحقيقيين” مطروحًا على الأمهات والآباء – في أي مكان فى العالم – الذين يتبنون أطفالاً ليسوا من صلبهم .
كما لو أن الزمان قد توقف بنا، تحديداً عند زمن الملك سليمان الذى هدد – بحكمته – بقطع طفل إلى نصفين بعد أن ادعت امرأتان أن كلاً منهما أمه، وذلك في محاولة منه للتعرف على الأم “الحقيقية” (ديان كول ) أن النفور من التبنى والنظر إليه بعين الريبة لأمر محير بالفعل, إذا ما أخذنا في الاعتبار المعانى الشخصية الإيجابية للغاية لدى كل من يمسهم التبنى . (إلن روس)
تشى المقالات التى تناولت عددًا من البلدان الأفريقية في هذا العدد, بأن العيش بدون أطفال في أفريقيا يمثل مشكلة يكتنفها صمت رهيب يصل إلى درجة تحاشى الكثيرين مجرد ذكرها. وعندما تبقى معدلات الوفيات بين الأطفال مرتفعة، فإن “الحياة بدون أطفال” و “عدم الإنجاب” يتخطى مشكلة العقم بمراحل بعيدة.
أنا طبيبة رعاية صحية أولية في بوتسوانا، وقد عملت لعدة سنوات فى مجال تنظيم الأسرة. ومن المثير حقًا أنني لم أصادف أحداً درس موضوع العيش بدون أطفال. لدى بعض المرضى الذين حرموا من الأطفال، ولكن بالرغم من صلتى القوية بهم، فقد صعب علىّ أن أدفعهم إلى الحديث عن تجربتهم. وكان رد بعضهم أنهم سوف يفعلون ذلك ” لاحقاً” ، ولكنهم لم يفعلوا بعد (2)
إن العقوبات التى تعانى منها النساء اللاتى يوصمن بالعقم فى العديد من المجتمعات الشديدة الوطأة بالفعل. يعتقد الكثيرون أن أى زوجين حديثى الزواج سيصابان بالعقم لو أن امرأة عديمة الخصوبة باركت زواجهما . وقد ذكرت امرأة واحدة من بين كل خمس نساء أنهن سمعن كلمات موجعة عند حضورهن العديد من الاحتفالات الاجتماعية, بيد أن وعيهن بهذه المعاملة الفظة تشى به حقيقة أن أكثر من نصفهن ذكرن أنهن يمتنعن عن حضور الاحتفالات تماماً . (سيد يونيسا )
من أسوأ ألوان العقاب الذى قد تلقاه المرأة انتزاع الزوج للأبناء منها . على أن عدم قدرتها على الإنجاب يعد من جانب آخر، سببًا للطلاق ورفض الزوج والأسرة لها, بل والامتهان والعنف أيضًا. ولكن العنف السياسي مسئول أيضًا عن فقدان الأطفال.
كثير من الحديث يدور حول النساء اللاتي بلا أطفال والنساء اللاتى يرغبن في أن يكون لهن أطفال, والنساء اللاتى لديهن أطفال، ولكن لا يكاد يكون هناك أى حديث عن الأمهات بلا أطفال. وذلك بالرغم من أن هناك العديد من الظروف التي تؤدى لأن تصبح الأم بلا ولد، والتي عادة ما تعود إلى الموت المفاجئ للطفل فى حادثة أو إثر إصابة بمرض . أو غيرها من أمور غير متوقعة. ولكن ذلك يمكن أن يحدث أيضًا للأمهات عندما “يختفى” أطفالهن. (مابل بلوشي )
وحتى بالنسبة لمن اختارت ألا تنجب, يبقى عدم إنجاب الأطفال تهمة يجب تبريرها أو تفنيدها. عادة ما يطلب منها أن تسوق مبرراتها فى ذلك. على نحو لا ينطبق على الأمهات. (روزماری جلیبسی)
أن كلمة “متحررة من الأطفال” لا توحى, لدى معظم السامعين، بمعنى إيجابي للحرية، بمن فيهن من اخترن ذلك أو لم تقررن بعد أن تنجبن. على أن عدم وجود أبناء أصبح اختيارًا إيجابيًا لدى عدد متزايد من الرجال والنساء، ويمكن أن يمثل نتيجة إيجابية لمن قررن أن تتوقفن عن محاولة الإنجاب لوجود مشاكل في الخصوبة أو لأن العلاج لم يؤت ثماره المرجوة. وكما تقول استريد اندرسون الكاهنة السويدية في مقالتها التأقلم مع الحرمان من الأطفال (منشور فى هذه العدد) من قرروا أن يبقوا بلا أطفال ليسوا بالضرورة أناساً لا يحبون الأطفال.
