من الناس من يموتون أحياء.. ومنهم من يعيش حياة كاملة، حتى بعد الموت!
إلى هذا الطراز النادر الأخير الذين يعيشون الحياة ويرحلون عنها بالجسد فقط تنتمي ماجدة شعراوي التي عاشت حياة طويلة مديدة رغم عمرها القصير…
سر الحياة أنها انحياز، وقد انحازت ماجدة إلى قضايا وهموم شعبها منذ أن كانت طالبة على مقاعد الدراسة بتجارة عين شمس في فترة من أزهى مراحل الجامعة المصرية.
ومثل أبناء جيلها الذين تصدروا المواجهة رفضت ماجدة شعراوي الهزيمة والطريق الذي قاد إليها، وانخرطت في غمار معارك الحركة الطلابية التي رفعت شعارات رفض الهزيمة والمبادرات الاستسلامية التي منحت الاعتراف بدولة إسرائيل الاستعمارية.. وطالبت مع الجموع بعسكرة موارد البلاد وقواها البشرية لطرد الاحتلال تحت راية اقتصاد الحرب “وحرب الشعب” ومثل أبناء جيلها الذين تصدروا المواجهة ربطت ماجدة المطالب الوطنية بمطالب الحريات الديمقراطية حرية التظاهر والاجتماع والاعتصام والإضراب والحق في تكوين الأحزاب وإصدار الصحف واتحادات طلابية ديمقراطية حرة لا تخضع لوصاية الإدارة وأجهزة الأمن. وحرية النشاط الطلابي. ولم تكن هذه مجرد مطالب، بل كانت حركة ومعركة انتزعت للحركة الطلابية أسلحة كفاح من الأشكال البسيطة “الأسرة والجماعة ومعارك مجلات الحائط” إلى اللجنة الوطنية العليا للطلاب” ولجان الدفاع عن الديمقراطية، وقد بلغت الحركة مداها بانتفاضات الطلاب التي هزت البلاد عامی ۷۲ و ۷۳.
في قلب هذه المعارك ومع الجموع ومع القيادات التي تصدرت الحركة، كانت هناك ماجدة شعراوي، فقد كانت الحياة بالنسبة لها اختيارًا ومعركة وانحيازًا.
انطلاقًا من هذا الانحياز آمنت ماجدة بالاشتراكية، ولم تصدق أنها عرفت طريقها إلى مصر، ورغم الرياح العاتية التي اجتاحت مصر والمنطقة والعالم لم تدع ماجدة العاصفة تجتاح قلبها وعقلها.. وظلت على انحيازها الأصيل لحق الناس في العدل والحرية، وقرأت مع غيرها خبرات التجربة دون جمود، واختارت أن تسبح مع السابحين ضد التيار، وأن تحافظ على الحلم الجميل الذي داعب مخيلتها يومًا دون أن تنال منه الزوابع والأعاصير، ولم يكن فض الارتباط مع مقاعد الدراسة إيذانًا بإحالة ماجدة إلى المعاش المبكر، فقد غيرت موقعها ولكنها لم تغير موقفها، ولم تتخل عن صفات من الحياة: الاختيار والانحياز لحق الإنسان المصري في العدل والحرية، ولم يكن غريبًا أن تشارك في تأسيس منظمتين ارتبطتا بحقوق الأطراف الضعيفة: جمعية المرأة الجديدة وجمعية التنمية الصحية والبيئية.. وبينهما أوجه شبه.. فكلاهما يطرح حقوق المواطنة المتساوية، بدون تمييز. المرأة الجديدة في مجال الحقوق المدنية الخاصة بالنوع الاجتماعي، والذي ينطوى اسمها – من أول وهلة – على الانحياز لنموذج أخر للمرأة غير زوجة “سي السيد” التي جعلت منه أو جعلته الثقافة والموروثات الذكورية “ربًا تعبده” من موقعها الإجباري في قاع السلم الاجتماعي.. وعلى هذا الطريق خاضت “المرأة الجديدة” اشتباكات عديدة ضد كل أشكال التمييز التي تحكم على المرأة بالدونية.. وفي كل هذه الاشتباكات المحدودة بمستوى تطور منظمات المجتمع المدني كانت هناك ماجدة شعراوى، وبدورها فقد دافعت جمعية التنمية الصحية والبيئية عن مبدأ “إتاحة” خدمات الرعاية الصحية دون تمييز باعتباره التزامًا تكفله الدولة وترعاه، مع اهتمام بخدمات الرعاية الأولية، ومد مظلة التأمين الصحى إلى الفئات المحرومة، مع تطوير الخدمة مع حق المنتفعين (كل المجتمع) في الرقابة الديمقراطية على الجهاز الإداري.. ولم يكن غريبًا أن تشتبك الجمعية في فترة مبكرة من تأسيسها مع مبدأ “استرداد التكلفة” الذي أطلقته هيئة المعونة الأمريكية في اتجاه خصخصة القطاع الصحي.
