الذاكرة النسائية البديلة؟

التصنيفات: غير مصنف

الذاكرة النسائية البديلة؟

لا أخفي عليكم بادئ ذي بدء أن الحديث عن المرأة العربية عامة، والتونسية على وجه الخصوص، ليس بهيّن. علمتنى التجربة أن تناول الموضوع لا يخلو اليوم من أمرين: إما أن نساير ونواكب ونجامل، فنقوم بوظيفة مساندة عضوية لقضية تعد من أمهات قضايا الساعة، ما كان أن نبخل بها لو وضعت على محك النقد؛ وذلك لما انطوت عليه من مضاعفات، يتحتّم أن تشد أنظارنا؛ أن نفصح بكلمة ضمير، قد تصادف أن تكون كلمة حق، فتؤخذ مأخذ الانحراف، عن واجب المآزرة لرائدات الحركات النسائية، والعزوف عن ضرورة التضامن معهن. وقتئذ، قد يتأزم الحوار، وغالبًا ما ينقطع، والورطة في أن تثار مسائل لا نتحكم في كيفية تقبلها. وبما أنه لا يجود المرء، إلا بما عنده، أستسمحكم كي لا أتطرق إلى زمن النساء والذاكرة البديلة، موضوع ندوتنا هذه، إلا من منظور العينة التونسية، التي هي أقرب من غيرها، من دائرة معرفتي بشؤون المرأة؛ وأن لا أتناول المسألة، إلا من موقع المؤرخ، وعلوم الماضي، قوام اختصاصى المهنى؛ وأن لا أباشر الإشكاليات المطروحة، إلا باعتبار البعد الإنساني، الذي يجدر أن يتحلى به كل باحث متبصر؛ على أساس أن العبرة لا في أنوثية المرأة، بل في إنسانيتها قبل كل شيء. إلا أنه وجب على، والحالة تلك، أن أرجح النصف الثاني من العنوان، على شقه الأول. “زمن النساءشيء، وهو أقرب ما يكون إلى خصوصية الجنس وأحواله، لافتراضه خصوصية زمنية تحددها، ذات جنس الأنثى. وقد يكون الخوض فيه، في متناولنا، إذا ما سلطنا عليه نظرة معاصرة، وإذا ما اعتمدنا في استجلائه على علوم الحاضر، أو ما مت إليها بصلة أكثر بكثير، لا محالة من علوم الماضى، التي قد لا تفي بالحاجة لمحدودية الشهادات في شأنها. أما موضوع الذاكرة النسائية، فقد يجد فيه المؤرخ، متنفسه إلى حد ما، لذا سأقتصر عليه، ومع ذلك تبقى المفارقة عالقة بالرجل، فكلّما تحدث عن المرأة، أوهمنا أنه يتحدث عن نفسه. والحال أنه مدعو إلى أن يتوخى نظرة إنسانية شاملة للكائن البشري، الغرض منها إيجاد شيء من التكامل، بين الذاتية والخصوصية من ناحية، والتشابه والتماثل من ناحية أخرى.

أعتقد أنه لا يصح للمرأة التونسية أن تواصل ما كانت عليه بالأمس، حتى القريب منه. هذا المنطلق غير قابل للنقاش. بل مقاومة الرأى المعاكس، ضرورة مصيرية؛ سنة الله في خلقه، أن تتطور حتى لا يبقى المجتمع أعرج، مثلما كان عليه في السابق. إلا أن العبرة لا في وضع المبدأ وإقراره، وإنما في الوقوف على الكيفية المثلى، التي يستحسن أن يتم بموجبها التحول المنشود، من النظام الإجتماعي القديم، إلى النظام الاجتماعي الجديد. بل لا يجدر أن تتوهم، أن الحراك النسائي حديث العهد. لا أتصور أن حالة المرأة كانت ثابتة، وإنما النظام القانوني الذي حف بها، هو الذي لم يتطور نمطه تطورًا ملحوظًا، مادام الشرع عماده، والعرف رائده. وبذلك تنحصر المسألة في نسق التغيير؛ كان بطيئا في السابق، وحثيثًا لاحقًا؛ مما مكن عملية الهضم للمستجدات، من أن تتم دون عائق التوترات، في الحالة الأولى، وبما يشبه التخمة في الحالة الثانية. وفي الأثناء، حصل البديل القانوني الذي بواسطته، حصل البديل الاجتماعي وتأسس، زجت الدولة بنفسها؛ لتقود الحراك الاجتماعي للمرأة. وها هي اليوم محل تصد ومعارضة؛ لأنها أبدت عجزًا ملحوظًا على التحكم في ما أقدمت عليه. أن نفتتن بالإصلاح شيء، وأن نتحكم في مضاعفاته، شيء آخر. من البدهي، والحالة تلك، أن نثير موضوع البديل قبل أن يستحيل إلى ذاكرة بديلة. وفي هذا الصدد، لا مناص من أن نكون على بينة، من مدى توافق حقوق الإنسان، مع حقوق الخالق. الصراع حول الذاكرة البديلة، هو في صلب النزاع حول وجاهة حركة الإصلاح، لا من حيث المبدأ، بل كإجراء يخضع لمنطق المطابقة للأنماط المرسومة، ولآلية الانحراف عنها، عند الممارسة والتطبيق.