في مقال نشر لأول مرة سنة ۱۹۸۰ *، تصف الكاتبة كيف أنها ظلت تعيد النظر فى قرارها بعدم الإنجاب لتقنع نفسها بأن الطفل ليس الحماية الوحيدة من الوحدة. عندما كنت أعانى من الإحباط من هشاشة الصداقة وكثرة تقلب من أحب، كان الضمان الحقيقى الوحيد أمامي لكي لا أعاني من الوحدة والعزلة والوسيلة الوحيدة للحفاظ على رابطة مع بقية المجتمع هو حلم الطفل, علاقة الدم وما يمكن أن ينتج عنها . وبالطبع كان من أصعب الأمور علىّ, كامرأة عرفت الان أنها لن تنجب أبداً، أن أتنازل عن هذا الحلم دون أن أغرق فى يأس مطبق (إيرينا كلبفيز )
منذ الأزمنة القديمة لتى تحدث عنها الانجيل، كان القبول بعدم القدرة على الإنجاب والتغلب على الحزن المصاحب لذلك، أمرًا مهماً وجزء أساسى من الحياة الخلو من الأطفال:
عندما سمعت (سارة) بنبوءة أنها سترزق بولد في غضون عام، تملكها الضحك. ولم لا وهي في التسعين من عمرها …. وقد توقفت دورتها الشهرية منذ زمن. ولكن يهوه لم يعجبه ضحك سارة واتهمها بأنها تشك في قدراته . لكنني في أشد السعادة من ضحكها. فهو ينبئ عن أنها قد خلفت الحزن وراءها بمسافة حتى لم يعد لها منه نصيب. لقد أضحت عجوزاً حكيمة تستطيع أن تضحك من نفسها . فهذه الضحكة المفعمة بتمرد المرأة والشك الوجودي من شيم العصر الحديث. وفى ضحكها من أمر خارج عن ناموس الطبيعة، شعور بحرية من خرج تماماً من المنافسة. ولكنها ضحكت في حبور عندما أنجبت إسحاق في الحادية والتسعين من عمرها (كارين بروب)
شهدت الثمانينيات، جدلاً ممتداً حول الجوانب الأخلاقية المتعلقة بأساليب التغلب على نتائج العقم أو الالتفاف حولها، بعد تطور التخصيب فى الأنابيب وغيره من أساليب مثل العلاج بالهرمونات التي تحفز التبويض, والتدخل الجراحى لتسليك قنوات فالوب، وحقن البويضات بالحيوانات المنوية لإحداث الحمل والتقنيات الفعالة والآمنة لحفظ البويضات والحيوانات المنوية، وزرع الأجنة. وقد تحركت الحكومات الغربية لتنظيم مثل تلك الممارسات, تمامًا كما كانت قد تحركت من قبل لتنظيم منع الحمل والإجهاض. حينها كثر الطلب على الفتاوى الدينية والأخلاقية وكثر تقديمها، وثارت المخاوف من وقوع كوابيس تكنولوجية, أشبه بما يثار اليوم حول الاستنساخ و “تعديل” الجينات. ومن المثير حقًا أن تنظر في التغير الذي شهدته التشريعات على مدار خمسة عشر عامًا فقط، وكيف سارت بالتوازى مع الرؤى السائدة بين الناس.
في أواسط الثمانينيات رفض العديد من النسويات تطور ما يسمى ب “تكنولوجيات الإنجاب الحديثة” على أساس أنها تكرس الضغط على المرأة لكي تصبح أمًا وتدفع بمن يعانون من العقم من النساء والرجال لشهور أو سنوات من الآمال العريضة في إنجاب أطفال من أصلابهم.