وهكذا كانت “المساواة” هي الفكرة الموجهة للأنشطة التي ارتبطت بها ماجدة شعراوی: مساواة المرأة بالرجل في الحقوق المدنية والاجتماعية، ومساواة الفقير بالغني في مجال الرعاية الصحية.
ولأن الانتصار للفكرة كان ولا يزال مقيدًا بضغوط القيود القانونية ضد قانون الجمعيات الأهلية والتعديلات عليه التي أبقت سطوة الجهات الإدارية والأمنية على العمل الأهلى. وشاركت مع ممثلي منظمات المجتمع المدني التي تصدت للقيود القانونية في تأسيس ملتقى العمل الأهلي عن قناعة بأهمية دوره كرافعة في تمكين أصحاب المصلحة من الدفاع عن مصالحهم وتغيير السياسات المنتجة لشروط بؤسهم، ولم تكن مأثرة الملتقى أنه كان أول شبكة كبيرة تجمع أنصار ديمقراطية العمل الأهلي للسير في اتجاة واحد، ولا كونه فقط قد ترجم مطالبه إلى حركة تنوعت فيها أشكال الاحتجاج وصولاً إلى المظاهرات أمام مجلس الشعب والإضراب عن الطعام، فقد استطاع الملتقى أيضًا أن ينتزع بعض المكاسب القانونية، على الأخص في مجال إجبار المشرع على الاعتراف بحق منظمات العمل الأهلي في مزاولة كل الأنشطة المتعلقة بحقوق الإنسان تجاوزًا لمنطق العمل الخيري والخدمي الذي أملته جهات الإدارة كنموذج للنشاط الأهلى لا ينبغى الخروج عليه.
في هذه المعركة أيضًا كانت هنالك ماجدة شعراوي التي جسدت قيم العمل التطوعي ودافعت عنها دون إنكار للالتزامات المترتبة على البناء المؤسسي الضروري من نواة من المحترفين، مع وعي بألا تختلط هذه الضرورة بأشكال التربح والارتزاق التي قد تعود إلى صنع فاترينات لزوم التمويل! وفي كل مناقشة خاضتها ماجدة في المرأة الجديدة والتنمية الصحية والبيئية انحازت إلى كل خطوة يمكن أن توسع شرايين العمل وتجذب له قوى عديدة وتضعه في مسار جديد لا يجعله مجرد منصة لإطلاق الفاكسات والبيانات. ومن الطبيعي في كل هذا أن تخطئ ماجدة وتصيب، غير أن خطأها ينتمى إلى مجال التفاصيل، ولكن اختياراتها الكبرى كانت صحيحة، وخلال سنوات طويلة دافعت ماجدة عن هذه الاختيارات الكبرى وأعطت لها عمرها، ولم تستسلم حتى عندما هاجمها المرض اللعين، فمرة أخرى انتصرت للحياة وتشبثت بها وقاتلت من أجلها، لأنها كانت تريد أن تعيش وتواصل الحلم، وأن تكون معنا، وألا تتخلى عنا، وألا تتركنا وحدنا نواجه الهجوم الضاري على حق الحياة، بينما كان جسدها يتعرض لهجوم شرس من السرطان اللعين، وخلال معركة المرض ورحلة الدفاع عن الحياة فاجأت ماجدة الجميع بقوة نفسية هائلة لم يكن يتوقعها أحد، وقد أحاطت بها في هذا الصراع قلوب دافئة، في مقدمتهم د. محمد حسن خليل الذي خاض معها حتى النفس الأخير معركة الحياة، ويعرف كطبيب أن الرحلة أزفت على النهاية، ومعه كريمتها د. مي خليل التي لم تصدق أبدًا، وهي لا تصدق الآن، أن أمها الغالية قد رحلت عن دنيانا، وقد عبرت می عن هذا المعنى ببساطة في إحتفالية لتكريمها في “المرأة الجديدة” و “التنمية الصحية والبيئية” بقولها إن الحياة علاقة، والعلاقة لا تنتهى برحيل الجسد، لمن عاشوا الحياة، والحياة كما قالت معركة، وماجدة لم ترفع أمام المرض اللعين الراية البيضاء، ولم تغمض عينيها إلا بعد أن همسنا في أذنها وهي بين الغيبوبة والوعي “استريحي” لاتقلقى علينا “نحن بخير” آن لهذا الجسد أن يستريح وقد فهمت ماجدة الإشارة، فإذا كانت تريد الحياة معنا فهي حية…. وإذا كانت تخشى علينا فقد ألهمتنا القوة… والحياة علاقة والعلاقة لم تنقطع، والذين عاشوا الحياة، أبدًا لا ينال من روحهم الموت…..