ألقت الدولة بثقلها في الميزان، وأملت قانون اللعبة الجديد، كمنظومة رسمية، وبقيت شرائح عريضة من المجتمع، تواجه البديل، من منطلق الإرث المتحكم فيه، والمستحدث الدخيل عليه المعضلة، أن البديل لم يكن محل إجماع، بل مع انفتاح العهد الجديد، باشره كل حسب اجتهاده وأغراضه، من داخل البلاد وخارجها. أحجمت الحركة الإصلاحية في القرن التاسع عشر، عن إثارة موضوع الأحوال الشخصية، في أعقاب الإيحاءات الغربية، واقتصرت على إصدار قانون الجنايات والأحكام العرفية (١٨٦١)، وواصلت سلطة الحماية في هذا الاتجاه، فعدت المرأة رمز الحصانة الوطنية عند البعض، والمبشرة بالمستقبل لدى البعض الآخر. وفي كلتا الحالتين، وجدت نفسها محل رهانات سياسية تجاوزتها، ودولة الاستقلال هي صاحبة المجازفة، بإصدارها القانون المؤرخ في ١٣ أغسطس ۱۹٥٥، الذى وإن حرر المرأة التونسية، على الصعيد القانوني، فإن المجتمع بقى يحد من تأثيره، ويتصدى له في أحشائه، بواسطة معارضة دفينة، لا تفصح عن ذاتها، إلى أن حصل المد الإسلامي، ليغنم من الأرضية التي وفرها له. ونقطة الضعف بالنسبة إلى اشتغالنا اليوم، أنه لم تُجر دراسات ميدانية معمقة، للتعرف على ردود فعل الناس، لا المبدئية منها، وإنما في حياتهم المعيشة. وكأن المرأة أصبحت ضحية الحقوق، التي تحصلت عليها، مثلما كانت ضحية الحركة الإصلاحية؛ فالحركة الوطنية، كادت أن تكون لعبة بين يدى الرجل، يحدد لها مدارها، وهو مسعفها عند الاقتضاء. وحتى النساء أنفسهن، لا أظن أن الإجماع توفر لديهن، إجماع ممارسة، لا إجماع تعلق مبدئي، خاصة أن ما كانت مدعوة إليه، يتلخص في محاكاة المرأة الغربية. لا أعتقد أنه توفر إجماع نسائی، تجاه البديل المعروض عليهن، بين مجتمع المدينة ومجتمع الريف. وحتى النخبة المفكرة، منها من أثر المنحى الثقافي في تحرير المرأة، ومنها من نادى بالتوجه الإصلاحي، ومنها من فضل الخيار الراديكالي. لذا قد لا يصح أن نتحدث عن الذاكرة حتى القريبة منها من منظور واحد، ولا عن بديل أحادى، أوحت به حركة التحرر النسائي. تعددت الذاكرات، وتباينت البدائل، باختلاف الفصائل النسائية، التي وجدت نفسها منساقة انسياقًا في حركة التغيير، وبتعددها وجب أن نصنفها، وإن بدت في صورة أقليات نشيطة، قد تفتقر إلى الصورة التمثيلية.

وإذا ما رمنا أن ننفد إلى جوهر الأشياء، فمن الضروري أن لا نقتصر في أبحاثنا، على التعرف إلى الكيفية التي تطرق بواسطتها رجال الماضى، إلى موضوع المرأة المسلمة، بقدر ما يجدر أن نتساءل عن الكيفية التي بها ينبغي، على الخطاب الدينى، أن يعني بالمرأة، كما هي عليه اليوم. ومن ثم، ضرورة التبصر، في ما قد يمكن أن نعتبره من علامات الزمن، أي الخصائص والظواهر الأساسية التي يواجهها العالم اليوم، والتي يمكن أن نختزلها في عبارة تحرير المرأة. إن عملية محو المذاهب التقليدية المناوئة للمرأة، ليست بهينة؛ فهي تتطلب الإطاحة بكل ما من شأنه أن يوافق التفرقة الجنسية، وتفترض بالتالي قطيعة مع الماضي، أو تحويلاً جذرياً لوجهته، قد يبدو صعب الإدراك. وجوهر المسألة هو، كيف يمكن أن نتطرق إلى موضوع تحرير المرأة، ونمضى فيه قدمًا، لا من خارج المنظومة الإسلامية، بل من داخلها. المشكل حضاري، والصعوبة اليوم، في قلب ظهر المجن، في إقرار أن تحرير المرأة، من قبل المرأة، دعوة ربانية، وضرورة مذهبية، من داخل العقيدة. هل من تعددية مذهبية بديلة تؤسس لتعددية جنسية، داخل المنظومة الدينية، مسايرة لروح الوقت؟ إذا ما رامت المرأة أن تستقل بنفسها، من وجهة نظر أنها ليست ذكرًا معاقًا، وأن تكف عن اعتبار أن الرجل الأصل، وهي الفرع، على الرغم من أنها عدت ضلعا من أضلعه المعوجة، فهذا يتطلب اقلاعًا فوريًا عن الإرث. لذا، فالذاكرة لا تواكب في مجملها تطلعات المرأة؛ انطلاقًا من مؤثرات دخيلة عليها؛ بحكم المناقفة الجارفة. الأهم أن يستعمل التاريخ؛ للتأكيد على تضارب قيم الماضي، مع قيم الحاضر. ليس من صالح المرأة، أن تتهم بالإسهام في تأزيم الضمير الديني لصالحها. ومع ذلك، فتحرير الإنسان، في تحرير جانب المرأة فيه، وحتى الرجل، أليس في حاجة إلى أن يتحرر من نفسه؟. والمعضلة، أن نضيع السبيل، بين التأويلات اليمينية واليسارية، في تقويم الماضي. همنا هو، أن نقدم معرفة مراقبة.

