11 ابريل 2020
– تنويه: قد يحتوى المقال على مصطلحات وعبارات قد تكون غير مناسبة للبعض
اسمحوا لي أن أكون هادمة “تريند” ادعاءات الملل من الحجر الصحي خلال دقائق كتابتي لهذه السطور، الحقيقة هي أنّني لستُ ممن يتخبَّطون هذه الأيام ضجراً أو يتأفّفون مللاً، ربما أنا من القلائل الذين يريدون ساعاتٍ إضافية فوق الـ 24 حتى ننجزَ ما لدينا من أعمال. فأنا لا أشعرُ بالغضب من الحجر الصحي، ولا أتململ من الجلوس في المنزل، بل وأشعرُ بالاشمئزاز تجاه من يملؤُون الفضاء الإلكتروني بعبارات الملل والشكوى من الوحدة والانعزال، هذا يثيرُ غضبي لحدِّ الجنون، وكأن الأمر يعنيني بشكلٍ شخصيٍّ مبالغٍ فيه، وكأنَّها صفعاتٌ مهينةٌ على وجهي، لأنَّ ما يسخرون منه ببساطة هو حياتي.
منذ عامين تحوَّلت لكائنٍ بَيتوتيٍّ يقضي ساعاتٍ طويلةً في العمل المنزلي دون أنشطةٍ اجتماعيّةٍ كثيرة، الشوارع أصبحت تزعجُني والبشر يثيرون خوفي، والتجمُّعات توتِّرني. وخلال ساعات العمل الطّويلة هذه الأيام، بدأَتْ تغزُوني الكثير من الأسئلة الوجودية، متفرِّقةً؛ لماذا يصبح البشر أكثرُ قسوةً على بعضهم في أوقات الأزمات؟ هل أشتاق لأحد؟ هل حقاً نملكُ الغفران؟ متى ينتهي كلُّ هذا الألم؟ لم لا يمكنني أن أرحلَ ببساطة؟
واستقبلتُ ضيفةً ثقيلةً على روحي، للمرةِ الأولى تَخترقُ عزلتي، وهي رغبةٌ مُلحَّةٌ بالاختفاء؛ لم لا أرحل؟ لم لا أشنقُ نفسي أو أبتلعُ بضعَة أشياءٍ كريهة الطعمِ وأذهب؟ لا أهتمُّ إلى أين سأذهب بل أرغبُ بالذهاب، فلم أعُد أحتملُ وحدتي.
تهاتفُني إحداهنَّ سائلةً:”أخبارك إيه في العزل؟” أبتسمُ بتهكُّمٍ، وأهزُّ رأسي هازئةً من الطّرف الآخر للمحادثة، وأكتمُ ضحكتي “لا شيء، المعتاد، أقوم بعمليَ المعتاد الذي أقومُ به منذ سنتين”. خلال هذا النوع من المكالماتِ الهاتفية يدورُ في عقلي إجاباتٌ أخرى مثل “في الحقيقة أنا بخير، بخيرٍ جداً، وقد اختلفت أحواليَ كثيراً جداً بسبب الكورونا، فقد كنتُ أعملُ من المنزل وأصبحتُ أعملُ من المنزل، كنتُ أشعرُ بالوحدة طوال الوقت وأصبحتُ أشعرُ بالوحدة طوال الوقت، لم يكن يزورُني أحدٌ ولم يعُد أحدٌ يزورُني، لم أكُن أتسكَّعُ كثيراً في المدينة الشّاسعة ولم أعُد أتسكَّعُ فيها، كنتُ أدمنُ العملَ وأصبحتُ أكثر إدماناً لهُ. فكما ترَون يا سادة، الأوضاعُ والأيام تتغيّر.”
الوضعُ الحاليُّ يثير غضبي، وكلما وجدّتُ أحدَهم يتأفَّفُ من الحجرِ الصحي أغضبُ أكثرَ، ولهذا هربتُ من مواقع التواصلِ الاجتماعيّ، فلم تعُد تثيرُ فيَّ غيرَ القرف.