إن الضغط الذي يشعر به المرء وهو على قائمة الانتظار، والألم الناجم عن تقييم أداء المرء الجنسي والإجابي في المعمل, والقيود الأخلاقية والاقتصادية لأساليب العلاج الحديثة، مع عدم التأكد من النتيجة مع كل محاولة, كل ذلك يسهم في إطالة أمد المعاناة. أن الحقيقة القاسية, بمعنى ما, في كل ذلك هى أن التعايش مع العقم يرتبط أيضًا بإخراج المرء لنفسه من هذه المتاهة الطبية … (جون ساندباى)
ومع ذلك، فالضغط فى اتجاه الرغبة في الإنجاب يتولد, ومع لدى عدد كبير من الناس، ويتكرس داخليًا : فضغوط الآخرين، بالرغم من احتمال وجودها بالفعل ليست بالضرورة العامل المحرك وراء هذا الدافع, وذاك أن الإنجاب قد يكون من أهم الأشياء التي يقوم بها الناس في حياتهم. ومعظم الناس يكبرون ولديهم توقع أن يكون لديهم الولد فى يوم ما ، والكثير منهم يرون الأطفال وسيلتهم الوحيدة للحياة بعد الموت. أي انهم وسيلة لخداع الموت.
لو كان العيش بدون أطفال غير مقبول، فما هي الخيارات الأخرى؟ ذكر طبيب في “أروشا” بتنزانيا مؤخرًا أن النساء فى قبيلة “مآساى” يحملن نيابة عن ضرائرهن غير القادرات على الحمل، وعند الإنجاب يعطى الوليد إلى المرأة التي لا تنجب فتربيه كإبنها(3 ) .
أن يهبك غريب عنك طفلاً، هو بحد ذاته تبيان للصلات الإنسانية بين البشر ، وللقدرة على الحب المنزه عن الغرض ( إلن روز ) . على أن الأمومة بالوكالة تثير تساؤلات أخلاقية لدى الكثيرين. ماذا لو دُفعت امرأة لإقامة علاقة جنسية مع أخى زوجها، على سبيل المثال، لتحمل نيابة عن زوجته وهو ما يقال انه ممارسة شائعة في الأوساط التى لا تتوفر فيها تكنولوجيا المساعدة على الإنجاب؟ أما فى الدول المتقدمة فعادة ما يعنى الحمل بالوكالة تخصيب امرأة تطوعت للحمل؛ بيد أن ذلك عادة ما ينظر إليه على أنه استغلال للنساء اللاتى يرغبن فى لعب هذا الدور، ويتعقد الأمر عندما تدفع مبالغ مالية على سبيل النفقات للأمهات بالوكالة, وهو ما يصل إلى آلاف الدولارات فى الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال.
ولا نكاد نسمع فى المجتمعات الغربية أن امرأة عهدت بطفل أنجبته إلى أخت أو قريبة لتربيته. ومن الأمور التي يدور حولها جدل كبير بين خبراء الأخلاق والهيئات التشريعية رغبة بعض النساء فى أن يهبن بويضاتهن للصديقات أو القريبات، أو أن الرجل الذي يهب حيواناته المنوية قد لا يفضل أن يظل مُجهَّلاً. ما هو مبعث هذه الحاجة الطاغية لتقييد أولئك المسئولين عن إنجاب الأطفال والسيطرة عليهم؟
إن مواقف من رزقوا بالأطفال أحيانًا ما تتسم بالبغض وعدم التعاطف بشكل مروع تجاه من لم يرزقوا بهم, بما في ذلك بعض من يدافعون بقوة عن الحق في اتخاذ القرار إذا ما تعلق الأمر بأى جانب آخر من حقوق الإنجاب. وكثيرًا ما نسمع فى هذا الصدد تعليقات من قبيل: “لم لا يتعلمون التعايش مع الواقع؟” “هناك أساليب أخرى عديدة يستطيعون أن يملأوا بها حياتهم” أو “لم لا يتبنون طفلاً؟” . وأود أن أجيبهم “ولم لم تفعلوا أنتم؟“.
عد العقم من أكبر مشاكل الصحة العامة في أفريقيا جنوب الصحراء، حيث يقدر عدد المصابين به بنحو 8 – 10 مليون امرأة .. (تيس بويرما وزايدا مجالا)
وكما هو الحال فى العديد من جوانب الصحة الإنجابية والجنسية، يمثل موضوع الخدمات لمن يعانون من مشاكل العقم، من الأمور التى تحتاج مناقشة مطولة. ففى الدول النامية نجد أن التدريب والخدمات المتعلقة بالعقم في قطاع الصحة العامة ضعيفة أو غير موجودة أصلاً، مع أن الطلب عليها مرتفع. وبالرغم من إجراء المزيد من الدراسات الوبائية، فان الدراسات الإكلينيكية عن أفضل سبل التعامل مع تلك المشكلة في الأوساط الفقيرة الموارد لا تزال محدودة.