هل للمرأة العربية على الأقل تاريخ؟. صدر هذا السؤال عن مقدمى تاريخ النساء(1). وتمثلت الإجابة، في إبراز التحول النوعي الحاصل، من الإقصاء عن المجال العمومي، إلى إثبات الوجود النسائي فيه. أثرت العلاقة الجنسية، على مصادر التاريخ عامة، فاختفت حقيقة المرأة وغاب واقعها وراء الصورة، مادامت المرأة بدت وليدة خيال الرجل، ونظرته إليها، وبذلك تضاعف حجابها المادى، بحجاب أدبي من جراء محدودية الفائدة الاجتماعية المنتظرة منها عموماً، من قبل الرجل، ومن خارج المحيط الأسرى. كان الخطاب ذكوريا، والعبرة المنتظرة منه في تقفي آثاره؛ من أجل التعرف على تطوره. وبمجرد أن تناولت المرأة الكلمة في غير المجالات المالوفة، حتى أصبح في الإمكان، التعرف على تكون شخصية لها هويتها، والاهتداء إلى انبثاق كائن عمومى، أفضى به إلى اقتحام مجالات المسرح والصحافة والأدب والفكر والعلوم، وإلى اقتطاع حيز أنوثى، في حقلى الإبداع والثقافة. افترضت عملية كتابة تاريخ المرأة، إيلاء العلاقة الجنسية ما تستحق من أهمية، في تطور المجتمعات؛ وذلك بفصلها عن عالم الأطفال والجوارى والمسنّين. مما أدى بالتاريخ الرومنطيقي، إلى اعتبار العلاقة الجنسية محركًا للتاريخ. وإن أقصى التاريخ الوضعي الأنثى، باسم الدقة والصرامة في المنهج؛ كي يقصر جهده على التاريخ السياسي، ويترك موضوع المرأة للأدب الصغير. ومع انبثاق المدارس التاريخية الحديثة (الانثربولوجيا التاريخية، تاريخ العقليات، تاريخ الأقليات المولى عليها…). ويدفع من قبل الحركات النسائية، خاصة منذ المؤتمر الأول، المنعقد حول حقوق المرأة في ١٨٤٨، أمكن أن تتكون حصيلة معرفية جديدة، هي وليدة الثورة التي فوضت نوعية العلاقة، بين الرجل والمرأة، في المجتمع الغربي، فالتحم الحديث عنها، بالفضاء الذي أينعت فيه، قبل أن تتدلع وتتفجر، والعبرة في أن باشر المؤرخون الغربيون تاريخ المرأة بكل جدية. وهو ما يجدر أن يكون عليه انشغالنا به، لكن دون أن نغلقها في تصور أحادى كامرأة، بل من الأجدى أن نباشرها من منظور التعددية العلائقية، وفق إشكالية الجندر، المنادية بمعرفة طبيعة العلاقة بين الجنسين، لا العلاقة المؤسسة على طبيعة كل منهما على حدة، بل العلاقة المتولدة عن البنية الاجتماعية التي، مثلما تهيكات في الماضي، يمكن إعادة هيكلتها حاضرًا، فمستقبلاً، على أساس قانون جديد للعبة.

وإذا ما نسج على هذا المنوال، فالمؤرخ العربي مطالب، بأن يعيد طرح إشكالياته وصياغتها، وأن يعيد الزيارة من جديد، إلى التراث (بما في ذلك الأرشيف)؛ كي يستمد منه مادة توافق النظرة الجديدة للماضى. لكن هل هذا الاستشراف واعد؟. والحال أنه حتى الشيخ محمد حسين الأعلمى الحائرى (توفي سنة ۱۳۰۱/ 1971)، صاحب تراجم أعلام النساء المسلمات(۲)، قد تفطن هو أيضًا إلى أمر عبر عنه بقوله: “قد أهمل المؤلفون الأصحاب شأن المرأة، فلم يذكروا عن أحوالها شيئًا، إلا عرضًا، لا يقام له وزن، ولا يقصد بها ذوق، فئة مخصوصة، ولم يفارقوا بين الرجل والمرأة في بعض المواضيع الاجتماعية…”. تاريخ إسلامي دون نساء، أو يكاد: هذه المعاينة، تاريخ تحتل فيه المرأة المكانة العائدة إليها، هذا هو البديل. وهنا من الضروري، أن نميز بين المدى الطويل والمدى القصير، وأن لا نحشر الفترات في زمرة واحدة.

وفي كلتا الحالتين، يبقى التساؤل واحدًا: ما مصادر الأنماط الذهنية التي تتحكم في حاضرنا، وما هى السياقات التي تشكلت ضمنها، والآليات التي كيفتها؟. فإذا ما صح أن نظرتنا الطلائعية لماضى امرأتنا، هي نظرة أفرزها الصراع الثقافي، بين الغرب والشرق، وأن جل الأفكار الماطرة لأذهاننا، هى متولدة عن أبنية إيديولوجية دخيلة، لم نسهم في صياغتها، وإنما اقتصرنا على تطبيقها؛ قصد إبداء مشاركة من قبلنا، في استقراء شق من ماضينا، حينئذ، لا مفر من أن نتهم أنفسنا بالتبعية والاجترار، عوض أن نأخذ بناصية أمورنا. تساءل الغرب في السبعينيات: هل للمرأة تاريخ؟. وبعد الإقرار، تساءل هل التأريخ للمرأة ممكن؟. واليوم ها هو يطرح مسألة الجندر؛ لينزل التاريخ النسائى في جوهر الحراك الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. هل هذه المطارحات، حرية بأن تدرج ضمن انشغالاتنا التاريخية، وواقع البحث التاريخي عندنا على ما هو عليه. وللباحثات التونسيات، أسبقية فتح هذا الملف، بالمقارنة مع المؤرخين.