تخطرُ ببالي كثيراُ هذه الأيامُ جملةَ صديقتي المقربة “خليكي كده لوحدك، وهتموتي لوحدك”؛ وقتَها حزنتُ وغضبت، كيف تتفوّهُ بهذه الأمورِ في وجهي! لكن بعد سنينَ عرفتُ أنّها تقول الحقيقة، بل أصبحتُ أهزأُ من العبارةِ، وزدّتُ عليها “هموت لوحدي، وقططي هياكلوا جثتي” ها ها ها. منذُ مراهقتي وعلمت أنّها هكذا ستكونُ حياتي، فتحتُ بِلَّورتي السحرية وأبصرتُ، وقرّرت أن أتصالحَ وأبتعدَ عن البشر بقدرِ الإمكان، فحيثما وُجِدوا وُجِدَ الشرُّ والأذى. لم يعد الأمرُ مرعباً، صِدقاً لم أعُد أخشى الوحدة، تقبُّلتُها وتجرَّعتُها برويّةٍ، لأني أعرف أنّنا جميعاً سنغادر وحدَنا، والبعضُ منا سيعيشُ وحدَه، وحينما نختارُ طريقاً ما في الحياة سندفعُ مقابِلهُ إتاوةً، وقد أعددتُ الإتاوةَ منذ زمانٍ بعيد.
“كلا لن أشنقَ نفسي اليوم، لديَّ الكثيرُ من العمل، يجبُ أن أنجزَه ثم أشنق نفسي مباشرةً، لكن أتمنى أن أرحلَ سريعاً ولا أن يكون نصيبيَ من سوءِ الحظ وافراً، وأُصابَ بالشللِ أو بتلفٍ دماغيٍّ دون أن أموت.” الحب؟ ما الحبُّ يا عزيزتي؟ شيءٌ بالنسبة لي أشبه بمعادلات اللوغاريتمات، والتي بالمناسبة حصدّتُ فيها أصفاراً لا تنتهي. لكن .. أرفع رأسي عن اللابتوب للحظاتٍ وأفكّر ” كلا .. والقطط من سيرعاهم؟ حسناً، سأعرضُ القططَ للتبنّي ثم أشنقُ نفسي، كلا لن أشنقَ نفسي لا أحبُّ فكرةَ الشنقِ، ربما شفرةُ الحلاقة تفي بالغرض، حسناً هذه هي الخطة.”
لطالما كان لديَّ الكثيرُ من النظريّاتِ عن الوحدةِ والعُزلة، فقد نشأتُ وحديَ في بيتٍ هادئٍ تماماً يخلو من الأفراد الكُثُر، لا يتحدّث فيه أفرادُه كثيراً. نشأتُ في وسطِ عائلةٍ وحُرِمتُ من معظم الواجباتِ الاجتماعية والزياراتِ العائلية، فلم أعُد أعرفُ ما هي الاجتماعية!!… تنقّلتُ بين عددٍ كبيرٍ من الشّقق والمنازل التي لا أملكُ أيَّاً منها، لم يكن لديَّ الكثيرُ من الأصدقاء المقرَّبين حتى سن الجامعة، و… ثم تخترقُ رأسيَ الأفكار… “لكن ماذا عن فواتيرِ الكهرباء لم تُسدَّد بعد .. لن أرحلَ وأتركَ لأمي ديوناً، كلا .. فلأسدِّدها ثمّ أشنق نفسي، لا أحبُّ فكرة الشنق فالسّقفُ لن يتحمَّلَني، قد يهوي بي أرضاً بعدما نخرتهُ مياه مطبخ الجيران فوقي وتساقطَت أجزاءٌ من الدهان خلال السنتَينِ الماضِيَتين، ماذا عن الطريقةِ الكلاسيكيّةِ في الموت، ربّما الكثيرُ من الأدويةِ مجهولةِ المصدر سيفِي بالغرض، إذن هذه هي الخطة، سأسدّدُ فواتير الكهرباء ثمّ أرحل.”