يستهلك العقم. فى بعض البلدان الأفريقية, جانبًا عظيمًا من موارد خدمات الصحة الإنجابية …. والكثير من مرافق المستوى الثالث للرعاية الصحية في البلدان النامية تغص بالنساء اللاتى يشكين من العقم. هناك حاجة لانشاء آلية متابعة في مستويات الرعاية الأولى والثانية لتقديم الاستشارة والنصح والفحوصات الأساسية، ولتحويل الحالات الأكثر احتياجًا إلى المستوى الثالث من الرعاية الصحية حيث التقنيات الأعلى . (باتريك جون روى)
في معظم البلدان المتقدمة نجد التوازن بين الخدمات العامة والخاصة ضعيفًا، حيث يتعين على معظم الناس دفع نفقات التشخيص والعلاج، بل ويدفعون فيها مبالغ كبيرة، وهو ما يعنى بالطبع أن التغلب على العقم أصعب منالاً على الفقراء منه على من يملكون المال. وبالمثل, فهناك عدد متزايد من العيادات الخاصة أقيمت في المدن الكبيرة فى البلدان النامية للتربح من “سوق العقم“. وليس لها – فى بعض الأحيان – أى نصيب من اشتراطات أو ضمانات مستوى الرعاية, على أي نحو كان.
تقول كاتبة مقال “عندما تحاول النساء الإنجاب بعد سن الأربعين“، أن المال, أو أنظمة التأمين الصحى الخاصة، تشترى الأمل وكذلك العلاج. وهذا صحيح, فإن ارتفاع تكلفة العلاج الجيد للعقم واقع، ولكن هذا الواقع هو ما يؤكد على أهمية الحاجة إلى المزيد من الأبحاث وتطوير أساليب وتكنولوجيات علاج أحدث وأفضل، من أجل تحسين معدلات نجاح العلاج وتقليص النفقات على حد سواء.
هل طرأ أى تقدم خلال السنوات العشرين أو الثلاثين الماضية, بين ظهور حبوب منع الحمل وميلاد أول طفل أنابيب؟ من المحبذ بالطبع أن يلقى من رفض الأبوة أو الأمومة دعمًا اجتماعيًا وأدبيًا لقرارهم هذا، دون حط من شأنهم أو معاقبتهم بالإقصاء أو الامتهان أو الطلاق, إلخ . وربما اتخذت خطوات صغيرة في الاتجاه الصحيح في هذا الصدد في بعض الأماكن.
ولو كانت غالبية شباب المتزوجين في معظم أنحاء العالم تكتفى بطفل إلى ثلاثة في عصرنا هذا، فليس من المستغرب إذن أن يتزايد عدد النساء والرجال الذين ليس لهم أطفال. وكلما قل عدد الأطفال, صغر حجم الأسرة، وقلت روابط الدم والعلاقات العائلية, وزاد اعتماد الناس على الرفقاء والأصدقاء والخدمات الاجتماعية للحصول على الدعم النفسي.
إن فقد الحمل وفقد الطفل تجربة مأساوية، وسيظلان أبدًا هكذا. الأمر نفسه بالنسبة للعقم والذي اعتبر طوال التاريخ المكتوب أمرًا مأساويًا، وتثبت القصص التي ذكرها الإنجيل والتي أوردناها فى هذا العدد مدى قدم هذه المشكلة.
ولكن لعل حقيقة أن عدم الإنجاب يتحول ببطء إلى مسألة اختيار, وليس مجرد مأساة ومصدر للخجل, تمثل تحولاً تاريخيًا مهمًا . على أن توقع حدوث تقدم كبير في مواجهة العقم والتغلب عليه في مساحة زمنية قصيرة – في وقت مازلنا نحتاج فيه إلى تحسن كبير وتغيير في فهم كيفية عمل جسم الإنسان, والصحة, والرعاية الصحية, والتكنولوجيا الإنجابية يبدو أمرًا غير معقول، بل ومستحيل.
ان إدانة تقنيات المساعدة على حدوث الحمل على أساس “عدم مثاليتها” يبدو من قبيل قصر النظر. والمطالبة بحق النساء فى ولادة آمنة, وحق تقرير الإنجاب من عدمه، وتوقيته، وحق الإجهاض، مع عدم دعم حق محاولة الإنجاب والحق في مساعدة طبية واجتماعية ونفسية لمن يحتجنها ، يبدو متناقضًا وغير عادل . فدعم فكرة “الإنجاب بالاختيار” يجب أن يسير في الاتجاهين.