أثير إذن موضوع الذاكرة النسائية، في مناسبات عديدة، سواء في البلاد الغربية أو في خارجها، خاصة بالبلاد العربية. وإذا ما قارنا بين حصيلة الإفرازات العلمية في هذا الصدد، تبيّن أن العالم العربي، وتونس بالدرجة الأولى، لا يزال يشكو من نقص فادح، لم تمكن الأيام من فرصة تفاديه. هل أنجزنا تاريخًا واحدًا حول المرأة العربية، مثل التواريخ الحديثة، التي أنجزت في السنوات القليلة الفارطة، وضمن أجزاء عديدة حول المرأة العربية؟. لماذا هذا الاختلاف المريب في العزائم؟. لا يسعنى والحالة تلك إلا أن أبارك هذه الندوة، عسى أن تنبثق عنها توصية؛ من أجل إعداد تاريخ تأليفي للمرأة العربية تسهم في إنجازه كفايات نسائية، وحتى رجالية، إن اقتضى الأمر، مادام أن الموضوع ليس حكراً عليهن. أنتمى إلى جيل طالب في مناسبات عديدة، بإصدار تاريخ للأمة العربية، لما كان المنحى القومي على أشده. وأمنيتي أن لا يؤول هذا المقترح إلى المال نفسه.

وفي الانتظار، يحق للمرأة العربية أن تمعن في الطلب، وتثابر من أجل ذاكرة تخصها فترسم لنفسها، ملامح زمن يكون زمنها. أن تعلق همها، بذاكرة بديلة للذاكرة السائدة، في حدود طموحاتها، هذه رغبة لا يمكن لنا إلا أن نواكبها. إلا أن جوهر المسألة، ليس في نية الكتابة، وإنما يتعلق بوسائل العمل التي من شأنها أن تفي بالغرض. وتكمن المعضلة في البون المسجل، بين الموجود والمنشود. فإلى أي مدى يمكن أن نحلم بتاريخ علمي في تصوره، وجاد في تناوله، ومتكامل في عناصره، وثرى في مادته؟ لا تندرج إشكالية الذاكرة البديلة اليوم، في سياق مشروع كثيراً ما لوح به فيما مضى من الأزمنة القريبة، خاصة في أعقاب تصفية الاستعمار، وما حف بها من خيارات تمفصلت، حول بناء الدولة القطرية. وإنما ينحصر مجالها، في صياغة تاريخ نوعى، المرأة محوره، وحسبها غرضه. قد تصح التجزئة منهجيا، وتجد مبررها في متطلبات المرحلة التي نمر بها، وقد حفت بنا أمثالها. زمن المرأة العربية، هو جزء من زمن الإنسان العربي، لم نتعرف بعد على زمن الرجل ومواصفاته والحكم ليس حكم أولوية حتى ننزل زمن النساء منه. استوى الرجل والمرأة، فاستحالت المقارنة. نحن في بداية الطريق، وللمضى فيه قدمًا، من الضروري أن نتوخى الواقعية. اشتملت تراجم أعلام النساء، للأعلمى المبوية تحت حرف الألف، على ألف ونيف ترجمة، تفاوتت مادتها من الأسطر القليلة، إلى الفقرات القصيرة، إلى الفقرات الطويلة، نسبيًا أو بعض الشيء. تبين أن الصف الأول يمثل ٨.% من مجموع التراجم. افتقرت هذه إلى الإسهاب والتطويل. والنساء اللائي وقع التركيز عليهن، تنحصر أسماؤهن في أم هاني بنت أبي طالب، وأم كلثوم ابنة على، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأم أيمن حاضنة الرسول، وآمنة والدة الرسول. الامتياز مصدره المقدس، المشكلة في صياغة تاريخ متعدد الجوانب، يشتمل على أكبر عدد ممكن من الوجوه الممثلة لأخواتهن.

والذاكرة بالمعنى العام إنما هو سلوك، مفاده الجنوح إلى استيعاب التجربة المكتنزة في ما مضى من الزمن. وذلك من أجل تكييف الحاضر، وبحث ملامح المستقبل. هذا تصور هادف من شأنه أن يفقد الذاكرة استقلالها بذاتها، فتصبح محل رهانات قد تتجاوز كنهها وماهيتها. ينبغي أن نكون على بينة من أمر: هل انعقد العزم، واستقر على رسكلة الماضي فنطین به امتداءاته؟. إذا كانت الإجابة بنعم، وجب أن نستأنس إلى المزيد من التواصل، بعنوان: الجذور والهوية والأصالة والديمومة والوفاء، ونحن على بينة مما أفضت إليه هذه المفاهيم من صراعات، فنستكين إلى معاكسة الحداثة، وهي التي تثمن الانكسار والقطيعة، وتعزف عن التكرار والإعادة. الفرق بيننا وبينهم، أنهم تخطوا المعاصرة إلى ما بعد المعاصرة الحقيقية، والردة اليوم على الأبواب، لما نعانيه من تنام للقوى المحافظة. البت في قضايا الذاكرة، يمر عبر الحسم المتبصر، بين مفارقات القطيعة والتواصل. فإذا ما استقر الرأى على الاحتفاظ بالماضي؛ لتأسيس حاضرنا، فما هو حظنا الحقيقى منه، معارضة للتخلف؟. وإلا فالبديل، ما عساه أن يكون؟. لا امرأة جديدة، دون تعامل نقدى مع التراث؛ حتى لا يتواصل اختلاط الحابل بالنابل. أرجو أن يكون البديل النسائى بديلاً نقدياً؛ حتى في مجال الذاكرة، عسى أن تفلحن، في ما أقعد الرجل.