قال لي يوماً صديقيَ المُقرّب الذي لا أعرفُ مكانَهُ الآن “نحنُ معشرُ المُنعزلون، الوحيدُون سنظلُّ هكذا، لن نشعرَ بانتماءٍ لشيءٍ أو لمكانٍ أو لمجموعةٍ، سنظلُّ هكذا يا رفيقتي، وفِّري مجهودَكِ لتغييرِ الواقع.” حينها أدركتُ حلَّ اللُّغز، لمَ لمْ أشعر يوماً بالانتماء لشيءٍ أو لشخصٍ، وكأنّني “زرعٌ شيطانيٌّ” جزءٌ مني يستمتعُ بالأمرِ وجزءٌ يبكيهِ ليلَ نهار، وجزءٌ يخبرُني أنّي اقترفتُ الكثيرَ من الآثامِ في حقِّ الكثيرين _وأستحق أن أدفعَ الثّمن_ فهذا هو الوقتُ المناسب لـ”المحاسبة على المشاريب”.
ظللتُ حياتي كلّها ألومُ أبي على الغربة، كنت ألومُه سراً وجَهراً على كلِّ ساعةٍ في حياتي لم يكن فيها بجواري، ورفضتُّ الخروجَ من البلاد لأني أخافُ الغربةَ، ولم أدرك أنّ الغربةَ تسكُنُني أنا ولن تبرحَ مكانَها يوماً؛ لم أَنتمِ أبداً لمكانٍ ولم أعنِ شيئاً حميميّاً لإنسانٍ، فقط يصاحبُني ذلك الشعور بأنّني ربّما كائنٌ فضائيٌّ رمت به سفينتُهُ الأمُّ هنا كي يكفِّرَ عن كلِّ جرائمِ كوكبِهم، يصاحبُني ذلك الشعورُ بأنَّني شيءٌ غيرُ مرئيٍّ إذا سقطَ يوماً في بئرٍ لن يلحَظَهُ أحدٌ… ها أنا أتفوَّهُ مرّةً أخرى بعباراتٍ مثيرةٍ للشّفَقة أكافئُ بها نفسي قبل تنفيذِ هذا النوعِ من القرارات الحمقاء.
ما يثيرُ غضبي تجاهَ هذا “الوقتِ الحاليِّ” أنّه فقط يذكِّرُني كلّ دقيقةٍ بكَمِّ الخساراتِ الهائلةِ التي جنيتُها حتى الآن، وأنهُ ليس هناك شرفاءٌ، وأنّني لم أُدرك ماهيةَ الحبِّ يوماً، كلُّ شيءٍ واهٍ، البشرُ معقّدُون لدرجةٍ لا يمكنُني التعاملُ معها، وأنّني في هذه اللحظة لا أملك شيئاً، بعد سنواتٍ من محاولاتِ التّصالُحِ مع الأنا والاعتناء بالذّات والوعي بالنفس؛ إلا أنّني اكتفيتُ، اكتفيتُ من الوحدة والألم والبكاء في الليالي الطويلةِ التي لا يُؤنِسُني فيها أحدٌ.. ربَّما هذا كلُّ شيءٍ، هذه هي النهايةُ، اكتفيتُ وتعبتُ من اللّهثِ خلفَ سرابٍ لن أجنيَ منه يوماً سِوى تعاسةٍ ستذكِّرُني بحياتي التي مضت سُدَىً. لا أعتقدُ أنَّ السنينَ أو الأوقات القادمة ستكونُ مختلفةً أو مبهجةً، فقط رتابةٌ، رتابةٌ ومللٌ مثل ذلك الذي كنتُ أشعرُ به وأنا حبيسةً في غرفتي لأيامٍ طويلةٍ أحاول دفنَ نفسي داخلَ حكايات دوستويفسكي وهو يروي مللَ ورتابةَ الرّيفِ الرُّوسيِّ. اكتفيتُ من الاعتناءِ بالذات، والعمل والطموح، والشّعاراتِ الفارغة التي لا تؤدِّي لذلك النعيمِ السَّرمديِّ؛ اكتفيتُ من حملِ جُثثِ أشخاصٍ داخلَ قلبي لم أستطِع يوماً تركَهم يمضُوا، يُثقِلُني كلُّ الكلامِ المُحتَبَس داخلَ روحي لعشراتِ المقابلاتِ التي لم تتمَّ أبداً، آلافُ العِباراتِ لعشرات الأشخاصِ كلُّ يومِ لديَّ خططٌ لمقابلَتِهم، تعبتُ من كلِّ تلكَ المناقشاتِ السّجينةِ داخلَ رأسي مُكبَّلةً بأغلالِ الخوف والغضب. مُرهقَةٌ من الغضب الذي يأكلُ روحي ويتغذَّى على كل شِبرٍ من مشاعري، ويفقِدُني صوابي ويحوِّلُني لشيطانٍ مَرِيد.