وإذا ما انعقد الخيار على التواصل، فالماضى لا يمكن له أن يبقى ماضيًا صرفًا، ما دام قد استحال، إن قليلاً أو كثيراً، إلى حاضر. لا يصح أن يدعى تحيين الماضي، ولا محوه بالبديل، وحتى لو تجاهلناه، فإنه يذكرنا بنفسه لا محالة، إن أحببنا أم كرهنا. حكم علينا أن نصنع الجديد بالقديم، لكن شريطة أن لا نقع في سلفية جديدة، على غرار السلفيات السابقة، يجدر أن نتجاوز المقولة التي مفادها، أن الذكر أقصى الأنثى من الذاكرة. غبن المرأة هو غبن الرجل، إلى حد ما، في ماعدا النخب. أمكن لزينب هانم فراز أن تتحفنا بدرها المنثور في طبقات ربات الخدور، ونسج حسن حسنى عبد الوهاب عندنا على منوالها، في أعقاب الحرب العالمية الأولى. إلا أن الحصيلة لا تشكل تاريخاً، بأتم معنى الكلمة.

وهكذا تجد المرأة العربية نفسها في قلب الصراع، بين القديم والحديث، بين المألوف والبديل، تواصل الماضى في المجتمع التقليدى، وهو لا يزال كامنا فينا كل على حدة، وفيه أثبتت الذاكرة المتوارية منها، والضمنية مواثق قد يصعب اقتلاعها؛ لأنه في حاجة إليها وحالته على ما هي عليه تواكب نمط عمله، وتعينه على تحمل أعباء الحياة. الذاكرة شفوية ومنطوقة أيضاً. هذه الحضارة لم تدوّن بعد، في معظمها، ويقيت مخلّفاتها كامنة في زوايانا الدفينة، تواصل عملها، والنخبة المغتربة غير مكترثة بها؛ لأنها من أدوات الماضي. نخبتنا تجهل تاريخ بلادنا، باستثناء قلة. وأعوزتنا الدراسات الإناسية اليوم؛ للتعرف على النساء اللاتي تعايشهن. في الإمكان أن ننطلق من الحاضر، ونعود القهقرى شيئاً فشيئاً، ومرحلة بمرحلة؛ فنربط – ما أمكن الربط – حلقات الماضى بحلقات الحاضر، وفق مقاربة هيكلية تراجعية، نحاول بواستطها أن نفرز بنية زمنية ما، نستجلى مكوناتها على المدى الطويل، منذ تكونها إلى تفككها؛ كي تتشكل من جديد. لكن أين هى الأنثربولوجيا ضمن الجامعة التونسية؟.

البديل طرحه ليس بجديد، وإنما تزحزح مجاله. عد الاجتهاد ضربًا من ضروبه، وجربنا النهضة والإصلاح. ونادينا بالهوية والأصالة، وتعلقنا بالسلف الصالح وبأذيال الثورة وبحقوق الإنسان. وهانحن، على ما نحن عليه، محل تجاذب وجدل وصراع. والمأساة من وجهة نظر محافظة أن امتدت يد التغيير، إلى ما وراء الستائر، فما الحل إذن؟.

ومعضلة المعضلة، أننا لم نتلق إرثًا فكريًا، يسمح بتأسيس منظومة فكرية، تربط بين الأجيال المتلاحقة وقوامها الفارق الجنسي. هل الرجل والمرأة مرشحان سواسية، لإيجادها مستقبلاً؟. وبعبارة أخرى هل نظرة النساء لذاكرتهن، أكثر نفاذًا من النظرة المقابلة؟. هل الفارق الجنسي من شأنه أن يغير من فحوى الذاكرة، ما دام العقل حريصًا على استجلاء حقيقة مراقبة ونقية، من أدران الأنفس الضيقة؟. فبقدر ما أن المرأة لا تولد امرأة، فإن الرجل أيضًا لا يولد رجلاً. والعبرة في المنهج النقدى الصارم. الأمثل أن تكون الذاكرة ذاكرة الجميع، خارج حق الإنحراف. وحتى لو انعزالت المرأة بالمرأة، فهل ستحصل الذاكرة النسائية على استقلالها؟. بل إن خطابها سيستحيل إلى شاهد عليها، إذا لم نحسن التصرف العلمي. الذاكرة النسائية البديلة، هي ذاكرة التحرر والانعتاق في أسمى معانيها أو لا تكون.

يمكن أن نعتبر إجمالاً أن المرأة التونسية لم تتناول القلم عامة، لتكثف الحديث عن المسألة النسائية، إلا منذ العشريات القليلة الأخيرة. تكفلت كاتبات فرنسيات بهذه المهمة قبلها. فانبثق نتاج نسائي، تناول موضوع المرأة المسلمة من منظورى الواقع (دراسات ميدانية وتراجم)، والخيال (قصص وروايات). لم يختلف السلوك العلمى للمرأة الباحثة عن سلوك الرجل. للمعاينة الميدانية ضوابط، قد لا تختلف في جوهرها باختلاف الجنس. في البداية، تجهل المرأة الأجنبية الباحثة، نظيرتها المبحوثة، ولا يصح أن نزعم أنها عرفتها بالضرورة حق المعرفة عند فراغها منها. أما الكاتبات المبدعات، فعوض أن تتحدثن عن أنفسهن، من داخل كيانهن، فضلن الحديث عن غيرهن؛ لإثارة مواضيع مثل الطلاق، وتعدد الزوجات والبغاء، وكأنهن تسقطن على المسلمات، همومهنّ الوجودية، باسم ضرب من الوصاية، مردها شعورهن بتفوقهن الحضاري عليهن، إلا أن السياق الاستعماري، حال دون الوفاق الدائم، بين عموم المسلمات وغيرهن. لم يفض التضامن الجنسى في النهاية إلى تخطى التناقضات السياسية، بل أرجئ التحرر النسائى إلى ما بعد تصفية الاستعمار، باسم الأولوية المطلقة المسندة إلى القضية الوطنية. وإذا ما بدت تحركات نسائية فإنه كان موعزًا بها وموصى عليها، من قبل رجالات السياسة من المسلمين، وغيرهم. كان التأطير رجالياً للتحرك النسائي، فأوكلت إلى المرأة مهمة رعاية الشخصية التونسية، وجعلها في مأمن من التفسخ الاستعماري، في نظر البعض. ومقابل هذه النزعة المحافظة، راهنت الأوساط الفرنسية على تطورها؛ كشرط أساسي، على درب الحداثة.

وفي الأثناء، تواصل تعليم البنات، فانبثق أدب نسائى، وضع المجتمع تحت محك النقد؛ حيث كان قد اتخذ الجدل حول تحرير المرأة، صفة الدفاع عن الإسلام، لتبرأته من التهمة الموجهة إليه، باعتبار ما نسب إليه من مسؤولية عن انحطاط العالم الإسلامي، وتمثل الرد في الجهل بالتعاليم الإسلامية. نادى الطاهر الحداد (۳)، بتمكين المرأة من حريتها المدنية؛ وذلك حتى يتسنى لها استثمار مواهبها في الأعمال الأدبية والمادية“. بهذا الحصر، حد من تحرير المرأة وفق المرحلة التاريخية التي كان يعيش فيها، المشكلة عندما نقرأ لحداد أنه لم يؤل على نفسه، حل التناقضات الناجمة عن استعمال الحجة الدينية، لتحرير المرأة. ومثال ذلك، لما استفتى مجموعة من العلماء، حول معرفة، هل للمرأة حق اختيار الزوج؟. وجاء الرد مشروطًا: أن تكون حرة مكلفة، أو أن تكون بالغة، وما لم يكن الولى أبًا أو جدًا لها، أو أن النظر في كفاية الزوج لها، يكون للولى، أو أن تكون غير ذات أب والزوج من الأكفاء، أو أن تكون بكرًا وصغيرة، وذهب الشيخ الطاهر بن عاشور إلى أن للمرأة حق الرضا ممن تتزوجه، وليس لوليها أن يجبرها على زوج لا ترضى به إلا الأب في خصوص بناته الأبكار، فإن له حق الجبر، في نظر المذهب المالكي، ما لم يكن في جبره إياها ضرر عليها“. للمرأة التونسية حق اختيار الزوج، إذا كانت حرة ومكلّفة وبالغة، وإذا ما قدمت كفءاً. وإذا لم يتوفر فيها هذه الشروط مجتمعة، فإنها قاصر. كان من الأفضل والحالة تلك، أن يطالب بمراجعة التشريع الإسلامي. لذا كان الأدب النسائى أكثر نفاذًا، في مواجهة معاقل الرجعية. تحملت الأديبات مسؤوليتهن لنحت البديل، وأداتهن النقد الرافض كل ما اعتبرنه مكبلاً لهن. تفيد مساءلة مدونتهن أن ما كتبنه، هو أدب أقلية مناضلة حفت بحياتهنّ ظروف خاصة، جعلتهن تشعرن أكثر من غيرهن، بوطأة الحاضر المعيش ضمن إشكالية الأنا والآخر. تمحور أدب الرفض النسائي، إن قليلاً أو كثيرًا حول سيادة الرجل (٤)، فطعن في شرعيتها.

ولما كانت وصاية الرجل على المرأة، قد امتدت حتى إلى المجال السياسي، فلا غرابة أن تسجل زكية داود في دراستها الحركة الأنثاوية والسياسة في البلاد المغاربية(٥)، أن تاريخ المرأة المغاربية، كان سياسيًا بالدرجة الأولى. وأن تحركها اقترن بالتطور التاريخي عبر مرحلة الاستعمار، وآونة تصفيته، وقيام الدولة القطرية. عيبها أنها وقعت في ورطة الحركات الوطنية، وأنها لم تحرر بعد نفسها، من حيز الدائرة السياسية السائدة. بل انساقت مع الأنظمة الاستبدادية، التي وظفت قضاياها من أجل إدراك أغراض سلطوية تخصها، لا ناقة لها فيها ولا جمل، جعلتها الوصاية رهينة ما يقرره الرجل في شأنها. فالذاكرة البديلة في تجاوز السائد، رجلاً وسياسة، ودراسات مطالبة واضعاتها، بتمهيد السبيل، من أجل تحقيق هذا الغرض.