رُبَّما هذا هو كلّ شيءٍ، هنا ستنتهي الرحلة… ” كلا لن أشنقَ نفسي، هذا يستدعي الكثيرَ من الجهدِ، ربما تقتُلني الوحدةُ، نعم هذا هو الحل، يوماً ما سأنام أشعر بوَحشةِ الكهوف داخلَ قلبي ولن أستيقظَ، هكذا ببساطة.”
أسخرُ من نفسي، فقط أتمنى ذلك ولكنَّه للأسف لن يحدث، ليتَ الحياةَ بهذه البساطة.
ربما أمثالي من الانعزاليّين هم أحقُّ أن “يحاسِبوا على المشاريب” للبشرية، لم لا؟
من لا يقولون الأشياءَ المناسبة في الوقتِ المناسب، ويفوتُهم الكثير من الحفلاتِ وأعياد الميلاد، من يقتُلُهم التوتّرُ في التجمُّعات الاجتماعيةِ المُبهجة، ولا يشعرُون بالأُلفةِ سريعاً تجاهَ البشر، يحتاجُون دَهراً للثّقة في أحدِهم؛ أمثالي ممّن يبحثون بسذاجةٍ عن “الكتَالوج” كي يفهموا طبيعةَ البشر المعقّدة، حتى أنّني لم أكتشف يوماً الطريقةَ المفضَّلة للآخرين في التّواصل واستقبال الدّعم والحب، كم أنا شرّيرةٌ فلم أؤدِّ واجبي كفايةً في العطاء، لم أُعطِ كما يجب، بالإضافة أنني -ياللعجب- اقترفتُ الكثير من الأخطاءِ وبعضُها فادِحٌ، هيا أغرسوا مساميركم وأصلبوني كي أدفع الثمن الباهظ لأنني لم الائم القالب المناسب للآخرين.
“إذن فهذه هي الخطة، بِتُّ الآن مقتنعةً تماماً، وسأموتُ بقلبٍ مطمئِنٍّ أنّي لن أتركَ خلفيَ قلوباً مكلومةً، ولن أشعرَ بالذنبِ، يجبُ أن أدفعَ الثّمن وأشنقَ نفسي.. كلا ليس الشنق مرةً أخرى يا فتاة، أنا لا أفضّلُه، ألا تذكرين؟ الكورونا ستفِي بالغرض، وأكونُ من الحالاتِ النادرةِ صغيرة السن التي ستفقدُ حياتها جَرَّاء الكورونا. أتمنّى أن يتمَّ هذا سريعاً، حينها سأتمكّنُ من الفَرارِ من سَدادِ فواتير الكهرباء، وتسقطُ مسؤوليّتي تجاه القطط، وستكونُ حجَّةً مناسبةً للهروبِ من إرهاقِ العمل، وهَجرِ الوحدةِ والغضب والخذَلان… إذن هذه هي الخطة، سيقولون قتَلتها الكورونا.”