لكن من عوائق البحث في موضوع الذاكرة، مسألة المستندات قديمًا وحديثًا. فهذه عزة غانم (6)وهى تقدم نفسها كمناضلة سياسية في الحقل النسائي تعترف بأن الحركة النسائية، في تونس يعوزها التوثيق حول خطابها، على نفسها. فالتأريخ لها لا يعلمه إلا المناضلات، اللائى نشطن في رحابها. فندرة الوثائق فيما عدا محاضر الجلسات، من شأنها أن تحد من مدى الذاكرة وتسوى بين الحاضر القريب والماضي. فتصبح المناضلات راويات للأحداث التاريخية، بما قد يطرأ من أخذ ورد على مصداقية ما، قد تقدمنه من معلومات. وقد جربت مثل هذه المقاربة الاستجوابية التاريخية، في موضوع الحركة الوطنية، فأبانت انحرافات مخلة أحيانًا، بضروريات التحفظ، والذاكرة المديدة والدائمة معرضة للقصور والنسيان. إن لفي الذاكرة الشفوية والفردية إشكال الذاتية. ومع ذلك فهى تعتبر إجمالاً أن الحركة النسائية، اختزلت في مسايرة الرجل إلى الستينيات، قبل أن يُعلن عن إرادة الانسلاخ عنه، من قبل مناضلات فرضن وجودهن بداية من أواخر السبعينيات. طالبن بالكرامة والمساواة والعدالة، وبمراجعة توزيع الأدوار بين الرجل والمرأة. أتين في مرحلة قد اعترف لهن بقدر أدنى من المواطنة، بموجب قرار سياسي. فطرحن منذ البداية، وفي ظل الحقوق الممنوحة، ودون سابق نضال، مسألة استقلالهن تجاه الرجل وتجاه الحزب الحاكم، وأحزاب المعارضة. ولجمع شتاتهن وجب تأسيس مرجعية للجميع بواسطة تملك جماعي للذاكرة تكون من عندياتهن. نادين بتنظيم مستقل، وبصياغة منظومة فكرية، تنفردن بها، مع الحرص على إقصاء الذكر من صفوفهن، باسم الاستقلال الذاتي، وعلى قصر التعددية على جنسهن، ضمن ناد أختص بالدراسات حول حالة المرأة، واستحال امتداده إلى حركة النساء الديمقراطيات. أضافت عزة غانم بعدًا استراتيجيًا على الذاكرة، ومن ادعى الاستحواذ عليها، اكتسب حق الخطاب فيها، وكأني بها، قد اعتبرت نفسها مؤرخة للماضي القريب؛ من حيث هي مناضلة، دون أن تدرك أن زاوية النظر التي نظرت منها للأحداث، لا يمكن إلا أن تكون زاوية، ضمن مختلف زوايا النظر، ونحن في أشد الحاجة إليها، دون الاقتصار عليها، ولا تصديقها في كل ما تقول. والمدونة التي أفرزتها، ترشد للإحالة إلى ذاكرة مبتورة، حوات ذكرياتها إلى ذاكرة، وسلطت عليها نظرة تأويلية، فوجب علينا أن نقيم عملية إعادة بناء الذكريات، التي قامت بها من منظور اجتماعيات المعرفة. للفكروية النسائية، وظيفة زمنية تتولى أمور الماضي في خدمة الحاضر.

وبالتالى اتخذت الذاكرة النسائية منحى خطيًا (من – إلى) سردياً أكثر منه تأليفيًا وتحليليًا. وهي الخاصية ذاتها، التي اكتستها الذاكرات الأخرى، أعنى أن كلا منها، بدأ في شكل حراك، اندرجت حلقاته ضمن صيرورة زمنية، ذات اتجاه واحد. تحدث الشاذلي خير الله سابقًا، عن الحركة الوطنية الإصلاحية في طرزها الأول، فاستعمل في شأنها عبارة الحركة التطورية، وأصبح مصطلح الحركة محوريًا في المعجم السياسي التونسي، واعتبرت الحركة النسائية من هذا القبيل (۷)، وحتى الحركة الإسلامية. وتجدر هنا ملاحظة، أن جل من انكب على الذاكرة النسائية، لا ينتمى إلى زمرة المؤرخين، فيكفي أن ينساب الدارس مع تيار الزمن، كلقاطة فوق الماء، فأتى التاريخ المنجز مبوباً على مراحل متتالية، وفق ترتيب رزنامي للأحداث، لا يعير قيمة إلا للمناضلات اللواتي تبوأن الصدارة، كأن ذات الوطن والإسلام السياسي والمرأة حكر، على أقليات رُفع من شأنهن إلى مرتبة الزعامة، دون سابق تقييم للأدوار التي عهدت إليهن. تراءى لهن أنهن فاعلات بذاتهن، وأنّهن غيرن مجرى التاريخ بكفاحهن، حيث إنهن استجبن لمراكز قوى، دفعت بهن وتيارات دولية ظللن عليهن. وهو ما يفسر الشعارات التي لوحت بها بعض الكاتبات. تأسيس حركة نسائية مستقلة، ومفعمة بالمثل العليا اليسارية، تدعيم الفردية النسائية، بالاعتماد على عالم المعرفة، البحث عن هوية نسائية منفصلة عن الرجل، الدعوة من أجل الفصل الجنسي، حتى تجمع المرأة قواها بنفسها، الإطاحة بهيمنة الرجل، انطلاقًا من الأسرة والجنسانية(۸). وعلى الرغم من هامشية بعض هذه الأفكار، فإنّ البرمجة من أجل مستقبل مغاير، تأرجحت بين المطالبة بذاكرة لم تنجز بعد، ومن ثم المحاولات للتأسيس لها، دون أن يتوفّر شرط التخصص أحيانًا، والإسقاط المستقبلي؛ من أجل تغيير الحاضر. وميزة مثل هذه الأعمال أنها طرحت قضايا جديدة، وأثارت إشكالات نوعية، فهى لا تغدو أن تكون إرهاصات، ونحن في بداية الطريق.

وهكذا يبدو الحديث عن المرأة محل رهان إيديولوجي، من قبل الرجال والنساء، على حد السواء. دعيت ثلة من النساء، للإفصاح عن تجربتهن النضالية، أو مسيرتهن الحياتية، (۱۹۰۰ – ۱۹۲۰) في صورة ما يشبه السير الذاتية. ونشرت حصيلة هذه العملية، تحت عنوان ذاكرات نساء“. وبهذه المناسبة لم تطرح القضايا المنهجية، لمثل هذه الإستجوابات. إلى أى مجال يجدر أن نتوخى في شأنها، مناهج البحث البنيوي أو الظرفي، القطاعي أو الشامل، النخبوي أو الشعبي، المادى أو الذهنى والعاطفي، السردى أم التأليفي. لم نتخط البدايات بعد.

يتراءى لى أن بزوغ الذاكرة النسائية، يتنزّل في أعقاب أفول الذاكرة الوطنية، وإعداد العدة لتلك، يمر عبر الحصيلة النقدية لهذه، منهجًا وإشكالاً ونتائج. أليست الذاكرة النسائية المنشودة، هي أيضًا – محل رهانات جديدة مدارها التوظيف السياسي للتاريخ، التساؤل حول الهوية النسائية، هو بصدد تعويض التساؤل، حول الوطن، بعد أن سيطر عليه الرجل. فالمطالبة بتاريخ عادل ومصحح ومتوازن، أمر مشروع، لكن كل الفئات البشرية، حرية أن يؤرخ لها. وما دامت الرغبة هذه، فلماذا لا نحلم بتاريخ شامل تعيد كتابته المرأة في بعضه، وتسد ثغراته في بعضه الآخر؟. فتتجاوز به مركزية الدولة، وتسهم في مزيد من الفهم لآليات الحياة، وفق تصور كلى للتاريخ، مطابق لروح الوقت، وربما هذه هى الذاكرة البديلة في أسمى تجلياتها.

وهكذا فإن تطور الدراسات حول المرأة، حديث في تونس، ينحصر أمده في النصف الأول من هذا العقد تقريبًا. والتركيز على الجانب السياسي، للتاريخ ضروري على الرغم من عزوف البعض عن السياسة التي يتحكم فيها الرجل. وهكذا أعطيت إشارة الانطلاق للبحث التاريخي، في صورة رغبة ملحة، من أجل تمكين المرأة من حق زمنى أعوزها. إلا أن البحث التاريخي، بقى دون المنشود، وسببه الأول، أن التاريخ للمرأة ليس بهين؛ ثم لأن قطاع الإنتاج التاريخي، لا يزال يهيمن الرجال على غالبه؛ ولأن أدوات البحث، لم يقع حصرها بصفة منهجية، وللمضى قدمًا يجب أولاً:

١ حصر المصادر وإثراؤها، والحفاظ عليها.

2 – إثراء خزائن الأرشيف العمومي، بالأرشيف الخصوصي.

3 – استعمال المصادر الأدبية، مع اعتبار جانب الخيال فيها.

4 – الإستفادة من الخطاب السائد، المتعلق بالمرأة، على الرغم من عيوبه.

5 – جمع الوثائق الشفوية؛ بحثًا عن اليومى والسرى.

٦ إعادة مساعة الوثائق المستعملة.

7 – إصدار بيبليوجرافيا شاملة، حول الدراسات، في موضوع المرأة.

* – توفيق بشروش: أستاذ التعليم العالى ويعمل بمركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية بتونس.

1 – تاريخ النساء. تحت إشراف، ج. دویی. و. م. بیروت، باريس، ۱۹۹۰، في خمسة أجزاء (بالفرنسية).

۲ محمد حسين الأعلمي الحائري، تراجم أعلام النساء، بيروت، ۱۹۸۷، في جزأين.

3 – حسن حسني عبد الوهاب. شهيرات التونسيات، تونس، ۱۹۱۷.

4 – الطاهر الحداد، امرأتنا في الشريعة والمجتمع.

5 – جان فونتان، كاتبات تونسيات، تونس، ۱۹۹۰، ص ۹۹، (بالفرنسية).

٦ زكية داود، الأنثاوية والسياسة في البلاد العربية. ستون سنة من الكفاح، باريس، ۱۹۹۳. (بالفرنسية).

7 – عزّة غانم، الحركة الإناثية التونسية. شهادة حول ذاتية حركة النساء وتعددها (۱۹۷۰ ۱۹۸۹). تونس ۱۹۹۳، ص ١٥٧. (بالفرنسية).

8 – إلهام المرزوقي، حركة النساء في تونس في القرن العشرين. إناثوية وسياسة، تونس؛ وآمال بن عبة، تونسيات في صيرورة تونس ۱۹۹۲. (بالفرنسية).

شارك:

اصدارات متعلقة

استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم
قائمة المصطلحات Glossary
مطبوعات
مطبوعات